إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
كليمنتي اربيب الشاعر المرجاوي الملقب بأبي حليقة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
كليمنتي اربيب الشاعر المرجاوي الملقب بأبي حليقة
كليمنتي أربيب. شاب يهودي في الثلاثين من العمر. تاجر متجوّل يحترف بيع الأقمشة والفرش العربي. يجلب بضاعته من الموانئ القريبة من الجبل الأخضر ومن سوقي الجريد والظلام في بنغازي. يدور بها على النجوع البدوية. يتكلم العبرية والعربية. ويجيد الدارجة الليبية بطلاقة. أستطيع القول إنه ليبي. فمولده كان في طرابلس في منطقة الحارة وبالضبط في زقاق ظهره لزنقة كوشة الصفار الشهيرة حيث كان والده التاجر الكبير يقيم هناك قبل رحيله إلى الوطن الشرقي. بنغازي. الجبل الأخضر. درنة.
لم يمكث والد كليمنتي في برقة ونواحيها كثيرا. سرعان ما سافر صحبة زوجته إلى الإسكندرية ومنها عبّأ باخرة بالقطن الفاخر طويل التيلة و باعها في برشلونة لتاجر إنجليزي ثم غادر في أول باخرة قصدت العالم الجديد. في أمريكا أسس مصنعا صغيرا للأقمشة وعاش.
كليمنتي أربيب بقي مع أخته الجميلة للاهم وزوجته الشابة سارة وطفله الصغير. لم يتبع والده. فتجارته كانت رائجة وزبائنه وحبيباته كثر. استقرَّ في مدينة باركي ( المرج ).. سكن بيتا طينيا صغيرا مسقوفا بجريد النخيل المغطى بتفل البحر الملبوخ جيدا بلزابة الطين. البيت محاط بسور واطئ. بيت ظريف دافئ. غرفتا نوم. مطبخ. غرفة جلوس. حمّام. زريبة صغيرة. باحته زرعتها زوجته ببعض الخضر والزهور. زوجته طيبة نشيطة. على دراية بالحياكة والتطريز والطب الشعبي. تسدى خدماتها للجارات بثمن رمزي وأحيانا بالمجان. امتزجت بهن. لبست لباسهن وأجادت لهجتهن وشاركتهن أفراحهن وأحزانهن. تعلمت إعداد المثرودة التي يشتهيها كليمنتي كثيرا وتمهّرت جيدا في إعداد خبز التنور وبدورها علمت الجارات عدة أكلات يهودية من ضمنها نوع لذيذ من الحلوى.
عندما يغيب كليمنتي أياما متوغلا في نجوع الجبل الأخضر ودرنة لا تشعر بأي غربة أو خوف. كل الجيران يحترمونها ويحفظون حرمتها ويمدّونها بما تحتاج إليه من عسل ولبن وزيت ودقيق وتمر.. عندما جاءها المخاض ولدتها القابلة العرفيّة الحاجة مشهية. كل الجارات حضرن إلى بيتها وزغردن لسلامتها وهدهدن ابنها الذي أسمينه موسى . واعتنين بها. كانت كابنتهن بالضبط. أعددن لها العصيدة الساخنة برب التمر وزبدة الماعز وطبخن لها منقوع الحلبة المحلى بالعسل. وأطلقن لها البخور والجاوي والفاسوخ والحلتيت طردا للعين. سريعا ما شفت وقامت من الفراش. موسى يرضع ثدييها بأمان وعندما يشبع يبتسم فتحضنه طوليا لحظات حتى يتجشأ فتقول الحمد لله وترقده في حضنها. بعد أسبوعين أوان القيلولة جاء كليمنتي بفقيه الجامع فختنه. وبكى موسى كثيرا وابتسم كليمنتي بألم لرؤيته نزيف الدم وزغردت الجارات وفي الليل أقام كليمنتي وليمة للجيران وحفلة كشك كبيرة جلب لها أحلى وأشهر حجّالة في برقة. أكل الناس لحم الماعز وفتات خبز التنور وشربوا اللبن حتى ارتووا ومن يشرب الخمر تناول كؤوسه من خمر اليهود (الماحيا) وكشّك البدو بحماس حتى الفجر. كان كليمنتي نجم الحفلة. الحجالة ( راقصة بدوية ) ميزونة معجبة به وتعشقه. كان سخيا جدا معها. علق في رقبتها عقد فردغ ذهب. وأنشد مادحا جمالها بأجمل قصائده. هي الآن تضع خمار الحجّالة على وجهها. جسمها مصقول متناسق متين. نهداها واقفان كفنجانين منكفئتين. رائحتها فائحة ولحمها الظاهر قليله فوق حذائها الجلدي طويل العنق أبيض كجمّار. كليمنتي يعرفها جيدا. كثيرا ما باع لها الأردية والأقمشة وكثيرا ما أوصته على عطور باهضة الثمن يجلبها لها من سوق الجريد ببنغازي. هي تعرفه جيدا وتواعدا أكثر من مرة. وبينهما علاقة حميمية في الخفاء..عندما يزور نجعها ( ربعها ) يتعمّد أنْ يصله براحلته عند الأصيل ليبيع ويتعشى ويبيت. وفي منتصف الليل ترفع رواق بيت الشَّعر وتتسلل إليه. أنشد كليمنتي فيها أجمل قصائده ولقصيدته صرخ بدو برقة وحجّلوا على رجل واحدة حد الجنون. وطالبوه أن يعيدها عليهم مرة أخرى فيعيد كليمنتي القصيدة بصوته النغيم الرخيم الرجولي ساحقا بنظراته الساحرة كيان الحجّالة الذي لا يحتمله :
في بطن إحدى الأودية قبضت عليه مفرزة استطلاع إيطالية. كان قد باع بعض بضاعته. وتعشّى وبات وأيقظته ميزونة باكرا. أفطرته وعلفت حصانه ثم ملأت له قربة ماء عذب وودعته بعناق دافئ مع أول خيوط الشمس. كاد يخدعهم ويتركونه. كلمهم بالعربي. باللهجة المحلية الليبية. قال لهم : أنا ليبي صديق متعاون. جدي حضر إعدام زعيم العصاة الفلاقة المحافظية الخائن عمر المختار. غير أن جشع الطليان هو الذي كشف الأمر. أحد الجنود فتشه بدقة وفضول. استولى على ماله وبعض الخواتم والأقراط الذهبية المخبأة في حزامه. وفي جيب سرّي قرب صدره تحسس الجندي مغلفا جلديا صغيرا. أنتزعه منه ومزقه بسكين البندقية فوجد به رقاً مدوّن فيه فقرات من العهد القديم (التوراة). الضابط تربّى في دير سان ماركو على دراية بنصوص العهد القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل) وشرع يقرأ ما في الرّق. سفر أخنوخ الأول كلام التبريك لأخنوخ:
“فهكذا يبارك المختارين.
