إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
مدونة ليبية تعنى بالاثار والفنون القديمة
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
مدونة ليبية تعنى بالاثار والفنون القديمة
مدونة ليبية تعنى بالاثار والفنون القديمة
قلعة النصرة التاريخية:
قلعة طرابلسية أثرية مريضة نفسياً!
م. عبد الحكيم عامر الطويل
من خرائط عثمانية وإيطالية قديمة أحتفظ بها في مكتبي ببيتي علمت بوجود قوس من القلاع العسكرية الكبيرة حول مدينة طرابلس كانت تحيط بها من البحر إلى البحر، تبدأ بقلعة الحميدية على شاطئ البحر شرقاً، أمام إذاعة شارع الشط في مكان خزان الماء الذي أزيل مؤخراً بعد أن أزيلت هذه القلعة منذ العهد الإيطالي، مروراً بجنوب طرابلس حيث قلعة سيدي المصري على قمة إحدى هضاب أمانة الزراعة والتي هي أيضاً لم يعد لها أي أثر اليوم، ثم إلى الغرب حيث تتواجد 4 قلاع ليست بعيدة عن بعضها تنتهي بقلعة السلطانية بمحاذاة شاطئ البحر أزيلت هي أيضاً منذ العهد الإيطالي ولم يعد لها أثر اليوم، وواحدة أخيرة وسط البحر كانت حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي فوق جزيرة تبعد نحو 150 متر على الشاطئ، إنها برج "أبوليلة"، الذي تعرض لتشويه كبير منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي نتيجة تحويله إلى مقهى ونادي للغوص، إلا أنها تعرضت لخطر أكبر في أواخر السنة الماضية، إذ تهددتها الإزالة نهائياً ضمن ما أزيل من منشآت شاطئ البحر الطرابلسي، لكن جهود عدد من المخلصين لآثار طرابلس تكاثفت سريعاً وأشعر بالفخر أنني كنت أحد هؤلاء، فلم تنقذ هذه الجهود هذا الموقع بالغ الأهمية من الإزالة فقط بل ونجحت في وضع شاهد رخامي كبير حديث من شواهد مصلحة الآثار ذات النص الموحد الذي يؤكد حرمتها الأثرية
لكن إحساسي بالأسف على فقدان باقي هذه القلاع الطرابلسية جعلني أعوض لا شعورياً عنها بالعمل على محاولة كشف أماكنها وسط خارطة طرابلس الحديثة اليوم، مع حلم بعيد في إعادة بناءها، لا لتتولى عبء حماية طرابلس مجدداً وإنما لتصير نصب تذكارية سياحية تُذَكِّر بتاريخ هذه القلاع العريق وتحكي جزء من العسكرية الليبية القديمة ضمن مشروع سياحي تاريخي تثقيفي واعد.
وهكذا، من خلال مقارنات مضنية ما بين خرائطي العثمانية وخرائط جديدة نسبياً لمدينة طرابلس من التي تسمح بنسخها مصلحة المساحة توصلت إلى ترجيح قوي في مقال سابق لي ضمن عمودي الأثري الذي كتبته لصحيفة الشمس ما بين سنتي 2001 و2002 بأن مكان قلعة السلطانية هو إحدى الدارات الملاصقة لغرب المصيف العسكري، الذي تبين لي أنه أزيل مؤخراً هو كذلك! حينما نجحت في تحديد مصير هذه القلعة قلت لنفسي لأستمر في بحثي عن أماكن قلاع طرابلس الأخرى مبتدءاً بالتالية لها مباشرة إلى الجنوب، التي تعطيها الخرائط القديمة إسمين تركيين: نصرتية إستحكامي ونصرتية طابية سي
على أي حال الإسمين ليسا مختلفين عن بعضهما، فكلمة نصرتية كلمة تركية من أصل عربي تعني بوضوح: النُصْرَة، أي كل ما يُنْتَصر به، والقلاع يُنْتَصَرُ بها فعلاً إذا دخلت معركة أُحسن التخطيط لها برجال أُحْسِنَ تدريبهم، أما "إستحكامي" فكلمة تركية من أصل عربي آخر بمعنى إستحكام، أي قلعة، أي أن "نصرتية إستحكامي" تعني بالعربية: إستحكام النصرة، بينما طابية كلمة تركية بمعنى قلعة، والسي لاحقة النسبة في اللغة التركية، وهكذا فكل هذه المعني يوصلنا إلى اسم عربي واحد هو "قلعة النصرة" بحثاً عن أي معلومة متوفرة عن هذه القلعة غرقت طويلاً في صفحات الكتب التي توفرت بمكتبتي آنذاك، حتى وصلت إلى شمعة في الجزء الثاني من مؤلف المؤرخ الليبي الراحل أحمد النائب الشهير: المنهل العذب ساعدتني في توسيع فجوة ظلام النسيان الذي كان ومازال يلف هذه القلعة، في هذا الجزء علمت أنه بُدِءَ في إنشاءها في منطقة قرقارش في ثامن أشهر سنة 1882م، أي منذ 126 سنة، وفي شهر 11/1882 – أي بعد نحو 3 أشهر من البناء - إكتمل إنشاؤها، ثم زودها آمر الحامية العثمانية في طرابلس آنذاك الفريق زكي بمدافع "كروب" Krupp القلاعية، حيث "كروب" أسرة ألمانية اشتهرت بامتلاكها لأكبر المصانع لصنع الأسلحة الحربية، استقرت بمدينة "آسن" منذ القرن 16، ثم صار اسمها يطلق على مؤسسة كبرى لصناعة الحديد الصلب في صناعات حربية ومدنية منذ عام 1847م تُنْسَب إلى مؤسسها فريدريك كروب الذي توفي عام 1826م.
