إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
هذه ليلتنا الاخيره ..........معا
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
هذه ليلتنا الاخيره ..........معا
كان حراسه من البربر قد تركوا مواقعهم، وساروا خلف جارية تتثنى واختفوا معها في أحراش حديقة القصر. وكان حراسها من الصقالبة قد شربوا خمرا معتقة من كروم بلنسية وناموا في أماكنهم وهم يصدرون أصوات شخير عالية. وكان البناءون قد أحضروا معداتهم، وسلال الملاط والأحجار والصبغات ووضعوها في مكان خفي داخل القصر وكمنوا في انتظار الإشارة المتفق عليها.
لم يكن هناك قمر، وبدت سماء قرطبة مظلمة بأكثر من العادة، وغادرت السيدة الجليلة «صبح» غرفتها حافية القدمين، سارت كطيف شاحب على الرخام البارد في الممرات الطويلة، كان كل شيء صامتا حتى أنها كانت تسمع صوت حفيف صوتها، ووجيب قلبها، كانت غرفة «ابن عامر» في نهاية واحد من هذه الممرات الغامضة التي كانت تثير في داخلها الرهبة والرغبة، عندما وقفت بالقرب من بابه كان كل جسدها يرتجف،لم تعد الرغبة هي السبب هذه المرة، توجس وخوف وترقب، كانت هي وكان هو يعرفان أنها ليلة الوداع الأخيرة، وكان لا بد أن يلتقيا، ولم تكن في حاجة لأن تطرق باب غرفته،، كان في انتظارها، حتى دون موعد مضروب بينهما.
كان ابن عامر جالسا متكئا على فراشه، ولكنه لم يتحرك وهو يراها تقترب، لم يأخذ جسدها المرتجف في أحضانه، هل ماتت رغبته؟ أم أنه خائف من الاقتراب منها، رأت عينيه النافذتين المتألقتين وهما تحطان عليها، التقطت انفاسها وهي تقول له:
ـ هأنذا أسعى إلى غرفتك
قال في صوت هادئ: لطالما سعيت إليك يامولاتي، وسوف أظل أسعى.
كان يكذب، تغير الفتى النحيف الذي وقف أمام بابها للمرة الأولى وهو يرتجف، لم يقدر على النظر إلى وجهها الوضاح فانحنى على الأرض وقبل أطراف ثوبها، كانت هذه هي إيماءة الضعف الوحيدة التي قام بها، بعد ذلك انتصب واقفا كعود غاب لاتثنيه الريح، كان لايزال مجرد كاتب صغير على باب القصر، جاء من قرية صغيرة اسمها «تركش»، وافتتح دكانا صغيرًا بالقرب من درج القصر لا يتسع إلا لمنضدة ومحبرة وعدة أقلام من البوص، لم يكن هناك ما يميزه إلا أسلوبه المنمق وخطه الجميل، وبدأ طلاب الحاجات يلجأون إليه من أجل كتابة الرقع والعرائض التي يريدون رفعها للخليفة أو للوزير أو حتى لها، كاتب مغمور يقف أمام سيدة القصر الأولى، منذ أن ألزم المرض الخليفة «الحكم» الفراش، وقد امتلكت هي ناصية الأمور، ذات يوم عندما تكاثرت الرقع قالت لحراسها من الصقالبة:
ـ آتوني بذلك الرجل الذي يكتب هذه الأنامل الجميلة.
كانت حركة الحروف العربية التي لا تكف عن الاستدارة والتداخل تمثل لها لغزا محيرا، كانت تقرأ العربية بصعوبة بالرغم من طلاقة لسانها، وقفت جذورها الإسبانية عائقا أمام تعلمها لهذه اللغة، عندما تم أسرها في إحدى الغزوات، وعندما اقتادوها إلى مجلس الخليفة بهر بجمالها الصامت، بجلدها الأبيض الشاحب كضوء القمر، وجدائل شعرها الذهبي، وعينيها الزرقاوين القلقتين، ضمها إلى حريمه المزدحم بنساء من مختلف الجنسيات، عرب وحبش وغجر وترك، ولكنها صعدت من بينهن لتصبح السيدة الوحيدة، سيطرت على فراشه، ثم سيطرت على عقله، وعندما مرض الخليفة خرجت من وراء الأستار، بدأت تخاطب
الوزراء والقادة دون حجاب، وبدأت تعاقب من يجرؤ على التقليل من شأنها دون رحمة، ولكن هذا الشاب العربي بسمرته الداكنة وقف أمامها دون أن يتخاذل أو يخفض رأسه، ولكن عينيه هو أيضًا تومضان كأن في داخله ضوء برق لا ينقضي، لم يحس بالضعف تجاهها، ولكنها لم ترده أن يبتعد عنها، قالت له في صوت مكـــتوم :
ـ اغلق حانوتك، فإن لنا حاجة إليك في هذا القصر.
فكيف تبدل الزمن منذ هذه اللحظة الفريدة؟.
قالت: هذه الليلة هي موعدنا الدائم منذ سنوات، انتظرتك أن تأتي، لكنك لم تفعل، هل شعرت بالملل، أم بالخوف ؟
كانت تحدق فيه، قال :
ـ حاشا أن أمل منك، ولكني أحسست أن عيون الخليفة تلاحقني، ورجال المصحفي يراقبون خطواتي.