والعادلين الذين سيشهدون في يوم الشدة إبادة الأعداء كلهم وخلاص الأبرار.
القدوس والأكبر سيترك مسكنه.
إله الأزل سيأتي على الأرض ويمشي على جبل سيناء سيظهر وسط معسكره.
سيظهر في كامل قدرته في أعالي السموات.
الجميع سيذعرون لكن الحراس الأمناء سينشدون الترانيم السرية في أنحاء كل الأرض.
أقاصي الأرض كلها ستهتز والرجفة وخشية عظيمة سيجتاحانها حتى تخومها.
الجبال العالية ستهتز وتسقط وتنهار والهضاب المرتفعة ستخفض عند ميعان الجبال.
وستذوب مثل الشمع في النار والأرض ستفتح كهاوية فاغرة.
وكل ما على الأرض سيهلك.
وستكون الدينونة على الأشياء كلها لكنه سيعقد السلام مع الأبرار . ”
إلى آخر هذا السفر.
صاح الضابط فرحا.: breo. breo . يهودي. يهودي. صيد ثمين.
وإذ عاد الدليل الليبي المتطلين من شأن ما والتقت عيناه بعيني كليمنتي حتى شهق ووشوش للضابط المصوّعي. سيدي. سيدي. هذا الشاعر كليمنتي تاجر الأقمشة اليهودي المشهور. breo. breo. يهودي. يهودي. عدو. عدو. فقال له الضابط المصوّعي : نعرف. نعرف. لكن ماذا بشأن النساء ؟ هل أحضرت لنا أم سنمتطيك الليلة بالدور كالعادة.
كبّل الشفشة المتطلين ذراعي كليمنتي أربيب بحبل غليظ وساقوه معهم صوب عربة الجيب. حاول رشوتهم من دون فائدة فكل ماله ومؤنه استحوذوا عليها عنوة. صبر وتبعهم راضخا محتسبا إلى الله. يتذكر زوجته سارة وابنه موسى وأخته للاهم. يتذكر النجع الجميل الطيب. يتذكر حبيبته ميزونة. يتذكر صديقيه الشاعر عبدالهادي بونصرالله والشيخ الحاج بورحيل. يتذكر أباه وأمه في أمريكا حيث العالم الجديد. يشعر أنه قريب من الموت. لو بقي في أيدي هؤلاء الفاشيست وقوّاديهم فسوف يقتلونه ولو سُلِم إلى حلفائهم الألمان فسوف يقتلونه أيضا لكن ليس على هذا التراب الطاهر الذي أحبّه إنما سيُرحّل إلى المعتقل في ألمانيا وهناك سَيُدفع به إلى أتون الفرن. هو يشعر الآن بالموت قادم وتاريخ حياته يعود سريعا يرص نفسه في المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة. البرزخ الدنيوي المزيف. المنطقة واسعة والتاريخ لا يردمها. يستنجد بالامتلاءات فيجلب كتل كل قيمه ومبادئه وعبره ودروسه وحكمته. لكن الموت تزداد هوّته. وكوّة الأمل تضيق بؤرتها. وإذ تؤنبه الحسرة. يهزهز رأسه عاضا على شفته السفلى. هذا القوّاد المتطلين الذي كبله أصله غرباوي. أجداده ذيول لباشا طرابلس التركي القره مانلي جاؤوا مع تجريدة حبيب. واستوطنوا درنة وبعض شعاب الجبل الأخضر. كانوا فرساناً وأصحاب مروءة وفزعة وحصّادة زرع جيدين. لكن الطالح يخرج من الصالح. هذا القواد الشفشة يعرفه كليمنتي جيدا. كان يسكن نجع ميزونة قبل أنْ يطرده الشيخ درأ للفساد. كان يرافق البدو عندما يُحدِّرون إلى مدينة بنغازي. يجول بهم في شارعي الشطشاط وبالة. يعرف كل العاهرات. يتقاضى نسبة بسيطة عن كل زبون يحضره. هو لا ينيك لأنه مخنث. أحيانا لا توجد عاهرات فيمنح نفسه سعيدا. لكن المضاجع يتأفف من نتانته فيندم ويركله بغضب فور انتهاء القذف. والآن يرافق الطليان. يحضر لهم بدويات النجوع الجائعات. يساومهن بعلبة زيت أو كيس مكرونة أو قطعة قماش. وعلى الرغم من أن اليهود قد أسدوا له خدمة جليلة حيث أنقذوا أباه من موت محقق عندما أسره الطليان في بداية غزوهم لليبيا وأرادوا أن يشنقوه لولا تدخل تاجر يهودي كبير دفع رشوة إنقاذه للمحامي. لكن للأسف أنجب هذا الرجل الطيب راجل يعجبكا نذلا لا يعد هذه الثمائر القديمة ولا يتذكر الآن المعروف المصنوع في والده. فورما رأى كليمنتي ارتقت القوادة نسغه وعلى طول قوّد موشوشا غامزا بريو. بريو. يهودي يهودي. بيد أن الضابط الطلياني عرف بيهودية كليمنتي قبل وصول القوّاد عن طريق أسفار التوراة المعلقة برقبته.
هم عائدون صوب بنغازي. هابطون من عقبة الباكور الوعرة بمركبتهم الجيب الصغيرة. الدنيا ليل. دامسة. باردة. توقفوا للاستراحة والعشاء. أوقدوا نارا بحذر غير أنّ الفصل خريف والعشب جاف فارتفعت النار الليلية وأحدثت بهرة كبيرة. فجاءت طائرة منطلقة من جهة بحر توكرة متجهة جنوبا صوب سلسة جبال برقة ترمي بقنبلة قربهم وتبتعد. جُرِحَ من جُرِحَ. وكليمنتي وجدها فرصة سانحة للهرب فاختفى وسط غابة الباكور.. اختبأ خلف شجرة محاذية لجرف ممتشقا مسواق زيتون صقيل صادفه في طريقه. القواد الشفشة تبعه. اقتفى أثره. في يده سلاح ربما مسدس أو هراوة. عندما وصل قرب الشجرة ورأى الجرف الشاهق شعر بالفخ المنتظر فولّى ناكصا صوب جماعته. بعد ساعة من التخفي الحذر والانتقال من شجرة إلى شجرة وجد كليمنتي حمارا أشهب يحكك خطمه في خطم حمارة بيضاء. مسّح على رقبته بحذر وقرّب من فمه خلبة عشب. أستأنس الحمار فركبه وانحدر به صوب البحر عبر درب تكلله الأشجار الكثيفة بينما الحمارة تنهق وتضرط وتتبعهم حثيثا بشغف الشغف.
