إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
+10
مثيل القمر
دلع ليبيا
ابن المنتدى
بوفرقه
زهرة اللوتس
رؤوف عوض الجبالي
STAR
فرج احميد
ابن ادم
عبدالحفيظ عوض ربيع
14 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
عبد القادر الجنابي
نص الملف الذي نشر في كانون الثاني 2004،
اعداد وتقديم عبدالقادر الجنابي: صحيحٌ أن مشاكل العرب عديدة ومتشعبة الأبعاد في هيكلية معقدة ما إن تتجلى حلول لها، حتى تتناسل مشاكل أخرى أكبر تعقيدا... وهذا يعني في العمق بون شاسع بين الرأي والرأي الآخر، بين الثقافة والسياسة، بين الوجدان العاطفي والوجدان المنطقي، بين الواقع وصورته الذهنية... بينما في الجانب الآخر من المرآة حيث اليائسون والحالمون يعتقدون أن مشاكل العرب مجرد مشاكل وهمية تنقشع بمجرد تغيير الحكومات، فلا حاجة للتساؤل ولا للجواب... ويكفي انقلاب سياسي، حرب على الأنظمة... ليكون العرب متحررين من هذه المشاكل!
نحن هنا في "إيلاف"، لا ندعي حل أي مشكلة بقدر ما نريد أن نخلق باستطلاع فكري مناسبةً للتأمل المثمر: يهمنا فتح مجال أكبر للتفكير الحر في مطارحة كل المسائل، مهما عظمت وصغرت. فكل مسألة، سواء كانت سياسية، فكرية، أدبية، فلسفية، فنية، غذائية، هي مسألة المجتمع بعينه: وأي مناقشة لها هي بالضرورة لحظة تماس مع جوهر بنية هذا المجتمع الذهنية، وبالتالي طريقة نظر أفراده إلى جل الأمور...
إن إحدى الخسائر الكبرى التي مني به العقل العربي في كل حروبه الإيديولوجية، هي فقدان حاسة التأمل الفردي؛ الإجماع عبر الأخذ والرد، التمحيص والنقد.. باختصار: التفلسف بالمعنى الكانتي للكلمة: "ماذا يمكنني أن أعرف، ماذا يجب أن أفعل، ماذا يمكنني أن آمل، ما الإنسان". أسئلة تتطلب أجوبة انثروبولوجية، دينية، أخلاقية وميتافيزيقية... انها جوهر أسئلة الحياة. ألم يقل ديكارت، عن حق، بأن "حضارة الأمة وثقافتها تُقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها". من هنا جاءت فكرة أن يكون لنا ملف مخصص لهذا السؤال الذي ليس له جواب قاطع بل شهادات مختلفة يماط بمجموعها اللثامُ عن كل الأسئلة الكامنة:
ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي؟
لِمَ لم تحظ الفلسفة في العصر الحديث، بمسار فكري مثمر عرفته الحضارة العربية في عهود تكونها فكرا وصراعا في لب مشاريعها الكلامية؟ كانت لنا بارقة أمل عندما انطلقت في أربعينات القرن الماضي حتى مطلع سبعيناته، حمى فلسفية تجلت بالشرح والتأويل والترجمة الدقيقة... كان هناك زكي نجيب محمود، توفيق الطويل، ابو العلا عفيفي، يوسف كرم، عثمان أمين، جميل صليبا، عبدالرحمن بدوي، زكريا إبراهيم، كمال يوسف الحاج والخ... أقلام سهرت ليالينا لخلق فكر يدأب على معاناة التفكير... مفكرون امتازوا بالتواضع وسمو المعرفة، اختاروا ان يعيشوا للفلسفة توغلا في مجاهل إنجاز الآخر الفلسفي للإتيان برؤيا جديدة. كم هي لحظة إنسانية ومثيرة للذهن والحواس، عندما لفت انتباهنا الدكتور الراحل زكريا إبراهيم بأن الحب مثلا مشكلة فلسفية... فأصدر عدة أجزاء تتناول الفن، الحياة، البنية... تحت عنوان "مشكلات فلسفية"... لكن، فجأة حل ليل بهيم لم تعد ثمة فرصة لـ"بومة منيرفا" الطيران فيه ( إشارة إلى مقولة هيجل: "بومة منيرفا لا تطير إلا عند حلول الليل"). سُدّت الأبواب وغابت الأسماء النبيلة وضاع كل إهتمام بهذه "المعرفة العقلية"، ولم يعد لمشروع الفلسفة، اليوم، سوى "نساخ ومنافقين" أغرقونا بتخريجاتهم الماضوية لا يرون شيئا جديدا أبعد من أرنبة أنوفهم إذ كل شيء موجود في ذاك التراث الذي يتغذى منه الظلاميون... وإن تجرأ أحدهم على نقل الآخر فليس لغاية معرفية وإنما لاجتثاثه وتشويهه تعريبا وتخريبا.
ماذا حلَّ بالفلسفة في العالم العربي؟ هل لدينا فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: أين هي اليوم؟ ما هي انجازاتها اليوم؟ غائبة - حاضرة... أم ان لغوا قائما على مجرد لحظات عرف ماضينا السحيق بعض إشكالياتها، نعتبرها فلسفة.
الفلسفة وما ادراك مالفلسفة... إنها مصطلح العقل بامتياز يعبر عن أفضل ما يعيشه المجتمع من حركة طبيعية تنافضاتها تاريخية. أين هي هذه الحركة وأين فكرها؟ لكي ندخل التاريخ علينا أن نشعر فكرا وممارسة بهذا المصطلح الذي غالبا ما يُطلق جزافا في الأدبيات العربية السائدة.
ماذا حلَّ بالفلسفة في العالم العربي؟ سؤال كبير تتفرع منه كل الأسئلة المتلهفة لأجوبة تشفي الغليل... ومع هذا فليس هناك أجوبة نهائية.. بل مجاذبات تأمّلية علها تجعل العينَ ترى أبعد، والأذن تلتقط أبعد من الإصغاء...أن تستحث العربي إلى استجلاء معنى مجيئه إلى هذا العالم؛ قيمة فرديته الخلاقة: أن يخرج من تراب الأسطورة الى فضاء التفكير..
عبد الرحمن طهمازي
محاولات في خدمة الفلسفة وفي الاستهلاك اللا فلسفي
من الممكن رصد الفارق الثقافي بين الاجيال العربية عبر اتجاهات الاستهلاك في الثقافة المتمثلة نسبيا في القراءة، او في اعاده الانتاج، كما هو الحال في الترجمة والعرض والاعداد، او في الانتاج، أي في التأليف المبتكر او التأليف المجاور.
وليس من الصعب على المراقب ان يقر بان وضع الفلسفة ضمن هذه الاتجاهات هو وضع ذو دلالات مزدوجة ولا يخرج ايضا عن مجمل الاتجاهات المذكورة، فمن جهة، لم تتمتع الفلسفة بالحرية والاستقلال التام، وتشاطرها حقول المعرفة الاخرى في ذلك على نحو اقل تشددا، كما ان الفلسفة عانت من العزلة عن بقية الحقول، وبقي العاملون فيها مؤلفين لكتب تعريفية او مترجمين اكاديميين، او ناشرين تنويريين اما ان يكونوا فلاسفه بالمعنى الاصطلاحي، فذلك جهد لم يتضح الا منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وبشكل محدود اكتسب شيئا فشيئا حق الاعتراف من المؤسسات التعليمية ودور النشر وفي عدد قليل من البلدان العربية، وفي كل الاحوال، فأن الخدمة الفلسفية هي اكثر ما يميز عمل الذين يعنيهم الامر، وهي خدمة ضرورية ولها الاولوية في مجتمعات يتفاوت فيها تقدير الثقافة والعلم ويختلط بالحاجات المباشرة والهيبة وليس لها حاجات معلنة الى العمل النوعي الحر والمستقل والذي توضع الفلسفة عادة في صدره.
بدأ احمد لطفي السيد بترجمة ارسطو الذي كان متداولا في ترجمات ومؤلفات اسلامية وتجهز المصريون والسوريون والعراقيون واللبنانيون بالتعلم الفلسفي فترجموا وعرضوا واعدوا وألفوا، ولا بد ان القارئ العربي، الذي بدأ تعطشه الادبي المشبوب الى الفلسفة في ستينيات القرن العشرين، كان يتطلع الى تراث فلسفي مستقل فلما لم يجده جاهزا لجأ الى الترجمات وكتب التعريفات وبعض الجهود الاصيلة، وقد سد الحاجة مترجمون ومؤلفون شكل بعضهم تراثا منذ الاربعينيات : عبد الرحمن بدوي، يوسف كرم، جميل صليبا، عبد العزيز البسام، سامي الدروبي، كمال الحاج، محمد عزيز الحبابي، بديع الكسم اضافة الى : زكريا ابراهيم، فؤاد زكريا، ماجد فخري، واخرين لا يقل اثرهم في التنوير والاثارة والترويج.
وقد كان من الواضح ان القارئ العربي صار اكثر استهلاكا للفلسفة انطلاقا من حاجات عميقة وملحة تحدوها تطلعات متعدده : سياسية، وفردية، وادبية.. الخ.. وكان يتجه الى الشذرات الشعريه والمسكوكات اللغوية ذات القابلية على اختزال الوعود النفسية والانسانية العامة، وكان نيتشه وبرغسون وسارتر بين الاسماء المتداوله، وقد اثارت بعض عبارات هيغل وماركس شيئا من الفضول الثقافي وترجم عدد من مؤلفات رسل، ووايتهيد، ونشر فؤاد زكريا كتابه عن سبينوزا، وصار من الممكن ان يفهم القارئ تاريخ الفلسفة على نحو ما، وان كانت خلفيات الفهم متقطعة، وفي حقيقه الامر، كان الترويج للفلسفة يمر غالبا الى عموم القراء بشئ من الاستغفال او بشئ من التبسيط المسيئ، خاصة اذا جرى ذلك باقلام لا تراعي تماما دوافع الفلاسفة المعنيين او مبادئ الاستقلال التي يتحلون بها.
كانت هناك حلقات اوسع للاهتمام بالفلاسفة الفرنسيين اذا كانت اهتماماتهم عامة ولغتهم تشجع على التداول العام، كذلك ببعض الفلاسفه الالمان المتجهمين، اما الحلقات الاضيق فقد انصرفت الى الاخرين الذين وجدت مؤلفاتهم صعوبة في التلقي.كان سارتر يشيع ادبيا، ولم يكن جذابا من الوجهة الفلسفيه، اما ميرلوبونتي، او جان فال او الن..الخ.. فأنهم تمتعوا بحصانه لم يستطع القارئ تخطيها الا لماما وفي الدوائر المتخصصة او المجاورة. وهذه هي حال البقية.
ومن الملاحظ ايضا، ان الفلسفة الانكلوسكسونية، والتحليلية منها على وجه الخصوص، لم تأخذ حصتها لدى القارئ العربي وهكذا فأن رسل اووايتهيد او مور او بيرس او اير او فيجنشتين لم يستطيعوا ان يخرجوا بعيدا عن الحلقات شديدة الضيق، وهذا امر قد يبدو ملائما وهذا هو ايضا شأن بعض الفلاسفة الالمان والفرنسيين و الاسبان والاميركيين.
فلا بد من التساؤل عن الاسباب غير الفلسفية التي لم تساعد هيوم، او يبنتز، او كانط،او ديكارت، او هوسيرل، في ان يكونوا في مجمل التداول الثقافي العربي وهل هي شبيهة بالتاريخ الخاص لكل منهم ؟. علما ان فلسفات مشتقة من افكارهم تتدفق في العبارات الثقافية العامة، وان كان الاستهلاك يحمل طابع المودات في معظم الحالات، التي ما ان تروج حتى تنحسر.
ومن المهم، في ما ارى، ملاحظة حجم الانجذاب نحو فلسفة العلوم، ونحو المنطق، فثقافتنا بعيدة الى حد بعيد، بسبب المؤ سسات او لاسباب اوسع واخطر، عن القواعد التي يعمل عليها فلاسفه العلوم الطبيعية و الانسانية كما انها متأثرة بالسياقات غير المنطقية في الحقول التي تحتاج الى المنطق احتياجا لا زبا، مع انه قد ظهرت ترجمات وتعريفات، فقد ترجم توماس كون وكارل بوبر واشياء اخرى ذات اهميه، ونشرت استعراضات وتواريخ ذات فائدة، ولا بد من التذكير انه لا يكفي التطلع والفضول مالم تولد حاجات للتلقي وحاجات للانتاج وميكانيزماته.
اذا كان للمرء ان يقول كلمة هنا، فأن ادارة الدفة، في الثقافة الفلسفية العربية، مازال يقع في منطقة المنعطفات الحرجة، وهذه الثقافة، على حاجتها، تعاني ايضا من عدم الاكتراث بانتاج فلسفة، كما ان تلقيها محكوم بظروف ملتبسة، ومع كل ذلك، نحن العرب اللذين اشتهرنا بتبديد التراكمات وبالتالي لم نقبض تعويضاتها، اقول: مع ذلك.. هناك الذين عملوا، ولا يزالون يعملون.. والتجدد يلوح هنا وهناك مصارعا، ومكتسبا بعض قواه.. الم يقل غرامشي عن الفلسفه، في مقابلته بين العقل و الارادة :انها تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة ؟. انها ليست التشاؤم المعزول بل المقرون بأرادة متفائلة، وليست ايضا الارادة المتفائلة في عزلتها.. واعتقد اننا بحاجة الى الفهم المزدوج، او المضاعف او المجادل الذي يحمله كل فيلسوف على حدة، وتحمله الفلسفة من حيث كونها تاريخا للفلاسفة انفسهم، كما هو الدرس المنقول عن نيتشه.
***************
د. شاكر النابلسي: بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة
كلمة فلسفة Philosophy في اللغة يونانية تعني المحب للحكمة. فمعنى Philo هو المحب أو المفتون وكلمة Sophy تعني الحكمة. وفي القرآن الكريم اشارات كثيرة إلى الحكمة بلغت عشرين اشارة. فمهمة الرسول في الإسلام ليس أن يتلو الكتاب ويعلّم المسلمين ما في هذا الكتاب ولكن ليعلمهم أيضاً الحكمة (يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) (سورة البقرة، آية 151). واعتبر القرآن أن الحكمة مصدراً كبيراً من مصادر الخير ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (سورة البقرة، الآية 269) ووضع القرآن الحكمة بمقام الكتب السماوية من حيث ضرورتها للرسل لاستقامة الحياة ونشر المعرفة والخير (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) (سورة آل عمران، الآية 48) مما يعني أن الله قد أمرنا بالتفلسف أي في البحث والنظر وإعمال العقل في أمور مختلفة. ولكن هذا الأمر الإلهي بالتفلسف لم نعمل به نحن الأمة العربية كما لم نعمل في أمور كثيرة أمرنا بها الله، فكنا من البؤساء وضُرب على فلسفتنا - إن وُجدت - البؤس والضحالة وقلة المعرفة، وغلب عليها التجميع وكتابة تاريخها فقط كما سنرى بعد قليل. وازدريت الفلسفة عند العرب في العصر الحديث ومنع تدريسها في معظم المدارس العربية وحرمت بعض الدول العربية تدريسها في جامعاتها والغت فروع الفلسفة من هذه الجامعات، واحتقرت الأنظمة الديكتاتورية الفلسفة واطلقت على كل عامل بالفلسفة ألقاباً لا تليق به، واعتبرتها سفسطة وكلام العاطلين عن العمل وزبائن مقاهي الرصيف. كما احتقرت المؤسسة الدينية العربية الفلسفة واعتبرتها من تراث الغرب الكافر، ومن أسباب الغزو الثقافي للعالم العربي، وأطلقت على من يعمل بها بالزندقة، وقالوا قولتهم الشهيرة "من تمنطق فقد تزندق". واختفى من حياتنا العربية الحديثة الحكيم الفيلسوف في كافة مجالات الحياة. وأصبحت الفلسفة العربية في البؤس الذي هي فيه الآن.
فما هي مظاهر بؤس “الفلسفة” العربية الحديثة – إن وُجدت - وما هي أسبابه؟
***
مظاهر هذا البؤس تتركز فيما يلي:
1- أن العمل العربي في مجال الفلسفة ما زال حتى الآن وبعد مضي أكثر من مائة سنة في المرحلة المبكرة للتفلسف. فما زال في مرحلة الجمع والتقميش والتوليف والتأريخ. ولم يصل بعد إلى مرحلة انتاج فلاسفة لأن انتاج الفلاسفة له شروطه التي سوف نشرحها من خلال بيان مظاهر بؤس الفلسفة العربية الحديثة.
2- انحصار الفلسفة الإسلامية في علم الكلام "الحذر" وفي التصوف "الحذر". ونقول هنا "الحذر" لأن علم الكلام علم مرفوض في بعض الدول العربية ولا مجال لتدريسه كما أن التصوف وكلمة صوفية من الموبقات، ومن الكبائر في بعض البلدان العربية. فحتى ما يُسمى بالفلسفة الإسلامية مرفوض في هذه الدولة، ولا مجال لتدريسه أو الكتابة فيه، أو السماح بدخول كتبه إلى تلك البلاد العربية. وكان أبرز من عملوا في مجال "الفلسفة" الإسلامية و"فلسفة" التصوف جمعاً وتوليفاً وتاريخاً، دون اضافة الجديد، هم من المثقفين المصريين أمثال أبو العلا عفيفي، ومصطفى حلمي، وعبد الحليم محمود، وغيرهم.
3- انحصار العمل في مجال الفلسفة في مجال تاريخ الفلسفة، سواء كان هذا التاريخ عربياً أم غربياً. فقد انتجنا كماً لا بأس به من تاريخ الفلسفة تقميشاً وتوليفاً، ولم ننتج فكراً فلسفياً جديداً. وكان أهم من كتبوا في تاريخ الفلسفة العربية والغربية، يوسف كرم اللبناني، ومصطفى عبد الرازق المصري وغيرهما.
4- اطلاق كلمة فيلسوف على كل داعية متواضع من دعاة الاصلاح السياسي أو الاجتماعي أو الديني. فنطلق على شبلي شميّل مثلاً لقب فيلسوف، لأنه اقتنع بمبدأ النشوء والارتقاء وتوسّع فيه، ونشره في العالم العربي. ونطلق على فرح أنطون لقب فيلسوف، لأنه دعا إلى اقامة المجتمع على أساس العلم الاجتماعي المبني على فلسفة النشوء والارتقاء. ونطلق لقب فيلسوف على اسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب "أصل الأنواع" لدارون.
5- نحسب أن كل داعية ديني حاول أن يستعمل العقل في تطوير نظرة الدين إلى الحياة من الفلاسفة. فالشيخ محمد عبده يعتبر في رأي البعض من الفلاسفة، ومحمد فريد وجدي من الفلاسفة، والشيخان علي عبد الرازق وخالد محمد خالد من الفلاسفة. وكل من دعا دعوة اصلاحية اعتُبر من الفلاسفة. في حين أن الفيلسوف في الميزان القويم هو المحب لرؤيا الحقيقة كما قال أفلاطون في (الجمهورية).
6- نحسب أن كل من كتب في الفلسفة وأعلامها ومدارسها واتجاهاتها، أو درّسها في الجامعات أصبح فيلسوفاً. فنحن نطلق على عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم فلاسفة، من حيث أن هؤلاء كانوا مدرسين للفلسفة. فلكي تكون فيلسوفاً لا يكفي أن تملك افكاراً نيرة وأن تتعلم في مدرسة أو تُعلّم الفلسفة في مدرسة. فالمدارس لا تُخرّج أدباء، ولا فنانين، ولا فلاسفة كذلك.
7- عملت مجموعة من الباحثين العرب في مجال الروحانيات إما من باب الدرس، أو من باب التصوف والتوليف والتوفيق. وقرأنا الاتجاه الروحي من قبل مُدرسي الفلسفة والعاملين في تاريخها كرينه حبشي وعثمان أمين وعباس العقاد وغيرهم. وهؤلاء لم يأتوا لنا بانجازات فلسفية جديدة بقدر ما كان لهم شذرات فلسفية متفرقة، لا تتعدى أن تكون خواطر تأملية وجدانية في الحياة والكون، أسرعنا فتلقفناها، وأطلقنا عليها فلسفة وعلى من جاءوا بها فلاسفة، كعادتنا في اطلاق مثل هذه الأحكام على أبسط الأفكار، وأكثرها سذاجة.
8- لعل أبرز العاملين وأنشطهم وأغزرهم انتاجاً في مجال التأليف التاريخي الفلسفي كان عبد الرحمن بدوي. ولعل بدوي - في رأي كثيرين وخاصة في مصر - كان من أكثر من عملوا في البحث الفلسفي اقتراباً من أن يكون فيلسوفاً وجودياً من خلال كتبه المختلفة: "الزمان الوجودي"، و "هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟"، و "دراسات في الفلسفة الوجودية"، و "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي". ونرى من خلال هذه الكتب أن بدوي لم يقدم لنا اضافة جديدة عما قام به فلاسفة الوجودية في الغرب، بقدر ما قدم لنا ما قاله وما فكر فيه هؤلاء الفلاسفة وما ابتدعوه من جديد على الفكر الفلسفي الانساني.