ظلت مدافع هذه الأسرة على قلعة النصرة وظلت هذه القلعة موجودة في الجغرافية والذاكرة الطرابلسية تمارس مهمتها الدفاعية العسكرية عن هذه المدينة حتى أول أيام الاحتلال الإيطالي المعاصر لليبيا، فقد عرفها الإيطاليون وذكروها في خرائطهم التي رسموها فيما بعد لبلادنا
كتاب مهم جداً آخر معرب عن التركية عرفت من خلال رسم صغير غير واضح فيه أن المسقط الرأسي لهذه القلعة قريب جداً من شكل المعين أو البكلاوة كما نسميه في لهجتنا الليبية، وكان من الممكن أن تكون فائدتي أكبر لو ذكر المعرب إسم هذا الكتاب الأصلي، إذ لكنت عدت إلى الأصل وعرفت ما إذا كان يحوي رسماً أكبر وأكثر وضوحاً أم لا، لكن جهدي ذهب هباءاً لأن النسخة المعربة لم تذكر إسم الكتاب الأصلي بالأحرف التركية الحديثة، وأحد المعربين توفي رحمه الله، والآخر غير ليبي غادر بلادنا منذ سنوات، أما مُراجِع الكتاب فلم أتمكن من التعرف عليه حتى اليوم! من خلال هذا المصدر علمت أن هذه القلعة كانت في 1911 مسلحة بمدافع مداها 2000 متر، إلا أنه كان مدى من القِصَر بحيث عجز عن إيصال قذائفه إلى السفن الإيطالية التي دمرت قلعته سريعاً وتركها جنودها وضباطها منذ اليوم الأول للاحتلال الإيطالي في 04/10/1911[4]
البحث عن النُصْرَة
فهل يا ترى تبقى من هذه القلعة أي شيء اليوم؟ حتى ولو لم يتبق منها شيء، أين هو مكانها اليوم ما بين مباني مدينة طرابلس الحديثة؟ أسفل دارات أم مبنى عام؟ لقد شدتني هذه الأسئلة بجدية حتى أنها أسرتني لأيام جعلت من المتعذر علي إهمال متعة أن أكون أول من يكشف بقايا أو على الأقل مكان هذه القلعة، كان دليلي الأول للبحث عنها هو معرفتي بحقيقة أن القلاع في طرابلس تُبْنَى عادة فوق هضاب طبيعية، فبدأت في البحث عن هضبة يمكن أن تكون قلعة النصرتية فوقها، لكنني تيقنت من أن المحاولة فاشلة لأن الموقع الذي تحدده الخرائط القديمة يختفي الآن وسط مساكن حي الأندلس بالمقارنة مع خرائط طرالبلس الحديثة نسبياً، حاولت عبر تجولي بسيارتي أكثر من مرة الكشف عن هضبة صغيرة تعلوها دارات، أو لعلني أصادف أي أثر لأي جدار قديم أو قاعدة جدار قديم إلا أن جميع محاولاتي فشلت، فاكتظاظ المنطقة بالشوارع والدارات أتلف تماماً شكلها الطبيعي القديم، فنسيتها مكرهاً لسنوات
المفاجأة كانت حينما أعلمني صديقي المهندس وجيه باش إمام بوجود بقايا قلعة عسكرية قديمة بداخل مستشفى ابن النفيس للأمراض العصبية والنفسية مستخدمة كمقر لقسم الحركة فيه، لم يكن يعرف اسمها ولا تاريخها ولا العصر الذي تنتمي إليه، كما لا يعرف إن كانت مازالت على قيد الحياة أصلاً! يومها سارعت إلى خرائطي أريد أن أرى إن كان يمكن أن تكون قلعتي المفقودة! بعد جهود استغرقت أيام تبيَّن لي احتمالية ذلك إلى حد بعيد، قلت في نفسي: حسناً، إذا وجدت هضبة تختفي وسط المستشفى ستكون هي هضبة قلعة النصرتية! صباح الخميس 12/4/2001 دخلت مستشفى قرقارش - كما يُعْرَف هذا المستشفى بشكل غير رسمي بين سكان المدينة – بغرض البحث عن هضبة هذه القلعة! لكنني لم أتمكن من مقابلة أي مسؤول فيه بحجج مختلفة، لذا اتجهت صوب الباب أريد الخروج محبطاً، في آخر لحظة خطر في بالي أن أسأل مسؤول البوابة عن مكان قسم الحركة لا أكثر، ما أن دلني عليه حتى سارعت إليه دون تردد، كانت الطريق إليه قصيرة ضيقة وذات ارتفاعات وانحناءات مختلفة، لكنني شعرت فجأة بزحمة من المشاعر السعيدة الغامرة تتكدس في حلقي حينما وصلت إلى نهاية هذا الطريق الأفعواني: لقد ظهر أمامي ليس فقط هضبة طبيعية بل فوقها جدار يبدو واضحاً أنه جزء من قلعة أثرية شامخة، ورغم الإضافات الحديثة القبيحة التي نكبت بها والتي لا تتماشى مع نسيج هذه القلعة العثماني الأثري إلا أنني لم أكن بحاجة إلى أي دليل إضافي، إنها قلعة النصرة بلا جدال طالما أن موقعها ينطبق تماماً مع موقع قلعة النصرة في خرائطي العثمانية، كما أن فتحات قنص البنادق العمودية التي تتخلل سورها تؤكد ذلك، كانت لحظة لا يمكنني نسيانها، فللمرة الأولى في حياتي أكتشف وجود موقع أثري صميم بالغ الأهمية لطالما سمعت عنه دون أن أراه يطل بقوة من العهد العثماني المنقضي، وأين؟ في قلب مستشفى يتربع على حافة حي سكني حديث! بالفعل من الصعب تصديق أن هذه القلعة نجت بأعجوبة من حملات التهديم الجاهلة التي تعرضت لها الكثير من آثارنا الأخرى، يبدو واضحاً أن سبب فلتانها هو تمدد أرض هذا المستشفى لدرجة أن صارت هذه القلعة وسطه، ليت كل مواقعنا الأثرية تتحول الى مستشفيات نفسية إذاً!!
ما أن خرجت من سيارتي من المستشفى تاركاً قلعته ورائي حتى جنح بي خيالي بعيداً، تخيلت الإضافات الحديثة عليها وقد أزيلت، وسورها القديم وقد ترمم، وبرز من سطحها نسخ نحاسية طبق الأصل من مدافع كروب وقد تم شراؤها من مخازن الشركة أو أحد متاحف ألمانيا، ثم شاهد رخامي ضخم معلق يمين مدخلها مكتوب عليه بالعربية والإنجليزية إسمها ودورها في مقاومة محاولات احتلال هذا البلد، كما تخيلت الهضبة الواقفة عليها وقد كسيت بعشب أخضر، أما السور الذي يحجب رؤيتها من خارج المستشفى فقد تم استبداله بسياج نباتي قصير يسمح برؤيتها من مجرد المرور من ذلك الطريق، أليس مشروع سياحي تاريخي يستحق بالفعل تحقيقه؟
ما هو مؤكد لي الآن هو أن عمر هذه القلعة هو 126 سنة، مليئة بقصص المقاومة البحرية العسكرية الشرسة للعديد من الأساطيل الحربية التي قصفت طرابلس، مما يعني إرتباطها بقوة بتاريخنا السياسي والاجتماعي رغم التشويه الفادح الذي تعرضت له ولازالت تئن منه، وبما أن أول تعريفين من المادة الأولى من قانون الآثار الليبي رقم 3 لسنة 1995 ينصان على:
- الأثر والآثار: كل ما أنشأه الإنسان أو أنتجه مما له علاقة بالتراث الإنساني ويرجع عهده إلى أكثر من 100 سنة
- الآثار العقارية: هي بقايا المدن والتلال الأثرية والقلاع والحصون والأسوار والمساجد والمدارس والأبنية الدينية والمقابر والكهوف سواء كانت في باطن الأرض أو على سطحها أو تحت المياه الإقليمية وكذلك المعالم ذات الطابع المعماري المميز والمواقع والشواهد التاريخية التي تتصل بجهاد الليبيين وكفاحهم وتجاربهم وترتبط بالتاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي للبلاد.