اتجه شرقا مقتربا رويدا رويدا صوب البحر. وفي خرائب طلميثة التي يخبرها جيدا اختفى يومين. حتى إذا شعر بالأمان قصد نجعا لقبيلة الدّرَسة كان يسكنه صديقه الشاعر عبدالهادي بونصرالله. لم يجده ووجد عشيرته فأخبرهم بقصته وقصة القوّاد الشفشة المتطلين. فعرفوه ورحبوا به وأخفوه في حظيرة الماعز حتى تضع الحرب أوزارها. في الحرب يزداد انتقال الناس حسب حالة الأمن في المنطقة. أحيانا في اليوم يغيّرون مكانهم أكثر من مرة. استفسر عن أهله فلم يجبه أحد. لأن أهله تركوا المرج مع قبيلة المسامير وتوغلوا إلى المناطق الداخلية. الأخبار شحيحة والطريق تقصف بصورة شبه يومية. المحور يظن الأهالي جواسيس للحلفاء والحلفاء العكس. كلاهما يقيّد حركة السير والتنقل على الأراضي المسيطر عليها. أخبرهم بتفاصيل قصة أسره وهروبه وضحكوا كثيرا عندما سرد لهم قصة القوّاد الشفشة. قال شيخهم: العرق دسّاس. أبوه كان رجلا طيبا. في كل مجلس يشيد باليهود ولا ينسى معروفهم فيه وانقاذهم حياته. هو لم يخدم اليهود في شيء مهم حتى يساعدوه. أي أنه لم يقرضهم مالا. أو يبيعهم أرضا. لكن ذات عشية خميس في جهة سيدي خريبيش ببنغازي كان يهودي فقير يضع على رأسه طبق سعف مليء بالحلوى يبيعها للصغار وينادي: حلوى. حلوى.. كان يتمايل بجذعه الواهن ذات اليمين والشمال مواكبا إيقاع مناداته وفي الوقت نفسه متجنبا الزحام مفسحا الطريق للعابرين.. أحد الشبان الثملين تعمد الاصطدام بالشيخ اليهودي فسقط الطبق من فوق رأسه وتعفرت سكرياته الطازجة بالتراب. أخذ يلملمها المسكين وينفخها من القذى. وكان الرجل الطيب والد الشفشة قد رأى المشهد فركض صوب اليهودي وساعده في لملمة بضاعته وشاركه مسحها بطرف عمامته النظيف وترتيبها في الطبق ومن ثمَّ وضع له الطبق فوق رأسه ودعا له الله أن يوفقه في تجارته المتواضعة هذه ويرزقه رغدا. وبالطبع وصل هذا التصرف النبيل المتسامح لأعيان اليهود وتجّارهم وحاخاماتهم. فما إن سمعوا بأن الطليان قد قبضوا على هذا الرجل الطيب ويحاكمونه بتهمة مساعدة المحافظية (المجاهدين الليبيين ضد الغزو الإيطالي) حتى هرع أحد تجارهم إلى المحامي ودفع ثمن إنقاذه من الموت. قال للمحامي لا يمكن أن نترك إنسانا لملم خيرنا من التراب لحبل حلفا يخنقه.
سألهم عن صديقه الشاعر عبدالهادي فأجابوه كعادته راحل في الأحلام. في البرزخ الوردي. من نجع إلى نجع ومن عرس إلى عرس. شاب وهب حياته للشعر ومعلوم أن هذا الشاعر الشاب من أصدقاء كليمنتي الخلص. كثيرا ما استضافه في البيت وعرفه على عائلته وحتى على أخته الجميلة للاهم التي أحبّها عبدالهادي وقال فيها الكثير من الأشعار الغزلية وكليمنتي لم يزعل من ذلك فهو الشاعر العارف بقلوب الشعراء وتقبّل شعر صديقه عبدالهادي بصدر رحب وبمباركة إبداعية يقول عبدالهادي في أخت كليمنتي للاهم :
بعد أيام قرر شيخ الدرسة الرحيل بالنجع إلى منطقة البيّاضة وقصر ليبيا وزاوية العرقوب وشحات ورأس الهلال و الأثرون حيث الطبيعة الجبلية الصعبة والأوشاز المعلقة العصيّة عن آليات الطليان والألمان والإنجليز. في هذه الجهات الجبلية الماء متوافر طول العام. نبع صغير يرقرق صانعا ساقية صغيرة. العسل البري خلاياه منتشرة في صدوع الأجراف. سهول ضيقة قريبة منهم يزرعون فيها خضرهم ويبذرون حبوبهم. الفاكهة موجودة طازجة في الأشجار. الحطب متوافر أيضا. سكن كهفا مع آخرين هاربين مثله ينتظرون انتهاء الحرب. في الليل يخرجون للصيد ولجلب المؤن أو السطو على مؤخرات الجيوش المهاجمة أو المنسحبة وفي النهار يختفون في الكهوف كما الذئاب .
لا أستطيع الآن أن أقول أن كليمنتي يهودي. فكلماته باللهجة الليبية ليبية خالصة. بل كلمات قويّة ذات دلالة. لا ينطقها أو يعبّر بها إلا من استلهم كافة تراث ليبيا الشفوي والتاريخي والحيوي. تعبير صادق. إلهام حقيقي. وكلمات أو قصيدة دسمة رقيقة معبرة مليئة بكل هذه الجمل والعبارات الملعوب بها لغويا لا يبدعها إلا ليبي من أهل هذه البلاد:
آفانتي. آفانتي. سروال بلا موتانتي .
أي تعالوا المكان آمن .