***
وإذا كانت هذه هي مظاهر بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة، فما هي أسباب هذا البؤس؟
للبؤس أسباب كثيرة منها:
1- أن الدماغ العربي الآن في مرحلة الدماغ الانفعالى والغريزي، وهما مرحلتان من مراحل تطور الدماغ، يشترك فيهما الانسان مع الحيوان، ولم يرقَ الدماغ العربي بعد إلى الدماغ العاقل الراشد المدرك الذي يميز الانسان عن الحيوان. فنحن نتعامل مع حياتنا في معظم المجالات تعاملاً عاطفياً غرائزياً بعيداً عن إعمال العقل فيها. نحن لسنا أمة التحليل، والبحث، والدرس. نحن أمة الحب أو الكراهية، الدفاع أو الهجوم، الإيمان أو التكفير، اليمين أو اليسار. حركة الفكر لدينا هي حركة اجترار الماضي فقط، وليس استنطاق المستقبل. نحن سجناء الماضي بقوة قاهرة عابرة للتاريخ. تراثنا فقط هو ملجأنا الوحيد ضد الأخطار التي تحدق بنا، وحين تعصف بنا العواصف، وتشتد علينا الأعاصير.
2- انتشار الأميّة في العالم العربي الذي وصلت حتى الآن إلى خمسين بالمائة بين الذكور وستين بالمائة بين الإناث حسب تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة في 2002. وأمة تنتشر فيها الأميّة بهذه النسبة الكبيرة، وينحطُّ فيها التعليم، وتنحطُّ فيها التربية نتيجة لقلة المال المصروف على التعليم وسوء المناهج التعليمية، لا بُدَّ أن تعاني فيها الفلسفة من بؤس كبير.
3- يقوم الازدهار الفلسفي في أمة من الأمم على ازدهار حركة الترجمة. ولقد كان لازدهار حركة الترجمة في العصر العباسي وفي عهد المأمون بشكل خاص أثر كبير على الفلسفة الإسلامية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وكون الأمة العربية الآن هي من أقل الأمم على وجه الأرض حركة ونشاطاً في مجال الترجمة حسب تقرير التنمية البشرية للأم المتحدة لعام 2002، فإن النشاط الفلسفي العربي قد تأثر بضعف وبؤس حركة الترجمة. فيما لو علمنا أن الفلسفة لا تزدهر إلا في ظل تلاقح الثقافات الناتج عن الترجمة المتبادلة.
4- معظم الذين يعملون في مجال الفلسفة من مدرسين وباحثين في تاريخ الفلسفة، هم من موظفي الدولة العربية التي تنظر إلى هؤلاء نظرة ريبة وشك، باعتبارهم مصدر القلق الرئيسي للسلطة. ومن هنا قامت معظم السلطات العربية بمنع تدريس الفلسفة في مدارسها وجامعاتها. وقالت بأن "الباب الذي تأتي منه الريح لنغلقه ونستريح." وهؤلاء الباقون في مجال الفلسفة وتدريسها موظفون يتجنبون حبَّ الحكمة التي هي لبُّ الفلسفة، ويعتنون فقط بتاريخ الفلسفة دون ابداعها، وبالمدارس الفلسفية دون ايجاد مدارس جديدة، خوفاً من بطش السلطة المحكومة في معظم العالم العربي للمؤسسة الدينية التي تعادي الفلسفة عداءاً كبيراً، وتعتبر الفلاسفة – إن وُجدوا – هم من الملاحدة والمارقين من الدين، وهم بالتالي من المنافسين لها في الامتيازات السياسية والمادية والاجتماعية والإعلامية. ولم تفطن المؤسسات الدينية إلى مقولة فرانسيس بيكون (1561-1626) وهي أن قليل من الفلسفة ينحدر بالانسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يرفع الانسان إلى قيم الدين. ومن هنا رمت المؤسسة الدينية الفلاسفة بأنهم اليساريون الانقلابيون، وأن الدراسات الدينية وحدها هي الجديرة بالعناية والرعاية والدعم.
5- الثقافة العربية الحديثة هي أشبه بالثقافة العربية في العهد العثماني. ومن يقرأ كتابنا (عصر التكايا والرعايا – وصف المشهد الثقافي في بلاد الشام في العهد العثماني 1517-1918) سوف يجد أننا ما زلنا نعيش ثقافياً في العهد العثماني من حيث أن ثقافتنا ثقافة تعتمد على السحر والشعوذة والخرافة والتقديس، والانفعالية والغريزية والشعارات، والأحكام المُسبقة. والفلسفة هي التي تعلمنا كيف نجيب على كل سؤال بعقل منفتح وخالٍ من النظريات المسبقة، اجابة تعتمد على المعلومة والتجربة الحية.
6- انتشار الفلسفة في مجتمع ما يعني انتشار الحرية وعلامة من علامات انفتاح المجتمع على العالم القريب والبعيد. قال برتراند راسل (1872-1970) إن الفلسفة منذ القدم لها هدفان: الأول، فهم تركيب هذا الكون. والثاني، اكتشاف انجع الوسائل الممكنة للحياة الأفضل. وهذا يتطلب حرية كبيرة في التفكير والسلوك.
7- إن بؤس التربية والتعليم العربي قادا إلى بؤس الفلسفة. فالتعليم العربي الذي يُوصف بالانغلاق والتقوقع وتكفير الآخر ومعاداته قاد إلى إلغاء الفلسفة من كثير من المناهج العربية، مما أدى تشويه العملية التربوية وافسادها، وقاد ايضاً إلى تخريج أجيال الاجترار والتلقين، لا أجيال التفكير والابداع التي تعرف كيف تصل بين نقطتين من أقرب المسافات، وهي مهمة الفلسفة في أن تعلمنا اياه، كما قال جبران خليل جبران (1883-1931).
8- انتشار مفهوم أن الفيلسوف هو الحكيم في الثقافة العربية في حين أن الفيلسوف هو محب الحكمة والباحث عنها كما أسلفنا. ومن خلال هذا المنظور المغلوط للفيلسوف اصبحت الفلسفة من الترهات حيناً ومن المعارف المترفات حيناً آخر، من حيث هي تجريدية ومثالية.
9- ان علاقة الفلسفة بالسياسة علاقة وثيقة منذ أيام الإغريق، مما جعل السلطات العربية والمؤسسات الدينية تضع حظراً كبيراً على الفكر الفلسفي كما أنها تضع الحظر نفسه على الفكر السياسي. فهدف الفلسفة هو اخضاع السلطة السياسية من أجل مصلحة الفرد كما قال ألن بلوم (1930-1992). فكما أن السياسة نجاسة كما تقول العامة فإن الفلسفة سفسطة وضياع الوقت، كما تقول الامة نفسها.
وأخيراً، يقول سقراط (470-399 ق. م) إن الفلسفة تبدأ من الشك والسؤال، وليس من اليقين والجواب الجاهز. والثقافة العربية في ماضيها وحاضرها هي ثقافة الأجوبة الجاهزة واليقينات التامة. فلكل سؤال في الثقافة العربية جواب جاهز، لا يدع مجالاً للسؤال لكي يزوغ أو يفلت يمنة ويسرة. وتلك احدى عوائق تقدم العقل العربي الذي تآكل بفعل الصدأ الناجم عن عدم البحث عن أجوبة جديدة للأسئلة القديمة والجديدة. فالعقل كالضرع، إذ لم تحلبه كل يوم، جفَّّ وتيبّس، وأصبح كحبة جوز الهند الفارغة.
عبد القادر الجنابي
نص الملف الذي نشر في كانون الثاني 2004،
اعداد وتقديم عبدالقادر الجنابي: صحيحٌ أن مشاكل العرب عديدة ومتشعبة الأبعاد في هيكلية معقدة ما إن تتجلى حلول لها، حتى تتناسل مشاكل أخرى أكبر تعقيدا... وهذا يعني في العمق بون شاسع بين الرأي والرأي الآخر، بين الثقافة والسياسة، بين الوجدان العاطفي والوجدان المنطقي، بين الواقع وصورته الذهنية... بينما في الجانب الآخر من المرآة حيث اليائسون والحالمون يعتقدون أن مشاكل العرب مجرد مشاكل وهمية تنقشع بمجرد تغيير الحكومات، فلا حاجة للتساؤل ولا للجواب... ويكفي انقلاب سياسي، حرب على الأنظمة... ليكون العرب متحررين من هذه المشاكل!
نحن هنا في "إيلاف"، لا ندعي حل أي مشكلة بقدر ما نريد أن نخلق باستطلاع فكري مناسبةً للتأمل المثمر: يهمنا فتح مجال أكبر للتفكير الحر في مطارحة كل المسائل، مهما عظمت وصغرت. فكل مسألة، سواء كانت سياسية، فكرية، أدبية، فلسفية، فنية، غذائية، هي مسألة المجتمع بعينه: وأي مناقشة لها هي بالضرورة لحظة تماس مع جوهر بنية هذا المجتمع الذهنية، وبالتالي طريقة نظر أفراده إلى جل الأمور...
إن إحدى الخسائر الكبرى التي مني به العقل العربي في كل حروبه الإيديولوجية، هي فقدان حاسة التأمل الفردي؛ الإجماع عبر الأخذ والرد، التمحيص والنقد.. باختصار: التفلسف بالمعنى الكانتي للكلمة: "ماذا يمكنني أن أعرف، ماذا يجب أن أفعل، ماذا يمكنني أن آمل، ما الإنسان". أسئلة تتطلب أجوبة انثروبولوجية، دينية، أخلاقية وميتافيزيقية... انها جوهر أسئلة الحياة. ألم يقل ديكارت، عن حق، بأن "حضارة الأمة وثقافتها تُقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها". من هنا جاءت فكرة أن يكون لنا ملف مخصص لهذا السؤال الذي ليس له جواب قاطع بل شهادات مختلفة يماط بمجموعها اللثامُ عن كل الأسئلة الكامنة:
ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي؟
لِمَ لم تحظ الفلسفة في العصر الحديث، بمسار فكري مثمر عرفته الحضارة العربية في عهود تكونها فكرا وصراعا في لب مشاريعها الكلامية؟ كانت لنا بارقة أمل عندما انطلقت في أربعينات القرن الماضي حتى مطلع سبعيناته، حمى فلسفية تجلت بالشرح والتأويل والترجمة الدقيقة... كان هناك زكي نجيب محمود، توفيق الطويل، ابو العلا عفيفي، يوسف كرم، عثمان أمين، جميل صليبا، عبدالرحمن بدوي، زكريا إبراهيم، كمال يوسف الحاج والخ... أقلام سهرت ليالينا لخلق فكر يدأب على معاناة التفكير... مفكرون امتازوا بالتواضع وسمو المعرفة، اختاروا ان يعيشوا للفلسفة توغلا في مجاهل إنجاز الآخر الفلسفي للإتيان برؤيا جديدة. كم هي لحظة إنسانية ومثيرة للذهن والحواس، عندما لفت انتباهنا الدكتور الراحل زكريا إبراهيم بأن الحب مثلا مشكلة فلسفية... فأصدر عدة أجزاء تتناول الفن، الحياة، البنية... تحت عنوان "مشكلات فلسفية"... لكن، فجأة حل ليل بهيم لم تعد ثمة فرصة لـ"بومة منيرفا" الطيران فيه ( إشارة إلى مقولة هيجل: "بومة منيرفا لا تطير إلا عند حلول الليل"). سُدّت الأبواب وغابت الأسماء النبيلة وضاع كل إهتمام بهذه "المعرفة العقلية"، ولم يعد لمشروع الفلسفة، اليوم، سوى "نساخ ومنافقين" أغرقونا بتخريجاتهم الماضوية لا يرون شيئا جديدا أبعد من أرنبة أنوفهم إذ كل شيء موجود في ذاك التراث الذي يتغذى منه الظلاميون... وإن تجرأ أحدهم على نقل الآخر فليس لغاية معرفية وإنما لاجتثاثه وتشويهه تعريبا وتخريبا.
ماذا حلَّ بالفلسفة في العالم العربي؟ هل لدينا فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: أين هي اليوم؟ ما هي انجازاتها اليوم؟ غائبة - حاضرة... أم ان لغوا قائما على مجرد لحظات عرف ماضينا السحيق بعض إشكالياتها، نعتبرها فلسفة.
الفلسفة وما ادراك مالفلسفة... إنها مصطلح العقل بامتياز يعبر عن أفضل ما يعيشه المجتمع من حركة طبيعية تنافضاتها تاريخية. أين هي هذه الحركة وأين فكرها؟ لكي ندخل التاريخ علينا أن نشعر فكرا وممارسة بهذا المصطلح الذي غالبا ما يُطلق جزافا في الأدبيات العربية السائدة.
ماذا حلَّ بالفلسفة في العالم العربي؟ سؤال كبير تتفرع منه كل الأسئلة المتلهفة لأجوبة تشفي الغليل... ومع هذا فليس هناك أجوبة نهائية.. بل مجاذبات تأمّلية علها تجعل العينَ ترى أبعد، والأذن تلتقط أبعد من الإصغاء...أن تستحث العربي إلى استجلاء معنى مجيئه إلى هذا العالم؛ قيمة فرديته الخلاقة: أن يخرج من تراب الأسطورة الى فضاء التفكير..
عبد الرحمن طهمازي
محاولات في خدمة الفلسفة وفي الاستهلاك اللا فلسفي
من الممكن رصد الفارق الثقافي بين الاجيال العربية عبر اتجاهات الاستهلاك في الثقافة المتمثلة نسبيا في القراءة، او في اعاده الانتاج، كما هو الحال في الترجمة والعرض والاعداد، او في الانتاج، أي في التأليف المبتكر او التأليف المجاور.
وليس من الصعب على المراقب ان يقر بان وضع الفلسفة ضمن هذه الاتجاهات هو وضع ذو دلالات مزدوجة ولا يخرج ايضا عن مجمل الاتجاهات المذكورة، فمن جهة، لم تتمتع الفلسفة بالحرية والاستقلال التام، وتشاطرها حقول المعرفة الاخرى في ذلك على نحو اقل تشددا، كما ان الفلسفة عانت من العزلة عن بقية الحقول، وبقي العاملون فيها مؤلفين لكتب تعريفية او مترجمين اكاديميين، او ناشرين تنويريين اما ان يكونوا فلاسفه بالمعنى الاصطلاحي، فذلك جهد لم يتضح الا منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وبشكل محدود اكتسب شيئا فشيئا حق الاعتراف من المؤسسات التعليمية ودور النشر وفي عدد قليل من البلدان العربية، وفي كل الاحوال، فأن الخدمة الفلسفية هي اكثر ما يميز عمل الذين يعنيهم الامر، وهي خدمة ضرورية ولها الاولوية في مجتمعات يتفاوت فيها تقدير الثقافة والعلم ويختلط بالحاجات المباشرة والهيبة وليس لها حاجات معلنة الى العمل النوعي الحر والمستقل والذي توضع الفلسفة عادة في صدره.
بدأ احمد لطفي السيد بترجمة ارسطو الذي كان متداولا في ترجمات ومؤلفات اسلامية وتجهز المصريون والسوريون والعراقيون واللبنانيون بالتعلم الفلسفي فترجموا وعرضوا واعدوا وألفوا، ولا بد ان القارئ العربي، الذي بدأ تعطشه الادبي المشبوب الى الفلسفة في ستينيات القرن العشرين، كان يتطلع الى تراث فلسفي مستقل فلما لم يجده جاهزا لجأ الى الترجمات وكتب التعريفات وبعض الجهود الاصيلة، وقد سد الحاجة مترجمون ومؤلفون شكل بعضهم تراثا منذ الاربعينيات : عبد الرحمن بدوي، يوسف كرم، جميل صليبا، عبد العزيز البسام، سامي الدروبي، كمال الحاج، محمد عزيز الحبابي، بديع الكسم اضافة الى : زكريا ابراهيم، فؤاد زكريا، ماجد فخري، واخرين لا يقل اثرهم في التنوير والاثارة والترويج.
وقد كان من الواضح ان القارئ العربي صار اكثر استهلاكا للفلسفة انطلاقا من حاجات عميقة وملحة تحدوها تطلعات متعدده : سياسية، وفردية، وادبية.. الخ.. وكان يتجه الى الشذرات الشعريه والمسكوكات اللغوية ذات القابلية على اختزال الوعود النفسية والانسانية العامة، وكان نيتشه وبرغسون وسارتر بين الاسماء المتداوله، وقد اثارت بعض عبارات هيغل وماركس شيئا من الفضول الثقافي وترجم عدد من مؤلفات رسل، ووايتهيد، ونشر فؤاد زكريا كتابه عن سبينوزا، وصار من الممكن ان يفهم القارئ تاريخ الفلسفة على نحو ما، وان كانت خلفيات الفهم متقطعة، وفي حقيقه الامر، كان الترويج للفلسفة يمر غالبا الى عموم القراء بشئ من الاستغفال او بشئ من التبسيط المسيئ، خاصة اذا جرى ذلك باقلام لا تراعي تماما دوافع الفلاسفة المعنيين او مبادئ الاستقلال التي يتحلون بها.
كانت هناك حلقات اوسع للاهتمام بالفلاسفة الفرنسيين اذا كانت اهتماماتهم عامة ولغتهم تشجع على التداول العام، كذلك ببعض الفلاسفه الالمان المتجهمين، اما الحلقات الاضيق فقد انصرفت الى الاخرين الذين وجدت مؤلفاتهم صعوبة في التلقي.كان سارتر يشيع ادبيا، ولم يكن جذابا من الوجهة الفلسفيه، اما ميرلوبونتي، او جان فال او الن..الخ.. فأنهم تمتعوا بحصانه لم يستطع القارئ تخطيها الا لماما وفي الدوائر المتخصصة او المجاورة. وهذه هي حال البقية.
ومن الملاحظ ايضا، ان الفلسفة الانكلوسكسونية، والتحليلية منها على وجه الخصوص، لم تأخذ حصتها لدى القارئ العربي وهكذا فأن رسل اووايتهيد او مور او بيرس او اير او فيجنشتين لم يستطيعوا ان يخرجوا بعيدا عن الحلقات شديدة الضيق، وهذا امر قد يبدو ملائما وهذا هو ايضا شأن بعض الفلاسفة الالمان والفرنسيين و الاسبان والاميركيين.
فلا بد من التساؤل عن الاسباب غير الفلسفية التي لم تساعد هيوم، او يبنتز، او كانط،او ديكارت، او هوسيرل، في ان يكونوا في مجمل التداول الثقافي العربي وهل هي شبيهة بالتاريخ الخاص لكل منهم ؟. علما ان فلسفات مشتقة من افكارهم تتدفق في العبارات الثقافية العامة، وان كان الاستهلاك يحمل طابع المودات في معظم الحالات، التي ما ان تروج حتى تنحسر.
ومن المهم، في ما ارى، ملاحظة حجم الانجذاب نحو فلسفة العلوم، ونحو المنطق، فثقافتنا بعيدة الى حد بعيد، بسبب المؤ سسات او لاسباب اوسع واخطر، عن القواعد التي يعمل عليها فلاسفه العلوم الطبيعية و الانسانية كما انها متأثرة بالسياقات غير المنطقية في الحقول التي تحتاج الى المنطق احتياجا لا زبا، مع انه قد ظهرت ترجمات وتعريفات، فقد ترجم توماس كون وكارل بوبر واشياء اخرى ذات اهميه، ونشرت استعراضات وتواريخ ذات فائدة، ولا بد من التذكير انه لا يكفي التطلع والفضول مالم تولد حاجات للتلقي وحاجات للانتاج وميكانيزماته.
اذا كان للمرء ان يقول كلمة هنا، فأن ادارة الدفة، في الثقافة الفلسفية العربية، مازال يقع في منطقة المنعطفات الحرجة، وهذه الثقافة، على حاجتها، تعاني ايضا من عدم الاكتراث بانتاج فلسفة، كما ان تلقيها محكوم بظروف ملتبسة، ومع كل ذلك، نحن العرب اللذين اشتهرنا بتبديد التراكمات وبالتالي لم نقبض تعويضاتها، اقول: مع ذلك.. هناك الذين عملوا، ولا يزالون يعملون.. والتجدد يلوح هنا وهناك مصارعا، ومكتسبا بعض قواه.. الم يقل غرامشي عن الفلسفه، في مقابلته بين العقل و الارادة :انها تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة ؟. انها ليست التشاؤم المعزول بل المقرون بأرادة متفائلة، وليست ايضا الارادة المتفائلة في عزلتها.. واعتقد اننا بحاجة الى الفهم المزدوج، او المضاعف او المجادل الذي يحمله كل فيلسوف على حدة، وتحمله الفلسفة من حيث كونها تاريخا للفلاسفة انفسهم، كما هو الدرس المنقول عن نيتشه.
***************
د. شاكر النابلسي: بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة
كلمة فلسفة Philosophy في اللغة يونانية تعني المحب للحكمة. فمعنى Philo هو المحب أو المفتون وكلمة Sophy تعني الحكمة. وفي القرآن الكريم اشارات كثيرة إلى الحكمة بلغت عشرين اشارة. فمهمة الرسول في الإسلام ليس أن يتلو الكتاب ويعلّم المسلمين ما في هذا الكتاب ولكن ليعلمهم أيضاً الحكمة (يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) (سورة البقرة، آية 151). واعتبر القرآن أن الحكمة مصدراً كبيراً من مصادر الخير ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (سورة البقرة، الآية 269) ووضع القرآن الحكمة بمقام الكتب السماوية من حيث ضرورتها للرسل لاستقامة الحياة ونشر المعرفة والخير (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) (سورة آل عمران، الآية 48) مما يعني أن الله قد أمرنا بالتفلسف أي في البحث والنظر وإعمال العقل في أمور مختلفة. ولكن هذا الأمر الإلهي بالتفلسف لم نعمل به نحن الأمة العربية كما لم نعمل في أمور كثيرة أمرنا بها الله، فكنا من البؤساء وضُرب على فلسفتنا - إن وُجدت - البؤس والضحالة وقلة المعرفة، وغلب عليها التجميع وكتابة تاريخها فقط كما سنرى بعد قليل. وازدريت الفلسفة عند العرب في العصر الحديث ومنع تدريسها في معظم المدارس العربية وحرمت بعض الدول العربية تدريسها في جامعاتها والغت فروع الفلسفة من هذه الجامعات، واحتقرت الأنظمة الديكتاتورية الفلسفة واطلقت على كل عامل بالفلسفة ألقاباً لا تليق به، واعتبرتها سفسطة وكلام العاطلين عن العمل وزبائن مقاهي الرصيف. كما احتقرت المؤسسة الدينية العربية الفلسفة واعتبرتها من تراث الغرب الكافر، ومن أسباب الغزو الثقافي للعالم العربي، وأطلقت على من يعمل بها بالزندقة، وقالوا قولتهم الشهيرة "من تمنطق فقد تزندق". واختفى من حياتنا العربية الحديثة الحكيم الفيلسوف في كافة مجالات الحياة. وأصبحت الفلسفة العربية في البؤس الذي هي فيه الآن.