فإذاً هذه القلعة أثر ليبي دون حتى الحاجة إلى تشكيل لجان فنية للتحقق من هذه الحقيقة، لهذا ضمنت هذه القلعة ضمن الدراسة المفصلة التي قدمتها بتاريخ 27/08/2000 لأمين اللجنة الشعبية لشعبية طرابلس آنذاك باسم مشروع طرابلس الثقافية الذي يعرف بآثار طرابلس خارج مدينتها القديمة، حيث أوضحت فيه الأهمية الأثرية لهذا الموقع وحق المجتمع الليبي في إعادة توظيفه كمعلم أثري سياحي جديد من خلال خطة العمل البسيطة التي تخيلتها أعلاه دون حتى أن أكون عارفاً آنذاك بأنها قلعة النصرتية، أي أنني اكتفيت بأنها قلعة أثرية ليبية تحتاج إلى حماية دون حتى الحاجة إلى معرفة اسمها، لكنني لم أكتف بهذا المقترح الذي لم ينفذ للأسف، إذ بعد نحو ½ سنة، بتاريخ 06/02/2001 بالتحديد قدمت لرئيس مصلحة الآثار الليبية قائمة بآثار طرابلس غير المعروفة آنذاك من ضمنها هذه القلعة – قبل حتى زيارتي الشخصية لها بشهرين! - طالباً تسجيلها كآثار ليبية مشمولة بحماية قانون الآثار الليبي، وكم سعدت حينما صدر بتاريخ 10/04/2001 قرار رئيس مصلحة الاثار رقم 11 لذات السنة والذي يعتمد فيما يعتمد أثرية هذه القلعة باسم قلعة قرقارش، في حدث هو الأول في تاريخها
ثم كان لي موعد خاطف مع هذه القلعة يوم اتصل بي موظف ببلدية طرابلس مطلع على كتاباتي التاريخية أعلمني بزيارة طالبة من قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة له حول مشروع تخرجها الذي يشمل دراسة قلعة مستشفى ابن النفيس معمارياً، لكن تنقصها الخلفية التاريخية عن هذه القلعة، ولربما يمكنني مساعدتها في توفير مثل هذه الخلفية، قبلت مقابلة هذه المهندسة بسرور لأنني أنا أيضاً أرغب في الحصول على معلومات إضافية عنها، فلعلها اطلعت على ما لم أطلع عليه حول هذه القلعة، وهكذا التقيت بها صباح يوم 16 06 2001، وبعد أن أعطيتها ما أعرف من معلومات ضئيلة حول تاريخ هذه القلعة طلبت منها أن تعاملني بالمثل، إلا أنها تأسفت لأنه ليس لديها أي شيء تاريخي عن هذه القلعة، لذا طلبت منها أن تدعوني إلى يوم مناقشة مشروعها لعل معلوماتها تكون قد اكتملت آنذاك، إلا أن "م. أسمهان" نسيت وعدها هذا تماماً، هل غيرت مشروعها ولم يعد لها علاقة بهذه القلعة؟ أم أنها أكملته ونسيت دعوتي في زحمة إجراءات التخرج؟ لا أعرف، لكنني أتمنى أن تكون قد أتمت مشروعها وهو يحوي توصيات مفيدة عن هذه القلعة تعمل ليس فقط على الحفاظ عليها بل وإعادة توظيفها كمرفق سياحي ثقافي مميز، أتمنى أيضاً أن تكون من بين الذين يقرأون كلماتي هذه الآن لتخبرني بما فعلت مه هذه القلعة.
بعد أقل من شهر من هذه المقابلة، بتاريخ 11/07/2001 بالتحديد اتجهت إلى الليبيين جميعاً، حيث نشرت مقال عن هذه القلعة في العدد 2456 من صحيفة الشمس التي تصدرها المؤسسة العامة للصحافة الليبية ضمن سلسلة عمود أثري أعلمهم فيه بتاريخ هذه القلعة وأهميتها السياحية وأبشرهم بتحولها إلى موقع أثري، ثم أتت لعندي إضافة أخرى في تاريخ هذه القلعة بلا قصد، فبتاريخ 28 02 2005 اشتريت من معرض كتاب كلية الشرطة بطرابلس الغرب الأول كتاب حول تاريخ الشرطة في ليبيا ، في إحدى صفحاته لمحت صورة رديئة الإخراج بالأبيض والأسود مكتوب أسفلها: سجن فورتينو بي بمنطقة قرقارش، بدا لي واضحاً أن هذا الاسم إيطالي ويعني سجن القلعة باء، لكن الأهم من هذا هو أنني وجدت أن شكل هذا السجن مطابق تماماً لما رأيته من هذه القلعة التي تقع بالفعل في حي ومستشفى قرقارش، كما أنني وجدتها مُعَرَّفة في أكثر من خريطة إيطالية قديمة باسم القلعة باء FORTE B، فإذاً ها هو استخدام آخر معاصر لهذه القلعة حدث أيام الاحتلال الإيطالي لا أعرف عنه الكثير للأسف: سجن! يبدو أنه مصير حديث مماثل لمصير قلعة قرقارشية أخرى هي إحدى قلاع طرابلس الغربية الأربعة التي ذكرتها أعلاه بشكل سريع، وتعاني الكثير من الإجحاف اليوم أسوة بالكثير من الآثار الليبية الأخرى، فعلى الرغم من أنها مقامة على هضبة طبيعية أخرى وبالقرب من شارع غوط الشعال الرئيس إلا أنه من الصعب رؤيتها اليوم بعد أن طمست معالمها محلات سوق زرقاء اليمامة 2، وحينما كنت أكتب عمودي الأثري بصحيفة الشمس وصلتني رسالة من القارئ "حسن الصيد محمد علي عمر كريستة" يعرب فيها عن أسفه الشديد لحال هذا الموقع الذي وصله اليوم، كما يلوم مصلحة الآثار لأنها لم تقم بدورها تجاهه خصوصاً وأنه – كما أفادني مشكوراً - تحول على أيدي الإيطاليين إلى سجن للعشرات من الليبيين الشرفاء، كما شهد إعدام أكثر من مجاهد، من بينهم جد هذا القارئ لوالده رحمه الله وجده لأمه أيضاً الشهيد مفتاح بالعيد، عموماً ستكون لي وقفة طويلة مع هذه القلعة في كتاب لي حول آثار طرابلس خارج مدينتها القديمة أتمنى أن يرى النور قريباً طالما أنني أعتبرها مبنى تاريخي على أقل تقدير من مجرد هذه الإفادة المؤثرة من "حسن كريستة"
وحينما تعرفت على برنامج "جوجل" للصور الجوية تحصلت منه على الكثير من الدعم العلمي الدقيقي للكثير من دراساتي التاريخية، من بينها دراستي لهذه القلعة، إذ أنني أخذت صورة جوية لها عبر هذا البرنامج بغرض مقارنتها بالمخطط الذي تحصلت عليه من النسخة العربية لذلك الكتاب التركي الهام، فكان شكل "البكلاوة" يبدو بوضوح وسط المستشفى بالرغم من تعرضه لبعض الإضافات خارجه، لكن ثبت لي أيضاً أن المخطط إما أنه يؤرخ لمرحلة سابقة للقلعة أو أنه لم يكن دقيقاً، خصوصاً من جهة مدخل القلعة، إذ أن مشاهدتي الشخصية لهذا المدخل أثبتت لي أن بناؤه وفتحاته المطلة على جانبية مماثلة تماماً لشكل ومادة وقِدَم باقي السور القديم للقلعة، في دليل نهائي على أنها قلعة النصرة، وأنها باقية كما كانت والحمدلله (والله خسارة فادحة إذا فكر أحد في إزالتها!)
