إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
التراث الشعبيِّ في ليبيا .. المضامين والدلالات
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
التراث الشعبيِّ في ليبيا .. المضامين والدلالات
التراث الشعبيِّ في ليبيا .. المضامين والدلالات
حمل التراث الشعبي في ليبيا بمختلـف
أنواعـه ، وتعـدُّد فروعـه المعروفـة منـذ أمــد بعيد وحتى الآن ؛ حمل
كثيراً من المضامين والدلالات التي عبَّرت بعمق وحدة عن أصالته والتصاقه
بالوجدان الشعبي ، ولمست أعماق هذا الوجدان في شتى تداعياته، في لحظات فرحه
وترحه، وأمله وقنوطه ، وفي ساعات قوته وشبابه وضعفه وشيخوخته إلى غير ذلك
من ناحية ، وعَبَّرَ هذا التراث عن صدق التعاطي الثقافي وعمقه الذي جسَّدته
فئات هذا المجتمع أيًّا كان موقعها وفئتها من ناحية أخرى ، ولذا ظل تجاوب
المجتمع معه خالدًا ويزداد ويتجذَّر ويتشكَّل وفق تطور هذا المجتمع وحركة
الثقافة فيه ، وقدرة التعبير الشعبي على مدِّ جسور العلاقة فيه من ناحية
ثالثة.
فحتى المزمار الشعبي الذي يصفه بعض
الدارسين للتراث الشعبي بأنه لم يستطع أن يتطور ويبدع أشكالاً وتعابير
جديدة ، ومن ثم يتخذ لنفسه من داخل هذا التراث أنساقا تجعله أكثر قربا
والتصاقًا به ، وتمدُّ جذور العطاء والتواصل بينه وبين الفنون الشعبية
الأخرى ، وظل بذلك حبيس إيقاعات محدودة ومواقع ضيقة عاقت حركة التفاعل
والانصهار بينه وبين غيره من هذه الفنون الشعبية، ومن ثم الاستفادة منه كفن
شعبي عميق في ذاكرة الناس، وفي ذاكرة التراث الشعبي، وحتى بعض المحاولات
التي جرت للوصول إلى هذه الغاية وتحقيق هذا الهدف ظلت خارج الانصهار الكامل
والاندماج الكلي الذي يحقق تطوراً فعليا لهذا النوع من الإبداع الشعبي،
ومع ذلك ظل لهذا النوع مع هذه المحدودية والسطحية ـ إن جاز التعبير ـ ظل
له تأثيره وعشاقه، وظلت علاقته بالوجدان الشعبي عميقة وغير محدودة، ومن ثم
بقي له المتخصصون فيه الذين لا يمارسون غيره، وعشاقه الذين لهم انسجام خاص
جداً به وحده، فهناك من العلاقات بين الإنسان وبين هذه الأنواع من
الاستجابات الفطرية ما يصعب تفسيره أو إعطاء إجابات قاطعة وحاسمة له.
وهذا الأمر لا ينطبق على المزمار الشعبي
وحده، ولا يخصه بذاته دون سائر الفنون الشعبية الأخرى، وإنما اتخذناه مثالا
لبيان مدى وحدة المحافظة والتقليدية التي صاحبت هذه الفنون الشعبية عامة،
وكانت أبرز سمات تلك المحافظة وهذه التقليدية المغرقة واضحة أشد الوضوح
وأبرزها في هذا الفن الشعبي. وإلا فــإن قاعــدة المحافظـة والتقلـيدية
هــذه سايــرت مختلــف أنــواع هذه الفنون منذ انبثاقها، وصاحبت حركتها
المستمرة عبر الزمن والأجيال المتتالية، فأعطتها شكلاً محدوداً وسماتٍ
ثابتة لا تكاد تخرج عنها، وظلت الأجيال والأشكال الفنية الشعبية تتوارثها
وتتواصل معها وتستجيب فطريا لها، وتتعقب خطواتها وتحافظ على مضامينها
المحددة البارزة التي لا تكاد تتغير ولا تتبدل في ذاكرة المجتمع، ومن ثمّ
تستجيب لها ذاكرة الشاعر وتتجاوب معها وتعبر عنها في سياق رتيب لا يبعد
كثيراً لا يتمايز لدى شعراء القصيدة الشعبية وإن اختلفت وسائل التعبير
الإبداعي بعض الشيء لدى هؤلاء الشعراء، إلا أن شكل القصيدة ومضمونها ظـلاّ
ثابتين دون حراك جوهري يذكر.