كان يكذب، وكان كلاهما يعرف أنه يكذب، منذ أن دخل القصر وقد تعلم ابن عامر أن عليه أن يجيد لعبة الكذب، كان الجميع يتصارعون حول فراش الخليفة المريض، ولكنه توجه مباشرة إلى فراشها، كان جسدها يستجيب بمعزل عن شخصيتها، ولكن كان عليها أن تحميه من سيوف الحراس القيمين على الخليفة، ومن مكائد «المصحفي» حاجب الخليفة ووزيره الأول، وقد فاجأتهم جميعا حين لم تبق ابن عامر في الظل، أخذته للخليفة وقدمته له بشكل عادي وطبيعي:
ـ هاهو شاب من نجباء العرب يمكن أن يساهم في تولي تسيير أمور دولتنا.
لابد أن الخليفة قد أحس بتلك الرعدة الخفية في صوتها وهي تحدثه عن هذا الشاب الأسمر، لكنه لم يكن قادرا على رفض طلبها، كل ما فعله أنه حاول أن يبعده عنها، كلفه أن يتولى أمور الزكاة والمواريث في إشبيلية، قذف به بعيدًا، لم تجرؤ «صبح» على مخالفة أمر زوجها، ولكن العلاقات التي بدأت، لم يكن لها أن تنقطع، ظل ابن عامر يرسل لها الكتب والهدايا، ويدبج القصائد بخطه الجميل، وكلما تدهورت صحة الخليفة زاد شوقها بالحاجة إليه، كان ابنها المؤيد مازال في الثانية عشرة من عمره، والطامعون في عرش أبيه أكثر من عدد الأعمدة في مسجد قرطبة، وكان أمانها الوحيد أن يكون ابن عامر بجانبها.
جلست على حافة الفراش، لم تجرؤ على أن تمد يدها وتلمس صدره، ولا أن تحس بخشونة لحيته، قالت:
ـ لا أعتقد أن العيون تلاحقنا حتى ونحن وحدنا في هذه الغرفة، أحس أن عليه هو أن يقوم ببعض الخطوات، اقترب منها أخيرًا، وضع يده على خدها، كانت باردة، مغطاة بالعرق، وترتعد، لم يحاول أن يقبلها، حدقت في عينيه، وهي تقول:
ـ صدق حدسي، أنت خائف، ليس مني، ولا من الخليفة، أنت خائف من ابن غالب.
أنزل يده مرعوبًا، بدا أنها قد باغتته، لم يكن يتصور أن الخبر الذي جاهد طويلاً في إخفائه يمكن أن يخرج من شفتيها بهذه السهولة، حاول أن يتمالك هدوءه وهو يقول:
ـ عرفت بالأمر إذن؟
ـ وهل كنت تعتقد أن يحدث شيء في الأندلس دون أن أعلم به، كان يجب أن تخبرني حتى أكون أول من يبارك لك.
ـ لا تسخري مني يا ذات المقام العالي، إنه ليس الزواج الذي تعتقدين، أنا لم أر هذه الفتاة، ولم أرغب فيها، إنها صفقة، أريد فقط أن أحمي ظهري بنفوذ أبيها.
بدأ الغضب يرتفع في داخلها، كان مصرًا على مواصلة خداعها، هتفت غاضبة:
ـ أنا الذي طالما حميتك وساعدتك.
وارتفع صوته هو أيضا:
ـ وأنا الذي جعلت ابنك خليفة وأجلسته على العرش.
وابتعدا، توقف كلاهما في مواجهة الآخر وهما يلهثان، لم يعد هناك مكان للمسة من العشق القديم، تذكرا معا لحظات الخوف وعدم اليقين التي عصفت بالجميع، عندما مات الخليفة فجأة، وأصبح العرش خاليًا، كشف الحراس الصقالبة عن وجههم الحقيقي، شرعوا سيوفهم، لم يقتنع أحد منهم أن من الممكن أن يكون الخليفة القادم مجرد ولد في الثانية عشرة من عمره، ذهبوا إلى أخي الخليفة «المغيرة بن المستنصر» وعرضوا عليه العرش فقبله على الفور، وبدا المصحفي، الوزير القوي، عاجزًا ومترددًا وخائفًا، وانكمشت صبح في غرفتها ومعها ابنها الصغير، فقدت فجأة سلطتها وهيبتها، كانت تريد فقط أن تبحث عن منفذ لخارج القصر بعيدًا عن سيوف الصقالبة، وفي هذه اللحظة برز ابن عامر، دون خوف أو تردد، جمع كل ما يقدر من رجال وهاجم منزل المغيرة وهو يستعد للانتقال إلى القصر وقتله على الفور، سلب الصقالبة الورقة التي كانوا يلعبون بها، أصبح العرش خاليًا مرة أخرى، وقبل أن يفيق الصقالبة من دهشتهم كان ابن عامر قد أخرج المصحفي من حيرته وتردده وضم رجاله وبدأ حربًا مع الصقالبة من أجل إخراجهم من مكامنهم، حركة جريئة لا يقدر عليها إلا هو، كان هو الوحيد الذي حافظ على صفاء عقله ومضاء عزيمته في تلك اللحظات المعتمة حتى وضع الصبي الصغير هشام المؤيد على عرشه، لحظتها كانت عينا صبح مليئة بدموع الفرح والعرفان، ليلتها أعطته روحها وجسدها
لا تحفظ، ولكن في هذه الليلة يقف الجسدان متباعدين، كل منهما متحفز في مواجهة الآخر.
هدأ ابن عامر قليلاً، كان لديه ما يكفي من الأعداء، ولا حاجة لعدو جديد:
ـ لا علاقة لك بهذا الزواج، إنه مجرد فراش بارد، ولن تستطيعي حمايتي الآن بعد أن عزم المصحفي على استئصالي، يجب أن أحتاط له قبل أن يقضي علي.