فما هي مظاهر بؤس “الفلسفة” العربية الحديثة – إن وُجدت - وما هي أسبابه؟
***
مظاهر هذا البؤس تتركز فيما يلي:
1- أن العمل العربي في مجال الفلسفة ما زال حتى الآن وبعد مضي أكثر من مائة سنة في المرحلة المبكرة للتفلسف. فما زال في مرحلة الجمع والتقميش والتوليف والتأريخ. ولم يصل بعد إلى مرحلة انتاج فلاسفة لأن انتاج الفلاسفة له شروطه التي سوف نشرحها من خلال بيان مظاهر بؤس الفلسفة العربية الحديثة.
2- انحصار الفلسفة الإسلامية في علم الكلام "الحذر" وفي التصوف "الحذر". ونقول هنا "الحذر" لأن علم الكلام علم مرفوض في بعض الدول العربية ولا مجال لتدريسه كما أن التصوف وكلمة صوفية من الموبقات، ومن الكبائر في بعض البلدان العربية. فحتى ما يُسمى بالفلسفة الإسلامية مرفوض في هذه الدولة، ولا مجال لتدريسه أو الكتابة فيه، أو السماح بدخول كتبه إلى تلك البلاد العربية. وكان أبرز من عملوا في مجال "الفلسفة" الإسلامية و"فلسفة" التصوف جمعاً وتوليفاً وتاريخاً، دون اضافة الجديد، هم من المثقفين المصريين أمثال أبو العلا عفيفي، ومصطفى حلمي، وعبد الحليم محمود، وغيرهم.
3- انحصار العمل في مجال الفلسفة في مجال تاريخ الفلسفة، سواء كان هذا التاريخ عربياً أم غربياً. فقد انتجنا كماً لا بأس به من تاريخ الفلسفة تقميشاً وتوليفاً، ولم ننتج فكراً فلسفياً جديداً. وكان أهم من كتبوا في تاريخ الفلسفة العربية والغربية، يوسف كرم اللبناني، ومصطفى عبد الرازق المصري وغيرهما.
4- اطلاق كلمة فيلسوف على كل داعية متواضع من دعاة الاصلاح السياسي أو الاجتماعي أو الديني. فنطلق على شبلي شميّل مثلاً لقب فيلسوف، لأنه اقتنع بمبدأ النشوء والارتقاء وتوسّع فيه، ونشره في العالم العربي. ونطلق على فرح أنطون لقب فيلسوف، لأنه دعا إلى اقامة المجتمع على أساس العلم الاجتماعي المبني على فلسفة النشوء والارتقاء. ونطلق لقب فيلسوف على اسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب "أصل الأنواع" لدارون.
5- نحسب أن كل داعية ديني حاول أن يستعمل العقل في تطوير نظرة الدين إلى الحياة من الفلاسفة. فالشيخ محمد عبده يعتبر في رأي البعض من الفلاسفة، ومحمد فريد وجدي من الفلاسفة، والشيخان علي عبد الرازق وخالد محمد خالد من الفلاسفة. وكل من دعا دعوة اصلاحية اعتُبر من الفلاسفة. في حين أن الفيلسوف في الميزان القويم هو المحب لرؤيا الحقيقة كما قال أفلاطون في (الجمهورية).
6- نحسب أن كل من كتب في الفلسفة وأعلامها ومدارسها واتجاهاتها، أو درّسها في الجامعات أصبح فيلسوفاً. فنحن نطلق على عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم فلاسفة، من حيث أن هؤلاء كانوا مدرسين للفلسفة. فلكي تكون فيلسوفاً لا يكفي أن تملك افكاراً نيرة وأن تتعلم في مدرسة أو تُعلّم الفلسفة في مدرسة. فالمدارس لا تُخرّج أدباء، ولا فنانين، ولا فلاسفة كذلك.
7- عملت مجموعة من الباحثين العرب في مجال الروحانيات إما من باب الدرس، أو من باب التصوف والتوليف والتوفيق. وقرأنا الاتجاه الروحي من قبل مُدرسي الفلسفة والعاملين في تاريخها كرينه حبشي وعثمان أمين وعباس العقاد وغيرهم. وهؤلاء لم يأتوا لنا بانجازات فلسفية جديدة بقدر ما كان لهم شذرات فلسفية متفرقة، لا تتعدى أن تكون خواطر تأملية وجدانية في الحياة والكون، أسرعنا فتلقفناها، وأطلقنا عليها فلسفة وعلى من جاءوا بها فلاسفة، كعادتنا في اطلاق مثل هذه الأحكام على أبسط الأفكار، وأكثرها سذاجة.
8- لعل أبرز العاملين وأنشطهم وأغزرهم انتاجاً في مجال التأليف التاريخي الفلسفي كان عبد الرحمن بدوي. ولعل بدوي - في رأي كثيرين وخاصة في مصر - كان من أكثر من عملوا في البحث الفلسفي اقتراباً من أن يكون فيلسوفاً وجودياً من خلال كتبه المختلفة: "الزمان الوجودي"، و "هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟"، و "دراسات في الفلسفة الوجودية"، و "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي". ونرى من خلال هذه الكتب أن بدوي لم يقدم لنا اضافة جديدة عما قام به فلاسفة الوجودية في الغرب، بقدر ما قدم لنا ما قاله وما فكر فيه هؤلاء الفلاسفة وما ابتدعوه من جديد على الفكر الفلسفي الانساني.
***
وإذا كانت هذه هي مظاهر بؤس "الفلسفة" العربية الحديثة، فما هي أسباب هذا البؤس؟
للبؤس أسباب كثيرة منها:
1- أن الدماغ العربي الآن في مرحلة الدماغ الانفعالى والغريزي، وهما مرحلتان من مراحل تطور الدماغ، يشترك فيهما الانسان مع الحيوان، ولم يرقَ الدماغ العربي بعد إلى الدماغ العاقل الراشد المدرك الذي يميز الانسان عن الحيوان. فنحن نتعامل مع حياتنا في معظم المجالات تعاملاً عاطفياً غرائزياً بعيداً عن إعمال العقل فيها. نحن لسنا أمة التحليل، والبحث، والدرس. نحن أمة الحب أو الكراهية، الدفاع أو الهجوم، الإيمان أو التكفير، اليمين أو اليسار. حركة الفكر لدينا هي حركة اجترار الماضي فقط، وليس استنطاق المستقبل. نحن سجناء الماضي بقوة قاهرة عابرة للتاريخ. تراثنا فقط هو ملجأنا الوحيد ضد الأخطار التي تحدق بنا، وحين تعصف بنا العواصف، وتشتد علينا الأعاصير.
2- انتشار الأميّة في العالم العربي الذي وصلت حتى الآن إلى خمسين بالمائة بين الذكور وستين بالمائة بين الإناث حسب تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة في 2002. وأمة تنتشر فيها الأميّة بهذه النسبة الكبيرة، وينحطُّ فيها التعليم، وتنحطُّ فيها التربية نتيجة لقلة المال المصروف على التعليم وسوء المناهج التعليمية، لا بُدَّ أن تعاني فيها الفلسفة من بؤس كبير.
3- يقوم الازدهار الفلسفي في أمة من الأمم على ازدهار حركة الترجمة. ولقد كان لازدهار حركة الترجمة في العصر العباسي وفي عهد المأمون بشكل خاص أثر كبير على الفلسفة الإسلامية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وكون الأمة العربية الآن هي من أقل الأمم على وجه الأرض حركة ونشاطاً في مجال الترجمة حسب تقرير التنمية البشرية للأم المتحدة لعام 2002، فإن النشاط الفلسفي العربي قد تأثر بضعف وبؤس حركة الترجمة. فيما لو علمنا أن الفلسفة لا تزدهر إلا في ظل تلاقح الثقافات الناتج عن الترجمة المتبادلة.
4- معظم الذين يعملون في مجال الفلسفة من مدرسين وباحثين في تاريخ الفلسفة، هم من موظفي الدولة العربية التي تنظر إلى هؤلاء نظرة ريبة وشك، باعتبارهم مصدر القلق الرئيسي للسلطة. ومن هنا قامت معظم السلطات العربية بمنع تدريس الفلسفة في مدارسها وجامعاتها. وقالت بأن "الباب الذي تأتي منه الريح لنغلقه ونستريح." وهؤلاء الباقون في مجال الفلسفة وتدريسها موظفون يتجنبون حبَّ الحكمة التي هي لبُّ الفلسفة، ويعتنون فقط بتاريخ الفلسفة دون ابداعها، وبالمدارس الفلسفية دون ايجاد مدارس جديدة، خوفاً من بطش السلطة المحكومة في معظم العالم العربي للمؤسسة الدينية التي تعادي الفلسفة عداءاً كبيراً، وتعتبر الفلاسفة – إن وُجدوا – هم من الملاحدة والمارقين من الدين، وهم بالتالي من المنافسين لها في الامتيازات السياسية والمادية والاجتماعية والإعلامية. ولم تفطن المؤسسات الدينية إلى مقولة فرانسيس بيكون (1561-1626) وهي أن قليل من الفلسفة ينحدر بالانسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يرفع الانسان إلى قيم الدين. ومن هنا رمت المؤسسة الدينية الفلاسفة بأنهم اليساريون الانقلابيون، وأن الدراسات الدينية وحدها هي الجديرة بالعناية والرعاية والدعم.
5- الثقافة العربية الحديثة هي أشبه بالثقافة العربية في العهد العثماني. ومن يقرأ كتابنا (عصر التكايا والرعايا – وصف المشهد الثقافي في بلاد الشام في العهد العثماني 1517-1918) سوف يجد أننا ما زلنا نعيش ثقافياً في العهد العثماني من حيث أن ثقافتنا ثقافة تعتمد على السحر والشعوذة والخرافة والتقديس، والانفعالية والغريزية والشعارات، والأحكام المُسبقة. والفلسفة هي التي تعلمنا كيف نجيب على كل سؤال بعقل منفتح وخالٍ من النظريات المسبقة، اجابة تعتمد على المعلومة والتجربة الحية.
6- انتشار الفلسفة في مجتمع ما يعني انتشار الحرية وعلامة من علامات انفتاح المجتمع على العالم القريب والبعيد. قال برتراند راسل (1872-1970) إن الفلسفة منذ القدم لها هدفان: الأول، فهم تركيب هذا الكون. والثاني، اكتشاف انجع الوسائل الممكنة للحياة الأفضل. وهذا يتطلب حرية كبيرة في التفكير والسلوك.
7- إن بؤس التربية والتعليم العربي قادا إلى بؤس الفلسفة. فالتعليم العربي الذي يُوصف بالانغلاق والتقوقع وتكفير الآخر ومعاداته قاد إلى إلغاء الفلسفة من كثير من المناهج العربية، مما أدى تشويه العملية التربوية وافسادها، وقاد ايضاً إلى تخريج أجيال الاجترار والتلقين، لا أجيال التفكير والابداع التي تعرف كيف تصل بين نقطتين من أقرب المسافات، وهي مهمة الفلسفة في أن تعلمنا اياه، كما قال جبران خليل جبران (1883-1931).
8- انتشار مفهوم أن الفيلسوف هو الحكيم في الثقافة العربية في حين أن الفيلسوف هو محب الحكمة والباحث عنها كما أسلفنا. ومن خلال هذا المنظور المغلوط للفيلسوف اصبحت الفلسفة من الترهات حيناً ومن المعارف المترفات حيناً آخر، من حيث هي تجريدية ومثالية.
9- ان علاقة الفلسفة بالسياسة علاقة وثيقة منذ أيام الإغريق، مما جعل السلطات العربية والمؤسسات الدينية تضع حظراً كبيراً على الفكر الفلسفي كما أنها تضع الحظر نفسه على الفكر السياسي. فهدف الفلسفة هو اخضاع السلطة السياسية من أجل مصلحة الفرد كما قال ألن بلوم (1930-1992). فكما أن السياسة نجاسة كما تقول العامة فإن الفلسفة سفسطة وضياع الوقت، كما تقول الامة نفسها.
وأخيراً، يقول سقراط (470-399 ق. م) إن الفلسفة تبدأ من الشك والسؤال، وليس من اليقين والجواب الجاهز. والثقافة العربية في ماضيها وحاضرها هي ثقافة الأجوبة الجاهزة واليقينات التامة. فلكل سؤال في الثقافة العربية جواب جاهز، لا يدع مجالاً للسؤال لكي يزوغ أو يفلت يمنة ويسرة. وتلك احدى عوائق تقدم العقل العربي الذي تآكل بفعل الصدأ الناجم عن عدم البحث عن أجوبة جديدة للأسئلة القديمة والجديدة. فالعقل كالضرع، إذ لم تحلبه كل يوم، جفَّّ وتيبّس، وأصبح كحبة جوز الهند الفارغة.
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
د. سّيار الجميل: هل للعرب المعاصرين فلسفة وفلاسفة؟ ام انهم انتجوا كلام اللواغيا؟
مدخل
الفلسفة كما يعّرفها المعرفيون منذ القدم انها – باختصار -: " البحث عن حقائق الاشياء ". والفلسفة – في معاجم اللغة العربية – هي " الحكمة "، فهل انتج العرب المعاصرون والمحدثون " حكمة " من نوع ما وكشفوا عن حقائق اشيائهم ومعانيها على امتداد أكثر من قرن كامل مضى من الزمن؟؟ وهل ابدعوا معرفيا: نظريا وتطبيقيا في البحث والخلق لنظريات وافكار شغل العالم كله بها؟؟ يقال: احكم الامر من الحكمة، اي: اتقّنه ومن تنسب اليه الحكمة قد احكمته التجارب على المثل: ويقال لمن كان حكيما قد احكمته التجارب، واحكمت الشيىء فاستحكم: صار محكما. قال ذو الرمة:
لمستحكم جزل المروءة مؤمــــن من القوم، لا يهوى الكلام اللواغيا
ونعود لنسأل: هل انتج العرب فلسفة وحكمة على امتداد قرن كامل، أم انهم عشقوا الكلام اللواغيا، بكل ما فيه من اطناب واسهاب وثرثرة وتهويل ولغو وحشو وتكرار وهذر وانشاء خاو من المعاني.. الخ
العرب اليوم: بعيدا عن استنارة فكر وعن فاعلية تفكير
كنت قبل ثلاثة اسابيع ضيفا خفيف الظل على قناة الشارقة الفضائية في برنامج حيوي اسمه ( اوراق )، وفي حوار مبسّط مع صاحبته ومقدمته السيدة باريهان كمق عن حاجة العرب الى منهج فكر! قلت منذ البداية: بأن ليس عند العرب المعاصرين فكرا محدثا فهم في مرحلة طالت نهضويتهم فيها من الركود وهم ما زالوا في دوامة من التفكير الباحث عن نقاط البدء بعد لا الفكر المستنير الراسخ القائم بذاته! ومن المضحك المبكي ان يطلق البعض على انفسهم بـ " المفكرّين "!
قالت محاورتي وهي مثقفة ومتابعة: لماذا؟
قلت: لأن ليس هناك أي مجتمع في الدنيا اليوم يحترم نفسه ويتقّبل مثل هذا المصطلح او التعبير عن بعض ابناء نخبه. هذا مصطلح بليد اشاعه العرب بقولهم " هذا مفكّر.. " وهذه " نخبة من المفكرين ".. فالاصح – عندي - ان يطلق على كل واحد منهم اختصاصه الجامعي او المهني او النظري فيقال: الطبيب والمهندس والمحامي والقاضي والاكاديمي والمؤرخ والكاتب.. الخ أما ان يقال عن هذا " مفّكر " وذاك " فيلسوف " فهذا ما يضحك حقا.. فكل انسان مهما كان حجمه في هذا الوجود انما يفّكر في الاشياء ومعاني وما حوله من الامور ليسكن الى معتقداته ويتخذ عنها مواقفه وقناعاته وثوابته. وربما تختلف من احدهم الى الاخر جراء تباين عواطفهم ومشاعرهم وانسياقهم وراء مؤثرات واحداث وخطابات وانساق لا حصر لها ابدا.
قالت: وماذا بعد؟
قلت: ليس من واجب كل من هّب ودبّ ان يتطفل على تخصص الاخرين، واذا قبلنا بالمصطلح على مضض، فأنني أسأل: هل استطاع ( الفكر العربي المعاصر ) ان يفرض نفسه في مساحة معينة ومضيئة وضيئة في الفكر الانساني الحديث اليوم بكل ما وصل اليه هذا الاخير من التطور والعمق؟؟ هل نجح اي ( مفكر ) عربي بفرض نظرية معينة او فلسفة متميزة وشغل مساحة كبرى ومعتبرة من القراء والمهتمين والدارسين في العالم؟؟ الجواب: كلا.. واستطردت متسائلا: هل نجح العرب بكل جحافلهم من المثقفين والمختصين بعد مضي قرنين من الزمن على ما يسّمى بنهضتهم الحديثة ان يفرضوا موسوعتهم العربية العالمية – مثلا – وبأكثر من لغة على الثقافة البشرية؟ انهم ان كانوا قد فشلوا فشلا ذريعا حتى في الاتفاق على مبادىء معرفية وخطوط منهاجية عامة فكيف يا ترى ستكون لهم فلسفاتهم وفلاسفتهم؟ ربما هم يقولون ويتنطعون بأن لهم ما ليس للاخرين من فلسفة وفلاسفة.. دعوهم يقولون ويزايدون ما يشاؤون بينهم وبين انفسهم، ولكن من مصلحة اجيالنا القادمة ان لا ندعهم في غيّهم يعمهون! وساعرض في ادناه صورة نموذج من هذا الغثاء الذي يجتاح ثقافتنا العربية المعاصرة تحت طائلة شعارات تدعمها شهادات ورقية ( اكاديمية ) يغلّف بها بعض الجاهلين بها انفسهم!
حوار بيزنطي
نعم، بعد لأي من ذلك الحوار التلفزيوني، طلع على الشاشة ضيف من الاردن قدّم تعقيبا بائسا على كلامي كونه لم يفهم الصح من الخطأ وقال كلاما عاطفيا بما يشبه لغو من الكلام.. وكان المسكين لا يدرك الف " التفكير " من يائه! كان على اسوة اقرانه من الوعاظين الذين تربوا في صحراء قاحلة لا تعرف فيها المعرفة ولا شطآن العقل ولا لغة الاخر ولا فلسفة العالم.. كان مهذارا ثرثارا وكأنه لم يدرك ولم يكتب ما يقوله الحكماء والعقلاء على امتداد قرن كامل من الزمن؟؟ وهو الذي لم يعلموه الا كيل المديح والاجترار والاستطراد وقلة العقل وهذه مصيبة ابتليت بها ثقافتنا العربية اليوم وخصوصا عندما تخرج في اروقة جامعاتنا العربية البائسة ركاما من الجهلة الذين لا يصلحون ان يكونوا في اسفل سلم المجتمع لا في اعاليه! نعم، قال: كيف لا ونحن لدينا فلسفة وفلاسفة جهابذة عرب من المحدثين المعاصرين امثال ذاك وذاك.. فلاسفة كتبوا كما كبيرا من الكتب التي خدمت ثقافتنا العربية وقلت في نفسي: يا لسخرية القدر ان تغدو مؤلفات مسردة ومترجمة وكتابات لنصوص اعاد انتاجها اصحابها من جديد ونشروها في حياتنا الثقافية بثياب رثة.. فصّدق العرب ان لديهم فلسفة وفلاسفة!
اجبت هذا المتدخل بما يستحق بكل هدوء، اذ ادرك انه وأمثاله قد نكبهم الجهل ورفعهم الزمن فاصبحوا من السفهاء الذين لا يمكن الحوار معهم، ولّم ينفع معهم الا الاهمال والترفع فهم بمثابة لجام يعضلهم حتى يموتوا!!