ولا تعني هذه المحافظة والتقليدية ذوبان
شخصيات الفحول من الشعراء وضياع إبداعاتهم الفنية المتميزة، فقد كان لكل
شاعر منهم شخصيته الفنية التي تميّز شعره عن شعر غيره حتى داخل الإطار
الفني العام الذي استوعب كل هؤلاء الشعراء، وليس هنا موطن عرض الأمثلة،
فربما يكون لذلك دراسة منفصلة تتعرض لذلك وتأتي على تفاصيل الكثير منه.
وهذا الأمر يمكن تفسيره بما ارتبط بذاكرة
البداوة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام التي عاشرت حياة الفطرة والمحافظة،
وعدم الرغبة في التمرد والخروج على هذا النسق من الحياة التي كان لظروف
البيئة التي عاشها العرب دخل كبير فيها، ومن ثمّ ألفتها نفوسهم وتعودت
عليها وعرفت أسرارها وصاحبتها وصارت جزءاً من تكوينها العقلي والفكري الذي
لا تألف غيره ولا ترتاد سواه، وتتوجس من الخروج عليه، أو الخوض في مغامرة
جديدة لم تختبر بعد وسائلها ولا نتائجها.
فالناظر في موضوعات القصيدة الشعبية يجدها
تتجاوب وتستجيب لمعطيات القصيدة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام، وتحتذي
بشكل صارم تلك المضامين التي عبر عنها شاعر ما قبل الإسلام في الشكل
والمضمون لا تكاد تخرج عنها إلا في اختلاف المسميات التي فرضتها طبيعة
البيئة التي عاش فيها كلا الشاعرين ـ شاعر ما قبل الإسلام والشاعر الشعبي
في ليبيا الآن ـ رغم البعد الزمني الطويل، والتجارب التي يفترض أن تكون
متباينة استجابة لذلك، ؛ فالرحلة هي الرحلة بأهوالها ومشاقها ومعاناتها،
وربما حتى وسائلها، حافظ عليها الشاعر الشعبي بكل تفاصيلها تقريبا، وجياس
ديار الأحبة ومنازلهم الخالية هو ذاته، ووقوف الشاعر بها وتأمله فيها،
واستعادة ماضيه بها بمعظم تفاصيله الذي يذكّر الشاعر بما بقي من آثار تلك
الديار ودُمَنِها بعد أن حلّ أهلُها غيرها بحثاً عن الماء والكلأ، وبكاء
الشاعر واستعادة كل ذلك الماضي والتحسّر عليه، كل ذلك هو بذاته النداء الذي
يستجيب له الشاعر الشعبي، ويرتبط به ويستدعيه، ويتزاحم ويتوارد على ذاكرته
في هذه القصيدة، حين يريد تشخيص إحساسه بالمفارقة بين الماضي والحاضر، بين
الحياة والموت، حين يتخذ الشاعر من وصف الأطلال طريقاً إلى ذلك فيوقف
مطيته ورفاقه معه على هذه المنازل الدارسة، ويحرص حين يعمد إلى المقابلة
بين الماضي والحاضر على الربط بين خراب الديار ورحيل أصحابها عنها، “يغرّد
فيه البوم” على قول أحدهم، بما يحمله صوته من الوحشة والغربة، وما يجسّده
من صور الخراب، ومظاهر البلى في هذا الطلل.
إضافة إلى موضوعات القصيدة الأخرى، التي
منها المرأة التي أحبها الشاعر، وكانت رحلته من أجلها، فهي في الجمال
غايته، وفي النُبل والأصالة والشرف القمة، وأهلها كذلك بلغوا غاية الغاية
في الكرم والشهامة والخلال العربية البدوية الأصيلة، وذلك ليس نفيا ولا
نكرانا لهذه الخلال التي اتّسم بها العربي البدوي في عمق صحرائه التي كانت
موطنا للكرم والشجاعة والصفات النبيلة، ولكنه تساؤل يقف في حلق الباحث،
ويقضّ مضجعه حين دراسة هذا النوع من الإبداع الشعبي، وهذا التجاوب العميق
بين هذه الفنون وبين الوجدان الشعبي، ويقلقه حين يتساءل أين الحد الفاصل
بين الحقيقة والخيال في كل هذه المضامين.