نزلت المحفة الخشبية محملة بعنصرين من جيش الطليان الفاشيست. وارتفعت ونزلت بالضابط المصوّعي وحيدا. وجدوا بعض كسر خبز التنور شبه اليابسة. وفي الجهة اليمنى لصق الجدار وجدوا نارا خابئة. فركسها الشفشة بعود وأخرج من جوفها ترفاسة مشوية. نظروا في عيون بعض. وقال الشفشة كانوا هنا. منذ قليل. أو هذا النهار. الترفاسة مازالت ساخنة وشرع يلتهمها. لابد أن نزور هذا الكهف نهارا. فعلى ضوء النهار سنرى إلى أين يفضي. معلوم في منطقة الجبل الأخضر أن الكهوف كالقبائل تفضي إلى بعضها. عموما صاحبكم هنا ليس ببعيد. لكن علينا توخي الحذر. فهو يهودي ابن حرام. وبحكم كونه تاجر متجول وشاعر فهو يعرف المنطقة جيدا وله علاقات متينة مع السكان الذين حتما سيقدمون له كل المساعدة وخاصة النساء الغاويات.
قال الضابط المصوّعي أنزلوا الأمتعة. المكان دافئ وسأنيكك هذه الليلة هنا .
محمد الأصفر
لم يمكث والد كليمنتي في برقة ونواحيها كثيرا. سرعان ما سافر صحبة زوجته إلى الإسكندرية ومنها عبّأ باخرة بالقطن الفاخر طويل التيلة و باعها في برشلونة لتاجر إنجليزي ثم غادر في أول باخرة قصدت العالم الجديد. في أمريكا أسس مصنعا صغيرا للأقمشة وعاش.
كليمنتي أربيب بقي مع أخته الجميلة للاهم وزوجته الشابة سارة وطفله الصغير. لم يتبع والده. فتجارته كانت رائجة وزبائنه وحبيباته كثر. استقرَّ في مدينة باركي ( المرج ).. سكن بيتا طينيا صغيرا مسقوفا بجريد النخيل المغطى بتفل البحر الملبوخ جيدا بلزابة الطين. البيت محاط بسور واطئ. بيت ظريف دافئ. غرفتا نوم. مطبخ. غرفة جلوس. حمّام. زريبة صغيرة. باحته زرعتها زوجته ببعض الخضر والزهور. زوجته طيبة نشيطة. على دراية بالحياكة والتطريز والطب الشعبي. تسدى خدماتها للجارات بثمن رمزي وأحيانا بالمجان. امتزجت بهن. لبست لباسهن وأجادت لهجتهن وشاركتهن أفراحهن وأحزانهن. تعلمت إعداد المثرودة التي يشتهيها كليمنتي كثيرا وتمهّرت جيدا في إعداد خبز التنور وبدورها علمت الجارات عدة أكلات يهودية من ضمنها نوع لذيذ من الحلوى.
عندما يغيب كليمنتي أياما متوغلا في نجوع الجبل الأخضر ودرنة لا تشعر بأي غربة أو خوف. كل الجيران يحترمونها ويحفظون حرمتها ويمدّونها بما تحتاج إليه من عسل ولبن وزيت ودقيق وتمر.. عندما جاءها المخاض ولدتها القابلة العرفيّة الحاجة مشهية. كل الجارات حضرن إلى بيتها وزغردن لسلامتها وهدهدن ابنها الذي أسمينه موسى . واعتنين بها. كانت كابنتهن بالضبط. أعددن لها العصيدة الساخنة برب التمر وزبدة الماعز وطبخن لها منقوع الحلبة المحلى بالعسل. وأطلقن لها البخور والجاوي والفاسوخ والحلتيت طردا للعين. سريعا ما شفت وقامت من الفراش. موسى يرضع ثدييها بأمان وعندما يشبع يبتسم فتحضنه طوليا لحظات حتى يتجشأ فتقول الحمد لله وترقده في حضنها. بعد أسبوعين أوان القيلولة جاء كليمنتي بفقيه الجامع فختنه. وبكى موسى كثيرا وابتسم كليمنتي بألم لرؤيته نزيف الدم وزغردت الجارات وفي الليل أقام كليمنتي وليمة للجيران وحفلة كشك كبيرة جلب لها أحلى وأشهر حجّالة في برقة. أكل الناس لحم الماعز وفتات خبز التنور وشربوا اللبن حتى ارتووا ومن يشرب الخمر تناول كؤوسه من خمر اليهود (الماحيا) وكشّك البدو بحماس حتى الفجر. كان كليمنتي نجم الحفلة. الحجالة ( راقصة بدوية ) ميزونة معجبة به وتعشقه. كان سخيا جدا معها. علق في رقبتها عقد فردغ ذهب. وأنشد مادحا جمالها بأجمل قصائده. هي الآن تضع خمار الحجّالة على وجهها. جسمها مصقول متناسق متين. نهداها واقفان كفنجانين منكفئتين. رائحتها فائحة ولحمها الظاهر قليله فوق حذائها الجلدي طويل العنق أبيض كجمّار. كليمنتي يعرفها جيدا. كثيرا ما باع لها الأردية والأقمشة وكثيرا ما أوصته على عطور باهضة الثمن يجلبها لها من سوق الجريد ببنغازي. هي تعرفه جيدا وتواعدا أكثر من مرة. وبينهما علاقة حميمية في الخفاء..عندما يزور نجعها ( ربعها ) يتعمّد أنْ يصله براحلته عند الأصيل ليبيع ويتعشى ويبيت. وفي منتصف الليل ترفع رواق بيت الشَّعر وتتسلل إليه. أنشد كليمنتي فيها أجمل قصائده ولقصيدته صرخ بدو برقة وحجّلوا على رجل واحدة حد الجنون. وطالبوه أن يعيدها عليهم مرة أخرى فيعيد كليمنتي القصيدة بصوته النغيم الرخيم الرجولي ساحقا بنظراته الساحرة كيان الحجّالة الذي لا يحتمله :
بيضا لبست ثوب زرنقي. جت ترشنقي. حاكم ويراطن بغلنقي
يضا لبست ثوب أزرق. وجت ترشق. قدمها دوبه لرض يطق
تخفّ اللي عقله واثق. يتم سلنقي. مجروح وجرحه بعشنقي
بيضا لبست م الرومية. خدّك ضيّة. بارق يلعب فوق مويّة
وإلا باشا يوم لويّة. زق طلنقي . ما تمشوا بالمال عفنقي
بيضا لبست ما المالاس. وحلي اكداس. كما باشا عامد مجلاس
دوى قال لهم ها يا ناس. الدَي وثنقي. والخاطي منكم للشنقي
بيضا لبست ثوب حرير. لها تصوير. كما لير مصادف بوطير
حزام اللي في الجو تغير. هي ما تعرنقي. والخيل مع الخيل شرنقي
بيضا لبست ثوب نقاوه. حاكم تاوه. حبك في المكنون تقاوَى
خدك تحت غطا يضّاوى. برق جلنقي. سيلا خلا الغوط دلنقي.