أخيراً، مساء الخميس الماضي الموافق 27 03 2008، بينما كنت أتجول صحبة العائلة بسيارتي في شوارع طرابلس بعد يوم مليء بالأحداث المحبطة رأينا أن نتصفح حال طرابلس ومبانيها وشوارعها لمعرفة أي المباني التي هدمت بعد آخر مرة تجولنا فيها منذ أيام، حينما دخلت حي الأندلس فوجئت بجزء من سور مستشفى ابن النفيس للأمراض النفسية وقد تراجع للخلف! لقد هدمت زاوية من سوره المرتفع وبني بدله سور أسمنتي جديد، بدا واضحاً أن الهدف هو توسيع هذا الشارع، حقيقة رحبت بالفكرة طالما أنها أصابت مبنى عام وهدفها المساهمة في حل مشكلة زحام المرور التي بدأت تؤلم طرابلس، لكنني قرأت خطفاً لافتة قرب هذا السور تفيد بوجود مشروع جديد يستهدف تحويل المستشفى أو الجزء المطل منه على الشارع إلى منتزه أو حديقة، كانت هذه اللافتة صغيرة ومرتفعة لأعلى والطريق مزدحم مما لم يسمح لي بمعرفة تفاصيلها، المهم أن هناك مشروع جديد يستهدف إقامة مكان ترفيهي سياحي، وهذا أيضاً مشروع جميل ورائع وننتظر مثيله منذ قرون، إلا أن قلبي صعد ونزل بعنف لأنني تذكرت أن خلف هذا السور بأمتار قليلة تقف قلعة النصرة التي مازالت تعاني ليس فقط من إهمال المسئولين لقيمتها الأثرية والسياحية بل بجهل الكثير من الليبيين بوجودها أصلاً! لذا قررت من فوري أن أدخل المستشفى بأي حجة كانت وأرى المصير الذي وصلته هذه القلعة، بالفعل دخلت ولم أجد أحد يعرقلني والحمد لله حتى وصلتها – أي قسم الحركة هناك، فوجدت أنها – والحمد لله – كما تركتها منذ 7 سنوات، وبما أن صوارتي تكون معي دائماً حينما أخرج من البيت سارعت إليها والتقطت لها الصور التي تراها مرفقة هنا
والآن أريدك أن تتمعن فيها جيداً لعلها تكون الصور الوحيدة الملونة التي أخذت لها، أو ربما الأحدث، أو الأخيرة! متمنياً أن يكون بإمكانك المساهمة في إنقاذها، على الأقل بإرسال نسخة من المقال لكل أصدقاءك ومعارفك، خصوصاً المهندسين المشرفين على مشروع منتزه مستشفى قرقارش هذا أو المشرفين على عمليات الهدم التي تشهدها طرابلس اليوم، ملاحظاً أن لك أجران إذا أصابت جهودك وأجر واحد هو أجر الاجتهاد إذا لم تصب، أي أنك كاسب في الحالتين، خسارتك هي في عدم التحرك وبقاءك سلبياً
..........المراجع..............
[1]) صحيفة الشمس، عدد 2468، صفحة 12، منشور بتاريخ 25 07 2001، وكذلك تصحيحات وإضافات لهذا الموضوع التي نشرتها ضمن هذا العمود في العدد 2540 الصادر بتاريخ 17 01 2001
[2]) النائب، أحمد بك، المنهل العذب/ تاريخ طرابلس الغرب، ج2، ط1، 1961، دار الفرجاني، طرابلس، ليبيا، ص 10
[3]) بلا إسم مؤلف، تاريخ القوات المسلحة التركية/الدور العثماني/الحرب العثمانية الإيطالية 1911-1912، (تعريب محمد الأسطى و د. علي اعزازي)، ط1، 1988، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، طرابلس، ليبيا، ص 187
[4]) بلا إسم مؤلف، تاريخ القوات المسلحة التركية/الدور العثماني/الحرب العثمانية الإيطالية 1911-1912، (تعريب محمد الأسطى و د. علي اعزازي)، ط1، 1988، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، طرابلس، ليبيا، ص 156
[5]) القماطي، عقيد عبدالفتاح عبدالله، جوانب من تاريخ الشرطة في ليبيا من سنة 1835 إلى سنة 2000 ميلادي، ط1، 2004، مطابع العدل والأمن العام، طرابلس، ليبيا، ص 114
قلعة النصرة التاريخية:
قلعة طرابلسية أثرية مريضة نفسياً!