ويبدو أن الشاعر منطلقه ومنتهاه في ذلك
قائم أكثره أو جلّه على الخيال والتصور لما يحبُّ ويهوى أو ما يجب أن يكون
من الصفات التي حددهــا مسبقاً فيمن أحـبّ ؛ فهي على مثالٍ فريدٍ لا
وجــودَ حقيقي له، ولا تتصف به امرأة سواها، وخير مثالٍ على ذلك قصيدة
الشاعر الشعبي عبد السلام الحر، التي بدت فيها روح المحافظة والفطرية
والتقليدية بكل سماتها في شكلها العام وفي لغتها وصورها، وربما ساهمت روح
البداوة والفطرية الواضحة لدى هذا الشاعر في تميز قصيدته بشكلٍ خاص.
وهذه الوقفات على الطلل قد تطول عند بعض
الشعراء فتشمل عدة أبيات من قصيدته، وتتحول بالتالي إلى حوار وتجاذب، وقد
تقصر فلا تتجاوز لمحات سريعة، حسب الدافع النفسي للشاعر في هذه الناحية.
وهكذا استجاب الشعراء الشعبيون لمعطيات
التراث الشعبي، وعبروا عن وجدان الناس، وتراوحت هذه الاستجابات بين عمق
الأصالة والاستجابات الفطرية للإبداع الفني.
ولئن جسّدت بعض هذه الاستجابات جزءاً من
الحقيقة، فقـد امتهن بعضها الآخــر الخيال والتصور، احتذى طريق المثال الذي
لا شيء قبله ولا شيء بعده، ولم ينبع من تجارب حقيقية عايشها هؤلاء
الشعراء، ولكنه نبع من ضرورة فنية كانت تقتضي متابعة الشعراء السابقين،
وترسّم خطاهم الفنية.
وقد حرص هؤلاء الشعراء ـ كما كان أسلافهم
في السابق ـ الجمع في صدورهم بين أطراف أو عناصر متنافرة حولهم، وخلقوا
بينها علاقات معينة تربــط بين أطــراف هــــذه الصورة بطريقة أو بأخرى،
وحرصوا على أن يتوافر لهذه الصور عناصر الحركة والحياة في أشكالها
المختلفة، كما حرص هؤلاء الشعراء كذلك على أن يضفوا على صورهم طابعا
مثاليا يجعل مــن كل ما يصفون، امـرأةً أو حيواناً، صورة مثالية في الجمال
الأنثوي للمرأة، أو الجمال والقوة والحركة للحيوان في صورة نمطية تقوم على
التشبيه والاستعارة والكناية وقص الأحداث، والمقابلة بين المواقف المختلفة
باختزال لحظات قد تطول وقد تقصر حسب طبيعة الموقف النفسي الذي يقفه الشاعر
من أحداث الحياة من حوله، وهي صور تتكرر من شاعــر إلــى آخـر، ومـن
قصيـدة إلـى أخـرى، حتى صـارت بمثابــة الشعائر المـقدسة التي يتلوهـا
هـؤلاء جميعًا.
بقلم : د. محمَّد طيِّب خطَّاب
حمل التراث الشعبي في ليبيا بمختلـف
أنواعـه ، وتعـدُّد فروعـه المعروفـة منـذ أمــد بعيد وحتى الآن ؛ حمل
كثيراً من المضامين والدلالات التي عبَّرت بعمق وحدة عن أصالته والتصاقه
بالوجدان الشعبي ، ولمست أعماق هذا الوجدان في شتى تداعياته، في لحظات فرحه
وترحه، وأمله وقنوطه ، وفي ساعات قوته وشبابه وضعفه وشيخوخته إلى غير ذلك
من ناحية ، وعَبَّرَ هذا التراث عن صدق التعاطي الثقافي وعمقه الذي جسَّدته
فئات هذا المجتمع أيًّا كان موقعها وفئتها من ناحية أخرى ، ولذا ظل تجاوب
المجتمع معه خالدًا ويزداد ويتجذَّر ويتشكَّل وفق تطور هذا المجتمع وحركة
الثقافة فيه ، وقدرة التعبير الشعبي على مدِّ جسور العلاقة فيه من ناحية
ثالثة.