بعد سنوات بدأت الحرب العالمية الثانية واجتاحت ليبيا التي ليس لها في العير ولا في النفير. جيوش المحور والحلفاء. زرعوا الألغام. وعاثوا في الأرض مفسدين. خاصة الطليان الذين أعملوا القتل والنهب في الأهالي و شنوا حملة اعتقالات واسعة على اليهود. أسِرَ كليمنتي وصودرت بضاعته ودابته. بينما زوجته سارة وابنه موسى واخته للاهم رَحَلوا مع أهالي برقة إلى وديان بعيدة عن الحرب. وضعهم شيخ القبيلة الحاج بورحيل في حمايته وحذر أن يُخبِر أي كان بأمر وجودهم. شيخ القبيلة على علاقة وطيدة بالتاجر اليهودي الكبير إبدوسا. كثيرا ما وسّع عليه في الأزمات المالية. وكثيرا ما باعه بالآجل من دون ربا. وكثيرا ما جدول له ديونه وسامحه في أموال لصالحه عنده. يقولون إنّ كليمنتي أخِذ إلى بنغازي وهناك ضُمَّ إلى الأسرى ورحِّل إلى وجهة مجهولة ربما جالو أو جادو. يقولون إنه تمّ تصفيته في أفران النازي. ويقولون إنه فرَّ بعد أنْ تحطمت المركب التي تنقل الأسرى قرب جزيرة كريت. لا أحد يعلم بحكايته. زوجته سارة صابرة وتنتظر. تسأل كل الواصلين إلى النجع. وعندما انتهت الحرب سجلته لدى الإدارة البريطانية من المفقودين. وصارت تتابع أي خبر عنه. لكن لا جديد. فالحرب مات فيها الملايين. موسى الصغير كبر. علمته أمه أصول اليهودية. وتعلم القراءة والكتابة عن فقيه النجع الحاج القزّون. لم يشعر بأي غربة على الرغم من اختلاف الديانة. في عام 1948م احتل اليهود فلسطين. كانت ردود الفعل في المدن الليبية عنيفة. غير أنَّ موسى وأمه سارة وعمته للاهم لم يشعروا بها. هم محبوبون في النجع. لم يغادروا. قرروا البقاء. ينتظرون عودة الأب الغائب الذي لم تتأكد وفاته ولا بقاؤه على قيد الحياة. كان التاجر ابدوسا وعدّة أثرياء يهود يساعدونهم. كذلك شيخ القبيلة بورحيل الذي لم يقصّر في شيء. ومرت الأيام. وشبّ الفتى الذي صار رجلا. وللاهم والأم حنّتا إلى زيارة في القدس. أرادتا التعبّد و السياحة في المزارات الدينية الشريفة فاستأذنتا الشيخ الذي أصرّ على بقائهما بينهم حتى عودة كليمنتي من غيابه فهما بمثابة أمانة. للاهم رضخت لكن سارة ألحّت على الرحيل. قالت للحاجة أم العز زوجة الشيخ بورحيل أريد أن أحج إلى القدس مثلما تحجون أنتم إلى مكة. أريد أن أجلب لكم البخور والعطور والفساتين المقدسية والهدايا مثلكم. لكن الشيخ الحاج بورحيل وزوجته الحاجة أم العز لم يوافقا على رحيلها. كذلك الجارات الطيبات وكل من عرفها طيلة حياتها في وديان برقة ودرنة وشعابهما. الشيخ بورحيل أعاد قولته. أنت امرأة أمانة لدي حتى عودة زوجك. الصديق كليمنتي. لا أحد يغادر المضارب. خاصة في هذه الظروف غير المستقرة. انهمرت دموعها ورضخت للرغبة الحميمية غير أنَّ ابنها موسى أصرّ على الترحال. فهو شاب به من عناد الشباب الكثير. فأذن له الشيخ الحاج بورحيل ورافقه حتى بنغازي. وعند التاجر ابدوسا تفارقا وعيونهما طافرة بالدمع .
كليمنتي هو الشاعر المرجاوي الملقب بأبي حليقة. الشاعر الشعبي الفحل المنصهر في المكان والزمان الليبيين. مبدع القصائد الخالدة ذات البلاغة الناضحة بالرمز والإيحاء والإيجاز والشجا الجيّاش. التاجر الشريف. الإنسان الطيب. صاحب المروءة. الضحية البريئة التي قبضت عليها جحافل الطليان الفاشيست الذين ناصروا قوة هتلر الغاشمة وولغوا معه في بحيرة الدم الإنساني التي صنعها شيطانه.في بطن إحدى الأودية قبضت عليه مفرزة استطلاع إيطالية. كان قد باع بعض بضاعته. وتعشّى وبات وأيقظته ميزونة باكرا. أفطرته وعلفت حصانه ثم ملأت له قربة ماء عذب وودعته بعناق دافئ مع أول خيوط الشمس. كاد يخدعهم ويتركونه. كلمهم بالعربي. باللهجة المحلية الليبية. قال لهم : أنا ليبي صديق متعاون. جدي حضر إعدام زعيم العصاة الفلاقة المحافظية الخائن عمر المختار. غير أن جشع الطليان هو الذي كشف الأمر. أحد الجنود فتشه بدقة وفضول. استولى على ماله وبعض الخواتم والأقراط الذهبية المخبأة في حزامه. وفي جيب سرّي قرب صدره تحسس الجندي مغلفا جلديا صغيرا. أنتزعه منه ومزقه بسكين البندقية فوجد به رقاً مدوّن فيه فقرات من العهد القديم (التوراة). الضابط تربّى في دير سان ماركو على دراية بنصوص العهد القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل) وشرع يقرأ ما في الرّق. سفر أخنوخ الأول كلام التبريك لأخنوخ:
“فهكذا يبارك المختارين.
والعادلين الذين سيشهدون في يوم الشدة إبادة الأعداء كلهم وخلاص الأبرار.
القدوس والأكبر سيترك مسكنه.
إله الأزل سيأتي على الأرض ويمشي على جبل سيناء سيظهر وسط معسكره.
سيظهر في كامل قدرته في أعالي السموات.
الجميع سيذعرون لكن الحراس الأمناء سينشدون الترانيم السرية في أنحاء كل الأرض.
أقاصي الأرض كلها ستهتز والرجفة وخشية عظيمة سيجتاحانها حتى تخومها.
الجبال العالية ستهتز وتسقط وتنهار والهضاب المرتفعة ستخفض عند ميعان الجبال.
وستذوب مثل الشمع في النار والأرض ستفتح كهاوية فاغرة.
وكل ما على الأرض سيهلك.
وستكون الدينونة على الأشياء كلها لكنه سيعقد السلام مع الأبرار . ”
إلى آخر هذا السفر.
صاح الضابط فرحا.: breo. breo . يهودي. يهودي. صيد ثمين.
وإذ عاد الدليل الليبي المتطلين من شأن ما والتقت عيناه بعيني كليمنتي حتى شهق ووشوش للضابط المصوّعي. سيدي. سيدي. هذا الشاعر كليمنتي تاجر الأقمشة اليهودي المشهور. breo. breo. يهودي. يهودي. عدو. عدو. فقال له الضابط المصوّعي : نعرف. نعرف. لكن ماذا بشأن النساء ؟ هل أحضرت لنا أم سنمتطيك الليلة بالدور كالعادة.
كبّل الشفشة المتطلين ذراعي كليمنتي أربيب بحبل غليظ وساقوه معهم صوب عربة الجيب. حاول رشوتهم من دون فائدة فكل ماله ومؤنه استحوذوا عليها عنوة. صبر وتبعهم راضخا محتسبا إلى الله. يتذكر زوجته سارة وابنه موسى وأخته للاهم. يتذكر النجع الجميل الطيب. يتذكر حبيبته ميزونة. يتذكر صديقيه الشاعر عبدالهادي بونصرالله والشيخ الحاج بورحيل. يتذكر أباه وأمه في أمريكا حيث العالم الجديد. يشعر أنه قريب من الموت. لو بقي في أيدي هؤلاء الفاشيست وقوّاديهم فسوف يقتلونه ولو سُلِم إلى حلفائهم الألمان فسوف يقتلونه أيضا لكن ليس على هذا التراب الطاهر الذي أحبّه إنما سيُرحّل إلى المعتقل في ألمانيا وهناك سَيُدفع به إلى أتون الفرن. هو يشعر الآن بالموت قادم وتاريخ حياته يعود سريعا يرص نفسه في المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة. البرزخ الدنيوي المزيف. المنطقة واسعة والتاريخ لا يردمها. يستنجد بالامتلاءات فيجلب كتل كل قيمه ومبادئه وعبره ودروسه وحكمته. لكن الموت تزداد هوّته. وكوّة الأمل تضيق بؤرتها. وإذ تؤنبه الحسرة. يهزهز رأسه عاضا على شفته السفلى. هذا القوّاد المتطلين الذي كبله أصله غرباوي. أجداده ذيول لباشا طرابلس التركي القره مانلي جاؤوا مع تجريدة حبيب. واستوطنوا درنة وبعض شعاب الجبل الأخضر. كانوا فرساناً وأصحاب مروءة وفزعة وحصّادة زرع جيدين. لكن الطالح يخرج من الصالح. هذا القواد الشفشة يعرفه كليمنتي جيدا. كان يسكن نجع ميزونة قبل أنْ يطرده الشيخ درأ للفساد. كان يرافق البدو عندما يُحدِّرون إلى مدينة بنغازي. يجول بهم في شارعي الشطشاط وبالة. يعرف كل العاهرات. يتقاضى نسبة بسيطة عن كل زبون يحضره. هو لا ينيك لأنه مخنث. أحيانا لا توجد عاهرات فيمنح نفسه سعيدا. لكن المضاجع يتأفف من نتانته فيندم ويركله بغضب فور انتهاء القذف. والآن يرافق الطليان. يحضر لهم بدويات النجوع الجائعات. يساومهن بعلبة زيت أو كيس مكرونة أو قطعة قماش. وعلى الرغم من أن اليهود قد أسدوا له خدمة جليلة حيث أنقذوا أباه من موت محقق عندما أسره الطليان في بداية غزوهم لليبيا وأرادوا أن يشنقوه لولا تدخل تاجر يهودي كبير دفع رشوة إنقاذه للمحامي. لكن للأسف أنجب هذا الرجل الطيب راجل يعجبكا نذلا لا يعد هذه الثمائر القديمة ولا يتذكر الآن المعروف المصنوع في والده. فورما رأى كليمنتي ارتقت القوادة نسغه وعلى طول قوّد موشوشا غامزا بريو. بريو. يهودي يهودي. بيد أن الضابط الطلياني عرف بيهودية كليمنتي قبل وصول القوّاد عن طريق أسفار التوراة المعلقة برقبته.
هم عائدون صوب بنغازي. هابطون من عقبة الباكور الوعرة بمركبتهم الجيب الصغيرة. الدنيا ليل. دامسة. باردة. توقفوا للاستراحة والعشاء. أوقدوا نارا بحذر غير أنّ الفصل خريف والعشب جاف فارتفعت النار الليلية وأحدثت بهرة كبيرة. فجاءت طائرة منطلقة من جهة بحر توكرة متجهة جنوبا صوب سلسة جبال برقة ترمي بقنبلة قربهم وتبتعد. جُرِحَ من جُرِحَ. وكليمنتي وجدها فرصة سانحة للهرب فاختفى وسط غابة الباكور.. اختبأ خلف شجرة محاذية لجرف ممتشقا مسواق زيتون صقيل صادفه في طريقه. القواد الشفشة تبعه. اقتفى أثره. في يده سلاح ربما مسدس أو هراوة. عندما وصل قرب الشجرة ورأى الجرف الشاهق شعر بالفخ المنتظر فولّى ناكصا صوب جماعته. بعد ساعة من التخفي الحذر والانتقال من شجرة إلى شجرة وجد كليمنتي حمارا أشهب يحكك خطمه في خطم حمارة بيضاء. مسّح على رقبته بحذر وقرّب من فمه خلبة عشب. أستأنس الحمار فركبه وانحدر به صوب البحر عبر درب تكلله الأشجار الكثيفة بينما الحمارة تنهق وتضرط وتتبعهم حثيثا بشغف الشغف.