قالت من بين أسنانها:
ـ استعنت بالمصحفي لتقضي على الصقالبة، والآن تستعين بابن غالب لتقضي على المصحفي، وفي غد ستجد من تستعين به لتقضي علي وابني الخليفة.
التفت إليها مذعورًا، لم يتوقع أن يكشف كل منهما أوراقه أمام الآخر بهذه القسوة، هتف بها :
ـ لن افعل ..
كان يكذب، وكان كلاهما يعرف أنه يكذب، للمرة الأولى في تلك الليلة احتضنها، وكان كلاهما يرتجف، أرادت أن تبتعد ولم تستطع، كان أفضل مافي العناق أنه لم ير الدموع التي تهبط على وجنتيها، وأنها لم تر النظرة الباردة التي تطل من عينيه، أكان هذا هو العناق الاخير؟ قالت بصوت متحشرج :
ـ دعنا ننس الأحزان قليلا، روحي متعبة وحلقي جاف.
أشار إلى منضدة في أحد الأركان، كانت مليئة بالقناني:
ـ ماذا تريدين أن تشربي
قالت بنعومة وهي تنسل من أحضانه: دعني أعد الشراب لنا
سارت إلى المنضدة، كان عليها قوارير خمور مختلفة الألوان، بجانبها قطع الحلوى والفستق والجبن والزيتون، عندما كانا يقضيان طوال الليل معا، دون مرارة، كانا يأكلان ويتضاحكان ويتلامسان، الليلة سيبتلعان بصعوبة فقط هاتين الكأسين، نظرت إليه من طرف عينيها، كان قد عاد للجلوس على الفراش ساهما بوجه جامد، لم تتردد كثيرًا، فتحت الخاتم الذي في أصبعها، في أسفل قطعة الألماس النقي كان يوجد تجويف مليء بمسحوق أبيض، أعده عطار عجوز في ساحة البيازين في غرناطه وحمله لها فارس مخصوص، صبته كله في كأسه ورجت الكأس حتى يذوب، ثم حملت الكأسين وعادت إليه، حدق فيها وحدقت فيه، قال لها:
ـ أتمنى أحيانا لو أنني لم أجيء من قريتي البعيدة، لولم آت إلى قرطبة وأجد لزامًا علي أن أقتل أولا قبل أن يتم قتلي.
ورفع الكأس إلى فمه، ارتجف قلبها، ولكنها لم تحاول أن تمنعه، تناول منه رشفة صغيرة، فلم يبد عليه أنه تأثر أو أحس بتغير طعم الخمر، قالت له:
ـ إذا كان ما تقوله حقا فهل أخذت حذرك.
ـ أجل.. عرفت أنه لا توجد في القصر كلمة تقال دون ان يكون خلفها دسيسة، ولا طعام يتم إلا في داخله سم ناقع، لذلك أصممت أذني عن كل كلام يقال اتقاء لأي وقيعة.
ارتجفت وقالت في خفوت: وماذا فعلت لاتقاء خطر السم؟
قال: السم إذا كان كثيرًا يقتل، وإذا قل فهو ترياق، لذا كنت آخذ كل يوم كمية صغيرة منه حتى تقي جسمي من أي غدر
حدق بعينيه النافذتين، لم يبال حتى بالنظر إلى خاتمها الذي لم يكن مغلقا، ولم يعلق على شحوبها، واصل شرب كأسه في هدوء، ودون تأثر، كان يقرأ كل مافي أعماقها، ويعرف نواياها منذ أن أقبلت عليه، سقط الكأس من يدها، تحطم محدثا دويا عاليًا، قالت :
ـ حان الوقت لانصرافي
قال دون أن يتحرك من مكانه : أجل، تأخر الوقت بنا، ولم يعد هناك وقت .
سارت وهي ترتجف، لم تنظرإلى الوراء حتى لا تلتقي عيونهما فتنهار، وما إن انصرفت حتى نهض ابن عامر مسرعا، سار إلى ركن الغرفة حيث يوجد وعاء من النحاس، وضع أصبعه في فمه حتى وصلت لحلقومه، أحس بمعدته وهي تتقلص، ثم بدأ يفرغ كل ما في أمعائه، كان الألم الذي يصعد من أعماقه قاتلا، ولابد أنه وضعت كمية كبيرة من السم كفيلة بصرع فيل، ظل يتقلص، ويتلوى، حتى أفرغ كل شيء، الخمر التي شربها من يديها، وكميات الزبد الدسم التي أكلها قبل أن تأتي إليه، ظل يترنح محاولا ان يصل إلى الفراش، ولكنه سقط على الأرض عاجزا، دخل ابن الرماح مسرعا، كان هو حارسه وأمين سره، نظر إليه في إشفاق وهو يقول له:
ـ هل أنت بخير ياسيدي
قال ابن عامر : مازلت على قيد الحياة، لو لم أمت الليلة، فسوف أعيش طويلا
قال الخادم: هل أستدعي طبيبا، هل أحملك للفراش؟
قال ابن عامر: اتركني كما أنا، ضع علي فقط كل الاغطية، واعط الامر للبنائين حتى يقوموا بعملهم
وهكذا ظل ابن عامر يرتجف تحت الأغطية، ولكن ما إن دخلت السيدة الجليلة صبح غرفتها، واطفأت شموعها ووضعت جسدها المرتجف هي أيضا تحت الأغطية، حتى سمعت ضجة غريبة في الخارج، صوت أقدام تروح وتغدو أمام غرفتها، وكلمات هامسة، وحفيف أشياء تنقل، لم تحاول ان تنهض لترى ما يحدث، كانت واهنة القوى، ولم تكن تريد لأحد ان يراها في هذه الحالة، كان الفراش باردا، وأدركت أن الدفء لن يعود إليه مرة أخرى، لن تجرؤ على أن ترفع استارها المسدلة لرجل غيره، تسللت إلى أنفها رائحة الملاط وانصهار الجير الحي، وهي تفكر في الترياق الذي احتاط به لنفسه، هل كان يخادعها، أم كان يتوقع غدرها، وإذا جاء الصباح، هل ستتلقى عزاءه أم تنتظر عقابه، كانت الرائحة تتزايد، ولكن الضجة تخف تدريجيا، وكاد الظلام يصبح دامسا، والغرفة تخلو من أي نفس من الهواء، أحست فجأة أنها توشك على الاختناق، نهضت من الفراش تحسست طريقها في الظلام حتى عثرت على مكان الشموع وأوقدتها، حملت الشمعدان وسارت إلى باب الغرفة، وعندما فتحته، لم تجد القصر ولا طرقاته الممتدة، وجدت أمامها حائطا، صلبا من الأحجار الضخمة المتراصة، ارتدت في فزع، سارت للنافذه، فتحتها على مصراعيها، لم تكن هناك حديقة ولا سماء ولا ضوء للنجوم، جدار آخر أكثر صلابة، يحجب كل شيء، ازاحت الاستار ودقت الجدران، لم يكن هناك منفذ آخر.