عاد ليهذر من جديد ثانية مستخفا بتكنولوجيا العصر ومجّملا كلامه بترديد ما كان قد تلقّنه من عبارات سياسية في المجد والجهاد والسؤدد وكال المديح لتقاليده البدوية المجيدة التي اعتبرتها مجتمعاتنا المدينية العربية في الامس القريب تقاليد بالية لا تنفع المجتمع المعاصر! وعاد ليردد بكل وقاحة بأن للعرب اليوم مدارس فلسفية وفلاسفة عظام ومناهج راقية في الفلسفة! واراد تحويل النقاش الى قضية سياسية كالعادة العربية الفاشلة عندما تنضب آلية المعرفة ومن اجل ان يتبجح ضد العراق فاسكته بعد ان سألتني محاورتي بكل ذكاء: هل تتفق مع هذا الذي يطرحه ( الدكتور )؟ قلت لها: كلا لا اوافق ما يقوله هذا الرجل! فالامور ليست بمثل هذه السذاجة.. فأي فلاسفة عظام هؤلاء؟ وأي مناهج راقية في الفلسفة عند العربان المحدثين؟ وأي مدارس بها يتميزون؟ ان كل من كتب في الفلسفة من ادباء واكاديميين وشعراء ومثقفين عرب لا يعدو ان يكون مجرد انشاء كلام او تجميع نصوص او توصيف حال او ترجمات كتب او شرح قواعد او كتابة مقالات او ابيات شعر فلسفية.. الخ
اين الفلسفة والفلاسفة؟
انني اتحّدى ثقافتنا العربية (الحديثة) الاتيان بفيلسوف عربي واحد اليوم عند مطلع القرن العشرين او حتى من مثقفي القرن العشرين.. قدّم نظرية فلسفية عرفها العالم كله؟ او انه قدّم ابداعا فلسفيا في موضوع حيوي معين على الارض العربية وليس جزءا من انتاج معرفي في جامعات غربية؟؟ ولقد طالبت الجيل الجديد الذي اتمنى عليه ان يوظف طاقاته وخبراته بعد عشر سنوات من اليوم بعد رحيل جيلنا نحن هذا المخضرم بين قرنين.. طالبته بأن يؤسس ثورة نقدية عارمة لمنتجات آبائه في القرن العشرين ليقف على حقائق مذهلة وعلى اسماء كتاب مشهورين في ادبياتنا العربية كتبت في الفلسفة وغيرها، لكنه سيكتشف انها اسماء مخادعة ومهزوزة ومخاتلة ومستلبة لم يكن ذلك الكم الوفير الذي كتبته تلك الاسماء ونشرته الا مجرد ترجمات خفية عن لغات اجنبية ويا للاسف الشديد! خصوصا وان ابرز هؤلاء عاشوا في بيئة محلية لا تعرف الا لغة التهويل والمديح والتعظيم لأناس وصفوهم بالمفكرين والفلاسفة والعمالقة الكبار وهم لا يصلحون حتى لكتابة عرضحالات لدوائر رسمية او على اكثر تقدير اعتبارهم كتبة مقالات او مؤلفي كتب لا حياة فيها ولا فكر لها ولا ابداعات مثمرة عنها!
لقد اشتغل العرب من المسلمين وغير المسلمين القدماء بالفلسفة بعد ان تأثروا بالفلسفة الاغريقية فابدعوا واثمرت جهودهم اثر اعظم حركة للترجمة قامت في بغداد وبرغم كل ما قدمّه حنين بن اسحق والكندي والفارابي ومسكويه وابن رشد وابن طفيل وابن باجه والبيروني وابن ميمون وابن سينا وابن خلدون وغيرهم من اقوى الفلاسفة واصحاب المناهج والمدارس من علماء الكلام والاشاعرة والمعتزلة.. الخ الا ان حربا ضارية لا هوادة فيها مورست ضدّهم تحت مسمّيات واتهامات شّتى فوصف بعضهم بالتهافت ووصف بعضهم الاخر بالانعزال والبعض الاخر بالزندقة والالحاد.. نعم، كل ذلك جرى في دواخلنا العربية علما بأنهم ابدعوا واثمرت جهودهم عن براعة فكر حقيقي استفاد العالم كله منهم.. ولكن عصرنا الحالي لم يشهد ولادة فلاسفة عمالقة ولا حتى اقزام صغار يتفلسفون او حتى يهذرون عن عشق للفلسفة او عن جنون بها..
لقد عجز الفكر العربي المعاصر عن الفلسفة بسبب عوامل عديدة لا يمكنني اغفالها في مثل هذه المداخلة! فالعرب على امتداد تاريخهم الحديث قد غلبوا الافكار السياسية والمعتقدات الايديولوجية المتنوعة على تفكيرهم المعرفي فحادوا عن طرائق العقل، وكانوا وما زالوا يتغّلب الايديولوجي عندهم على المعرفي. والمعاصرون اليوم كانوا وما زالوا يختنقون في اقفاص حديدية سجنهم فيها حكامهم واباطرتهم.. او انهم وجدوا انفسهم في مجتمعاتهم يتشربون من ترسبات عقيمة وبقايا التخلف وهم في شرانق تحزهم خيوطها ولا تسمح لعقولهم بالتفكير الحر والتعامل النقدي المباشر مع الحياة.. والمعاصرون اليوم عندنا قد فتحت الاجيال الاولى منهم عيونها واسماعها ومشاعرها وكل جوارحها على ما يسّمى بـ " النهضة " و " التقدم "، وبعد ان اخذها هذا شمالا وسحبها الاخر يمينا وجدت الاجيال الجديدة نفسها وقد افترستها مشروعات مؤدلجة ومواعظ وممنوعات ومحرمات وخطب سياسية رنانة عدة ازحمت بالشعارات والمقدسات والتعليمات، فصمّت الاذان وتعطلت لغة العقل وقفل على الالسنة واضطهدت المشاعر وكممت الافواه واختنقت الانفاس..
العرب: خطايا واقع متعفّن
اي فلسفة عربية معاصرة يمكننا ان نقف ولو لمرة واحدة مع نظرية فلسفية واحدة؟ اي اثراء معرفي عربي حقيقي جرى في حياتنا الفكرية الحديثة لنظريات فلسفية حديثة عاشت في القرنين السابقين؟؟ هل كانت الكتابة وحتى التأليف من قبل بعض الكتبة والكتاب للنصوص في موضوعات كالداروينية او الماركسية او الوجودية او النسبية او البنيوية.. الخ هي التي تعتبرها جوقات من الجهلة والمداحين العرب فلسفة؟ هل نجح العرب المعاصرون في اثراء المعرفة الانسانية بالعمل جماعات وفرق عمل نظريا وميدانيا لانتاج اعمال مميزة يلتفت اليها العالم؟ هل ساهم العرب المعاصرون الذين يهوون الندوات والمؤتمرات والشعارات والخطابات الرنانة ان يعتنوا قليلا بتربية المبدعين من اولادهم وبناتهم كي يكون لهم مستقبل وشأن كبير؟؟ اي فلسفة عربية معاصرة هذه التي يتبجحون بها ونخبة المثقفين منهم تجتر المقولات وتردد النصوص وتستلب الافكار ولا تحترم الاخر وليس لها الا الاوهام والاخيلة والتشبب وذكر الامجاد وتكرار الاقوال والامثال وتدجن الكوارث وتشيد بالسلطات والدكتاتوريات..؟؟ اي فلسفة عربية معاصرة هذه التي لم تزل هذه النخبة من الكتاب العرب الذين لا يعرفون الا الكتابة ولا اتخّيل كيف انهم يكتبون وماذا يكتبون من دون ان يقرأون ولا يتدارسون ولا يتابعون!؟؟ كيف يمكنني ان أصف اوضاع حياتنا العربية المعاصرة التي لم تشهد حتى الان اي ثورة نقدية وفكرية حقيقية او اكاديمية منهاجية لدراسة تراثنا ونقده وكشف مستوراته وفضح عوارضه وتعرية مفاسده وتقويم اعوجاجاته الى جانب احترام رجالاته وثمار ابداعاته بعيدا عن النرجسية وعن التقديسية وعن التكفيرية وعن سحق الموضوعات الحية باسم عدم سحق الذات والذات منسحقة من عصر بعيد وقد غدت في اسفل سافلين!!
واخيرا: ما الذي يمكنني قوله؟
متى يتخلص العرب من صناعة الكلام اللاغي؟ متى يفكرون الف مرة قبل ان يهتاجوا ويقولوا ويكتبوا ويقدموا النصائح البليدة؟؟ متى يتخلصون من الوعظية وتوزيع الاحكام المجانية والقاء الاتهامات القاصمة على الاحرار والمفكرين والنقاد الحقيقيين؟ متى تفرز الحياة العربية النقاوة من المفاسد والبياض من العتمة والنظافة من الاوساخ والعقل من الجهالة والحداثة بعيدا عن اقانيم التخلف..؟؟
وتعالوا نسأل: اين العرب اليوم من بحثهم عن حقائق الاشياء وتوليد المعاني وخصب التفكير وابداعات الروح والعقل؟ اين هم من الحكمة؟ حتى لو كانت شعرا " وان من الشعر لحكمة " – كما يقول الرسول الاعظم -؟ اين هم الان من نظريات العصر الفلسفية الحديثة؟ لماذا يتقبلون كل شيىء مادي وتكنولوجي ينتجه الغربيون ببساطة وسذاجة باعتباره تحصيل حاصل مشروع وشرعي، ولكنهم يحجمون ويتبلدون عن قبول فلسفات الغرب ونظريات المعرفة الحقيقية المعاصرة؟ لو كان لديهم فقط حركة نقدية وفكرية وفقهية اجتهادية جريئة وحرة لنفضوا عنهم وعن انفسهم وعقولهم غبار الاختناقات وترسبات الماضويات وعفونة الواقع واحترموا تراثهم الحضاري الزاهر بعيدا عن تقديسه بغثه وسمينه، واحيوا مقاصدهم النظيفة التي لا تتقاطع او تتناقض مع ثوابتهم الراسخة.
نعم، لو بدأت مشروعات تجديدية وتحديثية في التفكير العربي والاسلامي الحديث وعالج العرب زمنهم لشاركوا مشاركة حقيقية في حياة العصر، ولكنهم ويا للاسف الشديد كانوا وما زالوا بعيدون جدا عن اللحاق حتى بفهم ذيوله وقوة صعقاته! لو تيسّرت الامور عندهم وغدت الحياة العربية بأيدي عقلائها ورجالاتها الحقيقيين لأنتجت بعد اجيال واجيال من ( نهضتها ) حكماء يتدبرون امرها وستحل مشكلات ومعضلات لا حصر لها بأيديهم باعتبارهم من اهل الحل والعقد.. ولتغير وجه حياتنا العربية واسرعت خطاها نحو ركب التحولات في العالم كله! وأخيرا ليس لي الا ان أسأل: هل ما زال هناك بشر سوي يقول بأن لدينا فلسفة حديثة وبعض فلاسفة كبار من المعاصرين؟؟
***********
بُـرهـان شـاوي: هل هناك فـلاسـفة عـرب معاصرون؟
* لدينا كليات للفلسفة، ولدينا باحثون في الفكر الفلسفي، ولدينا شراح نصوص ومؤرخون، لكـن أين مشـرعـنا الفلسـفي؟
* هل صـار عرض فلسفات الآخرين، والتعليق على نصوصهم، هو فلسفتنا؟
* كم كتابا في الفلسفة يصدر عن دور النشر العربية سنويا؟
* لماذا يؤرخ عبد الرحمن بدوي لنفسه فقط في الموسوعة الفلسفية، وهل ننتظر مفاجئات في الانتاج الفلسفي من العراق بعد سقوط الحكم الدموي فيه؟
* هـل الواقــع العربي المعاصـر معـاد للفلسفة ولإعمال الفكـر بشكل عام؟
قـد يبدو غريبا أن نحـاول هنـا مناقشـة قضية شـائكة وعميقة، كانت، ولاتزال،ابعد ما تكون عن وسـائل الاعـلام العربيـة، بكل أشكالها المقروئة والمسموعة والمكتوبة. قضية كان تراثنا القديم يطلق عليها لفظ (الحكـــمة)، وأسس لها علوما سميت (علوم الحكمــة) رغم أن بعضهم أطلق عليها أنذاك ايضا نفس الاسم الذي يطلق عليها اليوم في في الفكر المعاصر، ونقـصد هنــا (الفلســـفة)!!.
للفـلسـفـة في جامعاتنا العربية، وفي جامعات العالم العريقة، كليات وأساتذة مختصصون، حيث تُدرس على مدى أربع او خمس سنوات، كما تُمنح فيها الشهادات الجامعية والشهادات العليا، بل ان أعلى شهادة الدكتوراه في مجال الدراسات الانسانية تمنح تحت لقب(دكتورفلسفة)، ثم يعلن عن مجال التخصص الدراسي والأكاديمي!!. لكن الفلسفة ليست مهنة أو حرفة، أو وظيفـة إدارية، أوإجتماعية، فلماذا تُدرس إذن؟ وهـل هناك وظيفة لفيلسوف؟ بل وهل هناك مهنة أسمها: التفلسف؟ ثم، أكل من درس الفلسفة وتخرج من كلية الفلسفة هو فيلسوف بالضرورة؟ وهل ان دراسة الفلسفة هي حكر على الجامعات؟
من الواضح، من عنوان المقال، اننا لا نريد هنا أن نخوض في حوار حول تراثنا الفلسفي، لنرد على طروحات البعض الذين ينفون وجود فلسفة عربية إسلامية، من حيث ان مؤلفات الكندي، والرازي، والفارابي، وان سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، والطوسي، وصدر الدين الشيرازي، والطباطبائي، وغيرهم، خير شاهد على حضور هذه الفلسفة، حتى وان كانت أسئلتها غير صافية فلسفيا، من وجهة النظر الفلسفية المعاصرة، إذ كان السؤال الفلسفي فيها يتداخل مع المنطق من جهة ومع اللاهوت من جهة اخرى، لكننـا نسعى هنا الى ان نقرب الفلسفة من الواقع العربي المعاصر، من خلال تفحص السؤال التالي: لقد كانت لدينا فلسفة عربية إسلامية،( سواء كان هؤلاء الفلاسفة عربا ام من الأعاجم، فالبلاد كانت بلاد الاسلام، فالاسلام كان هو الهوية، وليست القومية، كما هو الحال اليوم..!!) فهل لدينا اليوم فلسفة عربية إسلامية؟ أو بدقة أكبر: هل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟ رغم ان غير المسلمين من العرب، والذين يعشيون في البلاد العربية مع العرب المسلمين، لا يمكنهم الخروج بسهولة من فضاء الاسلام، إذا ما اعتكفوا على السؤال الفلسفي، أو غيره من أسئلة الفكر!!
فيما يخص الشعوب الاسلامية غير العربية مثل الايرانيين والهنود والبنغال، والباكستان، و شعوب أقاصي آسيا المسلمة، يمكن الأجابة على هذا السؤال بنعم، إذ لديهم فلاسفة ومتفلسفون، ونتاج فلسفي مرموق. فحسب علمي ان مؤلفات الفلاسفة الايرانيين المعاصرون امثال (داريوش شايغان) و(سروش) و(مطهري) و(حسين الطباطبائي) والبنغالي الهندي (محمد اسد) تدرس في بعض الجامعات الاوربية والآميركية،لا سيما في أقسام الإستشراق، وما كشفه المفكر الالماني (يورغن هابرماس) في الاعلام الالماني، واثار ضجة في الاوساط الفكرية الألمانية والاوربية، عندما تحدث عن حواراته مع المفكرين الشباب المعممين في ايران، واتجاهات الفكر الاسلامي. هناك، بغض النظرعن تقييمه الشخصي لها، تؤكد وجود تاسيس فلسفي واثق الخطى هناك.!! وكدلك تحدثت مرارا، بل وكتبت المستشرقة الألمانية الراحلة (آناماري شيميل) مرات عديدة عن مثل هذا النشاط في اللغات التركية والأوردية والبنغالية التي كانت تجيدها،( بينما نتعالى نحن على هذه اللغات ونلهث وراء اللغات الاوربية فقط؟ مجسدين بكل وضوح عقدة النقص فينا امام الفكر الاوربي، رغم اننا لو نظرنا، وامعنا النظر، وبحثنا قليلا في الثقافات الاسلامية الشرقية،لازدادت حدة هذه العقدة!!)، لكن السؤال المهم هنا هو: هل لدينا، نحن في البلدان العربية، مسلمين ومسيحيين، فلسفة عربية، وهل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟
صحيح ان لدينا كليات للفلسفة في معظم جامعاتنا، الا أن معظم دراساتنا وبحوثنا، ومعظم الاسماء التي كتبت، ولازالت تكتب، في مجال الفلسفة، سواء من داخل الحرم الجامعي أو من خارجه، تشرح النصوص الفلسفة، وتبين إتجاهات الفكر الفلسفي، وتؤرخ لفلسفات الاخرين، وتبحث فيها، لكن دون أن تطرح هي مشروعها الفلسفي، ودون ان تنتج فكرا فلسفيا خاصا بها، او تؤسس مقدمات نظرية فلسفية، سواء في رحاب الفلسفة الاسلامية السابقة، او على أعتاب الأسئلة الفلسفية التي أنجزها الفلاسفة الغربيون!! فهل صار الاشتغال على تاريخ الفلسفة هو الفلسفة؟
ربما سيجيب البعض بنعم، أي ان الاشتغال على تاريخ الفلسفة صار جزءا من الفلسفة والعمل الفلسفي، وربما سيجيب آخرون بانه منذ( ماركس)، الذي اعلن في رده على(فويرباخ) بان الفلاسفة سابقا إكتفوا بتفسير العالم بينما المهم هو تغيره، تحولت الفلسفة الى وسيلة فكرية جبارة للتغيير الاجتماعي والتاريخي، ونزلت من عليائها الى أرض الواقع الانساني المرعب. وبالتالي صار الأعتكاف على السؤال الفلسفي الوجودي والكوني يفهم كشكل من الترف الذهني، ولأُتهم صاحبه بالنزوع البرجوازي الصغير، وبانه دليل على أزمة الفكر البرجوازي في العالم الراسمالي في صراعه مع الماركسية، آيديولوجية الطبقة العاملة. رغم ان فجاجة هذا الطرح إختفت منذ الانهيار المذهل للاتحاد السوفياتي، الذي كان حامل لواء الماركسية الللينينية، والذي قدم بسقوطه خدمة جليلة للفلسفة الماركسية، وذلك برفع الوصايا الأبوية والعقائدية عنها من جهة، وفتح الأفاق أمام المفكرين في روسيا وبلدان الطوق الاشتراكي سابقا ان يعيدو طرح الاسئلة الفلسفية القديمة والجديدة التي توقفت منذ هيمنة الحزب الواحد على السلطة، وصار رقيبا ووصيا على الفكر الحر، كما حرر المفكرين الاوربيين من عقدة التطبيق الفج للحلم اليوتوبي بالخلاص ومن تحمل آثام القمع الفكري والسياسي في البلدان التي حكمها الشيوعيون،. وربما من المفيد هنا ان نذكر، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، بانه كانت في روسيا وحدها قبل الثورة الاشتراكية تيارات فلسفية مهمة، كانت تمزج بين الفلسفات الاوربية والروح الشرقية، وكان هناك فلاسفة مرموقون امثال: سولوفيوف، ستراخوف، دانيليفسكي، ليونتف، رزانوف، شيستوف، برديايف، وغيرهم!
وعودة للدرس الاكاديمي الجامعي للفلسفة، تُرى ماهو شعور الطلبة الذين يدرسونها لسنوات ثم يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، يبحثون عن أية وظيفة فلايجدون، بل نجد ان دراستهم تصير أحيانا بابا للتندر عليهم كان يقولون: جاء الفيلسوف، وذهب الفيلسوف، وقال الفيلسوف.
ولو بقينا في الحرم الجامعي وواصلنا الأسئلة: تُرى أين هي مؤلفات وكتب هؤلاء الاساتذة والعاملين في مجال الفلسفة؟ اين مجلاتهم الفلسفية؟ أين مؤتمراتهم الفكرية؟ ولو خرجنا من الجامعة وواصلنا الأسئلة، لكن في نفس المجال،: تُرى كم كتابا في الفلسفة ينشر سنويا؟ وما هي عدد النسخ عن الطبع؟ ومن يقرأه هذه الكتب؟
إننا كلما توغلنا في الأسئلة سنجد انفسنا أمام السؤال الفلسفي نفسه: تُرى اين هي حدود الفلسفة؟ وما هي علاقتها بواقعنا السياسي الرسمي المباشر؟ واين هي من حياة الناس اليومية؟ ولو تجرأنا أكثر لنبش مثل هذه الأسئلة لما ترددنا في السؤال: أين أختفت ياتُرى الحركة الفكرية الفلسفية التي بدأت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في القاهرة، وبيروت والمغرب العربي؟ لماذا توقفت حركة ترجمة للتراث الفلسفي العالمي الى العربية؟ ولماذا إختفت الاسماء العديدة التي إنهمكت في الفكر الفلسفي ترجمة وشرحا وتعليقا؟ ولماذا يؤرخ المرحوم (عبد الرحمن بدوي) بشكل موسع، في (الموسوعة الفلسفية)، لنفسه فقط؟ أتُرى هل يستطيع ( مطاع صفدي) ومن معه في مجلة (الفكر الفلسفي) و(عبد السلام بن عبدلعالي) في مجلة ( فكر ونقد) ان يؤسسا لفلسفة عربية معاصرة حاليا؟ ولماذا ياتُرى توقف الفكر الاسلامي في رفد الثقافة العربية الاسلامية بفلاسفة؟ وهل هناك أعمال فلسفية غير منشورة للمفكر الاسلامي الشهيد (محمد باقر الصدر) تواصل جهده المرموق في تأصيل فلسفة اسلامية
معاصرة، غير رده الشهيرعلى الماركسية في كتاب (فلسفتنا)؟ وهل ستكشف لنا الأيام والأشهر والسنوات القادمة مفاجئات تأتي من النجف وكربلاء في مجال الفلسفة، سواء في الكشف عن اعمال فكرية وفلسفية لم تنشر بسبب الحكم الدموي الفاشي البعثي في العراق، أو من خلال الحرية التي ستتيح للكثير من العلماء ان يقتحموا الحقول الفلسفية التي كانت اية خطوة فيها تكلفهم حياتهم وحياة أقاربهم سابقا؟ بل وهل ستعيد كليات الفلسفة في الجامعات العراقية النظر في برامجها، وتنفض عن نفسها غبار الأيام السوداء، لتكون ورشة للفكر وللوهج الفلسفي؟
إنها أسئلة جريحة، وليس اكثر..! أسئلة تقودنا الى أسئلة أخرى أشد إيلاما ووجعا، فياتُرى، هل ان الواقع العربي المعاصر معاد للفلسفة ولإعمال الفكر بشكل عام؟ هل لا زال واقعنا العربي، كما كان في بعض مراحل تاريخنا الماضي، يعادي التفكير الحر، ويعادي كل علم فلسفي ومنطقي، كما ذهب الى ذلك الغزالي، وابن تيمية، والذهبي، وابن الصلاح، والصنعاني، وغيرهم، من الذين وقفوا بكل قوتهم ضد الفلسفة والتفكير الفلسفي، بل وحرضوا الحكام على معاقبة كل من يمتهن التفكير الفلسفي، ويطرح أسئلة فلسفية مقلقة، مثلما حرضوا العامة من الناس لإيذاء كل من يتهمونه بالهرطقة الفلسفية، وبالزندقة؟
ولو لم يكن واقعنا العربي المعاصر كما كان سابقا، فلماذا أغُتيل العلامة الشيخ الجليل صبحي الصالح، وهو صاحب البحوث المهمة في علوم القرآن وفقه اللغة العربية! ولماذا ياتُرى لم ترحم المسدسات، الكاتمة للصوت، شيخوخة المؤرخ الفلسفي والمفكرالاسلامي الشيخ حسين مروة، ولم لم تتردد طلقات القتلة وهي تخترق جمجمة المفكر اللبناني حسن حمدان المعروف ب( مهدي عامل )، الذي رحبت به كل الاوساط الفكرية، النخبوية، العربية في بداية السبعينيات باعتباره مشروعا لفيلسوف عربي جديد، ولم توجهت رصاصات القتلة الى رأس فرج فودة الحر؟
ألا يشبه يومنا المخضب بدماء مفكرينا، أمسنا الذي فيه زُج بالأمام ابوحنيفة في أقبية سجون أبي جعفر المنصور مؤسس بغداد، وقُتل فيه الأمام موسى الكاظم في سجون الرشيد، وألقي فيه أبن المقفع في التنور الملتهب وهو حي يرزق، ولوحق فيه الامام الرضا الى مشهد ليقتل بالسم من قبل المأمون صاحب العلم والمجالس الثقافية، وُجر فيه ابن حنبل مثقلا بالسلاسل ليقف أمام المتوكل، وخوزق فيه العشرات من المفكرين في ظل الحواضر والامصار تحت رايات الخلفاء العثمانيين؟ بلى والله، لقد صار يومنا اشد لعنة من أمسنا،لا سيما بعد إعتمادنا على وسائل القتل المتطورة، وتوفر وسائل الاغواء الأشد سحرا، وسهولة الرصد، والتنصت، والقتل اذا اقتضى الأمر..!!