م. عبد الحكيم عامر الطويل
من خرائط عثمانية وإيطالية قديمة أحتفظ بها في مكتبي ببيتي علمت بوجود قوس من القلاع العسكرية الكبيرة حول مدينة طرابلس كانت تحيط بها من البحر إلى البحر، تبدأ بقلعة الحميدية على شاطئ البحر شرقاً، أمام إذاعة شارع الشط في مكان خزان الماء الذي أزيل مؤخراً بعد أن أزيلت هذه القلعة منذ العهد الإيطالي، مروراً بجنوب طرابلس حيث قلعة سيدي المصري على قمة إحدى هضاب أمانة الزراعة والتي هي أيضاً لم يعد لها أي أثر اليوم، ثم إلى الغرب حيث تتواجد 4 قلاع ليست بعيدة عن بعضها تنتهي بقلعة السلطانية بمحاذاة شاطئ البحر أزيلت هي أيضاً منذ العهد الإيطالي ولم يعد لها أثر اليوم، وواحدة أخيرة وسط البحر كانت حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي فوق جزيرة تبعد نحو 150 متر على الشاطئ، إنها برج "أبوليلة"، الذي تعرض لتشويه كبير منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي نتيجة تحويله إلى مقهى ونادي للغوص، إلا أنها تعرضت لخطر أكبر في أواخر السنة الماضية، إذ تهددتها الإزالة نهائياً ضمن ما أزيل من منشآت شاطئ البحر الطرابلسي، لكن جهود عدد من المخلصين لآثار طرابلس تكاثفت سريعاً وأشعر بالفخر أنني كنت أحد هؤلاء، فلم تنقذ هذه الجهود هذا الموقع بالغ الأهمية من الإزالة فقط بل ونجحت في وضع شاهد رخامي كبير حديث من شواهد مصلحة الآثار ذات النص الموحد الذي يؤكد حرمتها الأثرية
لكن إحساسي بالأسف على فقدان باقي هذه القلاع الطرابلسية جعلني أعوض لا شعورياً عنها بالعمل على محاولة كشف أماكنها وسط خارطة طرابلس الحديثة اليوم، مع حلم بعيد في إعادة بناءها، لا لتتولى عبء حماية طرابلس مجدداً وإنما لتصير نصب تذكارية سياحية تُذَكِّر بتاريخ هذه القلاع العريق وتحكي جزء من العسكرية الليبية القديمة ضمن مشروع سياحي تاريخي تثقيفي واعد.
وهكذا، من خلال مقارنات مضنية ما بين خرائطي العثمانية وخرائط جديدة نسبياً لمدينة طرابلس من التي تسمح بنسخها مصلحة المساحة توصلت إلى ترجيح قوي في مقال سابق لي ضمن عمودي الأثري الذي كتبته لصحيفة الشمس ما بين سنتي 2001 و2002 بأن مكان قلعة السلطانية هو إحدى الدارات الملاصقة لغرب المصيف العسكري، الذي تبين لي أنه أزيل مؤخراً هو كذلك! حينما نجحت في تحديد مصير هذه القلعة قلت لنفسي لأستمر في بحثي عن أماكن قلاع طرابلس الأخرى مبتدءاً بالتالية لها مباشرة إلى الجنوب، التي تعطيها الخرائط القديمة إسمين تركيين: نصرتية إستحكامي ونصرتية طابية سي
على أي حال الإسمين ليسا مختلفين عن بعضهما، فكلمة نصرتية كلمة تركية من أصل عربي تعني بوضوح: النُصْرَة، أي كل ما يُنْتَصر به، والقلاع يُنْتَصَرُ بها فعلاً إذا دخلت معركة أُحسن التخطيط لها برجال أُحْسِنَ تدريبهم، أما "إستحكامي" فكلمة تركية من أصل عربي آخر بمعنى إستحكام، أي قلعة، أي أن "نصرتية إستحكامي" تعني بالعربية: إستحكام النصرة، بينما طابية كلمة تركية بمعنى قلعة، والسي لاحقة النسبة في اللغة التركية، وهكذا فكل هذه المعني يوصلنا إلى اسم عربي واحد هو "قلعة النصرة" بحثاً عن أي معلومة متوفرة عن هذه القلعة غرقت طويلاً في صفحات الكتب التي توفرت بمكتبتي آنذاك، حتى وصلت إلى شمعة في الجزء الثاني من مؤلف المؤرخ الليبي الراحل أحمد النائب الشهير: المنهل العذب ساعدتني في توسيع فجوة ظلام النسيان الذي كان ومازال يلف هذه القلعة، في هذا الجزء علمت أنه بُدِءَ في إنشاءها في منطقة قرقارش في ثامن أشهر سنة 1882م، أي منذ 126 سنة، وفي شهر 11/1882 – أي بعد نحو 3 أشهر من البناء - إكتمل إنشاؤها، ثم زودها آمر الحامية العثمانية في طرابلس آنذاك الفريق زكي بمدافع "كروب" Krupp القلاعية، حيث "كروب" أسرة ألمانية اشتهرت بامتلاكها لأكبر المصانع لصنع الأسلحة الحربية، استقرت بمدينة "آسن" منذ القرن 16، ثم صار اسمها يطلق على مؤسسة كبرى لصناعة الحديد الصلب في صناعات حربية ومدنية منذ عام 1847م تُنْسَب إلى مؤسسها فريدريك كروب الذي توفي عام 1826م.