في الصباح، قامت الجواري ليأخذنها إلى حمامها المعطر فلم يجدنها غرفتها، وجاء الخليفة ليلقي عليها تحية الصباح فواجهته الجدران الصماء، مطلية ومنقوشة ومحفورًا عليها أبيات من الشعر، كأنها موجودة في هذا المكان منذ أن انشئ القصر، وجاء الوزير المصحفي ليتلقى منها التعليمات فوجد الخليفة جالسا بجانب الحائط وهو يبكي في حرقة، أخذه من يده، وسارا في حيرة، في قاعة العرش، كف الخليفة عن البكاء وقال:
ـ أين ذهبت أمي؟
قال المصحفي: لا أعرف كيف اختفت السيدة الجليلة، ولا أين ذهبت من غرفتها، ولكني أشعر ان ابن عامر خلف ذلك كله.
ثم امتلأت القاعة بالجند، جند غريبة لم يتعرف عليها أحد منهما، كانوا جند ابن غالب جاءوا من مدينة سالم، كانت سيوفهم مشرعة، وأوامرهم محددة، لم يقتربوا من الخليفة الصغير الجالس على العرش، غرسوا جميعًا سيوفهم في صدر المصحفي، قبل أن يتفوه بكلمة أو ينطق باعتراض، سقط مضرجا بالدم عند أقدام الخليفة الذي ظل جامدا على عرشه، منتظرا هجومهم الثاني، ولكن الجنود لم يفعلوا، وقفوا في أركان القاعة في صمت قد شفي غليلهم، ثم فتح الباب ودخل ابن عامر، مصفر الوجه وشاحب، ولكنه كان واقفا متماسكًا، أوشك الخليفة أن يصرخ أو أن يسأل، ولكن ابن عامر أشار إليه وهو يقول:
[عزيزي الزائر يتوجب عليك التسجيل للمشاهدة الرابط للتسجيل اضغط هنا]
ـ إذا اردت أن تبقى على عرشك وحياتك، فلا تكثر من الأسئلة، والتزم الصمت.
سوف يبقى الخليفة على عرشه صامتًا ومجمدًا حتى يعزل، وسوف يخضع ابن عامر الأندلس كلها لإمرته، سيخوض في بلاد الفرنجة كالإعصار، سيغادرهم صرعى البقاع ويتركهم أذل من وتد بقاع.
سيفتح ليون وبطريوس ولشبونة وكل ما بقي من شمال الأندلس، ستنبسط له الأرض التي لم تكن ذلولا، فتنتظم له الممالك وتتضح به المسالك ويتوافد على عرشه ملوك الشمال محملين بالهديا، طالبين عهود الأمان، سوف تغدو أيامه أحمد الأيام وسهام بأسه أشد سهام، وسوف يتذكر دائما تلك اللية الغريبة، وتتقلص معدته كثيرا ولكنه سوف يواصل تعاطي الترياق، فلا أحد يدري من أين تأتي الضربة المقبلة، من صديق طامع؟، أم من جارية غيرى؟، أم من ابن طامح؟، سيكون آخر الملوك العظام، وبعد موته ستتفتت الأندلس ويقتسمها ملوك الطوائف كرغيف خبز، ثم يضيع كل شيء وكأنه كان حلما في منام، وسبحان من له الدوام.
ألا ليتَ شعـري والفُـؤادُ عميـدُهـوايَ قريـبٌ أمْ هـوايَ بعيـدُوفي القُرب تعذيبٌ وفي البعدِ حسرةومـا منِهُمـا إلا علـيّ شَـديـدُمُعذِّبتي فِيمَ الصُّـدودُ ومَـا الـذيأُفَنِّـد ُ حتـى لا يكـون صُــدودُأصدّقت حُسّـداً وكذّبـتِ عاشقـاًوليـسَ سَـواءً عاشـقٌ وحَسـودُ
لم يكن هناك قمر، وبدت سماء قرطبة مظلمة بأكثر من العادة، وغادرت السيدة الجليلة «صبح» غرفتها حافية القدمين، سارت كطيف شاحب على الرخام البارد في الممرات الطويلة، كان كل شيء صامتا حتى أنها كانت تسمع صوت حفيف صوتها، ووجيب قلبها، كانت غرفة «ابن عامر» في نهاية واحد من هذه الممرات الغامضة التي كانت تثير في داخلها الرهبة والرغبة، عندما وقفت بالقرب من بابه كان كل جسدها يرتجف،لم تعد الرغبة هي السبب هذه المرة، توجس وخوف وترقب، كانت هي وكان هو يعرفان أنها ليلة الوداع الأخيرة، وكان لا بد أن يلتقيا، ولم تكن في حاجة لأن تطرق باب غرفته،، كان في انتظارها، حتى دون موعد مضروب بينهما.
كان ابن عامر جالسا متكئا على فراشه، ولكنه لم يتحرك وهو يراها تقترب، لم يأخذ جسدها المرتجف في أحضانه، هل ماتت رغبته؟ أم أنه خائف من الاقتراب منها، رأت عينيه النافذتين المتألقتين وهما تحطان عليها، التقطت انفاسها وهي تقول له:
ـ هأنذا أسعى إلى غرفتك
قال في صوت هادئ: لطالما سعيت إليك يامولاتي، وسوف أظل أسعى.
كان يكذب، تغير الفتى النحيف الذي وقف أمام بابها للمرة الأولى وهو يرتجف، لم يقدر على النظر إلى وجهها الوضاح فانحنى على الأرض وقبل أطراف ثوبها، كانت هذه هي إيماءة الضعف الوحيدة التي قام بها، بعد ذلك انتصب واقفا كعود غاب لاتثنيه الريح، كان لايزال مجرد كاتب صغير على باب القصر، جاء من قرية صغيرة اسمها «تركش»، وافتتح دكانا صغيرًا بالقرب من درج القصر لا يتسع إلا لمنضدة ومحبرة وعدة أقلام من البوص، لم يكن هناك ما يميزه إلا أسلوبه المنمق وخطه الجميل، وبدأ طلاب الحاجات يلجأون إليه من أجل كتابة الرقع والعرائض التي يريدون رفعها للخليفة أو للوزير أو حتى لها، كاتب مغمور يقف أمام سيدة القصر الأولى، منذ أن ألزم المرض الخليفة «الحكم» الفراش، وقد امتلكت هي ناصية الأمور، ذات يوم عندما تكاثرت الرقع قالت لحراسها من الصقالبة:
ـ آتوني بذلك الرجل الذي يكتب هذه الأنامل الجميلة.
كانت حركة الحروف العربية التي لا تكف عن الاستدارة والتداخل تمثل لها لغزا محيرا، كانت تقرأ العربية بصعوبة بالرغم من طلاقة لسانها، وقفت جذورها الإسبانية عائقا أمام تعلمها لهذه اللغة، عندما تم أسرها في إحدى الغزوات، وعندما اقتادوها إلى مجلس الخليفة بهر بجمالها الصامت، بجلدها الأبيض الشاحب كضوء القمر، وجدائل شعرها الذهبي، وعينيها الزرقاوين القلقتين، ضمها إلى حريمه المزدحم بنساء من مختلف الجنسيات، عرب وحبش وغجر وترك، ولكنها صعدت من بينهن لتصبح السيدة الوحيدة، سيطرت على فراشه، ثم سيطرت على عقله، وعندما مرض الخليفة خرجت من وراء الأستار، بدأت تخاطب
الوزراء والقادة دون حجاب، وبدأت تعاقب من يجرؤ على التقليل من شأنها دون رحمة، ولكن هذا الشاب العربي بسمرته الداكنة وقف أمامها دون أن يتخاذل أو يخفض رأسه، ولكن عينيه هو أيضًا تومضان كأن في داخله ضوء برق لا ينقضي، لم يحس بالضعف تجاهها، ولكنها لم ترده أن يبتعد عنها، قالت له في صوت مكـــتوم :
ـ اغلق حانوتك، فإن لنا حاجة إليك في هذا القصر.
فكيف تبدل الزمن منذ هذه اللحظة الفريدة؟.
قالت: هذه الليلة هي موعدنا الدائم منذ سنوات، انتظرتك أن تأتي، لكنك لم تفعل، هل شعرت بالملل، أم بالخوف ؟
كانت تحدق فيه، قال :
ـ حاشا أن أمل منك، ولكني أحسست أن عيون الخليفة تلاحقني، ورجال المصحفي يراقبون خطواتي.
كان يكذب، وكان كلاهما يعرف أنه يكذب، منذ أن دخل القصر وقد تعلم ابن عامر أن عليه أن يجيد لعبة الكذب، كان الجميع يتصارعون حول فراش الخليفة المريض، ولكنه توجه مباشرة إلى فراشها، كان جسدها يستجيب بمعزل عن شخصيتها، ولكن كان عليها أن تحميه من سيوف الحراس القيمين على الخليفة، ومن مكائد «المصحفي» حاجب الخليفة ووزيره الأول، وقد فاجأتهم جميعا حين لم تبق ابن عامر في الظل، أخذته للخليفة وقدمته له بشكل عادي وطبيعي:
ـ هاهو شاب من نجباء العرب يمكن أن يساهم في تولي تسيير أمور دولتنا.
لابد أن الخليفة قد أحس بتلك الرعدة الخفية في صوتها وهي تحدثه عن هذا الشاب الأسمر، لكنه لم يكن قادرا على رفض طلبها، كل ما فعله أنه حاول أن يبعده عنها، كلفه أن يتولى أمور الزكاة والمواريث في إشبيلية، قذف به بعيدًا، لم تجرؤ «صبح» على مخالفة أمر زوجها، ولكن العلاقات التي بدأت، لم يكن لها أن تنقطع، ظل ابن عامر يرسل لها الكتب والهدايا، ويدبج القصائد بخطه الجميل، وكلما تدهورت صحة الخليفة زاد شوقها بالحاجة إليه، كان ابنها المؤيد مازال في الثانية عشرة من عمره، والطامعون في عرش أبيه أكثر من عدد الأعمدة في مسجد قرطبة، وكان أمانها الوحيد أن يكون ابن عامر بجانبها.