ولو إبتعدنا عن هذا السؤال المعذب، ودخلنا الى صلب الفكر الفلسفي، وتطبيقاته النظرية في الفكر العربي، فسوف نواجه بإشكالية (المصطلح الفلسفي) على مستوى الفكر العالمي، وتحديد دلالاته، ونحت مصطلح رديف له في الفلسفة العربية الاسلامية، قديمها وحديثها؟ ولواجهنا ايضا إشكالية اخرى مرتبطة بامكانياتنا الحضارية لانتاج فكر فلسفي أصيل نستطيع من خلاله مواجهة واقع التبعية الفكرية والفلسفية للآخر!!
إن وسائل الاعلام الجماهيرية،العربية، من صحافة وتلفزيون وراديو وسينما، كلها ساهمت في تقديم صورة مشوهة عن الانسان المثقف عموما، والانسان المفكر خصوصا، وكأنه انسان خيالي، غير واقعي، ليس له علاقة بالواقع أو بما يدور حوله، وقدمت له الفلسفة وكأنها نوع من الثرثرة، والتشدق اللفظي، واللغو الفارغ، واختلاق مشاكل وهموم لا يفكر الانسان العادي فيها، وهو في غنى عنها، لذلك فهي وجع رأس وليس اكثر..!!
ومن هنا فان هذا المقال يعتز بانه يلقي حجرا في بركة راكدة، ومن خلال احدى وسائل الاعلام الجماهيري، ليثير السؤال من جديد: هل هناك فلاسفة عرب معاصرون، أم لدينا مشتغلون في الحقل الفلسفي؟ لدينا مفكرون، فلماذا لا نستطيع ان نطلق عليهم لقب( فلاسفة)؟ أليس لدينا نجيب محفوظ، وهو أديب يقف عند أقانيم الفلسفة بمعناها الدلالي الحقيقي والمباشر؟ واذا ما ذهبنا مع بعض الطروحات التي تؤكد بان الفلسفة العربية الاسلامية نشأت في عصر كان العرب، والمسلمون عموما، أقوياء، واثقين من انفسهم، لا يخافون الانفتاح على الاخر، ولا تقلقهم إشكالية فقدان وضياع الهوية، واننا اليوم نعيش واقعا على عكس كل ما تقدم وصفه، فهل هذا يعني باننا عاجزون ولا فائدة ترجى منا، لاننا لا نملك الا ان نكون هامشا لمتن ينتجه غيرنا، وصدى ضعيف لصوت عميق واثق القرار ياتينا من آفاق رحبة يبعدنا عنها شرط الحرية؟
إنها مجــرد أسـئلة بريئة..بريئـة جدا..!
*******************
جورج طرابيشي: ليس لدينا فلاسفة وإنما تراجمة فلسفة
لهذا السؤال عدة أجوبة ممكنة، وفي مقدمتها غلبة الخطاب الايديولوجي الذي شكل في الستينات جائحة وبائية حقيقية.
ولكن إذا اردنا أن نحفر في المزيد من العمق، فلا بد أن نبحث عن جواب آخر يتمثل في ما لا أتردد أن أسميه "استحالة الموقف الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة".
ذلك أن الفلسفة نبتة لا تُنْبت ولا تزهر إلا في تربة العقل واستقلالية العقل. وبدون أن أدخل في تفاصيل لا تتسع لها هذه الاجابة المختصرة، فسألاحظ أن العقلانية كشرط لتمخض الفلسفة ما زالت بعيدة عن أن تكون صاحبة الكلمة الأولى في الثقافة العربية المعاصرة. وأنا لا أعني بالعقلانية شيئا آخر سوى هذا المبدأ البسيط والثوري معا: إنه لا يجوز ان تعلو فوق سلطة العقل أية سلطة أخرى. والحال ان سُلطان الثقافة العربية ما زال يعتّم بعمامة الدين – وهذا أنكى – الدين المؤدلج. ولئن أمكن في العصور الوسطى الاسلامية أن تتطور أشكال لاهوتية من الفلسفة، فإن اللاهوت نفسه، كشكل معقلن من الدين، ما زال منفيا من الثقافة العربية منذ ان طرد علم الكلام خارج أسوار المدينة الاسلامية ومنذ ان تقلصت الحضارة العربية الاسلامية، من حيث الدينامية الفكرية، إلى محض حضارة فقه.
وإذا حددنا الموقف الفلسفي بأنه التسليم بسؤدد العقل وتعالي سلطته على كل سلطة عداها، فلنا أن نقرر في شبه يقين ان امكانية الموقف الفلسفي معدومة في الثقافة العربية المعاصرة أو مصادرة لحساب الدين المؤدلج، أو الايديولوجيا المتدينة. وإذا كان هناك في الستينات من مارس الفاعلية الفلسفية، وإذا كان هناك اليوم من لا يزال يمارسها بقدر أكبر من الحياء، فإن هذه الممارسة تقتصر في غالب الأحيان على الجوانب غير المحرجة من الموقف الفلسفي. فاكثر الممارسات العربية للفلسفة قد اقتصرت على فلسفة اللغة، كما في مثال كمال يوسف الحاج أو زكي الأرسوزي، أو كانت ترجمة بالوكالة كما في فلسفة عبدالرحمن بدوي الوجودية أو فلسفة يوسف كرم التوماوية أو فلسفة عبدالعزيز الحبابي الشخصانية أو فلسفة حسن حنفي الفينومينولوجيا. ففي جميع هذه الحالات، نحن لا نجد انفسنا أمام فلاسفة بل أمام تراجمة فلسفة.
****************
حوار مع د. فتحي التريكي: "التفلسف نضال يومي ومقاومة مستمرة ضد الاستبداد واللامعقول في العالم..."
حكمت الحاج من تونس: هل لدينا فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: أين هي اليوم؟ ما هي إنجازاتها؟ إشكالياتها؟ ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي؟ سؤال كبير تتفرع منه كل الأسئلة المتلهفة لأجوبة تشفي الغليل... ومع هذا فليس هناك أجوبة نهائية.. بل مجاذبات تأمّلية لعلها أن تجعل العينَ ترى أبعد، والأذن تلتقط أبعد من الإصغاء...أن تستحث العربي إلى استجلاء معنى مجيئه إلى هذا العالم؛ قيمة فرديته الخلاقة: أن يخرج من تراب الأسطورة الى فضاء التفكير.
هكذا يقدم المحرر الثقافي لـ "إيلاف" الشاعر عبد القادر الجنابي لهذا الملف الهام والإشكالي، الخاص بوضعية الفلسفة في العالم العربي، ومعه نقول حقا ان أحدى الخسائر الكبرى التي مني بها العقل العربي في كل حروبه الإيديولوجية هي فقدانه لحاسة التأمل الفردي، أي التفلسف، بالمعنى الذي يورده "كانط" للكلمة، وأضيف أيضا، صفة "النقدي" لذاك التأمل المنشود. ولكن هل حقا واقع الحال كما يقال؟ أليس هناك من استثناء؟
كتبت الدكتورة منى النجار في المجلة الالكترونية "قنطرة" Qantara.de التي تصدر بالعربية والألمانية مقالا تحت عنوان "الفلسفة هي الأكثر مبيعاٌ في معرض تونس الدولي للكتاب لعام 2003" قائلة ان "ما يميز القراء التونسيين هو اهتمامهم الكبير بالفلسفة. لقد بيعت بكثرة هذه السنة أيضا كتب لهايدغر، وعنه، ولأدورنو أو هابرماس والتي تجد إقبالا متوسطا في البلدان العربية الأخرى".
وتكاد أن تكون هذه هي صورة الحقيقة، حقيقة الفلسفة في تونس. ولم يجانب الدكتورة منى النجار الصواب، ولا جانب غيرها، عندما تتم الإشارة الى تفرد ذلك النشاط العلمي البحثي النقدي الفلسفي، سواء في الصروح الأكاديمية، أم بالممارسة الحرة وتطبيقاتها، من الدين إلى الفن، في تونس، ولربما كان وسيبقى إلى أمد غير معلوم، مَعْلَمَا خاصا بتونس ودالا على ثقافتها بل ودورها الحضاري.
مثال أو مثالين نعطيهما في هذا السياق للدلالة على صدق ملاحظات المتعمق في التجربة الفكرية التونسية. فلا أعتقد أن هناك من بلد عربي أو عالم ثالثي طرح على طاولة النقاش والسجال والمُساءلة، عبر نخبته المفكرة، موضوعا كـ "العولمة" أو "الهوية" أو "الحداثة"، بمثل هذا الكم والزخم والعنفوان والجدية والمواصلة، كما هو الأمر كائن في تونس.. ولا داعي هنا لذكر كل تلك الندوات واللقاءات والمنشورات والجلسات والشخصيات التي تدور في هذه الأفلاك.. وكلها تؤكد شيوع التفلسف الصحيح في تونس، وإرادة التطبيق الفلسفي على شتى الميادين حتى تلك التي تبدو للوهلة الأولى إنها أبعد ما تكون عن الفلسفة.
من جهة أخرى، حَقَّ لنا أن نتساءل عن أهم مقومات الفكر الفلسفي في تونس، وهل هناك "فلاسفة" في تونس، أم هناك فقط أساتذة ومدرسون للفلسفة؟ ما هي أهم مميزات الفلسفة في تونس التي تعزلها عن غيرها من الاتجاهات في العالم العربي ومن ثم العالم؟ هل الفلسفة في تونس في وضعية التماس مع "الشارع" و"الناس" أم أنها ما تزال أسيرة جدران الجامعات والنخبة؟ هل ثمة مستقبل للفلسفة في تونس؟ وان كان الجواب بـ نعم، فما هي ملامح ذلك المستقبل؟
ذهبنا بهذه المقدمات إلى فيلسوف تونسي معروف مشرقا ومغربا هو الدكتور فتحي التريكي، الذي أرشدنا مشكورا إلى أن نحقق معا الخطة التالية على أن تنشر في "إيلاف" جميعها، وتتضمن، إضافة إلى الحوار الشيق الذي ستطالعونه الآن، مقالة حول تدريس وتعريب الفلسفة في تونس حتى عام 1986، مدعمة بإحصاءات دقيقة. ثم نظرة سريعة على الفلسفة في تونس بعد العام 1986 وحتى الآن، وحوار مع الأستاذ محمد علي ألكبسي حول تيارات الفكر الفلسفي في تونس، ولقاء مع الدكتور الطاهر بن قيزة حول الفلسفة في تونس عبر تجربة "مختبر الفلسفة" التي ينشط فيها. وبعد ذلك جلسة خاصة ثانية مع الدكتور التريكي حول القضايا الفلسفية الكبرى للفكر الفلسفي في تونس في الوقت الراهن، وأخيرا، تدوينات جدّ مهمة عن حضور الفلسفة الأوروبية في تونس بلحمها وشحمها، والعنوان العريض هو "فلاسفة أوروبيون في تونس: فرانسوا شاتلييه، ميشيل فوكو، جاك دريدا.. وغيرهم.
والدكتور فتحي التريكي هو فيلسوف تونسي من مواليد 1947 بصفاقس, حاصل على الدكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة السوربون بباريس- وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس- أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة بجامعة تونس - من مؤلفاته : أفلاطون والديالكتيكية عام 1986- الفلاسفة والحرب (بالفرنسية) 1985- قراءات في فلسفة التنوع 1988- الروح التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية 1991- الفلسفة الشريدة 1988- فلسفة الحداثة 1992- مقاربات حول تاريخ العلوم العربية 1996- اسنراتيجية الهوية 1997- فلسفة العيش سويا 1998- العقل والحرية 1998. الحداثة وما بعد الحداثة 2003.
التقيناه في مكتبته العامرة، فكان هذا الحوار:
* لنسألك في البداية من حيث يمكن للفرد أن يسأل عن الفلسفة، مازجا معها السياسة بالتاريخ: هل الفلسفة في تونس هي نتيجة للاستعمار الفرنسي الذي عرفته تونس في القرن التاسع عشر أم أن لها جذورا تاريخية؟
- عرفت تونس الفلسفة منذ القدم. ومع الحضارة "القرطاجنية" كان هناك مثلا "أبوليوس" صاحب أول قصة في العالم، "الحمار الذهبي". ومن المعلوم انه كان أرسطي الاتجاه في فكره. أما بعد الفتح الإسلامي، فقد تنامى بتونس عدد كبير من المفكرين والمناطقة والفلاسفة واللغويين، انتظموا في اتجاهات ثلاث: أولها أدبي ويمثله "ابن رشيق القيرواني"، وثانيها في فلسفة الدين ويمثله "الإمام سحنون"، وثالثها في فلسفة المجتمع ويمثله العلامة "عبد الرحمن بن خلدون". في العهد الإسلامي، كما هو الشأن في العهد القرطاجني، جنحت الفلسفة إلى أن تكون عاملة أكثر في ميادين تطبيقية مثل المنطق الرياضي والدين. وهكذا أنتجت الفلسفة في تونس فلاسفة كبار من "أبوليوس" وصولا إلى "ابن خلدون" أول عالم اجتماع في العالم.
* ماذا حصل بعد ذلك؟
- ما حصل بعد ذلك هو انحسار الفلسفة داخل الميدان الديني مع توجه جديد جاء مع القرن التاسع عشر، أقصد التوجه نحو الفلسفة السياسية حيث ألف "خير الدين التونسي" كتابه الشهير "أقوم المسالك إلى معرفة الممالك" ذلك الكتاب الذي حاور فيه المفكر الأمريكي "بيرس" فيما يخص الليبرالية. ولا ننسى كذلك كتاب المصلح الكبير الطاهر الحداد "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر أوائل القرن العشرين. إذن، صار التوجه الفلسفي ينحو إلى جانب التطبيق في الدين، إلى فتح الآفاق أمام الفكر السياسي ليتقدم. وقد تأسس تحديث المجتمع التونسي على هذه التطبيقات الفلسفية المذكورة أعلاه. وبشكل دقيق نستطيع القول إن الميتافيزيقيا غابت، والتطبيقات هي التي شَرَّعت للمجتمع التونسي.
* وأي عنوان نضع للفلسفة في تونس في العصر الحديث؟
- في العصر الحديث نستطيع أن نضع عنوانا عريضا ليدل على الفعل في التاريخ ألا وهو "الفلسفة تدريسا". ولكن برغم ذلك لم تترك الفلسفة جانبا وإن ضعف تدريسها داخل جامع "الزيتونة" حيث كان ينحصر في دروس علم الكلام والمنطق. وبشكل عام بقيت الفلسفة موجودة في الدرس الجامعي، حتى جاءت الإصلاحات الكبرى للزيتونة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندها دخلت بعض القضايا الكبرى مثل القضايا الاجتماعية لاسيما في "المعهد الخلدوني"، ولكن سيلعب، على الجهة الأخرى، "المعهد الصادقي" دورا كبيرا جدا في الحركة الفلسفية إذ انه إضافة إلى المصلحين التونسيين في أوائل القرن العشرين ثم فيما بعد الحرب العالمية الأولى فالثانية، سيتخرج جيل متشبع بالأفكار الفلسفية الغربية، وعلى أيديهم ستترسخ "الحداثة" في المجتمع التونسي.
* ألم يكن المعهدان اللذان ذكرتهما، يتوجهان صوب الأفكار نفسها؟ كنت أتصور إن الصراع كان بين "الزيتونة" و"الصادقية"؟
- تستطيع أن تقول إن المعهد الخلدوني كان يمثل العصرنة المنبثقة من التراث العربي الإسلامي، أما المعهد ألصادقي فكان يمثل العصرنة والحداثة كاملتين. كما انه جدير بالذكر أن نقول إن الكثير من رواد الحداثة هم من خريجي "الزيتونة" من أمثال عبد العزيز الثعالبي ومحمد الفاضل بن عاشور والطاهر الحداد والشاعر أبو القاسم ألشابي. ولكن كلامك صحيح من جهة أخرى، فإننا نؤشر وجود رافدين فلسفيين للنهضة في تونس: "الزيتونة" مع إصلاحها وتجديدها، و"المدرسة الصادقية" بروحها العصرية. ولقد كان هناك صراع بين الاثنتين في أغلب الأحيان مما أحدث رَجَّة جعلت تونس تصبو دائما إلى الأمام ولكن وهي منشدة إلى تراثها.
*هل هذا يعني انه كان ثمة صراع ما بين "الشريعة" و"الحقيقة"؟
- نحن تحدثنا عن ملامح الجذور الفلسفية للمجتمع التونسي.. ولكن أيضا يجب أن نؤكد إن كل تلك التناقضات والاصطراعات كانت في انسجام مع الدين الإسلامي مما يعني انه لم يكن هناك صراع مطلقا بين الشريعة والحقيقة إلا فيما ندر.
* وماذا نسمي إذن موقف علماء "الزيتونة" من الطاهر الحداد وكتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"ّ؟
- عندما نادى الطاهر الحداد بتحرير المرأة لم يكن ذلك صراعا بين الفلسفة والدين بقدر ما كان صراعا بين المستنيرين وأهل الظلمات.
* حسنا.. لنأت الآن إلى مرحلة الاستقلال؟ كيف أثر ذلك على وضع الفلسفة؟ وعلى أية أسس بدأ النظام السياسي الجديد يتعامل مع الفلسفة بوصفها مَعْلما اجتماعيا، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الثقافة الفرنسية في تونس؟
- بعد الاستقلال قام "الحبيب بورقيبة" بإصلاح جذري للتدريس في تونس طال المناهج الدراسية بالتأكيد، وجعل من درس الفلسفة مادة إجبارية في كل الاختصاصات وفي جميع المعاهد، بل وأنشأ قسما للفلسفة في الجامعة التونسية، وأخيرا عمل "بورقيبة" على التفريق ما بين الفلسفة في نمط تناولها الحديث والمعاصر، وبين الفلسفة الإسلامية.. كان هم بورقيبة في ذلك دون شك هو تنوير الشباب التونسي والتوجه به نحو المعرفة والعلوم والتكنولوجيا، ولكن اللغة الفرنسية التي كانت عائقا كبيرا وحقيقيا أمام أية محاولة لربط القضايا الفلسفية الكبرى باهتمامات الشارع التونسي، لذلك صار المفكر التونسي في عزلة عما يحدث على النطاق الثقافي والفني للمجتمع. وهكذا تقرر تعريب الدرس الفلسفي في تونس عام 1975 فكانت انطلاقة جديدة للفلسفة بحيث تفاعلت كثيرا مع الفكر المعيشي اليومي والإبداعات الثقافية والأدبية والفنية، وتكاثرت المؤلفات الفلسفية باللغة العربية، وأحدثت الفلسفة نقاشات محتدمة على الساحة الفكرية والأدبية في تونس، وحتى على الساحة السياسية. هذا مع العلم إن الجامعة التونسية بتعريبها للفلسفة قد تركت المجال لتدريس الفلسفة باللغات الأجنبية كي لا تحدث قطيعة [كما حدثت في بلدان عربية أخرى] بين اهتمامات المواطن التونسي وبين ما يستجد من أفكار ومشاغل على الصعيد العالمي. وكانت تجربة فريدة من نوعها، إذ إن في تونس الآن فلاسفة يقرؤون الفلسفة باللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية والأسبانية، وهو ما جعل المدرسة الفلسفية التونسية ثرية في اهتماماتها، ومتجددة على الدوام وفي علاقة تواصل ومواصلة مع أكبر فلاسفة الغرب، طبعا من دون التخلي عن البحث في التراث ومقوماته ولكن بطريقة علمية فكرية بعيدة كل البعد عن التمجيد والاعتداد الأجوف.. أي، بطريقة نقدية.