اتجه شرقا مقتربا رويدا رويدا صوب البحر. وفي خرائب طلميثة التي يخبرها جيدا اختفى يومين. حتى إذا شعر بالأمان قصد نجعا لقبيلة الدّرَسة كان يسكنه صديقه الشاعر عبدالهادي بونصرالله. لم يجده ووجد عشيرته فأخبرهم بقصته وقصة القوّاد الشفشة المتطلين. فعرفوه ورحبوا به وأخفوه في حظيرة الماعز حتى تضع الحرب أوزارها. في الحرب يزداد انتقال الناس حسب حالة الأمن في المنطقة. أحيانا في اليوم يغيّرون مكانهم أكثر من مرة. استفسر عن أهله فلم يجبه أحد. لأن أهله تركوا المرج مع قبيلة المسامير وتوغلوا إلى المناطق الداخلية. الأخبار شحيحة والطريق تقصف بصورة شبه يومية. المحور يظن الأهالي جواسيس للحلفاء والحلفاء العكس. كلاهما يقيّد حركة السير والتنقل على الأراضي المسيطر عليها. أخبرهم بتفاصيل قصة أسره وهروبه وضحكوا كثيرا عندما سرد لهم قصة القوّاد الشفشة. قال شيخهم: العرق دسّاس. أبوه كان رجلا طيبا. في كل مجلس يشيد باليهود ولا ينسى معروفهم فيه وانقاذهم حياته. هو لم يخدم اليهود في شيء مهم حتى يساعدوه. أي أنه لم يقرضهم مالا. أو يبيعهم أرضا. لكن ذات عشية خميس في جهة سيدي خريبيش ببنغازي كان يهودي فقير يضع على رأسه طبق سعف مليء بالحلوى يبيعها للصغار وينادي: حلوى. حلوى.. كان يتمايل بجذعه الواهن ذات اليمين والشمال مواكبا إيقاع مناداته وفي الوقت نفسه متجنبا الزحام مفسحا الطريق للعابرين.. أحد الشبان الثملين تعمد الاصطدام بالشيخ اليهودي فسقط الطبق من فوق رأسه وتعفرت سكرياته الطازجة بالتراب. أخذ يلملمها المسكين وينفخها من القذى. وكان الرجل الطيب والد الشفشة قد رأى المشهد فركض صوب اليهودي وساعده في لملمة بضاعته وشاركه مسحها بطرف عمامته النظيف وترتيبها في الطبق ومن ثمَّ وضع له الطبق فوق رأسه ودعا له الله أن يوفقه في تجارته المتواضعة هذه ويرزقه رغدا. وبالطبع وصل هذا التصرف النبيل المتسامح لأعيان اليهود وتجّارهم وحاخاماتهم. فما إن سمعوا بأن الطليان قد قبضوا على هذا الرجل الطيب ويحاكمونه بتهمة مساعدة المحافظية (المجاهدين الليبيين ضد الغزو الإيطالي) حتى هرع أحد تجارهم إلى المحامي ودفع ثمن إنقاذه من الموت. قال للمحامي لا يمكن أن نترك إنسانا لملم خيرنا من التراب لحبل حلفا يخنقه.
سألهم عن صديقه الشاعر عبدالهادي فأجابوه كعادته راحل في الأحلام. في البرزخ الوردي. من نجع إلى نجع ومن عرس إلى عرس. شاب وهب حياته للشعر ومعلوم أن هذا الشاعر الشاب من أصدقاء كليمنتي الخلص. كثيرا ما استضافه في البيت وعرفه على عائلته وحتى على أخته الجميلة للاهم التي أحبّها عبدالهادي وقال فيها الكثير من الأشعار الغزلية وكليمنتي لم يزعل من ذلك فهو الشاعر العارف بقلوب الشعراء وتقبّل شعر صديقه عبدالهادي بصدر رحب وبمباركة إبداعية يقول عبدالهادي في أخت كليمنتي للاهم :
وعبدالهادي بونصرالله شاب شاعر متمسك بالدين. يضع الإسلام أولا قبل الحب لكن لا يمنع قلبه من البوح. أيضا كليمنتي متمسك لولا دينك ياللاهم.
بك ننساهم.
لولاف اللي صار خطاهم
بيهوديته. لا يمكنه أن يغير دينه من أجل امرأة. الصداقة بين الشاعرين قوية على الرغم من اختلاف الدين. فهناك روابط إنسانية جذورها راسخة في كل الأديان. هذه الروابط موجودة في قلب كليمنتي وقلب عبدالهادي وقلب للاهم وقلوب كل البشر المتسامحين.. في الليل يتسامرون جميعا كأسرة واحدة كليمنتي وزوجته وللاهم وعبدالهادي. يظللهم دين واحد هو دين المودة والرحمة والحب.بعد أيام قرر شيخ الدرسة الرحيل بالنجع إلى منطقة البيّاضة وقصر ليبيا وزاوية العرقوب وشحات ورأس الهلال و الأثرون حيث الطبيعة الجبلية الصعبة والأوشاز المعلقة العصيّة عن آليات الطليان والألمان والإنجليز. في هذه الجهات الجبلية الماء متوافر طول العام. نبع صغير يرقرق صانعا ساقية صغيرة. العسل البري خلاياه منتشرة في صدوع الأجراف. سهول ضيقة قريبة منهم يزرعون فيها خضرهم ويبذرون حبوبهم. الفاكهة موجودة طازجة في الأشجار. الحطب متوافر أيضا. سكن كهفا مع آخرين هاربين مثله ينتظرون انتهاء الحرب. في الليل يخرجون للصيد ولجلب المؤن أو السطو على مؤخرات الجيوش المهاجمة أو المنسحبة وفي النهار يختفون في الكهوف كما الذئاب .
لا أستطيع الآن أن أقول أن كليمنتي يهودي. فكلماته باللهجة الليبية ليبية خالصة. بل كلمات قويّة ذات دلالة. لا ينطقها أو يعبّر بها إلا من استلهم كافة تراث ليبيا الشفوي والتاريخي والحيوي. تعبير صادق. إلهام حقيقي. وكلمات أو قصيدة دسمة رقيقة معبرة مليئة بكل هذه الجمل والعبارات الملعوب بها لغويا لا يبدعها إلا ليبي من أهل هذه البلاد:
بيضا لبست ثوب زرنقي. جت ترشنقي. حاكم ويراطن بغلنقي
بيضا لبست ثوب أزرق. وجت ترشق. قدمها دوبه لرض يطق
تخفّ اللي عقله واثق. يتم سلنقي. مجروح وجرحه بعشنقي
بيضا لبست م الرومية. خدّك ضيّة. بارق يلعب فوق مويّة
وإلا باشا يوم لويّة. زق طلنقي.. ما تمشوا بالمال عفنقي
بيضا لبست ما المالاس. وحلي اكداس. كما باشا عامد مجلاس
دوى قال لهم ها يا ناس. الدَي وثنقي. والخاطي منكم للشنقي
بيضا لبست ثوب حرير. لها تصوير . كما لير مصادف بوطير
حزام اللي في الجو تغير..هي ما تعرنقي.والخيل مع الخيل شرنقي
بيضا لبست ثوب نقاوة. حاكم تاوه. حبك في المكنون تقاوَى
خدّك تحت غطا يضّاوى. برق جلنقي. سيلا خلا الغوط دلنقي.