جلست على حافة الفراش، لم تجرؤ على أن تمد يدها وتلمس صدره، ولا أن تحس بخشونة لحيته، قالت:
ـ لا أعتقد أن العيون تلاحقنا حتى ونحن وحدنا في هذه الغرفة، أحس أن عليه هو أن يقوم ببعض الخطوات، اقترب منها أخيرًا، وضع يده على خدها، كانت باردة، مغطاة بالعرق، وترتعد، لم يحاول أن يقبلها، حدقت في عينيه، وهي تقول:
ـ صدق حدسي، أنت خائف، ليس مني، ولا من الخليفة، أنت خائف من ابن غالب.
أنزل يده مرعوبًا، بدا أنها قد باغتته، لم يكن يتصور أن الخبر الذي جاهد طويلاً في إخفائه يمكن أن يخرج من شفتيها بهذه السهولة، حاول أن يتمالك هدوءه وهو يقول:
ـ عرفت بالأمر إذن؟
ـ وهل كنت تعتقد أن يحدث شيء في الأندلس دون أن أعلم به، كان يجب أن تخبرني حتى أكون أول من يبارك لك.
ـ لا تسخري مني يا ذات المقام العالي، إنه ليس الزواج الذي تعتقدين، أنا لم أر هذه الفتاة، ولم أرغب فيها، إنها صفقة، أريد فقط أن أحمي ظهري بنفوذ أبيها.
بدأ الغضب يرتفع في داخلها، كان مصرًا على مواصلة خداعها، هتفت غاضبة:
ـ أنا الذي طالما حميتك وساعدتك.
وارتفع صوته هو أيضا:
ـ وأنا الذي جعلت ابنك خليفة وأجلسته على العرش.
وابتعدا، توقف كلاهما في مواجهة الآخر وهما يلهثان، لم يعد هناك مكان للمسة من العشق القديم، تذكرا معا لحظات الخوف وعدم اليقين التي عصفت بالجميع، عندما مات الخليفة فجأة، وأصبح العرش خاليًا، كشف الحراس الصقالبة عن وجههم الحقيقي، شرعوا سيوفهم، لم يقتنع أحد منهم أن من الممكن أن يكون الخليفة القادم مجرد ولد في الثانية عشرة من عمره، ذهبوا إلى أخي الخليفة «المغيرة بن المستنصر» وعرضوا عليه العرش فقبله على الفور، وبدا المصحفي، الوزير القوي، عاجزًا ومترددًا وخائفًا، وانكمشت صبح في غرفتها ومعها ابنها الصغير، فقدت فجأة سلطتها وهيبتها، كانت تريد فقط أن تبحث عن منفذ لخارج القصر بعيدًا عن سيوف الصقالبة، وفي هذه اللحظة برز ابن عامر، دون خوف أو تردد، جمع كل ما يقدر من رجال وهاجم منزل المغيرة وهو يستعد للانتقال إلى القصر وقتله على الفور، سلب الصقالبة الورقة التي كانوا يلعبون بها، أصبح العرش خاليًا مرة أخرى، وقبل أن يفيق الصقالبة من دهشتهم كان ابن عامر قد أخرج المصحفي من حيرته وتردده وضم رجاله وبدأ حربًا مع الصقالبة من أجل إخراجهم من مكامنهم، حركة جريئة لا يقدر عليها إلا هو، كان هو الوحيد الذي حافظ على صفاء عقله ومضاء عزيمته في تلك اللحظات المعتمة حتى وضع الصبي الصغير هشام المؤيد على عرشه، لحظتها كانت عينا صبح مليئة بدموع الفرح والعرفان، ليلتها أعطته روحها وجسدها
لا تحفظ، ولكن في هذه الليلة يقف الجسدان متباعدين، كل منهما متحفز في مواجهة الآخر.
هدأ ابن عامر قليلاً، كان لديه ما يكفي من الأعداء، ولا حاجة لعدو جديد:
ـ لا علاقة لك بهذا الزواج، إنه مجرد فراش بارد، ولن تستطيعي حمايتي الآن بعد أن عزم المصحفي على استئصالي، يجب أن أحتاط له قبل أن يقضي علي.
قالت من بين أسنانها:
ـ استعنت بالمصحفي لتقضي على الصقالبة، والآن تستعين بابن غالب لتقضي على المصحفي، وفي غد ستجد من تستعين به لتقضي علي وابني الخليفة.
التفت إليها مذعورًا، لم يتوقع أن يكشف كل منهما أوراقه أمام الآخر بهذه القسوة، هتف بها :
ـ لن افعل ..
كان يكذب، وكان كلاهما يعرف أنه يكذب، للمرة الأولى في تلك الليلة احتضنها، وكان كلاهما يرتجف، أرادت أن تبتعد ولم تستطع، كان أفضل مافي العناق أنه لم ير الدموع التي تهبط على وجنتيها، وأنها لم تر النظرة الباردة التي تطل من عينيه، أكان هذا هو العناق الاخير؟ قالت بصوت متحشرج :
ـ دعنا ننس الأحزان قليلا، روحي متعبة وحلقي جاف.