* وهل بقيت الفلسفة تبعا لهذا أسيرة الجدران؟
- إن من مستتبعات هذا التعريف نشوء أو تكون جمعيات غير حكومية تهتم بالفلسفة وشؤونها، مثل "الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية"، ومثل جمعية "مدارات" و"الجمعية التونسية للإنشائية والجماليات" التي تشرف عليها الدكتورة رشيدة التريكي، وغيرها. كما تكونت في الجامعات والكليات فرق بحث متعددة في الفلسفة، منها ما هو مختص بالفلسفة السياسية، ومنها ما هو مختص بفلسفة العلوم والمنطق وفلسفة اللغة. وأخيرا تكون "مختبر الفلسفة" في جامعة تونس وهو يبحث ويعنى في قضية شديدة الراهنية ألا وهي "الثقافات والتكنولوجيات المعاصرة والمقاربات الفلسفية". وهذا المختبر هو أول مختبر من نوعه في العالم العربي. علما بأن الدولة التونسية قد رصدت له اعتمادات مالية لا يستهان بها على الإطلاق.
* هل الأمر كذلك في ميدان النشر؟
- إلى جانب الكتب والمؤلفات والدراسات الكثيرة التي صدرت عن الجامعات ودور النشر العامة والخاصة، فإن هنالك دوريات ونشريات متخصصة في الفلسفة نذكر منها:
1. مجلة الدراسات الفلسفية وهي مجلة فلسفية بحتة أي أنها لا تبحث إلا في القضايا الفلسفية الشائكة ولها توجهان، علمي وبيداغوجي تربوي.
2. مجلة "مدارات" وهي أيضا تهتم بالفلسفة إلى جانب اهتمامها بالعلوم الإنسانية بصفة عامة. والمجلتان المذكورتان أعلاه تصدران باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
3. دورية "إنشاء" وهي مجلة تهتم بالجماليات تحديدا وقد صدر منها لحد الآن ثلاثة أعداد فقط.
* بالإضافة طبعا إلى حوليات الكليات والجامعات والتي تخصص أعدادا منها للفلسفة كل عام..؟
- نعم.. ولا يفوتنا في هذا المجال ذكر الصحف والمجلات العامة مثل "الحياة الثقافية" الشهرية، حيث يتم نشر المقالات والمراجعات الفلسفية فيها بين حين وآخر. وحتى الإذاعة والتلفزة التونسية لا تخلو شبكة بث فيهما من برنامج أو أكثر يتناول الفلسفة أو أعلامها كما حصل مع "فوكو" و"دريدا"، كما قدمت بعض البرامج عن "الإنشائية"...الخ.. ومن الجدير بالذكر أن نقول إن معظم مجلات ودوريات الفكر والفلسفة في العالم العربي يساهم في رفدها ونشرها والكتابة فيها فلاسفة ومفكرون من تونس، مثل "الفكر العربي المعاصر" و"كتابات معاصرة" و"فكر ونقد" المغربية، و"أوراق فلسفية" في مصر....
* وطبعا، هنالك ترجمة أمهات الكتب الفلسفية، أليس كذلك؟
- ترجمة الفلسفة في تونس قليلة ولكنها مفيدة وعميقة ودقيقة وعلمية. لقد انتقلت الظاهرة من مصر إلى تونس.. ففي أماكن أخرى ترى ترجمات فلسفية غير دقيقة وغير أمينة إطلاقا.
* ما هي أهم الاختصاصات التي تشتغل عليها المدرسة التونسية في الفلسفة؟
- المدرسة التونسية في الفلسفة تشتمل على كل الاختصاصات الكبرى. ففي تاريخ الفلسفة تجد الاختصاص في اليونانية وفي فلسفة ديكارت وسبينوزا، وفي الفلسفة الألمانية كما عند كانط وهيغل وهايدغر، كما تجد الاختصاص في تاريخ الفلسفة الفرنسية من الوجودية إلى فلسفة فوكو ودريدا ودولوز. إضافة إلى الاختصاص في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية إذ لدينا في تونس كبار المختصين في فلسفة ابن سينا [حاتم الزغل وأحمد الحسناوي] وفي الفلسفة الاندلسية بعامة وابن عربي بخاصة [مقداد عرفة منسية]... وفي الماركسية نشير إلى د. حميد بن عزيزة [بالفرنسية كحال معظم الدراسات الأكاديمية في الماركسية حيث بقيت تكتب بتلك اللغة] وغيرهم... وفي العالم العربي الآن، في الوقت الحاضر، فإن الاتجاه الأكثر وضوحا وبروزا هو الفلسفة اللانسقية، أو ما يطلق عليه بـ &
مدخل
الفلسفة كما يعّرفها المعرفيون منذ القدم انها – باختصار -: " البحث عن حقائق الاشياء ". والفلسفة – في معاجم اللغة العربية – هي " الحكمة "، فهل انتج العرب المعاصرون والمحدثون " حكمة " من نوع ما وكشفوا عن حقائق اشيائهم ومعانيها على امتداد أكثر من قرن كامل مضى من الزمن؟؟ وهل ابدعوا معرفيا: نظريا وتطبيقيا في البحث والخلق لنظريات وافكار شغل العالم كله بها؟؟ يقال: احكم الامر من الحكمة، اي: اتقّنه ومن تنسب اليه الحكمة قد احكمته التجارب على المثل: ويقال لمن كان حكيما قد احكمته التجارب، واحكمت الشيىء فاستحكم: صار محكما. قال ذو الرمة:
لمستحكم جزل المروءة مؤمــــن من القوم، لا يهوى الكلام اللواغيا
ونعود لنسأل: هل انتج العرب فلسفة وحكمة على امتداد قرن كامل، أم انهم عشقوا الكلام اللواغيا، بكل ما فيه من اطناب واسهاب وثرثرة وتهويل ولغو وحشو وتكرار وهذر وانشاء خاو من المعاني.. الخ
العرب اليوم: بعيدا عن استنارة فكر وعن فاعلية تفكير
كنت قبل ثلاثة اسابيع ضيفا خفيف الظل على قناة الشارقة الفضائية في برنامج حيوي اسمه ( اوراق )، وفي حوار مبسّط مع صاحبته ومقدمته السيدة باريهان كمق عن حاجة العرب الى منهج فكر! قلت منذ البداية: بأن ليس عند العرب المعاصرين فكرا محدثا فهم في مرحلة طالت نهضويتهم فيها من الركود وهم ما زالوا في دوامة من التفكير الباحث عن نقاط البدء بعد لا الفكر المستنير الراسخ القائم بذاته! ومن المضحك المبكي ان يطلق البعض على انفسهم بـ " المفكرّين "!
قالت محاورتي وهي مثقفة ومتابعة: لماذا؟
قلت: لأن ليس هناك أي مجتمع في الدنيا اليوم يحترم نفسه ويتقّبل مثل هذا المصطلح او التعبير عن بعض ابناء نخبه. هذا مصطلح بليد اشاعه العرب بقولهم " هذا مفكّر.. " وهذه " نخبة من المفكرين ".. فالاصح – عندي - ان يطلق على كل واحد منهم اختصاصه الجامعي او المهني او النظري فيقال: الطبيب والمهندس والمحامي والقاضي والاكاديمي والمؤرخ والكاتب.. الخ أما ان يقال عن هذا " مفّكر " وذاك " فيلسوف " فهذا ما يضحك حقا.. فكل انسان مهما كان حجمه في هذا الوجود انما يفّكر في الاشياء ومعاني وما حوله من الامور ليسكن الى معتقداته ويتخذ عنها مواقفه وقناعاته وثوابته. وربما تختلف من احدهم الى الاخر جراء تباين عواطفهم ومشاعرهم وانسياقهم وراء مؤثرات واحداث وخطابات وانساق لا حصر لها ابدا.
قالت: وماذا بعد؟
قلت: ليس من واجب كل من هّب ودبّ ان يتطفل على تخصص الاخرين، واذا قبلنا بالمصطلح على مضض، فأنني أسأل: هل استطاع ( الفكر العربي المعاصر ) ان يفرض نفسه في مساحة معينة ومضيئة وضيئة في الفكر الانساني الحديث اليوم بكل ما وصل اليه هذا الاخير من التطور والعمق؟؟ هل نجح اي ( مفكر ) عربي بفرض نظرية معينة او فلسفة متميزة وشغل مساحة كبرى ومعتبرة من القراء والمهتمين والدارسين في العالم؟؟ الجواب: كلا.. واستطردت متسائلا: هل نجح العرب بكل جحافلهم من المثقفين والمختصين بعد مضي قرنين من الزمن على ما يسّمى بنهضتهم الحديثة ان يفرضوا موسوعتهم العربية العالمية – مثلا – وبأكثر من لغة على الثقافة البشرية؟ انهم ان كانوا قد فشلوا فشلا ذريعا حتى في الاتفاق على مبادىء معرفية وخطوط منهاجية عامة فكيف يا ترى ستكون لهم فلسفاتهم وفلاسفتهم؟ ربما هم يقولون ويتنطعون بأن لهم ما ليس للاخرين من فلسفة وفلاسفة.. دعوهم يقولون ويزايدون ما يشاؤون بينهم وبين انفسهم، ولكن من مصلحة اجيالنا القادمة ان لا ندعهم في غيّهم يعمهون! وساعرض في ادناه صورة نموذج من هذا الغثاء الذي يجتاح ثقافتنا العربية المعاصرة تحت طائلة شعارات تدعمها شهادات ورقية ( اكاديمية ) يغلّف بها بعض الجاهلين بها انفسهم!
حوار بيزنطي
نعم، بعد لأي من ذلك الحوار التلفزيوني، طلع على الشاشة ضيف من الاردن قدّم تعقيبا بائسا على كلامي كونه لم يفهم الصح من الخطأ وقال كلاما عاطفيا بما يشبه لغو من الكلام.. وكان المسكين لا يدرك الف " التفكير " من يائه! كان على اسوة اقرانه من الوعاظين الذين تربوا في صحراء قاحلة لا تعرف فيها المعرفة ولا شطآن العقل ولا لغة الاخر ولا فلسفة العالم.. كان مهذارا ثرثارا وكأنه لم يدرك ولم يكتب ما يقوله الحكماء والعقلاء على امتداد قرن كامل من الزمن؟؟ وهو الذي لم يعلموه الا كيل المديح والاجترار والاستطراد وقلة العقل وهذه مصيبة ابتليت بها ثقافتنا العربية اليوم وخصوصا عندما تخرج في اروقة جامعاتنا العربية البائسة ركاما من الجهلة الذين لا يصلحون ان يكونوا في اسفل سلم المجتمع لا في اعاليه! نعم، قال: كيف لا ونحن لدينا فلسفة وفلاسفة جهابذة عرب من المحدثين المعاصرين امثال ذاك وذاك.. فلاسفة كتبوا كما كبيرا من الكتب التي خدمت ثقافتنا العربية وقلت في نفسي: يا لسخرية القدر ان تغدو مؤلفات مسردة ومترجمة وكتابات لنصوص اعاد انتاجها اصحابها من جديد ونشروها في حياتنا الثقافية بثياب رثة.. فصّدق العرب ان لديهم فلسفة وفلاسفة!
اجبت هذا المتدخل بما يستحق بكل هدوء، اذ ادرك انه وأمثاله قد نكبهم الجهل ورفعهم الزمن فاصبحوا من السفهاء الذين لا يمكن الحوار معهم، ولّم ينفع معهم الا الاهمال والترفع فهم بمثابة لجام يعضلهم حتى يموتوا!!
عاد ليهذر من جديد ثانية مستخفا بتكنولوجيا العصر ومجّملا كلامه بترديد ما كان قد تلقّنه من عبارات سياسية في المجد والجهاد والسؤدد وكال المديح لتقاليده البدوية المجيدة التي اعتبرتها مجتمعاتنا المدينية العربية في الامس القريب تقاليد بالية لا تنفع المجتمع المعاصر! وعاد ليردد بكل وقاحة بأن للعرب اليوم مدارس فلسفية وفلاسفة عظام ومناهج راقية في الفلسفة! واراد تحويل النقاش الى قضية سياسية كالعادة العربية الفاشلة عندما تنضب آلية المعرفة ومن اجل ان يتبجح ضد العراق فاسكته بعد ان سألتني محاورتي بكل ذكاء: هل تتفق مع هذا الذي يطرحه ( الدكتور )؟ قلت لها: كلا لا اوافق ما يقوله هذا الرجل! فالامور ليست بمثل هذه السذاجة.. فأي فلاسفة عظام هؤلاء؟ وأي مناهج راقية في الفلسفة عند العربان المحدثين؟ وأي مدارس بها يتميزون؟ ان كل من كتب في الفلسفة من ادباء واكاديميين وشعراء ومثقفين عرب لا يعدو ان يكون مجرد انشاء كلام او تجميع نصوص او توصيف حال او ترجمات كتب او شرح قواعد او كتابة مقالات او ابيات شعر فلسفية.. الخ
اين الفلسفة والفلاسفة؟
انني اتحّدى ثقافتنا العربية (الحديثة) الاتيان بفيلسوف عربي واحد اليوم عند مطلع القرن العشرين او حتى من مثقفي القرن العشرين.. قدّم نظرية فلسفية عرفها العالم كله؟ او انه قدّم ابداعا فلسفيا في موضوع حيوي معين على الارض العربية وليس جزءا من انتاج معرفي في جامعات غربية؟؟ ولقد طالبت الجيل الجديد الذي اتمنى عليه ان يوظف طاقاته وخبراته بعد عشر سنوات من اليوم بعد رحيل جيلنا نحن هذا المخضرم بين قرنين.. طالبته بأن يؤسس ثورة نقدية عارمة لمنتجات آبائه في القرن العشرين ليقف على حقائق مذهلة وعلى اسماء كتاب مشهورين في ادبياتنا العربية كتبت في الفلسفة وغيرها، لكنه سيكتشف انها اسماء مخادعة ومهزوزة ومخاتلة ومستلبة لم يكن ذلك الكم الوفير الذي كتبته تلك الاسماء ونشرته الا مجرد ترجمات خفية عن لغات اجنبية ويا للاسف الشديد! خصوصا وان ابرز هؤلاء عاشوا في بيئة محلية لا تعرف الا لغة التهويل والمديح والتعظيم لأناس وصفوهم بالمفكرين والفلاسفة والعمالقة الكبار وهم لا يصلحون حتى لكتابة عرضحالات لدوائر رسمية او على اكثر تقدير اعتبارهم كتبة مقالات او مؤلفي كتب لا حياة فيها ولا فكر لها ولا ابداعات مثمرة عنها!
لقد اشتغل العرب من المسلمين وغير المسلمين القدماء بالفلسفة بعد ان تأثروا بالفلسفة الاغريقية فابدعوا واثمرت جهودهم اثر اعظم حركة للترجمة قامت في بغداد وبرغم كل ما قدمّه حنين بن اسحق والكندي والفارابي ومسكويه وابن رشد وابن طفيل وابن باجه والبيروني وابن ميمون وابن سينا وابن خلدون وغيرهم من اقوى الفلاسفة واصحاب المناهج والمدارس من علماء الكلام والاشاعرة والمعتزلة.. الخ الا ان حربا ضارية لا هوادة فيها مورست ضدّهم تحت مسمّيات واتهامات شّتى فوصف بعضهم بالتهافت ووصف بعضهم الاخر بالانعزال والبعض الاخر بالزندقة والالحاد.. نعم، كل ذلك جرى في دواخلنا العربية علما بأنهم ابدعوا واثمرت جهودهم عن براعة فكر حقيقي استفاد العالم كله منهم.. ولكن عصرنا الحالي لم يشهد ولادة فلاسفة عمالقة ولا حتى اقزام صغار يتفلسفون او حتى يهذرون عن عشق للفلسفة او عن جنون بها..
لقد عجز الفكر العربي المعاصر عن الفلسفة بسبب عوامل عديدة لا يمكنني اغفالها في مثل هذه المداخلة! فالعرب على امتداد تاريخهم الحديث قد غلبوا الافكار السياسية والمعتقدات الايديولوجية المتنوعة على تفكيرهم المعرفي فحادوا عن طرائق العقل، وكانوا وما زالوا يتغّلب الايديولوجي عندهم على المعرفي. والمعاصرون اليوم كانوا وما زالوا يختنقون في اقفاص حديدية سجنهم فيها حكامهم واباطرتهم.. او انهم وجدوا انفسهم في مجتمعاتهم يتشربون من ترسبات عقيمة وبقايا التخلف وهم في شرانق تحزهم خيوطها ولا تسمح لعقولهم بالتفكير الحر والتعامل النقدي المباشر مع الحياة.. والمعاصرون اليوم عندنا قد فتحت الاجيال الاولى منهم عيونها واسماعها ومشاعرها وكل جوارحها على ما يسّمى بـ " النهضة " و " التقدم "، وبعد ان اخذها هذا شمالا وسحبها الاخر يمينا وجدت الاجيال الجديدة نفسها وقد افترستها مشروعات مؤدلجة ومواعظ وممنوعات ومحرمات وخطب سياسية رنانة عدة ازحمت بالشعارات والمقدسات والتعليمات، فصمّت الاذان وتعطلت لغة العقل وقفل على الالسنة واضطهدت المشاعر وكممت الافواه واختنقت الانفاس..
العرب: خطايا واقع متعفّن
اي فلسفة عربية معاصرة يمكننا ان نقف ولو لمرة واحدة مع نظرية فلسفية واحدة؟ اي اثراء معرفي عربي حقيقي جرى في حياتنا الفكرية الحديثة لنظريات فلسفية حديثة عاشت في القرنين السابقين؟؟ هل كانت الكتابة وحتى التأليف من قبل بعض الكتبة والكتاب للنصوص في موضوعات كالداروينية او الماركسية او الوجودية او النسبية او البنيوية.. الخ هي التي تعتبرها جوقات من الجهلة والمداحين العرب فلسفة؟ هل نجح العرب المعاصرون في اثراء المعرفة الانسانية بالعمل جماعات وفرق عمل نظريا وميدانيا لانتاج اعمال مميزة يلتفت اليها العالم؟ هل ساهم العرب المعاصرون الذين يهوون الندوات والمؤتمرات والشعارات والخطابات الرنانة ان يعتنوا قليلا بتربية المبدعين من اولادهم وبناتهم كي يكون لهم مستقبل وشأن كبير؟؟ اي فلسفة عربية معاصرة هذه التي يتبجحون بها ونخبة المثقفين منهم تجتر المقولات وتردد النصوص وتستلب الافكار ولا تحترم الاخر وليس لها الا الاوهام والاخيلة والتشبب وذكر الامجاد وتكرار الاقوال والامثال وتدجن الكوارث وتشيد بالسلطات والدكتاتوريات..؟؟ اي فلسفة عربية معاصرة هذه التي لم تزل هذه النخبة من الكتاب العرب الذين لا يعرفون الا الكتابة ولا اتخّيل كيف انهم يكتبون وماذا يكتبون من دون ان يقرأون ولا يتدارسون ولا يتابعون!؟؟ كيف يمكنني ان أصف اوضاع حياتنا العربية المعاصرة التي لم تشهد حتى الان اي ثورة نقدية وفكرية حقيقية او اكاديمية منهاجية لدراسة تراثنا ونقده وكشف مستوراته وفضح عوارضه وتعرية مفاسده وتقويم اعوجاجاته الى جانب احترام رجالاته وثمار ابداعاته بعيدا عن النرجسية وعن التقديسية وعن التكفيرية وعن سحق الموضوعات الحية باسم عدم سحق الذات والذات منسحقة من عصر بعيد وقد غدت في اسفل سافلين!!
واخيرا: ما الذي يمكنني قوله؟
متى يتخلص العرب من صناعة الكلام اللاغي؟ متى يفكرون الف مرة قبل ان يهتاجوا ويقولوا ويكتبوا ويقدموا النصائح البليدة؟؟ متى يتخلصون من الوعظية وتوزيع الاحكام المجانية والقاء الاتهامات القاصمة على الاحرار والمفكرين والنقاد الحقيقيين؟ متى تفرز الحياة العربية النقاوة من المفاسد والبياض من العتمة والنظافة من الاوساخ والعقل من الجهالة والحداثة بعيدا عن اقانيم التخلف..؟؟
وتعالوا نسأل: اين العرب اليوم من بحثهم عن حقائق الاشياء وتوليد المعاني وخصب التفكير وابداعات الروح والعقل؟ اين هم من الحكمة؟ حتى لو كانت شعرا " وان من الشعر لحكمة " – كما يقول الرسول الاعظم -؟ اين هم الان من نظريات العصر الفلسفية الحديثة؟ لماذا يتقبلون كل شيىء مادي وتكنولوجي ينتجه الغربيون ببساطة وسذاجة باعتباره تحصيل حاصل مشروع وشرعي، ولكنهم يحجمون ويتبلدون عن قبول فلسفات الغرب ونظريات المعرفة الحقيقية المعاصرة؟ لو كان لديهم فقط حركة نقدية وفكرية وفقهية اجتهادية جريئة وحرة لنفضوا عنهم وعن انفسهم وعقولهم غبار الاختناقات وترسبات الماضويات وعفونة الواقع واحترموا تراثهم الحضاري الزاهر بعيدا عن تقديسه بغثه وسمينه، واحيوا مقاصدهم النظيفة التي لا تتقاطع او تتناقض مع ثوابتهم الراسخة.
نعم، لو بدأت مشروعات تجديدية وتحديثية في التفكير العربي والاسلامي الحديث وعالج العرب زمنهم لشاركوا مشاركة حقيقية في حياة العصر، ولكنهم ويا للاسف الشديد كانوا وما زالوا بعيدون جدا عن اللحاق حتى بفهم ذيوله وقوة صعقاته! لو تيسّرت الامور عندهم وغدت الحياة العربية بأيدي عقلائها ورجالاتها الحقيقيين لأنتجت بعد اجيال واجيال من ( نهضتها ) حكماء يتدبرون امرها وستحل مشكلات ومعضلات لا حصر لها بأيديهم باعتبارهم من اهل الحل والعقد.. ولتغير وجه حياتنا العربية واسرعت خطاها نحو ركب التحولات في العالم كله! وأخيرا ليس لي الا ان أسأل: هل ما زال هناك بشر سوي يقول بأن لدينا فلسفة حديثة وبعض فلاسفة كبار من المعاصرين؟؟
***********
بُـرهـان شـاوي: هل هناك فـلاسـفة عـرب معاصرون؟
* لدينا كليات للفلسفة، ولدينا باحثون في الفكر الفلسفي، ولدينا شراح نصوص ومؤرخون، لكـن أين مشـرعـنا الفلسـفي؟
* هل صـار عرض فلسفات الآخرين، والتعليق على نصوصهم، هو فلسفتنا؟
* كم كتابا في الفلسفة يصدر عن دور النشر العربية سنويا؟
* لماذا يؤرخ عبد الرحمن بدوي لنفسه فقط في الموسوعة الفلسفية، وهل ننتظر مفاجئات في الانتاج الفلسفي من العراق بعد سقوط الحكم الدموي فيه؟
* هـل الواقــع العربي المعاصـر معـاد للفلسفة ولإعمال الفكـر بشكل عام؟
قـد يبدو غريبا أن نحـاول هنـا مناقشـة قضية شـائكة وعميقة، كانت، ولاتزال،ابعد ما تكون عن وسـائل الاعـلام العربيـة، بكل أشكالها المقروئة والمسموعة والمكتوبة. قضية كان تراثنا القديم يطلق عليها لفظ (الحكـــمة)، وأسس لها علوما سميت (علوم الحكمــة) رغم أن بعضهم أطلق عليها أنذاك ايضا نفس الاسم الذي يطلق عليها اليوم في في الفكر المعاصر، ونقـصد هنــا (الفلســـفة)!!.
للفـلسـفـة في جامعاتنا العربية، وفي جامعات العالم العريقة، كليات وأساتذة مختصصون، حيث تُدرس على مدى أربع او خمس سنوات، كما تُمنح فيها الشهادات الجامعية والشهادات العليا، بل ان أعلى شهادة الدكتوراه في مجال الدراسات الانسانية تمنح تحت لقب(دكتورفلسفة)، ثم يعلن عن مجال التخصص الدراسي والأكاديمي!!. لكن الفلسفة ليست مهنة أو حرفة، أو وظيفـة إدارية، أوإجتماعية، فلماذا تُدرس إذن؟ وهـل هناك وظيفة لفيلسوف؟ بل وهل هناك مهنة أسمها: التفلسف؟ ثم، أكل من درس الفلسفة وتخرج من كلية الفلسفة هو فيلسوف بالضرورة؟ وهل ان دراسة الفلسفة هي حكر على الجامعات؟
من الواضح، من عنوان المقال، اننا لا نريد هنا أن نخوض في حوار حول تراثنا الفلسفي، لنرد على طروحات البعض الذين ينفون وجود فلسفة عربية إسلامية، من حيث ان مؤلفات الكندي، والرازي، والفارابي، وان سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، والطوسي، وصدر الدين الشيرازي، والطباطبائي، وغيرهم، خير شاهد على حضور هذه الفلسفة، حتى وان كانت أسئلتها غير صافية فلسفيا، من وجهة النظر الفلسفية المعاصرة، إذ كان السؤال الفلسفي فيها يتداخل مع المنطق من جهة ومع اللاهوت من جهة اخرى، لكننـا نسعى هنا الى ان نقرب الفلسفة من الواقع العربي المعاصر، من خلال تفحص السؤال التالي: لقد كانت لدينا فلسفة عربية إسلامية،( سواء كان هؤلاء الفلاسفة عربا ام من الأعاجم، فالبلاد كانت بلاد الاسلام، فالاسلام كان هو الهوية، وليست القومية، كما هو الحال اليوم..!!) فهل لدينا اليوم فلسفة عربية إسلامية؟ أو بدقة أكبر: هل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟ رغم ان غير المسلمين من العرب، والذين يعشيون في البلاد العربية مع العرب المسلمين، لا يمكنهم الخروج بسهولة من فضاء الاسلام، إذا ما اعتكفوا على السؤال الفلسفي، أو غيره من أسئلة الفكر!!
فيما يخص الشعوب الاسلامية غير العربية مثل الايرانيين والهنود والبنغال، والباكستان، و شعوب أقاصي آسيا المسلمة، يمكن الأجابة على هذا السؤال بنعم، إذ لديهم فلاسفة ومتفلسفون، ونتاج فلسفي مرموق. فحسب علمي ان مؤلفات الفلاسفة الايرانيين المعاصرون امثال (داريوش شايغان) و(سروش) و(مطهري) و(حسين الطباطبائي) والبنغالي الهندي (محمد اسد) تدرس في بعض الجامعات الاوربية والآميركية،لا سيما في أقسام الإستشراق، وما كشفه المفكر الالماني (يورغن هابرماس) في الاعلام الالماني، واثار ضجة في الاوساط الفكرية الألمانية والاوربية، عندما تحدث عن حواراته مع المفكرين الشباب المعممين في ايران، واتجاهات الفكر الاسلامي. هناك، بغض النظرعن تقييمه الشخصي لها، تؤكد وجود تاسيس فلسفي واثق الخطى هناك.!! وكدلك تحدثت مرارا، بل وكتبت المستشرقة الألمانية الراحلة (آناماري شيميل) مرات عديدة عن مثل هذا النشاط في اللغات التركية والأوردية والبنغالية التي كانت تجيدها،( بينما نتعالى نحن على هذه اللغات ونلهث وراء اللغات الاوربية فقط؟ مجسدين بكل وضوح عقدة النقص فينا امام الفكر الاوربي، رغم اننا لو نظرنا، وامعنا النظر، وبحثنا قليلا في الثقافات الاسلامية الشرقية،لازدادت حدة هذه العقدة!!)، لكن السؤال المهم هنا هو: هل لدينا، نحن في البلدان العربية، مسلمين ومسيحيين، فلسفة عربية، وهل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟
صحيح ان لدينا كليات للفلسفة في معظم جامعاتنا، الا أن معظم دراساتنا وبحوثنا، ومعظم الاسماء التي كتبت، ولازالت تكتب، في مجال الفلسفة، سواء من داخل الحرم الجامعي أو من خارجه، تشرح النصوص الفلسفة، وتبين إتجاهات الفكر الفلسفي، وتؤرخ لفلسفات الاخرين، وتبحث فيها، لكن دون أن تطرح هي مشروعها الفلسفي، ودون ان تنتج فكرا فلسفيا خاصا بها، او تؤسس مقدمات نظرية فلسفية، سواء في رحاب الفلسفة الاسلامية السابقة، او على أعتاب الأسئلة الفلسفية التي أنجزها الفلاسفة الغربيون!! فهل صار الاشتغال على تاريخ الفلسفة هو الفلسفة؟
ربما سيجيب البعض بنعم، أي ان الاشتغال على تاريخ الفلسفة صار جزءا من الفلسفة والعمل الفلسفي، وربما سيجيب آخرون بانه منذ( ماركس)، الذي اعلن في رده على(فويرباخ) بان الفلاسفة سابقا إكتفوا بتفسير العالم بينما المهم هو تغيره، تحولت الفلسفة الى وسيلة فكرية جبارة للتغيير الاجتماعي والتاريخي، ونزلت من عليائها الى أرض الواقع الانساني المرعب. وبالتالي صار الأعتكاف على السؤال الفلسفي الوجودي والكوني يفهم كشكل من الترف الذهني، ولأُتهم صاحبه بالنزوع البرجوازي الصغير، وبانه دليل على أزمة الفكر البرجوازي في العالم الراسمالي في صراعه مع الماركسية، آيديولوجية الطبقة العاملة. رغم ان فجاجة هذا الطرح إختفت منذ الانهيار المذهل للاتحاد السوفياتي، الذي كان حامل لواء الماركسية الللينينية، والذي قدم بسقوطه خدمة جليلة للفلسفة الماركسية، وذلك برفع الوصايا الأبوية والعقائدية عنها من جهة، وفتح الأفاق أمام المفكرين في روسيا وبلدان الطوق الاشتراكي سابقا ان يعيدو طرح الاسئلة الفلسفية القديمة والجديدة التي توقفت منذ هيمنة الحزب الواحد على السلطة، وصار رقيبا ووصيا على الفكر الحر، كما حرر المفكرين الاوربيين من عقدة التطبيق الفج للحلم اليوتوبي بالخلاص ومن تحمل آثام القمع الفكري والسياسي في البلدان التي حكمها الشيوعيون،. وربما من المفيد هنا ان نذكر، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، بانه كانت في روسيا وحدها قبل الثورة الاشتراكية تيارات فلسفية مهمة، كانت تمزج بين الفلسفات الاوربية والروح الشرقية، وكان هناك فلاسفة مرموقون امثال: سولوفيوف، ستراخوف، دانيليفسكي، ليونتف، رزانوف، شيستوف، برديايف، وغيرهم!
وعودة للدرس الاكاديمي الجامعي للفلسفة، تُرى ماهو شعور الطلبة الذين يدرسونها لسنوات ثم يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، يبحثون عن أية وظيفة فلايجدون، بل نجد ان دراستهم تصير أحيانا بابا للتندر عليهم كان يقولون: جاء الفيلسوف، وذهب الفيلسوف، وقال الفيلسوف.
ولو بقينا في الحرم الجامعي وواصلنا الأسئلة: تُرى أين هي مؤلفات وكتب هؤلاء الاساتذة والعاملين في مجال الفلسفة؟ اين مجلاتهم الفلسفية؟ أين مؤتمراتهم الفكرية؟ ولو خرجنا من الجامعة وواصلنا الأسئلة، لكن في نفس المجال،: تُرى كم كتابا في الفلسفة ينشر سنويا؟ وما هي عدد النسخ عن الطبع؟ ومن يقرأه هذه الكتب؟
إننا كلما توغلنا في الأسئلة سنجد انفسنا أمام السؤال الفلسفي نفسه: تُرى اين هي حدود الفلسفة؟ وما هي علاقتها بواقعنا السياسي الرسمي المباشر؟ واين هي من حياة الناس اليومية؟ ولو تجرأنا أكثر لنبش مثل هذه الأسئلة لما ترددنا في السؤال: أين أختفت ياتُرى الحركة الفكرية الفلسفية التي بدأت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في القاهرة، وبيروت والمغرب العربي؟ لماذا توقفت حركة ترجمة للتراث الفلسفي العالمي الى العربية؟ ولماذا إختفت الاسماء العديدة التي إنهمكت في الفكر الفلسفي ترجمة وشرحا وتعليقا؟ ولماذا يؤرخ المرحوم (عبد الرحمن بدوي) بشكل موسع، في (الموسوعة الفلسفية)، لنفسه فقط؟ أتُرى هل يستطيع ( مطاع صفدي) ومن معه في مجلة (الفكر الفلسفي) و(عبد السلام بن عبدلعالي) في مجلة ( فكر ونقد) ان يؤسسا لفلسفة عربية معاصرة حاليا؟ ولماذا ياتُرى توقف الفكر الاسلامي في رفد الثقافة العربية الاسلامية بفلاسفة؟ وهل هناك أعمال فلسفية غير منشورة للمفكر الاسلامي الشهيد (محمد باقر الصدر) تواصل جهده المرموق في تأصيل فلسفة اسلامية
معاصرة، غير رده الشهيرعلى الماركسية في كتاب (فلسفتنا)؟ وهل ستكشف لنا الأيام والأشهر والسنوات القادمة مفاجئات تأتي من النجف وكربلاء في مجال الفلسفة، سواء في الكشف عن اعمال فكرية وفلسفية لم تنشر بسبب الحكم الدموي الفاشي البعثي في العراق، أو من خلال الحرية التي ستتيح للكثير من العلماء ان يقتحموا الحقول الفلسفية التي كانت اية خطوة فيها تكلفهم حياتهم وحياة أقاربهم سابقا؟ بل وهل ستعيد كليات الفلسفة في الجامعات العراقية النظر في برامجها، وتنفض عن نفسها غبار الأيام السوداء، لتكون ورشة للفكر وللوهج الفلسفي؟
إنها أسئلة جريحة، وليس اكثر..! أسئلة تقودنا الى أسئلة أخرى أشد إيلاما ووجعا، فياتُرى، هل ان الواقع العربي المعاصر معاد للفلسفة ولإعمال الفكر بشكل عام؟ هل لا زال واقعنا العربي، كما كان في بعض مراحل تاريخنا الماضي، يعادي التفكير الحر، ويعادي كل علم فلسفي ومنطقي، كما ذهب الى ذلك الغزالي، وابن تيمية، والذهبي، وابن الصلاح، والصنعاني، وغيرهم، من الذين وقفوا بكل قوتهم ضد الفلسفة والتفكير الفلسفي، بل وحرضوا الحكام على معاقبة كل من يمتهن التفكير الفلسفي، ويطرح أسئلة فلسفية مقلقة، مثلما حرضوا العامة من الناس لإيذاء كل من يتهمونه بالهرطقة الفلسفية، وبالزندقة؟
ولو لم يكن واقعنا العربي المعاصر كما كان سابقا، فلماذا أغُتيل العلامة الشيخ الجليل صبحي الصالح، وهو صاحب البحوث المهمة في علوم القرآن وفقه اللغة العربية! ولماذا ياتُرى لم ترحم المسدسات، الكاتمة للصوت، شيخوخة المؤرخ الفلسفي والمفكرالاسلامي الشيخ حسين مروة، ولم لم تتردد طلقات القتلة وهي تخترق جمجمة المفكر اللبناني حسن حمدان المعروف ب( مهدي عامل )، الذي رحبت به كل الاوساط الفكرية، النخبوية، العربية في بداية السبعينيات باعتباره مشروعا لفيلسوف عربي جديد، ولم توجهت رصاصات القتلة الى رأس فرج فودة الحر؟
ألا يشبه يومنا المخضب بدماء مفكرينا، أمسنا الذي فيه زُج بالأمام ابوحنيفة في أقبية سجون أبي جعفر المنصور مؤسس بغداد، وقُتل فيه الأمام موسى الكاظم في سجون الرشيد، وألقي فيه أبن المقفع في التنور الملتهب وهو حي يرزق، ولوحق فيه الامام الرضا الى مشهد ليقتل بالسم من قبل المأمون صاحب العلم والمجالس الثقافية، وُجر فيه ابن حنبل مثقلا بالسلاسل ليقف أمام المتوكل، وخوزق فيه العشرات من المفكرين في ظل الحواضر والامصار تحت رايات الخلفاء العثمانيين؟ بلى والله، لقد صار يومنا اشد لعنة من أمسنا،لا سيما بعد إعتمادنا على وسائل القتل المتطورة، وتوفر وسائل الاغواء الأشد سحرا، وسهولة الرصد، والتنصت، والقتل اذا اقتضى الأمر..!!
ولو إبتعدنا عن هذا السؤال المعذب، ودخلنا الى صلب الفكر الفلسفي، وتطبيقاته النظرية في الفكر العربي، فسوف نواجه بإشكالية (المصطلح الفلسفي) على مستوى الفكر العالمي، وتحديد دلالاته، ونحت مصطلح رديف له في الفلسفة العربية الاسلامية، قديمها وحديثها؟ ولواجهنا ايضا إشكالية اخرى مرتبطة بامكانياتنا الحضارية لانتاج فكر فلسفي أصيل نستطيع من خلاله مواجهة واقع التبعية الفكرية والفلسفية للآخر!!
إن وسائل الاعلام الجماهيرية،العربية، من صحافة وتلفزيون وراديو وسينما، كلها ساهمت في تقديم صورة مشوهة عن الانسان المثقف عموما، والانسان المفكر خصوصا، وكأنه انسان خيالي، غير واقعي، ليس له علاقة بالواقع أو بما يدور حوله، وقدمت له الفلسفة وكأنها نوع من الثرثرة، والتشدق اللفظي، واللغو الفارغ، واختلاق مشاكل وهموم لا يفكر الانسان العادي فيها، وهو في غنى عنها، لذلك فهي وجع رأس وليس اكثر..!!
ومن هنا فان هذا المقال يعتز بانه يلقي حجرا في بركة راكدة، ومن خلال احدى وسائل الاعلام الجماهيري، ليثير السؤال من جديد: هل هناك فلاسفة عرب معاصرون، أم لدينا مشتغلون في الحقل الفلسفي؟ لدينا مفكرون، فلماذا لا نستطيع ان نطلق عليهم لقب( فلاسفة)؟ أليس لدينا نجيب محفوظ، وهو أديب يقف عند أقانيم الفلسفة بمعناها الدلالي الحقيقي والمباشر؟ واذا ما ذهبنا مع بعض الطروحات التي تؤكد بان الفلسفة العربية الاسلامية نشأت في عصر كان العرب، والمسلمون عموما، أقوياء، واثقين من انفسهم، لا يخافون الانفتاح على الاخر، ولا تقلقهم إشكالية فقدان وضياع الهوية، واننا اليوم نعيش واقعا على عكس كل ما تقدم وصفه، فهل هذا يعني باننا عاجزون ولا فائدة ترجى منا، لاننا لا نملك الا ان نكون هامشا لمتن ينتجه غيرنا، وصدى ضعيف لصوت عميق واثق القرار ياتينا من آفاق رحبة يبعدنا عنها شرط الحرية؟
إنها مجــرد أسـئلة بريئة..بريئـة جدا..!
*******************
جورج طرابيشي: ليس لدينا فلاسفة وإنما تراجمة فلسفة
لهذا السؤال عدة أجوبة ممكنة، وفي مقدمتها غلبة الخطاب الايديولوجي الذي شكل في الستينات جائحة وبائية حقيقية.
ولكن إذا اردنا أن نحفر في المزيد من العمق، فلا بد أن نبحث عن جواب آخر يتمثل في ما لا أتردد أن أسميه "استحالة الموقف الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة".
ذلك أن الفلسفة نبتة لا تُنْبت ولا تزهر إلا في تربة العقل واستقلالية العقل. وبدون أن أدخل في تفاصيل لا تتسع لها هذه الاجابة المختصرة، فسألاحظ أن العقلانية كشرط لتمخض الفلسفة ما زالت بعيدة عن أن تكون صاحبة الكلمة الأولى في الثقافة العربية المعاصرة. وأنا لا أعني بالعقلانية شيئا آخر سوى هذا المبدأ البسيط والثوري معا: إنه لا يجوز ان تعلو فوق سلطة العقل أية سلطة أخرى. والحال ان سُلطان الثقافة العربية ما زال يعتّم بعمامة الدين – وهذا أنكى – الدين المؤدلج. ولئن أمكن في العصور الوسطى الاسلامية أن تتطور أشكال لاهوتية من الفلسفة، فإن اللاهوت نفسه، كشكل معقلن من الدين، ما زال منفيا من الثقافة العربية منذ ان طرد علم الكلام خارج أسوار المدينة الاسلامية ومنذ ان تقلصت الحضارة العربية الاسلامية، من حيث الدينامية الفكرية، إلى محض حضارة فقه.
وإذا حددنا الموقف الفلسفي بأنه التسليم بسؤدد العقل وتعالي سلطته على كل سلطة عداها، فلنا أن نقرر في شبه يقين ان امكانية الموقف الفلسفي معدومة في الثقافة العربية المعاصرة أو مصادرة لحساب الدين المؤدلج، أو الايديولوجيا المتدينة. وإذا كان هناك في الستينات من مارس الفاعلية الفلسفية، وإذا كان هناك اليوم من لا يزال يمارسها بقدر أكبر من الحياء، فإن هذه الممارسة تقتصر في غالب الأحيان على الجوانب غير المحرجة من الموقف الفلسفي. فاكثر الممارسات العربية للفلسفة قد اقتصرت على فلسفة اللغة، كما في مثال كمال يوسف الحاج أو زكي الأرسوزي، أو كانت ترجمة بالوكالة كما في فلسفة عبدالرحمن بدوي الوجودية أو فلسفة يوسف كرم التوماوية أو فلسفة عبدالعزيز الحبابي الشخصانية أو فلسفة حسن حنفي الفينومينولوجيا. ففي جميع هذه الحالات، نحن لا نجد انفسنا أمام فلاسفة بل أمام تراجمة فلسفة.
****************
حوار مع د. فتحي التريكي: "التفلسف نضال يومي ومقاومة مستمرة ضد الاستبداد واللامعقول في العالم..."
حكمت الحاج من تونس: هل لدينا فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: أين هي اليوم؟ ما هي إنجازاتها؟ إشكالياتها؟ ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي؟ سؤال كبير تتفرع منه كل الأسئلة المتلهفة لأجوبة تشفي الغليل... ومع هذا فليس هناك أجوبة نهائية.. بل مجاذبات تأمّلية لعلها أن تجعل العينَ ترى أبعد، والأذن تلتقط أبعد من الإصغاء...أن تستحث العربي إلى استجلاء معنى مجيئه إلى هذا العالم؛ قيمة فرديته الخلاقة: أن يخرج من تراب الأسطورة الى فضاء التفكير.
هكذا يقدم المحرر الثقافي لـ "إيلاف" الشاعر عبد القادر الجنابي لهذا الملف الهام والإشكالي، الخاص بوضعية الفلسفة في العالم العربي، ومعه نقول حقا ان أحدى الخسائر الكبرى التي مني بها العقل العربي في كل حروبه الإيديولوجية هي فقدانه لحاسة التأمل الفردي، أي التفلسف، بالمعنى الذي يورده "كانط" للكلمة، وأضيف أيضا، صفة "النقدي" لذاك التأمل المنشود. ولكن هل حقا واقع الحال كما يقال؟ أليس هناك من استثناء؟
كتبت الدكتورة منى النجار في المجلة الالكترونية "قنطرة" Qantara.de التي تصدر بالعربية والألمانية مقالا تحت عنوان "الفلسفة هي الأكثر مبيعاٌ في معرض تونس الدولي للكتاب لعام 2003" قائلة ان "ما يميز القراء التونسيين هو اهتمامهم الكبير بالفلسفة. لقد بيعت بكثرة هذه السنة أيضا كتب لهايدغر، وعنه، ولأدورنو أو هابرماس والتي تجد إقبالا متوسطا في البلدان العربية الأخرى".
وتكاد أن تكون هذه هي صورة الحقيقة، حقيقة الفلسفة في تونس. ولم يجانب الدكتورة منى النجار الصواب، ولا جانب غيرها، عندما تتم الإشارة الى تفرد ذلك النشاط العلمي البحثي النقدي الفلسفي، سواء في الصروح الأكاديمية، أم بالممارسة الحرة وتطبيقاتها، من الدين إلى الفن، في تونس، ولربما كان وسيبقى إلى أمد غير معلوم، مَعْلَمَا خاصا بتونس ودالا على ثقافتها بل ودورها الحضاري.
مثال أو مثالين نعطيهما في هذا السياق للدلالة على صدق ملاحظات المتعمق في التجربة الفكرية التونسية. فلا أعتقد أن هناك من بلد عربي أو عالم ثالثي طرح على طاولة النقاش والسجال والمُساءلة، عبر نخبته المفكرة، موضوعا كـ "العولمة" أو "الهوية" أو "الحداثة"، بمثل هذا الكم والزخم والعنفوان والجدية والمواصلة، كما هو الأمر كائن في تونس.. ولا داعي هنا لذكر كل تلك الندوات واللقاءات والمنشورات والجلسات والشخصيات التي تدور في هذه الأفلاك.. وكلها تؤكد شيوع التفلسف الصحيح في تونس، وإرادة التطبيق الفلسفي على شتى الميادين حتى تلك التي تبدو للوهلة الأولى إنها أبعد ما تكون عن الفلسفة.
من جهة أخرى، حَقَّ لنا أن نتساءل عن أهم مقومات الفكر الفلسفي في تونس، وهل هناك "فلاسفة" في تونس، أم هناك فقط أساتذة ومدرسون للفلسفة؟ ما هي أهم مميزات الفلسفة في تونس التي تعزلها عن غيرها من الاتجاهات في العالم العربي ومن ثم العالم؟ هل الفلسفة في تونس في وضعية التماس مع "الشارع" و"الناس" أم أنها ما تزال أسيرة جدران الجامعات والنخبة؟ هل ثمة مستقبل للفلسفة في تونس؟ وان كان الجواب بـ نعم، فما هي ملامح ذلك المستقبل؟
ذهبنا بهذه المقدمات إلى فيلسوف تونسي معروف مشرقا ومغربا هو الدكتور فتحي التريكي، الذي أرشدنا مشكورا إلى أن نحقق معا الخطة التالية على أن تنشر في "إيلاف" جميعها، وتتضمن، إضافة إلى الحوار الشيق الذي ستطالعونه الآن، مقالة حول تدريس وتعريب الفلسفة في تونس حتى عام 1986، مدعمة بإحصاءات دقيقة. ثم نظرة سريعة على الفلسفة في تونس بعد العام 1986 وحتى الآن، وحوار مع الأستاذ محمد علي ألكبسي حول تيارات الفكر الفلسفي في تونس، ولقاء مع الدكتور الطاهر بن قيزة حول الفلسفة في تونس عبر تجربة "مختبر الفلسفة" التي ينشط فيها. وبعد ذلك جلسة خاصة ثانية مع الدكتور التريكي حول القضايا الفلسفية الكبرى للفكر الفلسفي في تونس في الوقت الراهن، وأخيرا، تدوينات جدّ مهمة عن حضور الفلسفة الأوروبية في تونس بلحمها وشحمها، والعنوان العريض هو "فلاسفة أوروبيون في تونس: فرانسوا شاتلييه، ميشيل فوكو، جاك دريدا.. وغيرهم.
والدكتور فتحي التريكي هو فيلسوف تونسي من مواليد 1947 بصفاقس, حاصل على الدكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة السوربون بباريس- وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس- أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة بجامعة تونس - من مؤلفاته : أفلاطون والديالكتيكية عام 1986- الفلاسفة والحرب (بالفرنسية) 1985- قراءات في فلسفة التنوع 1988- الروح التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية 1991- الفلسفة الشريدة 1988- فلسفة الحداثة 1992- مقاربات حول تاريخ العلوم العربية 1996- اسنراتيجية الهوية 1997- فلسفة العيش سويا 1998- العقل والحرية 1998. الحداثة وما بعد الحداثة 2003.
التقيناه في مكتبته العامرة، فكان هذا الحوار:
* لنسألك في البداية من حيث يمكن للفرد أن يسأل عن الفلسفة، مازجا معها السياسة بالتاريخ: هل الفلسفة في تونس هي نتيجة للاستعمار الفرنسي الذي عرفته تونس في القرن التاسع عشر أم أن لها جذورا تاريخية؟
- عرفت تونس الفلسفة منذ القدم. ومع الحضارة "القرطاجنية" كان هناك مثلا "أبوليوس" صاحب أول قصة في العالم، "الحمار الذهبي". ومن المعلوم انه كان أرسطي الاتجاه في فكره. أما بعد الفتح الإسلامي، فقد تنامى بتونس عدد كبير من المفكرين والمناطقة والفلاسفة واللغويين، انتظموا في اتجاهات ثلاث: أولها أدبي ويمثله "ابن رشيق القيرواني"، وثانيها في فلسفة الدين ويمثله "الإمام سحنون"، وثالثها في فلسفة المجتمع ويمثله العلامة "عبد الرحمن بن خلدون". في العهد الإسلامي، كما هو الشأن في العهد القرطاجني، جنحت الفلسفة إلى أن تكون عاملة أكثر في ميادين تطبيقية مثل المنطق الرياضي والدين. وهكذا أنتجت الفلسفة في تونس فلاسفة كبار من "أبوليوس" وصولا إلى "ابن خلدون" أول عالم اجتماع في العالم.
* ماذا حصل بعد ذلك؟
- ما حصل بعد ذلك هو انحسار الفلسفة داخل الميدان الديني مع توجه جديد جاء مع القرن التاسع عشر، أقصد التوجه نحو الفلسفة السياسية حيث ألف "خير الدين التونسي" كتابه الشهير "أقوم المسالك إلى معرفة الممالك" ذلك الكتاب الذي حاور فيه المفكر الأمريكي "بيرس" فيما يخص الليبرالية. ولا ننسى كذلك كتاب المصلح الكبير الطاهر الحداد "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر أوائل القرن العشرين. إذن، صار التوجه الفلسفي ينحو إلى جانب التطبيق في الدين، إلى فتح الآفاق أمام الفكر السياسي ليتقدم. وقد تأسس تحديث المجتمع التونسي على هذه التطبيقات الفلسفية المذكورة أعلاه. وبشكل دقيق نستطيع القول إن الميتافيزيقيا غابت، والتطبيقات هي التي شَرَّعت للمجتمع التونسي.
* وأي عنوان نضع للفلسفة في تونس في العصر الحديث؟
- في العصر الحديث نستطيع أن نضع عنوانا عريضا ليدل على الفعل في التاريخ ألا وهو "الفلسفة تدريسا". ولكن برغم ذلك لم تترك الفلسفة جانبا وإن ضعف تدريسها داخل جامع "الزيتونة" حيث كان ينحصر في دروس علم الكلام والمنطق. وبشكل عام بقيت الفلسفة موجودة في الدرس الجامعي، حتى جاءت الإصلاحات الكبرى للزيتونة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندها دخلت بعض القضايا الكبرى مثل القضايا الاجتماعية لاسيما في "المعهد الخلدوني"، ولكن سيلعب، على الجهة الأخرى، "المعهد الصادقي" دورا كبيرا جدا في الحركة الفلسفية إذ انه إضافة إلى المصلحين التونسيين في أوائل القرن العشرين ثم فيما بعد الحرب العالمية الأولى فالثانية، سيتخرج جيل متشبع بالأفكار الفلسفية الغربية، وعلى أيديهم ستترسخ "الحداثة" في المجتمع التونسي.
* ألم يكن المعهدان اللذان ذكرتهما، يتوجهان صوب الأفكار نفسها؟ كنت أتصور إن الصراع كان بين "الزيتونة" و"الصادقية"؟
- تستطيع أن تقول إن المعهد الخلدوني كان يمثل العصرنة المنبثقة من التراث العربي الإسلامي، أما المعهد ألصادقي فكان يمثل العصرنة والحداثة كاملتين. كما انه جدير بالذكر أن نقول إن الكثير من رواد الحداثة هم من خريجي "الزيتونة" من أمثال عبد العزيز الثعالبي ومحمد الفاضل بن عاشور والطاهر الحداد والشاعر أبو القاسم ألشابي. ولكن كلامك صحيح من جهة أخرى، فإننا نؤشر وجود رافدين فلسفيين للنهضة في تونس: "الزيتونة" مع إصلاحها وتجديدها، و"المدرسة الصادقية" بروحها العصرية. ولقد كان هناك صراع بين الاثنتين في أغلب الأحيان مما أحدث رَجَّة جعلت تونس تصبو دائما إلى الأمام ولكن وهي منشدة إلى تراثها.
*هل هذا يعني انه كان ثمة صراع ما بين "الشريعة" و"الحقيقة"؟
- نحن تحدثنا عن ملامح الجذور الفلسفية للمجتمع التونسي.. ولكن أيضا يجب أن نؤكد إن كل تلك التناقضات والاصطراعات كانت في انسجام مع الدين الإسلامي مما يعني انه لم يكن هناك صراع مطلقا بين الشريعة والحقيقة إلا فيما ندر.
* وماذا نسمي إذن موقف علماء "الزيتونة" من الطاهر الحداد وكتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"ّ؟
- عندما نادى الطاهر الحداد بتحرير المرأة لم يكن ذلك صراعا بين الفلسفة والدين بقدر ما كان صراعا بين المستنيرين وأهل الظلمات.
* حسنا.. لنأت الآن إلى مرحلة الاستقلال؟ كيف أثر ذلك على وضع الفلسفة؟ وعلى أية أسس بدأ النظام السياسي الجديد يتعامل مع الفلسفة بوصفها مَعْلما اجتماعيا، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الثقافة الفرنسية في تونس؟
- بعد الاستقلال قام "الحبيب بورقيبة" بإصلاح جذري للتدريس في تونس طال المناهج الدراسية بالتأكيد، وجعل من درس الفلسفة مادة إجبارية في كل الاختصاصات وفي جميع المعاهد، بل وأنشأ قسما للفلسفة في الجامعة التونسية، وأخيرا عمل "بورقيبة" على التفريق ما بين الفلسفة في نمط تناولها الحديث والمعاصر، وبين الفلسفة الإسلامية.. كان هم بورقيبة في ذلك دون شك هو تنوير الشباب التونسي والتوجه به نحو المعرفة والعلوم والتكنولوجيا، ولكن اللغة الفرنسية التي كانت عائقا كبيرا وحقيقيا أمام أية محاولة لربط القضايا الفلسفية الكبرى باهتمامات الشارع التونسي، لذلك صار المفكر التونسي في عزلة عما يحدث على النطاق الثقافي والفني للمجتمع. وهكذا تقرر تعريب الدرس الفلسفي في تونس عام 1975 فكانت انطلاقة جديدة للفلسفة بحيث تفاعلت كثيرا مع الفكر المعيشي اليومي والإبداعات الثقافية والأدبية والفنية، وتكاثرت المؤلفات الفلسفية باللغة العربية، وأحدثت الفلسفة نقاشات محتدمة على الساحة الفكرية والأدبية في تونس، وحتى على الساحة السياسية. هذا مع العلم إن الجامعة التونسية بتعريبها للفلسفة قد تركت المجال لتدريس الفلسفة باللغات الأجنبية كي لا تحدث قطيعة [كما حدثت في بلدان عربية أخرى] بين اهتمامات المواطن التونسي وبين ما يستجد من أفكار ومشاغل على الصعيد العالمي. وكانت تجربة فريدة من نوعها، إذ إن في تونس الآن فلاسفة يقرؤون الفلسفة باللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية والأسبانية، وهو ما جعل المدرسة الفلسفية التونسية ثرية في اهتماماتها، ومتجددة على الدوام وفي علاقة تواصل ومواصلة مع أكبر فلاسفة الغرب، طبعا من دون التخلي عن البحث في التراث ومقوماته ولكن بطريقة علمية فكرية بعيدة كل البعد عن التمجيد والاعتداد الأجوف.. أي، بطريقة نقدية.
* وهل بقيت الفلسفة تبعا لهذا أسيرة الجدران؟
- إن من مستتبعات هذا التعريف نشوء أو تكون جمعيات غير حكومية تهتم بالفلسفة وشؤونها، مثل "الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية"، ومثل جمعية "مدارات" و"الجمعية التونسية للإنشائية والجماليات" التي تشرف عليها الدكتورة رشيدة التريكي، وغيرها. كما تكونت في الجامعات والكليات فرق بحث متعددة في الفلسفة، منها ما هو مختص بالفلسفة السياسية، ومنها ما هو مختص بفلسفة العلوم والمنطق وفلسفة اللغة. وأخيرا تكون "مختبر الفلسفة" في جامعة تونس وهو يبحث ويعنى في قضية شديدة الراهنية ألا وهي "الثقافات والتكنولوجيات المعاصرة والمقاربات الفلسفية". وهذا المختبر هو أول مختبر من نوعه في العالم العربي. علما بأن الدولة التونسية قد رصدت له اعتمادات مالية لا يستهان بها على الإطلاق.
* هل الأمر كذلك في ميدان النشر؟
- إلى جانب الكتب والمؤلفات والدراسات الكثيرة التي صدرت عن الجامعات ودور النشر العامة والخاصة، فإن هنالك دوريات ونشريات متخصصة في الفلسفة نذكر منها:
1. مجلة الدراسات الفلسفية وهي مجلة فلسفية بحتة أي أنها لا تبحث إلا في القضايا الفلسفية الشائكة ولها توجهان، علمي وبيداغوجي تربوي.
2. مجلة "مدارات" وهي أيضا تهتم بالفلسفة إلى جانب اهتمامها بالعلوم الإنسانية بصفة عامة. والمجلتان المذكورتان أعلاه تصدران باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
3. دورية "إنشاء" وهي مجلة تهتم بالجماليات تحديدا وقد صدر منها لحد الآن ثلاثة أعداد فقط.
* بالإضافة طبعا إلى حوليات الكليات والجامعات والتي تخصص أعدادا منها للفلسفة كل عام..؟
- نعم.. ولا يفوتنا في هذا المجال ذكر الصحف والمجلات العامة مثل "الحياة الثقافية" الشهرية، حيث يتم نشر المقالات والمراجعات الفلسفية فيها بين حين وآخر. وحتى الإذاعة والتلفزة التونسية لا تخلو شبكة بث فيهما من برنامج أو أكثر يتناول الفلسفة أو أعلامها كما حصل مع "فوكو" و"دريدا"، كما قدمت بعض البرامج عن "الإنشائية"...الخ.. ومن الجدير بالذكر أن نقول إن معظم مجلات ودوريات الفكر والفلسفة في العالم العربي يساهم في رفدها ونشرها والكتابة فيها فلاسفة ومفكرون من تونس، مثل "الفكر العربي المعاصر" و"كتابات معاصرة" و"فكر ونقد" المغربية، و"أوراق فلسفية" في مصر....
* وطبعا، هنالك ترجمة أمهات الكتب الفلسفية، أليس كذلك؟
- ترجمة الفلسفة في تونس قليلة ولكنها مفيدة وعميقة ودقيقة وعلمية. لقد انتقلت الظاهرة من مصر إلى تونس.. ففي أماكن أخرى ترى ترجمات فلسفية غير دقيقة وغير أمينة إطلاقا.
* ما هي أهم الاختصاصات التي تشتغل عليها المدرسة التونسية في الفلسفة؟
- المدرسة التونسية في الفلسفة تشتمل على كل الاختصاصات الكبرى. ففي تاريخ الفلسفة تجد الاختصاص في اليونانية وفي فلسفة ديكارت وسبينوزا، وفي الفلسفة الألمانية كما عند كانط وهيغل وهايدغر، كما تجد الاختصاص في تاريخ الفلسفة الفرنسية من الوجودية إلى فلسفة فوكو ودريدا ودولوز. إضافة إلى الاختصاص في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية إذ لدينا في تونس كبار المختصين في فلسفة ابن سينا [حاتم الزغل وأحمد الحسناوي] وفي الفلسفة الاندلسية بعامة وابن عربي بخاصة [مقداد عرفة منسية]... وفي الماركسية نشير إلى د. حميد بن عزيزة [بالفرنسية كحال معظم الدراسات الأكاديمية في الماركسية حيث بقيت تكتب بتلك اللغة] وغيرهم... وفي العالم العربي الآن، في الوقت الحاضر، فإن الاتجاه الأكثر وضوحا وبروزا هو الفلسفة اللانسقية، أو ما يطلق عليه بـ &
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
مشكور على الموضوع اللى لاكن طول
ابن ادم- فريق اول
-
عدد المشاركات : 4392
العمر : 52
رقم العضوية : 282
قوة التقييم : 19
تاريخ التسجيل : 18/06/2009
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
مشكور اخى عبدالحفيظ
فرج احميد- مستشار
-
عدد المشاركات : 17243
العمر : 62
رقم العضوية : 118
قوة التقييم : 348
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
لكم الشكرعلى المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
بارك الله فيك على ما قدمت
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
مشكور على ما قدمت موضوع قيم يستحق المتابعة
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
لك الشكرعلى المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
لَك الْشُّكْرعَلَى الْمُتَابَعَه الْمُسْتَمِرَّه
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
لكى الشكرعلى المتابعه
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
موضوع مميز يستحق المتابعه والاطلاع ........تسلم ايدك
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
بوفرقه- مراقب
-
عدد المشاركات : 34697
العمر : 58
رقم العضوية : 179
قوة التقييم : 76
تاريخ التسجيل : 30/04/2009
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
لكم الشكرجميعآ على المتابعه
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
تشكر علي الموضوع
ابن المنتدى- عميد
- عدد المشاركات : 1039
رقم العضوية : 2
قوة التقييم : 3
تاريخ التسجيل : 21/11/2008
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
كل الشكرعلى المتابعه المستمره
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
مشكور على التميز الدائم
دلع ليبيا- مستشار
-
عدد المشاركات : 15254
العمر : 23
رقم العضوية : 1253
قوة التقييم : 30
تاريخ التسجيل : 26/02/2010
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
يعطيك العافية صديقــــــــــــــــي الغالي
مثيل القمر- لواء
-
عدد المشاركات : 2365
العمر : 35
رقم العضوية : 1216
قوة التقييم : 12
تاريخ التسجيل : 18/02/2010
amol- مستشار
-
عدد المشاركات : 36762
العمر : 43
رقم العضوية : 2742
قوة التقييم : 9
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
جهود تستحق التقدير شكرا سيادة النائب على المواضيع القيمة
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
حبة مسك- مشرف
-
عدد المشاركات : 3906
العمر : 60
رقم العضوية : 263
قوة التقييم : 57
تاريخ التسجيل : 12/06/2009
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
لكم الشكرعلى المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: ماذا حلّ بالفلسفة في العالم العربي
موضوع جيد ذو شجون
أستاذي عبد الحفيظ
سوف أقسمه أجزاء كي أحتسي منه بين الفينة والاخرى
بارك الله فيك وفيما قدمت
أستاذي عبد الحفيظ
سوف أقسمه أجزاء كي أحتسي منه بين الفينة والاخرى
بارك الله فيك وفيما قدمت
سـيف التميمي- فريق
-
عدد المشاركات : 3175
العمر : 59
رقم العضوية : 6154
قوة التقييم : 46
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
المرتجع حنتوش- مشرف قسم المنتدي العام
-
عدد المشاركات : 21264
العمر : 32
رقم العضوية : 121
قوة التقييم : 41
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
مواضيع مماثلة
» آندرويد أم آيفون.. ماذا يفضل المستخدم العربي؟
» ** فطاحله الشعر العربي : ماذا قالو في المرأه **
» العالم العربي والمخاطرالسياسية والاقتصادية المرتقبة
» فضيحة القراءة في العالم العربي
» في العالم العربي مساجد تحف معمارية
» ** فطاحله الشعر العربي : ماذا قالو في المرأه **
» العالم العربي والمخاطرالسياسية والاقتصادية المرتقبة
» فضيحة القراءة في العالم العربي
» في العالم العربي مساجد تحف معمارية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
اليوم في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
اليوم في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
اليوم في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
أمس في 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR