الميدان يا حميدان

شغل الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك منصب عمدة باريس 18 عاماً بدأت في عام 1977. خلال عمله حقق العديد من الإنجازات لتوفير الخدمات لكبار السن والمعوقين والأمهات المطلقات، كما أطلق تقنية ''الموتوركوت''، التي تشتهر باريس بها كوسيلة فاعلة لنظافة الشوارع. ساهم خلال فترة عمله في دعم بقاء الشركات وتوفير بيئة استثمارية في المدينة جلبت الكثير من رؤوس الأموال.

كما شغل رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا الحالي منصب عمدة إسطنبول لمدة أربع سنوات من 1994 إلى 1998 أقيل بعدها، وسجن بسبب استشهاده بقصيدة لشاعر مسلم تحث على الجهاد. تمثلت نجاحات أردوغان أثناء عمادته لإسطنبول في حل مشكلة الصرف الصحي، التي عانتها المدينة سنين طويلة. حل أردوغان مشاكل التلوث والازدحام المروري التي كانت تعوق نمو المدينة ويبعد المستثمرين عنها. تم مد مئات الكيلو مترات من أنابيب الصرف الصحي، وإنشاء محطة حديثة لإعادة تدوير النفايات. حل أردوغان مشكلة التلوث من خلال حل مشكلة المرور المستعصية باستخدام حافلات صديقة للبيئة، أنشأت البلدية أكثر من 50 جسراً للسيارات وأنفاقا وطرقا سريعة. حقق أردوغان إنجازات اقتصادية كذلك، فمن خلال تكوين رقابة دقيقة على حركة أموال المدينة تمكن من سداد ديون بلغت أكثر من ملياري دولار، واستثمر أربعة مليارات دولار في المدينة. عاد أردوغان أمس لعادة كان يمارسها أيام عمادته وهي تناول الإفطار مع عمال نظافة المدينة.

الشخصية الثالثة ذات الحضور القوي حتى اليوم هو الشيخ محمد بن راشد، الذي رغم كونه حاكماً لإمارة دبي، إلا أنه كان يقوم بدور رئيس البلدية وبزخم قوي أوصل الإمارة إلى مستوى يتجاوز الكثير من المدن الأوروبية والأمريكية والآسيوية. وجعلها مثالاً يحتذى في كفاءة الخدمات وتطوير البنى الأساسية والجاذبية الاستثمارية والاستقلالية الاقتصادية.

يتميز الثلاثة بالقدرة القيادية والنظرة المستقبلية وحب العمل والإنجاز، وهذا بالطبع قاد الأولين لرئاسة دولتيهما من خلال انتخابات ديمقراطية شفافة. لعل الميزة الأهم لجاك شيراك هي قدرته على التحفيز وضمانه ولاء العاملين معه. تبرز شخصية أردوغان والكاريزما الطاغية التي ما زال يمتلكها، واستطاع من خلالها ومن خلال أعماله المشرفة أن يعيد إدخال محبة الأتراك بعد أن خبا وتحول إلى علاقة سلبية بين العرب والدولة العثمانية.

عرض برنامج ''ستين دقيقة'' الأمريكي لأسلوب عمل الشيخ محمد بن راشد الذي يمارس عمله في سيارته. يقوم الشيخ بمتابعة كل صغيرة وكبيرة، ولا يسمح بالخطأ. يؤمن كذلك بأن الكفاءة دون سواها هي العنصر الأهم في اختيار المسؤول. كما يعتمد على الخبراء والاستشاريين المختصين ويمنحهم الفرصة لتجاوز الممكن إلى المثالي. كان من ضمن تعليماته لمسؤولي بلدية دبي عندما قدموا له تقريراً بأنه يمكن زيادة مساحات الكورنيش بمساحة خمسة آلاف كيلو متر مربع ''إذا عملوا على جعل مساحة الكورنيش 50 ألف كيلو متر مربع''.

شغلتني هذه الشخصيات، وغيرهم كثير ممن حملهم منصب العمدة إلى قلوب الناس، وأنا أتابع التعيينات الجديدة خصوصاً تعيين أمين منطقة الرياض، مع تحفظي على فكرة أن يكون الأمين مشغولاً بهموم أكثر من مدينة واحدة. المعلوم كذلك أن العمدة في الحالات التي ذكرتها له صلاحيات إدارة كل موارد المدينة وتوجيهها واستثمارها من خلال تنظيم يختلف عن التنظيم المعتمد لدينا، لكن الأمين لديه من الصلاحيات المالية والإدارية ما يمكنه من تحقيق إنجازات ولدينا أمثلة كثيرة لأمناء غيروا وجه المدن التي رأسوا بلدياتها.

يجب أن يعتني الأمين بالتعرف على المشاكل التي تواجه المدينة ويحدد أولويات التعامل معها، لأن النجاحات التي يحققها من خلال حل المشاكل التي يعانيها الناس هي ضمانة تحقيق توقعات المسؤولين وحب المواطن.

يجب أن يكره الأمين المكتب، لأن المكتب هو الذي يحيل المسؤول إلى قطعة بيروقراطية ويبعده عن واقع المشاكل التي تواجه الناس، ويجعل الحلول التي يتبناها مبنية على السماع وليس المعاينة، والمثل يقول: ''ليس السماع كالعيان''.

التواجد مع العاملين في مواقع عملهم يحقق أهدافا مهمة منها معرفة الحقائق على طبيعتها، ومعرفة المتعاملين مع هذه الحقائق، ويزيد ارتباط المسؤول بمن يعملون معه، ويحميه من المتسلقين والمتسلطين وأصحاب النوايا السيئة، كما أنه أكبر محفز للإنجاز، فكيف إذا أمسك الأمين الأشياء بيده وساعد على إنجاز العمل؟

أهم معوقات عمل المسؤولين لدينا هو اللباس. يفترض أن يدل ما يلبس المسؤول على وظيفته، ومجال عمله. الثوب يمنع أي شخص من أداء أي عمل يدوي، فإذا سلمنا أنه لا بد من أن يلبس المسؤول الثوب، فليس هناك ما يستدعي أن يلبس البشت الذي – هو الآخر، يعطي الانطباع أن الشخص يذهب إلى حفل وليس إلى عمل، وهو يعوق كل حركة حتى السير.

يضاف إلى ما سبق أن يهتم الأمين بعلاقاته مع المواطن، الظهور بالمظهر البسيط غير المتكلف، والحديث مع الناس، والتواجد عند الحاجة وفتح الأبواب وإلغاء الحرس والحجاب مهمة لمعرفة الواقع وكسب احترام المستفيد من الخدمات. كما أن تكليف متحدث رسمي يتعامل مع الإعلام ويعرِّف الناس بوجهة نظر الأمانة أساسي. ولا يمنع هذا من تحديد مؤتمر شهري يتحدث فيه المسؤول عن المدينة ورؤيته وخططه بالنسبة لها وحل ما يواجه المدينة وسكانها من إشكالات.