أشار إلى منضدة في أحد الأركان، كانت مليئة بالقناني:
ـ ماذا تريدين أن تشربي
قالت بنعومة وهي تنسل من أحضانه: دعني أعد الشراب لنا
سارت إلى المنضدة، كان عليها قوارير خمور مختلفة الألوان، بجانبها قطع الحلوى والفستق والجبن والزيتون، عندما كانا يقضيان طوال الليل معا، دون مرارة، كانا يأكلان ويتضاحكان ويتلامسان، الليلة سيبتلعان بصعوبة فقط هاتين الكأسين، نظرت إليه من طرف عينيها، كان قد عاد للجلوس على الفراش ساهما بوجه جامد، لم تتردد كثيرًا، فتحت الخاتم الذي في أصبعها، في أسفل قطعة الألماس النقي كان يوجد تجويف مليء بمسحوق أبيض، أعده عطار عجوز في ساحة البيازين في غرناطه وحمله لها فارس مخصوص، صبته كله في كأسه ورجت الكأس حتى يذوب، ثم حملت الكأسين وعادت إليه، حدق فيها وحدقت فيه، قال لها:
ـ أتمنى أحيانا لو أنني لم أجيء من قريتي البعيدة، لولم آت إلى قرطبة وأجد لزامًا علي أن أقتل أولا قبل أن يتم قتلي.
ورفع الكأس إلى فمه، ارتجف قلبها، ولكنها لم تحاول أن تمنعه، تناول منه رشفة صغيرة، فلم يبد عليه أنه تأثر أو أحس بتغير طعم الخمر، قالت له:
ـ إذا كان ما تقوله حقا فهل أخذت حذرك.
ـ أجل.. عرفت أنه لا توجد في القصر كلمة تقال دون ان يكون خلفها دسيسة، ولا طعام يتم إلا في داخله سم ناقع، لذلك أصممت أذني عن كل كلام يقال اتقاء لأي وقيعة.
ارتجفت وقالت في خفوت: وماذا فعلت لاتقاء خطر السم؟
قال: السم إذا كان كثيرًا يقتل، وإذا قل فهو ترياق، لذا كنت آخذ كل يوم كمية صغيرة منه حتى تقي جسمي من أي غدر
حدق بعينيه النافذتين، لم يبال حتى بالنظر إلى خاتمها الذي لم يكن مغلقا، ولم يعلق على شحوبها، واصل شرب كأسه في هدوء، ودون تأثر، كان يقرأ كل مافي أعماقها، ويعرف نواياها منذ أن أقبلت عليه، سقط الكأس من يدها، تحطم محدثا دويا عاليًا، قالت :
ـ حان الوقت لانصرافي
قال دون أن يتحرك من مكانه : أجل، تأخر الوقت بنا، ولم يعد هناك وقت .
سارت وهي ترتجف، لم تنظرإلى الوراء حتى لا تلتقي عيونهما فتنهار، وما إن انصرفت حتى نهض ابن عامر مسرعا، سار إلى ركن الغرفة حيث يوجد وعاء من النحاس، وضع أصبعه في فمه حتى وصلت لحلقومه، أحس بمعدته وهي تتقلص، ثم بدأ يفرغ كل ما في أمعائه، كان الألم الذي يصعد من أعماقه قاتلا، ولابد أنه وضعت كمية كبيرة من السم كفيلة بصرع فيل، ظل يتقلص، ويتلوى، حتى أفرغ كل شيء، الخمر التي شربها من يديها، وكميات الزبد الدسم التي أكلها قبل أن تأتي إليه، ظل يترنح محاولا ان يصل إلى الفراش، ولكنه سقط على الأرض عاجزا، دخل ابن الرماح مسرعا، كان هو حارسه وأمين سره، نظر إليه في إشفاق وهو يقول له:
ـ هل أنت بخير ياسيدي
قال ابن عامر : مازلت على قيد الحياة، لو لم أمت الليلة، فسوف أعيش طويلا
قال الخادم: هل أستدعي طبيبا، هل أحملك للفراش؟
قال ابن عامر: اتركني كما أنا، ضع علي فقط كل الاغطية، واعط الامر للبنائين حتى يقوموا بعملهم
وهكذا ظل ابن عامر يرتجف تحت الأغطية، ولكن ما إن دخلت السيدة الجليلة صبح غرفتها، واطفأت شموعها ووضعت جسدها المرتجف هي أيضا تحت الأغطية، حتى سمعت ضجة غريبة في الخارج، صوت أقدام تروح وتغدو أمام غرفتها، وكلمات هامسة، وحفيف أشياء تنقل، لم تحاول ان تنهض لترى ما يحدث، كانت واهنة القوى، ولم تكن تريد لأحد ان يراها في هذه الحالة، كان الفراش باردا، وأدركت أن الدفء لن يعود إليه مرة أخرى، لن تجرؤ على أن ترفع استارها المسدلة لرجل غيره، تسللت إلى أنفها رائحة الملاط وانصهار الجير الحي، وهي تفكر في الترياق الذي احتاط به لنفسه، هل كان يخادعها، أم كان يتوقع غدرها، وإذا جاء الصباح، هل ستتلقى عزاءه أم تنتظر عقابه، كانت الرائحة تتزايد، ولكن الضجة تخف تدريجيا، وكاد الظلام يصبح دامسا، والغرفة تخلو من أي نفس من الهواء، أحست فجأة أنها توشك على الاختناق، نهضت من الفراش تحسست طريقها في الظلام حتى عثرت على مكان الشموع وأوقدتها، حملت الشمعدان وسارت إلى باب الغرفة، وعندما فتحته، لم تجد القصر ولا طرقاته الممتدة، وجدت أمامها حائطا، صلبا من الأحجار الضخمة المتراصة، ارتدت في فزع، سارت للنافذه، فتحتها على مصراعيها، لم تكن هناك حديقة ولا سماء ولا ضوء للنجوم، جدار آخر أكثر صلابة، يحجب كل شيء، ازاحت الاستار ودقت الجدران، لم يكن هناك منفذ آخر.
