برقة وحدودها قبيل الفتح الإسلامي...

من طرف رؤوف عوض الجبالي 2011-01-07, 10:34 pm

بـــــــســم اللـــه الرحــمــن الرجــيــم

بنا علي البحث والكتابة في تاريخ ليبيا أمر ليس بالسهل الميسّر الذي يمكن معه جمع مادة تاريخية كاملة شاملة يمكن وسمها

بأنها صورة مطابقة للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحقبة ما من تاريخ هذا القطر* ولعل ذلك مرجعه لندرة

المصادر التاريخية التي تعرضت لتاريخ ليبيا أو للغموض الذي أكتنف بعض الفترات* فلم يسهب المؤرخون منذ أقدم العصور

وحتى العصر الحديث في وصف الأحداث التاريخية وعرضها بشيء من التفصيل والتحليل فأضحت المعلومات مقتضبة

ومبعثرة في بطون الكتب مما جعل جمع شتاتها أمراً ليس باليسير. لذا توطدت في نفوس كثير من الباحثين في علم

التاريخ أن دراسة تاريخ ليبيا منذ القدم وحتى العصر الحديث أمر يحتاج إلى جهد وعناء كبيرين مما حدا بكثير من الباحثين

إلى توجيه اهتمامهم إلى مباحث أخرى على حساب دراسة التاريخ الليبي لتيسر دراستها و وفرة مادتها وكثرة مصادرها*

الأمر الذي ترتب عليه أن افتقرت المكتبة العربية إلى المراجع والكتب العربية بدراسة تاريخ هذا القطر* وعلى الرغم من

أن هناك دراسات وأبحاث قدمت في تاريخ ليبيا إلا أنها لم ترقى إلى الحد الذي يسد العجز الشديد في هذا المجال ولا تبل

ظمأ المتعطشين لدراسة تاريخ هذا الوطن الذي نفخر بالانتماء إليه والذي هو في حاجة ماسة لدراسات وأبحاث جدية

وجريئة ومسؤولة* وأخص بالذكر أقسام التاريخ والدراسات الأثرية بكلياتنا في جامعاتنا الليبية.

مدلول اسم وجغرافية برقة:

تبدأ حدود برقة من منطقة إجدابيا غرباً وتمتد على ساحل البحر المتوسط شرقاً حتى مرسى السلوم حيث الحدود

المصرية وما بين هذين الموضعين يقال له قديماً إقليم "قورينايئة" وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى أكبر مدنه مدينة

"قوريني" وقد حدّد النص الذي كتب به دستور قورينايئة البطلمي حدود قورينايئة أنها المنطقة الممتدة من السلوم شرقاً

إلى العقيلة غرباً"(1) وحيث أن كُتّاب التاريخ القدامى لم يختلفوا كثيراً على تحديد موقع هذا الإقليم فإنه يتضح من ذلك أن

حدوده لم تتغير عما هي عليه في الوقت الحاضر لأن مذبح الأخوين فيلايني(2) يشكل حدوده الغربية ومنطقة السلوم

حدوده الشرقية أما عن الحدود الجنوبية فهي تمتد حتى حدود السودان وتشاد في عمق الصحراء الكبرى(3) وإذا كنا قد

أقررنا بأن هذا الإقليم اتخذ اسم قورينايئة في بادئ الأمر إلا أنه ما لبث أن عُرف باسم آخر وهو "بنتابولس" أي المدن

الخمسة* وعندما فتح المسلمون برقة سنة 21هـ عُرف هذا الإقليم باسم "انطابلس" بعد أن حُرّف من "بنتابولس"* ومع

تتبع أقوال كتاب التاريخ الإسلامي حول هذا الإقليم فإننا نجد البلاذري في فتوح البلدان يقول: "أن عمراً بن العاص صالح

أهل انطابلس ومدينتها برقة وهي بين مصر وإفريقية" ويتضح من هذا القول أن الإقليم هو انطابلس وبرقة هي المدينة

ويذكر الطبري في تاريخه أن سنة 21هـ قائلاً: "وقتها سار عمرو بن العاص إلى انطابلس وهي برقة فافتتحها وصالح أهلها

على ثلاثة عشر ألف دينار" وهنا يؤكد أن انطابلس هي المدينة* وأمّا البكري في "المسالك والممالك" فيذكر "أن برقة

واسمها بالروميّة والإغريقية بنطابلس وتفسيره لذلك خمس مدن سار إليها عمرو بن العاص حتى صالح أهلها على ثلاثة

عشر ألف دينار..." وأمّا سبب تسميتها برقة فإن أبا الفدا في تقويم البلدان يقول: "....وكانت بلاد برقة تسمى أيام الروم

انطابلس فسمتها العرب لمّا فتحتها في صدر الإسلام برقة لكثرة حجارتها المختلطة بالرمل" وفي "المعجم الوسيط أن

البرقاء مؤنث الأبرق وهي أرض غليظة من حجارة ورمل وطين مختلطة"(4) ومن خلال هذا العرض يتضح أن اسم برقة

لم يُتداول إلا بعد الفتح الإسلامي* وأمّا حيرة أمرنا في أن انطابلس هي الإقليم أو المدينة عندما فتحها العرب* فإننا نجد

أنفسنا نسير وراء التفسير الذي يقول أن انطابلس هي مدينة برقة باعتبار أن عمراً بن العاص قد فتح مدينة المفروض أنها

عاصمة الإقليم بمصالحة أهلها على الجزية* ومادامت برقة المدينة هي عاصمة الإقليم في عصرهم فلماذا لا تكون هي

انطابلس؟ أو لماذا لا يكون انطابلس هو الاسم القديم لمدينة برقة مادام الإقليم في عصرهم يحمل اسم برقة استمداداً

له من اسم عاصمته برقة؟(5).

أحوال برقة قبل الفتح الإسلامي :

وبعد العرض التاريخي الذي قدمناه حول إقليم برقة من الناحية الجغرافية أصبح لزاماً علينا تقديم لمحة مُيسّرة عن أحوال

هذا الإقليم قبيل الفتح الإسلامي مع العلم بما يكتنفه هذا الأمر من صعوبات جمة تحول دون تقديم صورة واضحة للأحوال

السياسية والاجتماعية له* فمن الثابت تاريخياً أن الإغريق قد استوطنوا برقة في القرن السابع قبل الميلاد عندما أسسوا

مدينة قوريني عام 631ق.م حيث دلت الدراسات التاريخية أن القبائل الليبية التي كانت تسكن هذه المنطقة عند وصول

الإغريق إليها هم "الادورماخيداي* الجيلجياماي* الاسبوستاي* والاسخساي* الجندانيس" وقد عمل الإغريق على الرغم

من النظام الطبقي الذي اوجدوه أن يندمجوا مع هذه القبائل عن طريق المصاهرة كما تمكن الإغريق أن ينشروا ثقافتهم

ولغتهم وحضارتهم الإغريقية في الإقليم وذلك لتفوقها في تلك الفترة* وقد استمر الحكم الإغريقي لبرقة ما يقرب من

ستة قرون* وفي بداية القرن الأول ق.م تمكنت الإمبراطورية الرومانية من بسط سيطرتها العسكرية على هذا الإقليم

واستمرت في حكمها على هذه المنطقة حتى انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وعاصمته بيزنطة

وغربي وعاصمته روما فدانت برقة إلى الروم البيزنطيين وظلت تحت حكمهم عدا سنوات الحكم الفارسي حتى فتحها

العرب في القرن السابع الميلادي. ولأهمية هذه الحقبة التاريخية رأينا أن نشير إلى الخطوط العريضة التي ميزت هذه

الفترة* فبعد أن تمكن الإمبراطور جستنيان من التغلب على الوندال في غرب البلاد "تريبولس" من أن يقوم بالعديد من

الإصلاحات المدنية والعمرانية والعسكرية في كافة أرجاء الإمبراطورية غير أنه صبغ هذه الإصلاحات بالصبغة الدينية فعُد

له ذلك انتصارا للكنيسة الرومانية الأرثوذكسية فأطلق بذلك أيدي حكامه في الأقاليم بالنيل من كافة المعتقدات الأخرى

كالوثنية واليهودية وحتى المذاهب المسيحية الأخرى* ولما كان إقليم برقة وربما معظم الشعب البربري في ليبيا يدين

بالمذهب الأرياني(6) وهو نسبة إلى "أريوس" من مواليد بطليموسة* نادى بمذهب في المسيحية مخالف لما تنادي به

الكاثوليكية* اشتهر مذهبه وانتشر في أقاليم كثيرة وصارعته الأرثوذكسية طويلاً حتى حكم عليه بعد محاولات عدة

ومجامع متعددة بالإلحاد وقد انتشر مذهبه بين القوط الشرقيين والقوط الغربيين ومن بينهم الوندال...... فقد ساءت

أحوالهم الاجتماعية ومنعوا هم وغيرهم من المعتقدات الأخرى من ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية* وفوق ذلك

شرع الرومان في انتزاع الأراضي والمزارع من الليبيين مع ملاحقة ملاكها وتعذيبهم والتنكيل بهم فعمت الفوضى البلاد

وفقد الإقليم الأمن والاستقرار* ما كان ينذر بقيام ثورة وشيكة ولم تفلح محاولات الإمبراطور جستنيان لإصلاح الأمر فقد

توالت المصائب الداخلية سواء السياسية أو الخلقية أو حتى الطبيعية على الإمبراطورية من دفع الفئات المستضعفة

بزعامة قبيلة "لواته" البربرية من الثورة على البيزنطيين عام 535م. وبعد القضاء على هذه الثورة رأى الإمبراطور

جستنيان انه من الصعب أن تدار البلاد مركزياً من قرطاجنة فأمر عام 543م بفصل إقليم طرابلس وبنتابولس عن إدارة

إفريقية* ونصّب لكل منهما حاكماً مستقلاً وكان إقليم برقة من نصيب "كيروس"* وعلى الرغم من توالي الأباطرة على

حكم بيزنطة والحكام على هذا الإقليم إلا أن الأمر لم يتغير في شيء* فقد أستمر الحكام في تطبيق سياسة الإذلال

والاضطهاد والتعصب الديني الأعمى للمعتقدات ما جعل أهل البلاد من البربر دائمي الثورة على الحكم البيزنطي الذي لم

يصلح من شأنه ولا من شأن البلاد فاتسعت الهوة بينه وبين عامة الشعب الذي وجد فرصته للخلاص من هذه الأوضاع

السيئة إلى مساندة هرقل في ثورته على الإمبراطور فوكاس وفي هذا الصدد تذكر المصادر التاريخية(7) أنه لما كان

البربر في إقليم بنتابولس قد ضاقوا ذرعاً بحكم فوكاس وأعوانه الذي لم يقم بما هو مرجو منه من إصلاحات إدارية ومدنية

تنتشل الإمبراطورية من حالة التردي التي تعيشها* فقد وجدوا في مساندة الثورة التي قادها هرقل الأب أولاً ثم هرقل الابن ثانياً(8)
خلاصاً من سياسة رومانية شديدة القسوة والبطش إلى سياسة أكثر تسامحاً وحرية واستقلالية فهبوا ب

اعتناق هذه الثورة كقضية للخلاص والتوق إلى مستقبل أفضل على يدي هرقل.

وفي عام 609 للميلاد انطلقت الثورة بالقضاء على أتباع الإمبراطور فوكاس من جند وقادة في إقليم بنتابولس ثم ما لبث

هرقل أن غادر الإقليم على رأس جيش كبير مؤلف من الجنود الرومان والمرتزقة اليونان وغيرهم وعدد كبير من البربر

سكان الإقليم* كما غادر القائد بيقتاس الإقليم على رأس قوة كبيرة متجهاً إلى غزو مصر إضافة إلى مغادرة هرقل الأب

على رأس حملة متجهةً إلى قرطاجنة. وبهذا خرجت من بنتابولس ثلاثة جيوش متكاملة والتي تتطلب بطبيعة الحال

إعداداً مادياً كبيراً من المال والسلاح والمؤن تحملّه دونما شك الشعب الليبي في هذا الإقليم. ونحن هنا لسنا بصدد

دراسة تاريخ الصراع بين أباطرة الروم البيزنطيين على الحكم إلا بقدر ما يتصل بهذا الإقليم من أمور* وعلى أية حال لم

يستفد إقليم بنتابولس كثيراً من هذه الثورة* إذ أنه بعد خمس سنوات منها تعرض الإقليم إلى غزو الفرس الذين ألحقوا

دماراً وخراباً كبيرين بكافة المدن والقرى التي قاومتهم أثناء الغزو* غير أن حكم الفرس لهذا الإقليم لم يدم أكثر من اثنتي

عشرة سنة إذ أرسل هرقل جيشاً عن طريق البحر في شتاء سنة 628-629م ليحتل مصر ويعيد أمر الدولة الرومانية من

فلسطين إلى بلاد بنتابولس (9)

وبهذا كان قدر هذا الإقليم أن يعود إلى حكم البيزنطيين حتى يدخل في الإسلام ويصير في حكمه إلى الأبد.

من طرف amol 2011-01-20, 11:09 am

برقة وحدودها قبيل الفتح الإسلامي...

برقة وحدودها قبيل الفتح الإسلامي...

رد: برقة وحدودها قبيل الفتح الإسلامي...