ظلت مدافع هذه الأسرة على قلعة النصرة وظلت هذه القلعة موجودة في الجغرافية والذاكرة الطرابلسية تمارس مهمتها الدفاعية العسكرية عن هذه المدينة حتى أول أيام الاحتلال الإيطالي المعاصر لليبيا، فقد عرفها الإيطاليون وذكروها في خرائطهم التي رسموها فيما بعد لبلادنا
كتاب مهم جداً آخر معرب عن التركية عرفت من خلال رسم صغير غير واضح فيه أن المسقط الرأسي لهذه القلعة قريب جداً من شكل المعين أو البكلاوة كما نسميه في لهجتنا الليبية، وكان من الممكن أن تكون فائدتي أكبر لو ذكر المعرب إسم هذا الكتاب الأصلي، إذ لكنت عدت إلى الأصل وعرفت ما إذا كان يحوي رسماً أكبر وأكثر وضوحاً أم لا، لكن جهدي ذهب هباءاً لأن النسخة المعربة لم تذكر إسم الكتاب الأصلي بالأحرف التركية الحديثة، وأحد المعربين توفي رحمه الله، والآخر غير ليبي غادر بلادنا منذ سنوات، أما مُراجِع الكتاب فلم أتمكن من التعرف عليه حتى اليوم! من خلال هذا المصدر علمت أن هذه القلعة كانت في 1911 مسلحة بمدافع مداها 2000 متر، إلا أنه كان مدى من القِصَر بحيث عجز عن إيصال قذائفه إلى السفن الإيطالية التي دمرت قلعته سريعاً وتركها جنودها وضباطها منذ اليوم الأول للاحتلال الإيطالي في 04/10/1911[4]
البحث عن النُصْرَة
فهل يا ترى تبقى من هذه القلعة أي شيء اليوم؟ حتى ولو لم يتبق منها شيء، أين هو مكانها اليوم ما بين مباني مدينة طرابلس الحديثة؟ أسفل دارات أم مبنى عام؟ لقد شدتني هذه الأسئلة بجدية حتى أنها أسرتني لأيام جعلت من المتعذر علي إهمال متعة أن أكون أول من يكشف بقايا أو على الأقل مكان هذه القلعة، كان دليلي الأول للبحث عنها هو معرفتي بحقيقة أن القلاع في طرابلس تُبْنَى عادة فوق هضاب طبيعية، فبدأت في البحث عن هضبة يمكن أن تكون قلعة النصرتية فوقها، لكنني تيقنت من أن المحاولة فاشلة لأن الموقع الذي تحدده الخرائط القديمة يختفي الآن وسط مساكن حي الأندلس بالمقارنة مع خرائط طرالبلس الحديثة نسبياً، حاولت عبر تجولي بسيارتي أكثر من مرة الكشف عن هضبة صغيرة تعلوها دارات، أو لعلني أصادف أي أثر لأي جدار قديم أو قاعدة جدار قديم إلا أن جميع محاولاتي فشلت، فاكتظاظ المنطقة بالشوارع والدارات أتلف تماماً شكلها الطبيعي القديم، فنسيتها مكرهاً لسنوات
المفاجأة كانت حينما أعلمني صديقي المهندس وجيه باش إمام بوجود بقايا قلعة عسكرية قديمة بداخل مستشفى ابن النفيس للأمراض العصبية والنفسية مستخدمة كمقر لقسم الحركة فيه، لم يكن يعرف اسمها ولا تاريخها ولا العصر الذي تنتمي إليه، كما لا يعرف إن كانت مازالت على قيد الحياة أصلاً! يومها سارعت إلى خرائطي أريد أن أرى إن كان يمكن أن تكون قلعتي المفقودة! بعد جهود استغرقت أيام تبيَّن لي احتمالية ذلك إلى حد بعيد، قلت في نفسي: حسناً، إذا وجدت هضبة تختفي وسط المستشفى ستكون هي هضبة قلعة النصرتية! صباح الخميس 12/4/2001 دخلت مستشفى قرقارش - كما يُعْرَف هذا المستشفى بشكل غير رسمي بين سكان المدينة – بغرض البحث عن هضبة هذه القلعة! لكنني لم أتمكن من مقابلة أي مسؤول فيه بحجج مختلفة، لذا اتجهت صوب الباب أريد الخروج محبطاً، في آخر لحظة خطر في بالي أن أسأل مسؤول البوابة عن مكان قسم الحركة لا أكثر، ما أن دلني عليه حتى سارعت إليه دون تردد، كانت الطريق إليه قصيرة ضيقة وذات ارتفاعات وانحناءات مختلفة، لكنني شعرت فجأة بزحمة من المشاعر السعيدة الغامرة تتكدس في حلقي حينما وصلت إلى نهاية هذا الطريق الأفعواني: لقد ظهر أمامي ليس فقط هضبة طبيعية بل فوقها جدار يبدو واضحاً أنه جزء من قلعة أثرية شامخة، ورغم الإضافات الحديثة القبيحة التي نكبت بها والتي لا تتماشى مع نسيج هذه القلعة العثماني الأثري إلا أنني لم أكن بحاجة إلى أي دليل إضافي، إنها قلعة النصرة بلا جدال طالما أن موقعها ينطبق تماماً مع موقع قلعة النصرة في خرائطي العثمانية، كما أن فتحات قنص البنادق العمودية التي تتخلل سورها تؤكد ذلك، كانت لحظة لا يمكنني نسيانها، فللمرة الأولى في حياتي أكتشف وجود موقع أثري صميم بالغ الأهمية لطالما سمعت عنه دون أن أراه يطل بقوة من العهد العثماني المنقضي، وأين؟ في قلب مستشفى يتربع على حافة حي سكني حديث! بالفعل من الصعب تصديق أن هذه القلعة نجت بأعجوبة من حملات التهديم الجاهلة التي تعرضت لها الكثير من آثارنا الأخرى، يبدو واضحاً أن سبب فلتانها هو تمدد أرض هذا المستشفى لدرجة أن صارت هذه القلعة وسطه، ليت كل مواقعنا الأثرية تتحول الى مستشفيات نفسية إذاً!!
ما أن خرجت من سيارتي من المستشفى تاركاً قلعته ورائي حتى جنح بي خيالي بعيداً، تخيلت الإضافات الحديثة عليها وقد أزيلت، وسورها القديم وقد ترمم، وبرز من سطحها نسخ نحاسية طبق الأصل من مدافع كروب وقد تم شراؤها من مخازن الشركة أو أحد متاحف ألمانيا، ثم شاهد رخامي ضخم معلق يمين مدخلها مكتوب عليه بالعربية والإنجليزية إسمها ودورها في مقاومة محاولات احتلال هذا البلد، كما تخيلت الهضبة الواقفة عليها وقد كسيت بعشب أخضر، أما السور الذي يحجب رؤيتها من خارج المستشفى فقد تم استبداله بسياج نباتي قصير يسمح برؤيتها من مجرد المرور من ذلك الطريق، أليس مشروع سياحي تاريخي يستحق بالفعل تحقيقه؟
ما هو مؤكد لي الآن هو أن عمر هذه القلعة هو 126 سنة، مليئة بقصص المقاومة البحرية العسكرية الشرسة للعديد من الأساطيل الحربية التي قصفت طرابلس، مما يعني إرتباطها بقوة بتاريخنا السياسي والاجتماعي رغم التشويه الفادح الذي تعرضت له ولازالت تئن منه، وبما أن أول تعريفين من المادة الأولى من قانون الآثار الليبي رقم 3 لسنة 1995 ينصان على:
- الأثر والآثار: كل ما أنشأه الإنسان أو أنتجه مما له علاقة بالتراث الإنساني ويرجع عهده إلى أكثر من 100 سنة
- الآثار العقارية: هي بقايا المدن والتلال الأثرية والقلاع والحصون والأسوار والمساجد والمدارس والأبنية الدينية والمقابر والكهوف سواء كانت في باطن الأرض أو على سطحها أو تحت المياه الإقليمية وكذلك المعالم ذات الطابع المعماري المميز والمواقع والشواهد التاريخية التي تتصل بجهاد الليبيين وكفاحهم وتجاربهم وترتبط بالتاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي للبلاد.