فحتى المزمار الشعبي الذي يصفه بعض
الدارسين للتراث الشعبي بأنه لم يستطع أن يتطور ويبدع أشكالاً وتعابير
جديدة ، ومن ثم يتخذ لنفسه من داخل هذا التراث أنساقا تجعله أكثر قربا
والتصاقًا به ، وتمدُّ جذور العطاء والتواصل بينه وبين الفنون الشعبية
الأخرى ، وظل بذلك حبيس إيقاعات محدودة ومواقع ضيقة عاقت حركة التفاعل
والانصهار بينه وبين غيره من هذه الفنون الشعبية، ومن ثم الاستفادة منه كفن
شعبي عميق في ذاكرة الناس، وفي ذاكرة التراث الشعبي، وحتى بعض المحاولات
التي جرت للوصول إلى هذه الغاية وتحقيق هذا الهدف ظلت خارج الانصهار الكامل
والاندماج الكلي الذي يحقق تطوراً فعليا لهذا النوع من الإبداع الشعبي،
ومع ذلك ظل لهذا النوع مع هذه المحدودية والسطحية ـ إن جاز التعبير ـ ظل
له تأثيره وعشاقه، وظلت علاقته بالوجدان الشعبي عميقة وغير محدودة، ومن ثم
بقي له المتخصصون فيه الذين لا يمارسون غيره، وعشاقه الذين لهم انسجام خاص
جداً به وحده، فهناك من العلاقات بين الإنسان وبين هذه الأنواع من
الاستجابات الفطرية ما يصعب تفسيره أو إعطاء إجابات قاطعة وحاسمة له.
وهذا الأمر لا ينطبق على المزمار الشعبي
وحده، ولا يخصه بذاته دون سائر الفنون الشعبية الأخرى، وإنما اتخذناه مثالا
لبيان مدى وحدة المحافظة والتقليدية التي صاحبت هذه الفنون الشعبية عامة،
وكانت أبرز سمات تلك المحافظة وهذه التقليدية المغرقة واضحة أشد الوضوح
وأبرزها في هذا الفن الشعبي. وإلا فــإن قاعــدة المحافظـة والتقلـيدية
هــذه سايــرت مختلــف أنــواع هذه الفنون منذ انبثاقها، وصاحبت حركتها
المستمرة عبر الزمن والأجيال المتتالية، فأعطتها شكلاً محدوداً وسماتٍ
ثابتة لا تكاد تخرج عنها، وظلت الأجيال والأشكال الفنية الشعبية تتوارثها
وتتواصل معها وتستجيب فطريا لها، وتتعقب خطواتها وتحافظ على مضامينها
المحددة البارزة التي لا تكاد تتغير ولا تتبدل في ذاكرة المجتمع، ومن ثمّ
تستجيب لها ذاكرة الشاعر وتتجاوب معها وتعبر عنها في سياق رتيب لا يبعد
كثيراً لا يتمايز لدى شعراء القصيدة الشعبية وإن اختلفت وسائل التعبير
الإبداعي بعض الشيء لدى هؤلاء الشعراء، إلا أن شكل القصيدة ومضمونها ظـلاّ
ثابتين دون حراك جوهري يذكر.
ولا تعني هذه المحافظة والتقليدية ذوبان
شخصيات الفحول من الشعراء وضياع إبداعاتهم الفنية المتميزة، فقد كان لكل
شاعر منهم شخصيته الفنية التي تميّز شعره عن شعر غيره حتى داخل الإطار
الفني العام الذي استوعب كل هؤلاء الشعراء، وليس هنا موطن عرض الأمثلة،
فربما يكون لذلك دراسة منفصلة تتعرض لذلك وتأتي على تفاصيل الكثير منه.
وهذا الأمر يمكن تفسيره بما ارتبط بذاكرة
البداوة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام التي عاشرت حياة الفطرة والمحافظة،
وعدم الرغبة في التمرد والخروج على هذا النسق من الحياة التي كان لظروف
البيئة التي عاشها العرب دخل كبير فيها، ومن ثمّ ألفتها نفوسهم وتعودت
عليها وعرفت أسرارها وصاحبتها وصارت جزءاً من تكوينها العقلي والفكري الذي
لا تألف غيره ولا ترتاد سواه، وتتوجس من الخروج عليه، أو الخوض في مغامرة
جديدة لم تختبر بعد وسائلها ولا نتائجها.
فالناظر في موضوعات القصيدة الشعبية يجدها
تتجاوب وتستجيب لمعطيات القصيدة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام، وتحتذي
بشكل صارم تلك المضامين التي عبر عنها شاعر ما قبل الإسلام في الشكل
والمضمون لا تكاد تخرج عنها إلا في اختلاف المسميات التي فرضتها طبيعة
البيئة التي عاش فيها كلا الشاعرين ـ شاعر ما قبل الإسلام والشاعر الشعبي
في ليبيا الآن ـ رغم البعد الزمني الطويل، والتجارب التي يفترض أن تكون
متباينة استجابة لذلك، ؛ فالرحلة هي الرحلة بأهوالها ومشاقها ومعاناتها،
وربما حتى وسائلها، حافظ عليها الشاعر الشعبي بكل تفاصيلها تقريبا، وجياس
ديار الأحبة ومنازلهم الخالية هو ذاته، ووقوف الشاعر بها وتأمله فيها،
واستعادة ماضيه بها بمعظم تفاصيله الذي يذكّر الشاعر بما بقي من آثار تلك
الديار ودُمَنِها بعد أن حلّ أهلُها غيرها بحثاً عن الماء والكلأ، وبكاء
الشاعر واستعادة كل ذلك الماضي والتحسّر عليه، كل ذلك هو بذاته النداء الذي
يستجيب له الشاعر الشعبي، ويرتبط به ويستدعيه، ويتزاحم ويتوارد على ذاكرته
في هذه القصيدة، حين يريد تشخيص إحساسه بالمفارقة بين الماضي والحاضر، بين
الحياة والموت، حين يتخذ الشاعر من وصف الأطلال طريقاً إلى ذلك فيوقف
مطيته ورفاقه معه على هذه المنازل الدارسة، ويحرص حين يعمد إلى المقابلة
بين الماضي والحاضر على الربط بين خراب الديار ورحيل أصحابها عنها، “يغرّد
فيه البوم” على قول أحدهم، بما يحمله صوته من الوحشة والغربة، وما يجسّده
من صور الخراب، ومظاهر البلى في هذا الطلل.
إضافة إلى موضوعات القصيدة الأخرى، التي
منها المرأة التي أحبها الشاعر، وكانت رحلته من أجلها، فهي في الجمال
غايته، وفي النُبل والأصالة والشرف القمة، وأهلها كذلك بلغوا غاية الغاية
في الكرم والشهامة والخلال العربية البدوية الأصيلة، وذلك ليس نفيا ولا
نكرانا لهذه الخلال التي اتّسم بها العربي البدوي في عمق صحرائه التي كانت
موطنا للكرم والشجاعة والصفات النبيلة، ولكنه تساؤل يقف في حلق الباحث،
ويقضّ مضجعه حين دراسة هذا النوع من الإبداع الشعبي، وهذا التجاوب العميق
بين هذه الفنون وبين الوجدان الشعبي، ويقلقه حين يتساءل أين الحد الفاصل
بين الحقيقة والخيال في كل هذه المضامين.
ويبدو أن الشاعر منطلقه ومنتهاه في ذلك
قائم أكثره أو جلّه على الخيال والتصور لما يحبُّ ويهوى أو ما يجب أن يكون
من الصفات التي حددهــا مسبقاً فيمن أحـبّ ؛ فهي على مثالٍ فريدٍ لا
وجــودَ حقيقي له، ولا تتصف به امرأة سواها، وخير مثالٍ على ذلك قصيدة
الشاعر الشعبي عبد السلام الحر، التي بدت فيها روح المحافظة والفطرية
والتقليدية بكل سماتها في شكلها العام وفي لغتها وصورها، وربما ساهمت روح
البداوة والفطرية الواضحة لدى هذا الشاعر في تميز قصيدته بشكلٍ خاص.
وهذه الوقفات على الطلل قد تطول عند بعض
الشعراء فتشمل عدة أبيات من قصيدته، وتتحول بالتالي إلى حوار وتجاذب، وقد
تقصر فلا تتجاوز لمحات سريعة، حسب الدافع النفسي للشاعر في هذه الناحية.
وهكذا استجاب الشعراء الشعبيون لمعطيات
التراث الشعبي، وعبروا عن وجدان الناس، وتراوحت هذه الاستجابات بين عمق
الأصالة والاستجابات الفطرية للإبداع الفني.
ولئن جسّدت بعض هذه الاستجابات جزءاً من
الحقيقة، فقـد امتهن بعضها الآخــر الخيال والتصور، احتذى طريق المثال الذي
لا شيء قبله ولا شيء بعده، ولم ينبع من تجارب حقيقية عايشها هؤلاء
الشعراء، ولكنه نبع من ضرورة فنية كانت تقتضي متابعة الشعراء السابقين،
وترسّم خطاهم الفنية.
وقد حرص هؤلاء الشعراء ـ كما كان أسلافهم
في السابق ـ الجمع في صدورهم بين أطراف أو عناصر متنافرة حولهم، وخلقوا
بينها علاقات معينة تربــط بين أطــراف هــــذه الصورة بطريقة أو بأخرى،
وحرصوا على أن يتوافر لهذه الصور عناصر الحركة والحياة في أشكالها
المختلفة، كما حرص هؤلاء الشعراء كذلك على أن يضفوا على صورهم طابعا
مثاليا يجعل مــن كل ما يصفون، امـرأةً أو حيواناً، صورة مثالية في الجمال
الأنثوي للمرأة، أو الجمال والقوة والحركة للحيوان في صورة نمطية تقوم على
التشبيه والاستعارة والكناية وقص الأحداث، والمقابلة بين المواقف المختلفة
باختزال لحظات قد تطول وقد تقصر حسب طبيعة الموقف النفسي الذي يقفه الشاعر
من أحداث الحياة من حوله، وهي صور تتكرر من شاعــر إلــى آخـر، ومـن
قصيـدة إلـى أخـرى، حتى صـارت بمثابــة الشعائر المـقدسة التي يتلوهـا
هـؤلاء جميعًا.
بقلم : د. محمَّد طيِّب خطَّاب
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
بوفرقه- مراقب
-
عدد المشاركات : 34697
العمر : 57
رقم العضوية : 179
قوة التقييم : 76
تاريخ التسجيل : 30/04/2009
رد: التراث الشعبيِّ في ليبيا .. المضامين والدلالات
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
amol- مستشار
-
عدد المشاركات : 36762
العمر : 43
رقم العضوية : 2742
قوة التقييم : 9
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
مواضيع مماثلة
» مكتبة التراث الشعبى (اى شاعر فى ليبيا هنا)
» صحف:ليبيا توقع اتفاقية مع اليونسكو لحماية التراث الثقافي
» ليبيا واليونسكو توقعان على اتفاق لحماية التراث الثقافي وتطوي
» أسماء الأواني في التراث الليبي
» حكم من التراث الليبي
» صحف:ليبيا توقع اتفاقية مع اليونسكو لحماية التراث الثقافي
» ليبيا واليونسكو توقعان على اتفاق لحماية التراث الثقافي وتطوي
» أسماء الأواني في التراث الليبي
» حكم من التراث الليبي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:32 am من طرف STAR
» الشمال يتعرض لرشقات صاروخية الأكبر والاعنف منذ بدء الحرب
اليوم في 8:31 am من طرف STAR
» تصريحات إيرانية تثير شكوكا متزايدة بشأن "مصير نصر الله"
اليوم في 8:30 am من طرف STAR
» إسرائيل تعلن اغتيال قائد الوحدة الصاروخية بحزب الله ونائبه
اليوم في 8:30 am من طرف STAR
» مخاوف كبيرة من تطور في سياسة خصوصية تلغرام
اليوم في 8:28 am من طرف STAR
» الرجالهك بطلا لكأس السوبر الإفريقي على حساب الأهلي
اليوم في 8:27 am من طرف STAR
» "لا تتخلصوا منه"..فوائد عديدة لقشر الموز تعرفوا عليها
اليوم في 8:26 am من طرف STAR
» سلطة الرايتا الهندية
اليوم في 8:25 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:22 am من طرف STAR
» أسباب عدم استجابة السيارة عند الضغط على البنزين
2024-09-25, 7:45 am من طرف STAR
» سانت بطرسبرغ وجهة منوعة تعد الزائرين بقضاء إجازة لا تنسى
2024-09-25, 7:44 am من طرف STAR
» رونالدو مطلوب في الصين.. ما القصة؟
2024-09-25, 7:43 am من طرف STAR
» فوائد ومضار النوم نهارا
2024-09-25, 7:43 am من طرف STAR
» أدمغة الرجال تتقلص من الصباح إلى المساء
2024-09-25, 7:42 am من طرف STAR
» تكلفة الهجمات على لبنان يوم الاثنين بلغت نحو 173 مليون دولار
2024-09-25, 7:41 am من طرف STAR