أنا لا أشكك في يهودية كليمنتي فوجود سفر أخنوخ في رقبته يؤكد ذلك ولا أشكك في ليبيته أيضا لأن تقويدة الشفشة فيه تؤكد ذلك. فكل ليبي حقيقي أصيل مقود فيه لا محالة. انظروا عمر المختار مثلا. من دلّ على مكانه. هل الطليان أم المصوعية أم الليبيين سكّان الوطن ؟!. أنا لا أشكك في يهودية كليمنتي أو ليبيته. لكن أتحدث عن سطوة المكان والزمان. بل سطوة الحياة ونبتتها في وجدان من يعيشها بصدق. فكلمات عربية مُدَرّجة مثل زق طلنقي أي دفع بقسم الطلاق. أو الدّي وثنقي. أي الكلام تأكد. أو جت ترشنقي أي قدمت تتمشى بغنج ودلال. أو سيلا خلا الغوط دلنقي أي السيل الذي سببه برق بياض خدك جعل السهل دلقا بالماء. وغيرها من كلمات وتعابير. لا يمكن أن تُتعلم عن طريق اللغة والنطق والتلقين إنما يكتسبها الإنسان فطريا من خلال ممارسة الحياة المستمرة في المكان مذ لحظة الميلاد.
وذات ليلة باردة إذ هم في الكهف يتسامرون فاجأتهم طلقات نارية وضوء كشاف مبهر فطار اليمام المعشش في صدوع وفجوات الكهف وأطل من فم الكهف القواد الشفشة يمتطى محفة خشبية أنزلوه بها بواسطة حبال من أعلى الجرف. جذب كليمنتي عصاه من قرب طابونة النار وانكمش وجماعته ملتصقين بالجدار منسحبين بهدوء إلى المخبأ المموّه في أعماق الكهف.. ومن المخبأ شقوا طريقهم مبتعدين عبر الممر السري المحفور منذ عهد القديس الليبي مرقس الإنجيلي.. أو من قبله. لا ندري من حفر درب النجاة ذاك. الإنسان أم الطبيعة. وقف القواد الشفشة وخطا برجله إلى الأمام وألحقها بالأخرى فكان داخل الكهف. لم يتقدّم خطوة ثانية. وأطلق رصاصة تحذيرية في السقف من بندقيته ثم صاح :آفانتي. آفانتي. سروال بلا موتانتي .
أي تعالوا المكان آمن .
نزلت المحفة الخشبية محملة بعنصرين من جيش الطليان الفاشيست. وارتفعت ونزلت بالضابط المصوّعي وحيدا. وجدوا بعض كسر خبز التنور شبه اليابسة. وفي الجهة اليمنى لصق الجدار وجدوا نارا خابئة. فركسها الشفشة بعود وأخرج من جوفها ترفاسة مشوية. نظروا في عيون بعض. وقال الشفشة كانوا هنا. منذ قليل. أو هذا النهار. الترفاسة مازالت ساخنة وشرع يلتهمها. لابد أن نزور هذا الكهف نهارا. فعلى ضوء النهار سنرى إلى أين يفضي. معلوم في منطقة الجبل الأخضر أن الكهوف كالقبائل تفضي إلى بعضها. عموما صاحبكم هنا ليس ببعيد. لكن علينا توخي الحذر. فهو يهودي ابن حرام. وبحكم كونه تاجر متجول وشاعر فهو يعرف المنطقة جيدا وله علاقات متينة مع السكان الذين حتما سيقدمون له كل المساعدة وخاصة النساء الغاويات.
قال الضابط المصوّعي أنزلوا الأمتعة. المكان دافئ وسأنيكك هذه الليلة هنا .
محمد الأصفر
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
dude333- مشرف المنتدى السياسي
-
عدد المشاركات : 5593
العمر : 55
رقم العضوية : 9508
قوة التقييم : 36
تاريخ التسجيل : 11/01/2012
رد: كليمنتي اربيب الشاعر المرجاوي الملقب بأبي حليقة
الله المستعان مقال لا ينبغي أن ينشر
يرجى قفل الموضوع
يرجى قفل الموضوع
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
جمال المروج- مراقب
-
عدد المشاركات : 18736
رقم العضوية : 7459
قوة التقييم : 164
تاريخ التسجيل : 18/10/2011
رد: كليمنتي اربيب الشاعر المرجاوي الملقب بأبي حليقة
بالعكس سيد جمال ما نشر يدل على سماحه و طيبه اهل المرج الروح الطيبه الاصيله التى لا شذوذ دينى يلوث قبايلها و ناسها عاش فيها تحت ظل الاسلام الذى يدعو للمحبه و السلام المسلم جنبا الى جنب اليهودى اهل المرج سكان المرج و المرج ذاتها حنونه كحن الليبين الشرفاء ليس فى الموضوع ما يعيب او ينقص من اهل و سكان المرج
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
dude333- مشرف المنتدى السياسي
-
عدد المشاركات : 5593
العمر : 55
رقم العضوية : 9508
قوة التقييم : 36
تاريخ التسجيل : 11/01/2012
مواضيع مماثلة
» - الملازم اول أكرم أبو حليقة: يقول ..
» صورة البطل المرجاوي .. أحمد الغرياني بلال ليبيا ...
» عبد الله بو حليقة ينفي توجيه اتهام لأي جهة
» حوار بين الشاعر ابراهيم بوجلاوى و الشاعر ادريس الشهيبى
» الشاعر سالم زايد الحاسي و الشاعر حاتم المغربي
» صورة البطل المرجاوي .. أحمد الغرياني بلال ليبيا ...
» عبد الله بو حليقة ينفي توجيه اتهام لأي جهة
» حوار بين الشاعر ابراهيم بوجلاوى و الشاعر ادريس الشهيبى
» الشاعر سالم زايد الحاسي و الشاعر حاتم المغربي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR