حول المجموعة الشعرية.. (فاكهة المكان) لكمال المرغني

من طرف **عبدالحفيظ عوض ربيع** 2011-02-10, 4:35 pm

طوف من جنائن الوجدان.. للناقد / عمر عبود

يشكل المكان ركيزة
أساسية في الكثير من الكتابات التي تحيط القارئ بالمشاهد المصاحبة لكل حدث له قيمته
الجوهرية في نفسه.. وفى الكثير من الأحيان تمتزج الذاكرة بالفكرة لترسم عنواناً
لباقة مستوحاة مما جاشت به هذه الأماكن المحتزمة بتلك الخواطر والمنسجمة مع فكرة
منبثقة من الأعماق... ولا يبتعد بنا المشهد كثيراً.. فها هو
الشاعر
(كمال المرغني) يحتفي بنا على مائدة مترعة بشتى الأطايب مما اكتنزت به جوانحه... (فاكهة
المكان) كانت عنواناً لمجموعة من الباقات الخفيفة واللطيفة أرسلها الشاعر في لفافات
مفخخة بالورد إلى كل من كان لهم في مشواره نقوش لم تبارح فكره المنشغل بهذه
الارتسامات.. أول هذه الباقات بعث بها.. إلى(فاطمة) يخبرها فيها بأنه يمعن التحديق
في عيون الضوء.. وأن ذلك الحب ما بارح خياله لحظة..

أن أكاليل الشوق
تخفق أجنحة في كيانه.. ومن المعروف أن اسم فاطمة اقترن بمعان سامية لدى الكثير من
القامات الأدبية المعروفة.. إذ أنها تشكل رمزاً لعشق الوطن.. لحب الأم.. وأيضاً
لتوأم الروح ورفيق الدرب... هكذا يكون الحب أو لا يكون.. وإذا كان الحب مغروس منذ
الجذور.. فإن حب الجد كان المنهل الأصيل لكل أنهر العشق التي مثيراً ما يغرق
مصطافوها... إلى جدي.. همسة انبعثت في لحظات لا شعور... أو هي ساعات تذكَر وتبَصر..
لذالك النهر الفياض بالحب رغم علامات الغضب التي ارتسمت على وجهه المتعب من الأيام...
المبتسم في وجه عبوسها.. وهو يحمل عبق التاريخ بين كتفيه ويجر متاهات السنين ليجلس
بين حفدته ويحكي لهم عن تلك الأيام العصيبة متمنياً عدم عودتها رغم ما تحمله من
لحظات عزيزة.. خاصة تلك التي قضاها مع الجدة الطيبة.. تلك التي تخشى الأطباء ولا
تحب التردد على المستشفيات.. من هنا إلى جدتي.. جلسة على ركبة الجدة في ساعات لا
تمحى من الوجدان.. فمن ذا ينسى ذلك الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه ذاك الصبي الآبق
متى أغضب أحد والديه..لكن الوداع هو النهاية المحتومة لكل لقاء.. بيد أن شجرة
الزيتون كانت احتضنت مراسم الوداع..
تحت شجرة الزيتون
كما أوصتنا
تركناها وحيدة
في مقبرة العائلة

ثم يتواصل سيل
الباقات والبرقيات.. وهذه أحدها بعثت (إلى صديق ما) بدأت بتحية.. مساء الخير.. شملت
هذه التمساية الأسئلة والأساطير.. الرغائب والضغائن.. الهموم والنجوم.. ثم تلك
البعيدة.. يقول لها.. أبعث إليك(مطراً باهتاً) رغم أنه يخشى البحر.. يتبدد دمه على
الأماني.. ثم يستكين في حضن من لا تملك ثمن عطرها ليصبح محباً للبحر.. و(بالبيت
المجاور) كان هناك أنس وأنسام.. سحب تضحك في السماء.. انبعث منه نداء
أيتها السيدات والسادة
عرافة ونادل
في أخر الإذعان
المذابح
أيضاً القادة

ولأنه لم يبارح إطار
العائلة... فها هو يدلق كما من أيقوناته المختزنة في وجدانه لتتدلىّ.. (قصائد من
العائلة).. بدأها من مرحلة الحبو.. ثم انتقل إلى الأخوة الذين صاروا آباء.. لكنهم
لم ينسوا أيامهم في الحي القديم.. رغم طول الأمد وانسدال خيط الحكايا ليسبر ما كان
مختفياً خلف ركام الغياب..أيام الشتاء البارد تدفئها جلسة العائلة حول الموقد
ورائحة المطر تفوح من ثقوب الشبابيك... أما (سيدة الورد) فهي الركن الذي يأوي إليه
في لحظة الانزواء عن كل شيء.. حتى عن خبر الأم والأصدقاء وتلصص الجيران.. عندها فقط
تكون هي صدي مناجاته المنبعثة في سكنه الروح.. لكنه يقول بأنه ما لجأ إليها إلا (لأنك
أنتِ).. أنتِ وردة الحلم وزهرة القلب وباحة الغناء.. لا يألو في سبيلها انتظار مهما
طال.. لكنه عندما يراها أقبلت في عجل يقول لها(تمهلي).. ورغم الظمأ لم يفقد (هيبة)
البهاء الذي يحيط به على صمت المكان..يرمم ضوء المسافات ويرأب صدع الضحكات في
البلاد.. وبمحض صدفة يأتي (المطر) على عجل يسّاقط عند زهرة الحلم.. يكسر رتابة
الأزقة الحالمة بضجيج الشوارع.. غير عابئ بتفاصيل الحزن.. يبتسم مع عصافير الحلم..
يرسم علاقة بين مفردات من نسجه الخاص.. فتغدو(عائلة من ورق) نام أطفالها باكراً
وفضّلوا الهدوء والسكون.. وراح كل منهم يرتق لعروس خياله كلمات تمتزج مع أشياء
الطبيعة.. فقول لها.. (لوحدكِ) ما أروع الأطفال تحت المطر وهم يتذوقون ماء السماء (الذي
يتوسد بئر الذاكرة).. ثم يأتي أحدهم ويعلن (هكذا أنا)
أتقن الترحال
الصدق فى المحافل
العودة إلى بيتي
مثقلاً بلا شيء

لا شيء سوى الخوف من
غياهب الحياة.. وإتقان الضحك وقت البكاء.. وليبق(في الذاكرة) شيئاً من حب لناس
طيبين معهم الأب والأم والجدة والخال والأخوة.. فيما تطل (سمراء) من بعيد تصبح همساً
شمساً وروحاً وموتاً.. تبحث عن (ياسين) بين طيات الكتب لترسم (لوحة عصية على البكاء)
تجبره على انتظار الليل لتترجل من علياء المقادير.. وتعلن الصبح.. فيكون لقاء بينه
وبين (سلمى) في الأزقة وتحت المطر ولا يجد غضاضة في أن يمنحها أن تكون قصيدة
الأشياء.. وليكون المشهد الختامي لهذه اللوحات المتراصة.. على أنغام نشيد القدس
وهتافهم وهم يشيعون الشهيد(محمد الدره) وسط عرس من أعراس النضال.. ولسان حالهم يردد
(أبصرناك)... أبصرناك فصحت الأمة.. لتأتي أنباء التاسعة وتعلن نهاية منظمة حقوق
الإنسان.. وليكون الشعور القومي متراصاً مع الشعوريات الأخرى.. وتتماس حيث تلتقي
الأحاسيس النابضة والمتعالية الخفق ليزداد ضراوة المشهد..فيحتدم الموقف ويخلو
المكان من كل شيء... إلا(فاكهة المكان).

عن
صحيفة الجماهيرية / العدد 6326 بتاريخ 3-4 / 12 / 2010