المسألة الليبية تفضح قدرات "هيكل" التحليلية

محمود الناكوع
May 16, 2010 at 10:08 AM

أخبار ليبيا: فى برنامجه الأسبوعى بقناة الجزيرة " مع هيكل " تناول السيد محمد حسنين هيكل قضايا كثيرة، منها ما هو مصري، ومنها ما هو عربي، ومنها ما هو دولي. وخاض فى تلك القضايا مستعملا خبرته الصحافية أحيانا، ومستعملا ما تجمع عنده من وثائق فى أغلب الأحيان. وظل السيد هيكل يصول ويجول، وكأنه فى بعض الأحيان ممثلا مسرحيا، وليس مؤرخا ومحللا ومفسرا لأحداث التاريخ.
تارة هو يستعمل الوثائق لتعزيز تفسيراته لما حدث، وتارة أخرى ينسى أو يتناسى أهمية التوثيق، ويلجأ إلى التأويلات، والقصص الشفهية الإعلامية، بل والرغبات الشخصية.
لقد قرأت بعض الكتب التى تهاجم أعمال السيد هيكل التاريخية وتتهمه بالكذب، وقرأت الكثير من المقالات التى تتهمه بتهم معيبة فى مادته وفى طرق تحليله. وكنت لا أميل كثيرا إلى الأخذ بتلك الأعمال النقدية، وأقول ربما يقع ذلك فى سياق التنافس والغيرة بين الكتاب والمؤرخين، وربما لمعان وبروز هيكل جعله موضع نقد جارح من الحساد.
لكن عندما تابعت مسلسله الطويل " تجربتى مع الحياة " والممل أحيانا، أصبحت أشك أنا أيضا فى قدرات هيكل التحليلية، وأشك فى موضوعيته التاريخية، وفى صدق رواياته.
ثم تحول الشك عندى إلى يقين عندما سمعت وقرأت ما قاله عن ليبيا، وأنا متابع لأحداث وتاريخ ليبيا المعاصر، وخاصة أحداث الستينيات من القرن الماضى. لقد سمعت ما قاله عن مشاركة الطيران العسكرى الأميركى والبريطانى فى حرب 1967 منطلقا من قاعدتي العضم فى طبرق، وويلس فى طرابلس. وفى كل ما ردده بشأن هذه المسألة، لم يقدم وثيقة واحدة تعزز كلامه. وكل ما أراده هو تصديق ما صدر عن الرئيس جمال عبدالناصر فى إحدى خطبه السياسية الدعائية عندما قال: توقعناهم من الشرق أي من اسرائيل، فجاؤا من الغرب أي من ليبيا. وربما يتفهم المراقب والمحلل تصريحات عبدالناصر تلك، ويضعها فى خانة الدعاية السياسية، وبحثا عن ذريعة لتخفيف هول الكارثة التى نزلت على مصر جيشا ونظاما، فقد حطم الطيران الاسرائيلى كل المطارات الحربية، وكل ما عليها من طائرات، وخلال بضع ساعات !!!. فما هو عذر السيد هيكل فى كلامه الذى جاء بعد أكثر من أربعين عاما من تلك الكارثة؟؟ أم أن السيد هيكل هو الذى ورط الرئيس عبدالناصر فى تلك اللعبة الإعلامية المنكرة والتى أدت إلى اضطرابات دامية فى ليبيا.
والفضيحة الأكبر فى تحليلات السيد هيكل ظهرت فى الحلقات الخاصة بالتغيير العسكرى الذى وقع فى ليبيا عام 1969. قال السيد هيكل فى الحلقة الثانية، وبأسلوب مفكك ركيك:
(لما أطل على خريطة ليبيا، خريطة ليبيا لا تسمح لأحد أن يفكر فى هذا البلد.. مش ممكن. وبعدين فيه قوة دفاع موجودة فيها، فيه قوة دفاع برقه ـ ثم عدد القوات الموجودة ـ ثم قال: ازاي عملوا انقلاب؟ ازاي ممكن تحصل ثورة؟ اللى أنتم عملتموه ده فى اعتقادى كان أملا مرجوا. لكنه أمل مستحيل)
أي أنه لم يكن يخطر بباله وقوع تغيير عسكري فى ليبيا!!
وكرر فى الحلقة الثالثة عدة مرات، أنه لا أحد كان يتوقع حدوث التغيير العسكرى فى ليبيا، وأن التغيير كان مفاجأة كبرى. وكل هذا الكلام، وكل هذا التحليل يدل على أن السيد هيكل إما أنه ينتقى فى المعلومات انتقاء غريبا أو خاطئا، أو أنه لم يطلع على الوثائق البريطانية والأميركية، وربما لم يطلع حتى على رسائل السفارة المصرية فى ليبيا، وخاصة إثر أحداث الاحتجاجات فى ليبيا وفى طرابلس بالذات عام 1967 وقبلها أحداث عام 1964 فى بنغازى، وهي أحداث لها ما بعدها.
وقد أورد د محمد المقريف فى عمله الجيد " ليبيا بين الماضى والحاضر صفحات من التاريخ السياسى " أورد العديد من الوثائق البريطانية والأميركية التى تبرز التطورات السياسية المعارضة للنظام الملكى وسياساته، وتكشف عن هشاشة النظام الملكى، وعن مستقبله المجهول. وكشفت تلك الوثائق عن دقة اهتمام السفارتين البريطانية والأميركية فى متابعة تفاصيل الحراك السياسى والثقافى والاقتصادى والعسكرى فى البلاد، وكانت كل سفارة تستقى معلوماتها من أعلى المستويات، وما دونها.
وكتب الأستاذ إبراهيم صهد ـ الذى كان ضابطا فى الجيش الليبى ومعاصرا لأحداث حرب 1967 ـ سلسلة مقالات ردا على رواية السيد هيكل، تضمنت معلومات مهمة فى تفنيد ما قاله هيكل حول التدخل الأميركى البريطانى انطلاقا من ليبيا.
وقد كُتبت عدة مذكرات سياسية ليبية، ونشرت بعد سقوط النظام الملكى و لم تذكر مطلقا أن القوات الأجنبية التى كانت موجودة على التراب الليبى قد شاركت فى حرب 1967، وهي الحرب التى حسمت منذ الضربات الأولى، حتى أن البعض وصفها بحرب الست ساعات الأولى !!! وليس حرب الستة أيام.
كل تلك التطورات يبدو أن السيد هيكل لم يطلع عليها ولم يسمع بمحاولات الملك ادريس نفسه الغاء الملكية، والانتقال بالبلاد إلى النظام الجمهورى حتى يطمئن على مستقبل البلاد. وكأن السيد هيكل لم يسمع بوجود تنظيمات عسكرية داخل الجيش الليبى، وجميعها تسعى إلى التغيير وربما كان بعضها على صلة بالقاهرة.
وتحدث السيد هيكل عن محاولة الرئيس عبدالناصر اقناع الملك بالقدوم إلى مصر فى خطة لإحتوائه، وسرد للمشاهد قصص السبحة وما يتعلق بها من أبعاد رمزية فى ثقافة الملك، لكن السيد مصطفى بن حليم روى قصة أخرى فى كتابه " صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسى "ص 541
الآتى: (عندما اجتمعت به ـ أي الملك ـ لأول مرة، بعد الإنقلاب فى القاهرة فى شهر مارس 1975، سألته لماذا لم يرجع إلى ليبيا فورا عقب الإنقلاب؟ ابتسم وقال " ألم تعرف السبب؟" قلت لا. فنظر إلى زوجته الملكة فاطمة وقال لها لماذا لا تقولى له؟ فقالت الملكة فاطمة:" لقد تلقى الملك رسالة عاجلة من السلطات المصرية تنصحه بالامتناع عن أية محاولة للعودة إلى ليبيا لأن أية وسيلة يستعملها فى محاولة للعودة ستنسف فى الطريق. وأشارت تلك السلطات على الملك أن يطلب من الرئيس عبد الناصر السماح له بالقدوم إلى مصر وفى هذه الحالة سيكون محل احترام المصريين.. وهذا ما فعل)
يفهم من كلام الملكة أن النظام المصرى هدد الملك، لكن السيد هيكل لم يشر إلى ذلك.
التاريخ إذن لا يكتبه فقط السيد هيكل، ولم تعد المعلومات والوثائق عند السيد هيكل وحده.... ربما أن السيد هيكل وراءه إمكانيات مالية اضافة إلى كرم الجزيرة، ومعه فريق يساعده فى تجميع المادة وتحضيرها، غير أن كل ذلك يفقد معناه وأهميته إذا غابت شروط التحليل الموضوعى النزيه، وخاصة
فى عصر ثورة التقنية والمعلومات المفتوحة أمام كل مهتم، وفى وقت مازال شهود تلك المرحلة من الليبيين أحياء، ويتابعون كلام وتفسيرات هيكل، ويسخرون منها.
ليبيا بلد صغير وله حدود مشتركة مع مصر،وهناك الكثير من المصالح بين البلدين، وهناك الكثير من القوى السياسية الليبية المؤيدة للخط الناصرى، ومع كل ذلك فإن السيد هيكل الذى ربما يعتمد عليه عبدالناصر فى تحليلاته، يبدو من خلال تلك الحلقات سطحيا فى فهم ما كان يجرى فى ليبيا، وكان سطحيا فى فهم الدور الذى تمارسه السفارات الأجنبية، وخاصة الأميركية والبريطانية، فهم يعلمون تماما أن دور الملك فى الحكم قد انتهى، ويمكن قراءة ذلك فى برقيات السفارتين إلى حكوماتهما فى ظروف الأزمات، ويمكن قراءة ذلك فيما أشار إليه بشير السنى المنتصر ـ فى مذكراته ـ عندما زاره السفير الأميركى ديفد نيوسم لوداعه بمناسبة انتهاء خدمته فى ليبيا، وأمطره بأسئلة عديدة عن النظام الملكى وسياسة الملك والحكومة وموقف الشعب من الحكومة وموقف ضباط الجيش، ص 385.
نيوسم غادر ليبيا فى يونيو 1969، وكان سفيرا بها منذ أكتوبر 1965 حسب مذكرات السنى، الذى كان وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء حتى وقوع الانقلاب. وقبل سفره تحدث مع عدد من كبار المسئولين الليبيين، وقال لبعضهم إن الملك سيغادر البلاد، ويتركها للعسكريين وبالتحديد لعبدالعزيز الشلحى.
وما تزال مسألة تنازل الملك عن الحكم أثناء وجوده فى اليونان، ومسألة سهولة ظروف التغيير فى سبتمبر 1969، ما تزال شديدة الغموض، وتحتاج من المؤرخين الليبين، وخاصة المهتمين بالتوثيق كتابة وتسجيل كل معلومة من السياسيين والعسكريين الأحياء الذى كانوا فى مواقع المسئولية.
إن أخطر ما يفسد عمل أي مؤرخ فقدان فضيلة الصدق، وعدم احترام ذكاء وعقول القارئ أو المشاهد والمستمع. ربما يخطأ المؤرخ لأسباب ما، ويمكن تفهم ذلك لأنه خطأ مبرره عدم القصد.
ولعله من المناسب القول أن قناة الجزيرة، ومن خلال ما يقدمه السيد هيكل قد أعطت الفرصة للمشاهدين من النخب العربية لكي تعيد تقييم أعمال السيد هيكل الذى ضخمه الإعلام المصرى فى عهد عبدالناصر. ويظهر الآن فى حجمه الحقيقى، وأن ما يقدمه من قصص وروايات وتحليلات هي فى كثير من الأحيان مجرد " ثرثرة على هوامش التاريخ " وهي ثرثرة مسلية، وخاصة للذين لا يقرأون، ولا يحاولون التفكير فيما يسمعون.

السرد التاريخي لأي موضوع لابد أن يدعم بالوثائق التي تؤيد هذا السرد, غير ذلك ستكون عبارة عن سرد و آراء إرتجالية لا تعبر إلا عن أصحابها.
مشكور أخي بوفرقة على التغطية.
****************************************
إنــــــــــــــــــــــــه الأهــــــــــــــــــــــــــــــــلي يـــــــــــــــــا ســــــــــــــــــــــادة