تونس : غزوة العبدليّة .. بقلم/ محمد بن زكري

في وقت واحد من ليلة الاثنين / الثلاثاء 11-12 يونيو الجاري ، انطلقت صيحات التهليل والتكبير (الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر) وانطلقت في طول تونس وعرضها جحافل السلفيين الجهادية وأنصار الشريعة .. بالآلاف ، انتهاكا لرموز السيادة الوطنية ، وحرقا ونهبا وإتلافا للممتلكات العامة والخاصة ، وترويعا وإرهابا للناس الآمنين .
ولأن الاسلامويين لا يؤمنون بالديمقراطية ، ولا يعترفون بحق الاختلاف ، ولا يحترمون الحريات العامة والخاصة ، ولا يقيمون وزنا للقوانين ؛ فكل ذلك في نظرهم يتلخص في ثلاث كلمات : (كفر والعياذ بالله) .
ولأن وسيلة الحوار والتعاطي مع الآخر - المعتمدة لديهم - هي العنف ، ولأن الفنون في منظورهم الأيديولوجي .. هي عموما رجس من عمل الشيطان ، فما بالك إذا ما قرءوا فيها شيئا من التعارض مع ايديولوجيتهم التي لا تعرف الى التسامح سبيلا !
فقد كانت ما أسميها (غزوة العبدليّة) .
بضعة لوحات رسم ، تم عرضها ضمن تظاهرة (ربيع الفنون) في دورتها العاشرة ] لاحظ أنها الدورة العاشرة وليست للمرة الأولى [ في فضاء قصر العبدليّة الثقافي بمنطقة المرسى في العاصمة التونسية ؛ أدت بالسلفيين الى إضرام النار في سمعة تونس الحضارة ، و الإطاحة بهيبة الجمهورية التونسية الثانية .
لم ترُق بعض لوحات الفن التشكيلي (الرسم) للسلفيين والسلفيات .. الملتحين والمحجبات ، وبدلا من أن يعبروا عن عدم رضاهم وسخطهم بالأساليب الديمقراطية السلمية (المتحضرة) فقد كانت غزوة العبدليّة بوقائعها الاجرامية الدامية !
- أضرموا النار في المحاكم ! وأتلفوا المستندات والدفاتر العدلية ، وسرقوا التجهيزات المكتبية والحواسيب .
- اقتحموا معاهد الفنون الجميلة ، ورشقوها بقنابل المولوتوف الحارقة ، وتركوا على جدرانها آثار عدوانهم الهمجي وتقيآتهم التكفيرية .
- أضرموا النيران في المقار الجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات العمال) .
- احرقوا ما طالته أيديهم من مقار الأحزاب المدنية
- قطعوا الطريق بين تونس وبنزرت ، ومنعوا الناس من الوصول الى أعمالهم .
- أوقفوا الحركة على شبكات النقل العمومي
- اختطفوا عربات الإطفاء وأضرموا فيها النار ، حتى يمنعوا رجال الحماية المدنية من استعمالها في إخماد ما يشعلونه من الحرائق .
- اعتدوا على مراكز الأمن ، وأحرقوا عربات الشرطة ، ورشقوا رجال الأمن وقوات مكافحة الشغب بقنابل المولوتوف (المحشوة بالمسامير) ما أدى الى إيقاع مئات الإصابات في صفوفهم .
- نزعوا كاميرات المراقبة ، حتى لا توثق وقائع الغزوة السلفية .
فماذا كان موقف حكومة حزب النهضة في تونس من (غزوة العبدليّة) ؟؟
أفرز صندوق الاقتراع في تونس حكم حزب النهضة ، فأفرز حكم النهضة تنظيمات سلفية متطرفة .. تعيش في القرن السابع الميلادي ، تنكر الديمقراطية ، وتكفر الآخرين ، وتعادي الحضارة البشرية ، وتريد فرض الشريعة الاسلامية – كما تراها – بقوة الارهاب والعنف الإجرامي المنظم ؛ تحت سمع وبصر حكومة حزب النهضة ، الذي يتواطأ جناح منه مع السلفيين .. ويمكّن لهم في الواقع التونسي .
فعلى الرغم من اعتراف وزير الداخلية النهضوي (علي لعريض) بمسؤولية السلفيين – التي لا سبيل الى انكارها طبعا – عن جرائم غزوة العبدليّة ؛ فإنه لم ينس (بصورة غريبة عجيبة) أن يساوي مساواة مطلقة بين اليسار واليمين (!) في بيانه أمام المجلس التأسيسي التونسي . ولست أدري – ولا أدري أن أحدا يمكنه أن يدري – بأي وجهِ مسؤوليةٍ رسميةٍ أو منطقٍ سليم أو التزامٍ أخلاقي ، يقحم السيد وزير داخلية النهضة (اليسار) في حديثه عن الغزوة السلفية (اليمينية) ! .
أما وزير الثقافة النهضوي (مهدي العبدلي) فقد دان بأشد عبارات الشجب والاستنكار تظاهرة ربيع الفنون الثقافية ، في حين اكتفى بإلقاء اللوم على جناة غزوة العبدليّة السلفيين .. بل إن وزارة الثقافة النهضوية ذهبت أبعد من ذلك في التعاطي مع الحدث ، فبادرت الى إغلاق فضاء قصر العبدليّة الثقافي ، ورفعت قضية عدلية بحق الجهة المنظمة لتظاهرة (ربيع الفنون) .
وحتى تكتمل الصورة الظلامية .. فقد طالب نواب حزب النهضة في المجلس التأسيسي التونسي بإصدار قانون يجرّم الابداع والمبدعين ، بدعوى التعرض للمقدسات .
فماذا كان- بالمقابل - موقف زعماء الجماعات السلفية وقادة التنظيمات الجهادية المتطرفة ؟
بوضوح كاشف ، وبالتكامل مع موقف حكومة حزب النهضة.. من حرية التعبير والضمير ، وتلبية لنداء زعيم القاعدة (أيمن الظواهري) الموجه الى السلفيين الجهاديين وأنصار الشريعة في تونس .. للانقلاب على الدولة المدنية (الكافرة !) واطمئنانا الى قوة التيار السلفي في تونس ..
أصدر شيخ السلفيين (أبو أيوب) بيانا ، أعلن فيه الحرب الجهادية على (الكفار) فوق الارض التونسية ، ولم يتورع حزب التحرير الاسلامي .. ممثلا بناطقه الرسمي (رضا بلحاج) عن التهديد العلني باستمرار أعمال العنف والعصيان المدني ، الى حين إذعان الدولة التونسية للإرادة السلفية .. بإصدار قانون يحظر ما سموه التعرض للمقدسات .
والخلاصة : لقد أنجبت أنظمة الاستبداد العربية - بعملية قيصرية - نقيضا ثوريا غير مكتمل النمو ، هو عبارة عن (ربع ثورة) ، وأنجب ربع الثورة .. ما سمي خطأ بثورات الربيع العربي ، وأنجب ما سمي بثورات الربيع العربي .. أنظمة صيف اسلاموي جاف مجدب ، وأنجبت الانظمة الاسلاموية.. تنظيمات سلفية متطرفة متغولة .. تؤسس بالعنف والارهاب لموسم خريف سلفي طويل ، ربما ليس بعده من فصول .