فإذاً هذه القلعة أثر ليبي دون حتى الحاجة إلى تشكيل لجان فنية للتحقق من هذه الحقيقة، لهذا ضمنت هذه القلعة ضمن الدراسة المفصلة التي قدمتها بتاريخ 27/08/2000 لأمين اللجنة الشعبية لشعبية طرابلس آنذاك باسم مشروع طرابلس الثقافية الذي يعرف بآثار طرابلس خارج مدينتها القديمة، حيث أوضحت فيه الأهمية الأثرية لهذا الموقع وحق المجتمع الليبي في إعادة توظيفه كمعلم أثري سياحي جديد من خلال خطة العمل البسيطة التي تخيلتها أعلاه دون حتى أن أكون عارفاً آنذاك بأنها قلعة النصرتية، أي أنني اكتفيت بأنها قلعة أثرية ليبية تحتاج إلى حماية دون حتى الحاجة إلى معرفة اسمها، لكنني لم أكتف بهذا المقترح الذي لم ينفذ للأسف، إذ بعد نحو ½ سنة، بتاريخ 06/02/2001 بالتحديد قدمت لرئيس مصلحة الآثار الليبية قائمة بآثار طرابلس غير المعروفة آنذاك من ضمنها هذه القلعة – قبل حتى زيارتي الشخصية لها بشهرين! - طالباً تسجيلها كآثار ليبية مشمولة بحماية قانون الآثار الليبي، وكم سعدت حينما صدر بتاريخ 10/04/2001 قرار رئيس مصلحة الاثار رقم 11 لذات السنة والذي يعتمد فيما يعتمد أثرية هذه القلعة باسم قلعة قرقارش، في حدث هو الأول في تاريخها
ثم كان لي موعد خاطف مع هذه القلعة يوم اتصل بي موظف ببلدية طرابلس مطلع على كتاباتي التاريخية أعلمني بزيارة طالبة من قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة له حول مشروع تخرجها الذي يشمل دراسة قلعة مستشفى ابن النفيس معمارياً، لكن تنقصها الخلفية التاريخية عن هذه القلعة، ولربما يمكنني مساعدتها في توفير مثل هذه الخلفية، قبلت مقابلة هذه المهندسة بسرور لأنني أنا أيضاً أرغب في الحصول على معلومات إضافية عنها، فلعلها اطلعت على ما لم أطلع عليه حول هذه القلعة، وهكذا التقيت بها صباح يوم 16 06 2001، وبعد أن أعطيتها ما أعرف من معلومات ضئيلة حول تاريخ هذه القلعة طلبت منها أن تعاملني بالمثل، إلا أنها تأسفت لأنه ليس لديها أي شيء تاريخي عن هذه القلعة، لذا طلبت منها أن تدعوني إلى يوم مناقشة مشروعها لعل معلوماتها تكون قد اكتملت آنذاك، إلا أن "م. أسمهان" نسيت وعدها هذا تماماً، هل غيرت مشروعها ولم يعد لها علاقة بهذه القلعة؟ أم أنها أكملته ونسيت دعوتي في زحمة إجراءات التخرج؟ لا أعرف، لكنني أتمنى أن تكون قد أتمت مشروعها وهو يحوي توصيات مفيدة عن هذه القلعة تعمل ليس فقط على الحفاظ عليها بل وإعادة توظيفها كمرفق سياحي ثقافي مميز، أتمنى أيضاً أن تكون من بين الذين يقرأون كلماتي هذه الآن لتخبرني بما فعلت مه هذه القلعة.
بعد أقل من شهر من هذه المقابلة، بتاريخ 11/07/2001 بالتحديد اتجهت إلى الليبيين جميعاً، حيث نشرت مقال عن هذه القلعة في العدد 2456 من صحيفة الشمس التي تصدرها المؤسسة العامة للصحافة الليبية ضمن سلسلة عمود أثري أعلمهم فيه بتاريخ هذه القلعة وأهميتها السياحية وأبشرهم بتحولها إلى موقع أثري، ثم أتت لعندي إضافة أخرى في تاريخ هذه القلعة بلا قصد، فبتاريخ 28 02 2005 اشتريت من معرض كتاب كلية الشرطة بطرابلس الغرب الأول كتاب حول تاريخ الشرطة في ليبيا ، في إحدى صفحاته لمحت صورة رديئة الإخراج بالأبيض والأسود مكتوب أسفلها: سجن فورتينو بي بمنطقة قرقارش، بدا لي واضحاً أن هذا الاسم إيطالي ويعني سجن القلعة باء، لكن الأهم من هذا هو أنني وجدت أن شكل هذا السجن مطابق تماماً لما رأيته من هذه القلعة التي تقع بالفعل في حي ومستشفى قرقارش، كما أنني وجدتها مُعَرَّفة في أكثر من خريطة إيطالية قديمة باسم القلعة باء FORTE B، فإذاً ها هو استخدام آخر معاصر لهذه القلعة حدث أيام الاحتلال الإيطالي لا أعرف عنه الكثير للأسف: سجن! يبدو أنه مصير حديث مماثل لمصير قلعة قرقارشية أخرى هي إحدى قلاع طرابلس الغربية الأربعة التي ذكرتها أعلاه بشكل سريع، وتعاني الكثير من الإجحاف اليوم أسوة بالكثير من الآثار الليبية الأخرى، فعلى الرغم من أنها مقامة على هضبة طبيعية أخرى وبالقرب من شارع غوط الشعال الرئيس إلا أنه من الصعب رؤيتها اليوم بعد أن طمست معالمها محلات سوق زرقاء اليمامة 2، وحينما كنت أكتب عمودي الأثري بصحيفة الشمس وصلتني رسالة من القارئ "حسن الصيد محمد علي عمر كريستة" يعرب فيها عن أسفه الشديد لحال هذا الموقع الذي وصله اليوم، كما يلوم مصلحة الآثار لأنها لم تقم بدورها تجاهه خصوصاً وأنه – كما أفادني مشكوراً - تحول على أيدي الإيطاليين إلى سجن للعشرات من الليبيين الشرفاء، كما شهد إعدام أكثر من مجاهد، من بينهم جد هذا القارئ لوالده رحمه الله وجده لأمه أيضاً الشهيد مفتاح بالعيد، عموماً ستكون لي وقفة طويلة مع هذه القلعة في كتاب لي حول آثار طرابلس خارج مدينتها القديمة أتمنى أن يرى النور قريباً طالما أنني أعتبرها مبنى تاريخي على أقل تقدير من مجرد هذه الإفادة المؤثرة من "حسن كريستة"
وحينما تعرفت على برنامج "جوجل" للصور الجوية تحصلت منه على الكثير من الدعم العلمي الدقيقي للكثير من دراساتي التاريخية، من بينها دراستي لهذه القلعة، إذ أنني أخذت صورة جوية لها عبر هذا البرنامج بغرض مقارنتها بالمخطط الذي تحصلت عليه من النسخة العربية لذلك الكتاب التركي الهام، فكان شكل "البكلاوة" يبدو بوضوح وسط المستشفى بالرغم من تعرضه لبعض الإضافات خارجه، لكن ثبت لي أيضاً أن المخطط إما أنه يؤرخ لمرحلة سابقة للقلعة أو أنه لم يكن دقيقاً، خصوصاً من جهة مدخل القلعة، إذ أن مشاهدتي الشخصية لهذا المدخل أثبتت لي أن بناؤه وفتحاته المطلة على جانبية مماثلة تماماً لشكل ومادة وقِدَم باقي السور القديم للقلعة، في دليل نهائي على أنها قلعة النصرة، وأنها باقية كما كانت والحمدلله (والله خسارة فادحة إذا فكر أحد في إزالتها!)
أخيراً، مساء الخميس الماضي الموافق 27 03 2008، بينما كنت أتجول صحبة العائلة بسيارتي في شوارع طرابلس بعد يوم مليء بالأحداث المحبطة رأينا أن نتصفح حال طرابلس ومبانيها وشوارعها لمعرفة أي المباني التي هدمت بعد آخر مرة تجولنا فيها منذ أيام، حينما دخلت حي الأندلس فوجئت بجزء من سور مستشفى ابن النفيس للأمراض النفسية وقد تراجع للخلف! لقد هدمت زاوية من سوره المرتفع وبني بدله سور أسمنتي جديد، بدا واضحاً أن الهدف هو توسيع هذا الشارع، حقيقة رحبت بالفكرة طالما أنها أصابت مبنى عام وهدفها المساهمة في حل مشكلة زحام المرور التي بدأت تؤلم طرابلس، لكنني قرأت خطفاً لافتة قرب هذا السور تفيد بوجود مشروع جديد يستهدف تحويل المستشفى أو الجزء المطل منه على الشارع إلى منتزه أو حديقة، كانت هذه اللافتة صغيرة ومرتفعة لأعلى والطريق مزدحم مما لم يسمح لي بمعرفة تفاصيلها، المهم أن هناك مشروع جديد يستهدف إقامة مكان ترفيهي سياحي، وهذا أيضاً مشروع جميل ورائع وننتظر مثيله منذ قرون، إلا أن قلبي صعد ونزل بعنف لأنني تذكرت أن خلف هذا السور بأمتار قليلة تقف قلعة النصرة التي مازالت تعاني ليس فقط من إهمال المسئولين لقيمتها الأثرية والسياحية بل بجهل الكثير من الليبيين بوجودها أصلاً! لذا قررت من فوري أن أدخل المستشفى بأي حجة كانت وأرى المصير الذي وصلته هذه القلعة، بالفعل دخلت ولم أجد أحد يعرقلني والحمد لله حتى وصلتها – أي قسم الحركة هناك، فوجدت أنها – والحمد لله – كما تركتها منذ 7 سنوات، وبما أن صوارتي تكون معي دائماً حينما أخرج من البيت سارعت إليها والتقطت لها الصور التي تراها مرفقة هنا
والآن أريدك أن تتمعن فيها جيداً لعلها تكون الصور الوحيدة الملونة التي أخذت لها، أو ربما الأحدث، أو الأخيرة! متمنياً أن يكون بإمكانك المساهمة في إنقاذها، على الأقل بإرسال نسخة من المقال لكل أصدقاءك ومعارفك، خصوصاً المهندسين المشرفين على مشروع منتزه مستشفى قرقارش هذا أو المشرفين على عمليات الهدم التي تشهدها طرابلس اليوم، ملاحظاً أن لك أجران إذا أصابت جهودك وأجر واحد هو أجر الاجتهاد إذا لم تصب، أي أنك كاسب في الحالتين، خسارتك هي في عدم التحرك وبقاءك سلبياً
..........المراجع..............
[1]) صحيفة الشمس، عدد 2468، صفحة 12، منشور بتاريخ 25 07 2001، وكذلك تصحيحات وإضافات لهذا الموضوع التي نشرتها ضمن هذا العمود في العدد 2540 الصادر بتاريخ 17 01 2001
[2]) النائب، أحمد بك، المنهل العذب/ تاريخ طرابلس الغرب، ج2، ط1، 1961، دار الفرجاني، طرابلس، ليبيا، ص 10
[3]) بلا إسم مؤلف، تاريخ القوات المسلحة التركية/الدور العثماني/الحرب العثمانية الإيطالية 1911-1912، (تعريب محمد الأسطى و د. علي اعزازي)، ط1، 1988، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، طرابلس، ليبيا، ص 187
[4]) بلا إسم مؤلف، تاريخ القوات المسلحة التركية/الدور العثماني/الحرب العثمانية الإيطالية 1911-1912، (تعريب محمد الأسطى و د. علي اعزازي)، ط1، 1988، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، طرابلس، ليبيا، ص 156
[5]) القماطي، عقيد عبدالفتاح عبدالله، جوانب من تاريخ الشرطة في ليبيا من سنة 1835 إلى سنة 2000 ميلادي، ط1، 2004، مطابع العدل والأمن العام، طرابلس، ليبيا، ص 114
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: مدونة ليبية تعنى بالاثار والفنون القديمة
موضوع قيم يستحق المتابعه ...مزيد من التقدم بعون الله تعالى
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
بوفرقه- مراقب
-
عدد المشاركات : 34697
العمر : 58
رقم العضوية : 179
قوة التقييم : 76
تاريخ التسجيل : 30/04/2009
مواضيع مماثلة
» مناطق أثرية ليبية...مدينة فرسطاء القديمة..هل تعرفها
» التاريخ والفنون والعمارة الليبية في إصدارات جديدة
» افتتاح معرض التراث والفنون ببيت الثقافة ببنغازي
» العمارة والفنون في إسبانيا
» للابداع فنون .. والفنون جنون...
» التاريخ والفنون والعمارة الليبية في إصدارات جديدة
» افتتاح معرض التراث والفنون ببيت الثقافة ببنغازي
» العمارة والفنون في إسبانيا
» للابداع فنون .. والفنون جنون...
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR