ما بعد القذافي

تطوي الثورة الليبية آخر صفحات عهد العقيد معمر القذافي العبثية التي استمرت على هذا البلد أكثر من أربعة عقود ودارت على كيانها وإمكاناتها ومكوناتها، وبات تتويج انتصار الثورة يقترب وقاطرتها تمضي باتجاه ليبيا الجديدة .

للثورة الليبية فصول متداخلة ستبقى في مقبل الأيام مفتوحة على قراءات عديدة، غير أن الثابت في النظرة إلى ما جرى أن فصل البداية قاد إلى النهاية، إنه الفصل الدموي الذي فتحه القذافي وأركان سلطته في 17 فبراير/شباط في مدينة بنغازي الأبية في رد قاتل على المنتفضين بمسيراتهم السلمية يطالبون بحقوقهم في حياة حرة وكريمة .

مذبحة بنغازي كانت الحلقة الأبرز في سلسلة إسكات المطالبين بحقوقهم والمعارضين للسياسات المتخبطة التي استسهلها القذافي بجهل وتجاهل لتداعياتها البركانية، فقد بدأت مبكراً بالاغتيالات التي طالت شركاء القذافي في ما عرف بثورة الفاتح ،1969 وظلت على مدى 42 عاماً مفتوحة على المعارضين لتصل بعد هذه السنوات التي شهدت لعبة القذافي على قاعدة “لا رأسمالية ولا اشتراكية” لبناء السلطة الأسرية تحت ظلال الشعارات الشعبية التي وصلت إلى حرب القذافي على الشعب الليبي بأسره .

من بنغازي أطلقت الجماهير الليبية ثورتها، وفي طرابلس أطلق القذافي رصاصة “الرحمة” على نفسه قبل مصير شخصه .

ليبيا عملياً تدخل مرحلة مابعد القذافي، مرحلة لا تتيح “استراحة” ل”المحارب”، بل إن التعاطي مع متطلباتها وأولوياتها سيتوقف عليه مستقبل ليبيا بما يعني هذا من حجم المسؤولية على قيادة الوضع الانتقالي في اللحظة الراهنة .

في الأساس هناك تركة مثقلة وتحديات ماثلة، بلد في حال شبه انهيار، إن لم يكن الانهيار بذاته، فهي ممزقة ولا تتوافر فيها مؤسسات الحكم وتفتقد في أغلبها إلى البنى التحتية، إضافة إلى دمار الحرب الذي أصاب العديد من المدن والبلدات، وهناك المعاناة الأليمة التي تحملها الشعب خلال الشهور المنصرمة، علاوة على معاناة 42 عاماً من حكم القذافي .

في الأولويات، يصير الأمن حاسماً لأنه يرتبط بالاستقرار في البلاد وطمأنة المواطنين، ولابد من حسم المجلس الوطني الانتقالي لموضوع إعادة تحديد مسؤولياته إذا ما استمر، لأن المطلوب إدارة لهذه الفترة معنية بالأساس بالإعداد الكامل لانتقال ليبيا إلى نظام ديمقراطي بمؤسساته وتوجهاته وممارساته وليس مجرد إعادة إطلاق الشعارات، على أن التحدي الكبير الذي يواجه ليبيا الثورة هو قدرة أطرافها التي التقت في ساحة الثورة، وجاءت من مشارب سياسية مختلفة على ألا تبقى قاعدة اللقاء راسخة وحسب، بل أن تتمكن من التوافق في شأن مرحلة بناء الدولة الجديدة بطبيعتها المدنية التي بها وحدها يمكن لليبيا أن تشهد نهوضاً حضارياً، وهي لديها الإمكانات المادية والبشرية القادرة على تحقيق هذه التحولات التاريخية .

التركيز على هذه القضية لايقوم على تفادي تفاقم الخلافات، بخاصة بين ما يوصف بالإسلاميين والعلمانيين، وإعادة استجرار الصراعات الأيديولوجية التي تجاوزها الزمن العربي المفتوح على المستقبل بما تشهده المنطقة من مخاض تاريخي للخروج من أزمنة الاستبداد الإقطاعية البوليسية والاستعمارية والصهيونية، إلى الزمن الإنساني الذي يعيد للإنسان العربي اعتباره ويستعيد حقوقه ويعود إلى دوره في المسيرة الإنسانية التي يشهدها عالمنا بأسره، بل إن الأمر يقوم على محاذير جدية ربما كان اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، القائد العسكري للثوار الليبيين، إنذاراً مبكراً لا من مخاوف الانقسام فحسب، بل من مخاطر النزعة الانتقامية والتصفية الدموية التي تُكرّر حضور القذافي في سياق ثورة اندلعت لوضع نهاية حاسمة لفعله ونهجه الدموي .

القضية الأهم أن الوضع الفسيفسائي في الداخل الليبي والمجلس الانتقالي تحديداً، مفتوح على مفارقة صارخة، فهو يوفر قاعدة راسخة لإطلاق التعددية السياسية القائمة على المنافسة الديمقراطية، وهذه قد تشهد اندماج فصائل مع بعضها وقيام تحالفات جديدة، كما يمكن لهذا الوضع أن يشكل أرضية خصبة لتناحرات في الداخل وتلاعبات من الخارج .

والمخاطر المحدقة حقاً تأتي من الأخيرة، أي تلاعبات الخارج، فالخلافات بين الدول الأوروبية، خاصة المشاركة بدور حلف الناتو في ليبيا، تفجّرت في شأن “الكعكة الليبية”، وإن كانت لاتزال تدور في حلقات ضيقة، إلا أنها مرشحة للانفجار إذا ما قرأنا الإعلان السويدي في رفض استحواذ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا إلى جانب الولايات المتحدة على شأن ليبيا بعد القذافي ومطالبتها بمظلة أوروبية لهذه العملية في خلاف على طبيعة الوصاية، ما يعني أن الخلاف الأوروبي والغربي عموماً إذا ما سقط على التفكك والتفتت السياسي الليبي ستكون المترتبات على ليبيا بكيانها ومكوناتها وإمكاناتها كارثية .