في الصباح، قامت الجواري ليأخذنها إلى حمامها المعطر فلم يجدنها غرفتها، وجاء الخليفة ليلقي عليها تحية الصباح فواجهته الجدران الصماء، مطلية ومنقوشة ومحفورًا عليها أبيات من الشعر، كأنها موجودة في هذا المكان منذ أن انشئ القصر، وجاء الوزير المصحفي ليتلقى منها التعليمات فوجد الخليفة جالسا بجانب الحائط وهو يبكي في حرقة، أخذه من يده، وسارا في حيرة، في قاعة العرش، كف الخليفة عن البكاء وقال:
ـ أين ذهبت أمي؟
قال المصحفي: لا أعرف كيف اختفت السيدة الجليلة، ولا أين ذهبت من غرفتها، ولكني أشعر ان ابن عامر خلف ذلك كله.
ثم امتلأت القاعة بالجند، جند غريبة لم يتعرف عليها أحد منهما، كانوا جند ابن غالب جاءوا من مدينة سالم، كانت سيوفهم مشرعة، وأوامرهم محددة، لم يقتربوا من الخليفة الصغير الجالس على العرش، غرسوا جميعًا سيوفهم في صدر المصحفي، قبل أن يتفوه بكلمة أو ينطق باعتراض، سقط مضرجا بالدم عند أقدام الخليفة الذي ظل جامدا على عرشه، منتظرا هجومهم الثاني، ولكن الجنود لم يفعلوا، وقفوا في أركان القاعة في صمت قد شفي غليلهم، ثم فتح الباب ودخل ابن عامر، مصفر الوجه وشاحب، ولكنه كان واقفا متماسكًا، أوشك الخليفة أن يصرخ أو أن يسأل، ولكن ابن عامر أشار إليه وهو يقول:
[عزيزي الزائر يتوجب عليك التسجيل للمشاهدة الرابط للتسجيل اضغط هنا]
ـ إذا اردت أن تبقى على عرشك وحياتك، فلا تكثر من الأسئلة، والتزم الصمت.
سوف يبقى الخليفة على عرشه صامتًا ومجمدًا حتى يعزل، وسوف يخضع ابن عامر الأندلس كلها لإمرته، سيخوض في بلاد الفرنجة كالإعصار، سيغادرهم صرعى البقاع ويتركهم أذل من وتد بقاع.
سيفتح ليون وبطريوس ولشبونة وكل ما بقي من شمال الأندلس، ستنبسط له الأرض التي لم تكن ذلولا، فتنتظم له الممالك وتتضح به المسالك ويتوافد على عرشه ملوك الشمال محملين بالهديا، طالبين عهود الأمان، سوف تغدو أيامه أحمد الأيام وسهام بأسه أشد سهام، وسوف يتذكر دائما تلك اللية الغريبة، وتتقلص معدته كثيرا ولكنه سوف يواصل تعاطي الترياق، فلا أحد يدري من أين تأتي الضربة المقبلة، من صديق طامع؟، أم من جارية غيرى؟، أم من ابن طامح؟، سيكون آخر الملوك العظام، وبعد موته ستتفتت الأندلس ويقتسمها ملوك الطوائف كرغيف خبز، ثم يضيع كل شيء وكأنه كان حلما في منام، وسبحان من له الدوام.
ألا ليتَ شعـري والفُـؤادُ عميـدُهـوايَ قريـبٌ أمْ هـوايَ بعيـدُوفي القُرب تعذيبٌ وفي البعدِ حسرةومـا منِهُمـا إلا علـيّ شَـديـدُمُعذِّبتي فِيمَ الصُّـدودُ ومَـا الـذيأُفَنِّـد ُ حتـى لا يكـون صُــدودُأصدّقت حُسّـداً وكذّبـتِ عاشقـاًوليـسَ سَـواءً عاشـقٌ وحَسـودُ
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: هذه ليلتنا الاخيره ..........معا
مشكورين على الموضوع الراقى والقيم الذى يستحق المتابعه والتوقف بارك الله فيك
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
بوفرقه- مراقب
-
عدد المشاركات : 34697
العمر : 58
رقم العضوية : 179
قوة التقييم : 76
تاريخ التسجيل : 30/04/2009
رد: هذه ليلتنا الاخيره ..........معا
مشكوراخى عبدالحفيظ
فرج احميد- مستشار
-
عدد المشاركات : 17243
العمر : 62
رقم العضوية : 118
قوة التقييم : 348
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: هذه ليلتنا الاخيره ..........معا
مشكور ع الطرح الرائع
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
مواضيع مماثلة
» مدة عرض المواضيع الاخيره
» اليوم الفرصــه الاخيره
» فض السيره اليوم تمت حلقتك الاخيره
» هل تعرف ماهذا الشى قبل مشاهدة الصوره الاخيره
» ضحايا مدينه بنغازي والجرحى فى الاحداث الاخيره
» اليوم الفرصــه الاخيره
» فض السيره اليوم تمت حلقتك الاخيره
» هل تعرف ماهذا الشى قبل مشاهدة الصوره الاخيره
» ضحايا مدينه بنغازي والجرحى فى الاحداث الاخيره
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
أمس في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
أمس في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
أمس في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
أمس في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
2024-11-04, 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR