إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
البحيرة العجيبة!!!
صفحة 1 من اصل 1
البحيرة العجيبة!!!
البحيرة العجيبة
علي عمر التكبالي
ها أنت قد خضت بحار الرمل الذي يقبض على قدميك كالمفك المكهرب، حاملا أسمالك العتيقة، وبعض لبان وبخور، وقبضتك تشتد حول حجاب كتبه شيخ مأفون، أوهمك بأنه يقرأ الغيب، فتنبّأ لك بدليل سوف يقودك إلى بر الأمان.. كنت وحيدا وتعيسا إنتزع قطّاع الطرق منك كل ما تملك، وتركوك تحت شمس محرقة تسفع أرضا هالكة لا يكبر فيها إلا الصبار الذي أضحى غذاءك، والصبر الذي صار عزاءك.. تركت تميمة أمك التي خاطتها حول رسغك، ونسيت وصاية الرجل الصالح الذي لقنك الآيات المحكمات في كتّاب القرية؟.. جئت وتركت النخيل نافقة، والناس ساجدة، والبرك راكدة.. جئت من موطن السكون تبغي مغامرة.. إذن إسمع مني يا بني تاريخ الحاضرة.
حين تسلك الدروب بين وديان الجبل،رابطا دربك بالقدر، تجد نفسك في وهدة تمتد كسبيل الخلاص تقودك إلى بحيرة زرقاء صافية تعجّ بالقوارب التي تسلم نفسها للريح تقودها خارج "البوغاز،" رامية بها في بحر واسع يغمق كلما مطّ جسده شمالا.. وكان الناس من كل الأنحاء يسبحون ويمرحون في مياهها، وينعمون بخيراتها، وينتعشون بهوائها.
ويحكى أن رجلا مسنّا حاول يوما أن يمتطي قاربه الملوّن، ويحوم فيها تاركا صباغه على سطحها فما قدر.. كان هزيلا لكنه قوي، وطيبا لكنه عنيد.. تتقوس كتفاه بعد الفقرة الأخيرة من طول أضناه، وتنفرج رجلاه تحت الركبة من حمل أشقاه.. قيل يومها أن موجة عاتية هبّت على البحيرة من وجهة غير معروفة أكلت دهانه، وشربت قاربه قبل أن تكرّ راجعة كالأخطبوط العظيم إلى وجهة لم يستطع شيخ القبيلة ولا أعوانه تحديدها... لقد رأوه يتمايل في القارب الصغير، يقوم ويقع، ويستقيم ويترنّح، ثم رأوها تتحول إلى لجّة عالية لها فم وأسنان وتشفط كل ما حولها.. قال "المستر جون" المسؤول عن سلامة البحيرة أنه لمح طاقيته تطفو ما بين الأرض والسماء داخل شلال من مياه سوداء تنساب إلى القرن الذهبي.
مضت الأيام ونسي الناس القصة، وإن ظل بعضهم يحكي للصغار عن البحيرة التي كادت أن تغيّر لونها من الأبيض إلى الأبيض، ولكن أغلبهم عادوا إلى سابق عهدهم يتنزّهون ويمرحون، ويأكلون ويرقصون، تاركين أمور البحيرة في أيد أناس من خارج نطاقها، لا يفهمون في طبعها، ولا يكثرتون بشأنها.
بدأت حدود البحيرة الممتدة من بحر الأمان إلى البحر الواسع تضيق، وبدأ خصرها في الترهّل، وجلدها في التعرّق حتى ذابت سحنتها، وأكلت الطحالب أطرافها، فجفّ نبعها، وفرّ سمكها، وانكمشت أطرافها، وانكفأت على نفسها عليلة من جفاف مائها وهزال هوائها.. طغى اللون الأخضر، والأزرق، والأحمر، والأسود، والبني على شفافيتها.. نمت طحالب "الإسبيروجيرا، والكلوروفيتا، والكريزوفيتا، والرودوفيتا، والطحالب السوطية والبكتيرية والمدورة والمستطيلة" في مياهها، والتفت حول الشعب والحواف، وتسلقت القضبان، ثم دارت ونسجت كالعليق سقوفا تحجب الشمس، وتلوّن الصبح بلون المغيب.
ورغم أن الشمس قد إرتدت برقعا مزيفا، ونشرت خيوطها العنكبوتية في عنق الطحالب متعاونة معها في شفط ماء البحيرة التي بدأت تتلون باللون الأخضر القاتم، إلا أن الناس ظلوا نصف نائمين يغدون ما بين البيت والمقهي، يمجّون تلك القهوة العجيبة التي يسمونها "الماكياتو،" والتي بطل مفعولها فصارت عونا على النوم بدل أن تنبّه القوم ، وزادهم همّا هيامهم بتلك اللعبة الكروية الشكل التي يركلها قوم من هنا، فيردّها قوم من هناك حتى زاد وهنهم، وعلا صوتهم على حساب فعلهم، فاندسّوا في كراسيهم حتى بانوا قصارا، فركب سورهم كل من هبّ ودب، وسرق من مالهم البهلوانات، والمهرجين، والراقصات، والسحرة ومدّعي علم الغيب.
إزداد لون البحيرة قتامة وازداد لون الناس إصفرارا وهم يشربون الشاي من الصين، ويتنشّقون توابل الهند، ويذوبون في ذبذبة تلفزيونات "إل – جي" الكورية بحاملها السحري الذي يمكّن الرائي من التفرّج على صندوق الدنيا... وحين حاول بعض العقلاء أن يلووا رقابهم ناحية البحيرة، ويذكّروهم بعهدها وبعهدتها، رموهم بالحجارة، وتولّوهم بالهمس واللمز حتى صاروا عرّة القوم بدلا أن يكونوا من أشرافه.
وذات يوم تسربل فيه الظلام على البحيرة ونواحيها جمع سفهاء القوم عقلاء القوم، وعلّقوهم في المشانق على "بوغاز البحيرة" حتى يكونوا نهشا للقروش، والأسماك المتوحشة التي ظلت تتواثب قاضمة أطراف الجثت المصلوبة تحت بصر الناس وتهليلهم.. في ذلك اليوم رأيت "الشيخ المشلول" يبسمل ويحوقل حامدا رب العالمين على نجاته ونجاة إبنه "السميّنة.." ثم رأيته في اليوم الذي تلى اليوم يرمي بكلماته النارية في خطبة الجمعة الحزينة يحمل كل كتب الدين تحت إبطه، ويصادر كل الفتاوى متهما الجموع بالمروق عن الدين، مستنكرا محاولاتهم الشريرة لقلب الميزان، مستشهدا بسورة الرحمن.
لا أدري لماذا قدر لي أن أرى هذا "الشيخ المشلول" مرات عديدة، ولماذا قدّر لي أن أشهد بأنه شيخ بلا عمة، وفارس بلا حصان، ورجل بلا خصيتين!. ولكن، دعونا منه الآن ولنمض في قصّتنا العجيبة، وأعدكم بأننا سوف نوافيه حين تتضح مراميه.
بدأت البحيرة تتنفس من أنوف الناس بعد أن كانت تهبهم هواء نقيا، وصار الماء يحطّ على البقعة فينشفها، وعلى العمود فيشقّقه، وعلى الإنسان فيملّحه.. بدأت روائح البحيرة النتنة تذلق أريجها على البطاح فتلوّن ترابها بالأسود، تم تنثني على الوجوه فتجعلها قاحلة كالحة.. تعجّب الناس كيف يصير الأزرق أخضر، ثم يخضر فيصير أسود.. ثم تذكروا أن الطحالب السوداء طغت على لون النماء ورمت فيه من خيوطها فانذلق ليلا لا ضوء فيه.
قال الرجال الباقون: "كي تنزاح الغمة، لا بد من شق هذه الغيمة السوداء كي ينفذ الضوء ويهبط الهواء، لم يتشاوروا أو يتحاوروا.. لم ينبسوا ببنت شفة، أو يتبادلوا غمزة، فقط إندفعوا عبر السهوب، والوديان، والبطاح، والوهاد وهجا أحمر ينذلق في فروع البحيرة القديمة، ويقتفي خطى المسارب التي مدتهم يوما بالماء والنماء.. رأيت إبني وابن الجيران، وإبن عمي "الشيخ غضبان.." رأيت الحاجة "حدهم" والحاجة "عتيقة" وأختها "مباركة.." رأيت "سارة، وابتهال، وأريج.." رأيت "سالم وسلام، وحمد وأحمد، وعلي وعلاء.." كل ما في الحي هبّ نحو البحيرة: الضوء والظلام، الربيع والخريف، القفر والزرع.. حتى السحاب الذي غيم لجيل من الزمان إنحلّ وتساقط ندفا من صوف أخضر مسود تحت الأقدام.. كان الجمع عجيبا.. قريبا وبعيدا، صغيرا وكبيرا، طويلا وقصيرا، قويا وضعيفا.. يهتفون ويدندنون، يبكون ويضحكون، يتصايحون ويهمسون.. أغرب ما رأيت خلال حياتي في هذه البحيرة التي عشقت ماءها، وتنسّمت هواءها، وتسنّمت أمواجها سقوط ذاك الصنم الكبير الذي يمتد وجهه القبيح في كل الأنحاء.. سقط الحاجز الرّمادي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.. صار مسحوقا هشّا لا يصدر صوتا تحت وقع الأقدام الغاضبة.
وخمّنوا من رأيت، وأنا أشهد ثورة البحيرة الساكنة.. كان الوقت غسقا، والسماء حمراء، والأرض منتثرة.. في منتصف الشارع تنام عدة أجداث يافعة رفض الذباب أن يحوم فوقها، وأبى الدود أن يهمّ بها... كنت أمشي وأقف، وأزفر وأشهق.. أنادي الشباب السابح فوق الريح إلى بقايا الصنم المتحطّم حين لمحت بطرف عيني "الشيخ المشلول" يرمي بخوره على الأجداث الطاهرة، ويتمتم بصوت مهموس: "هذا جزاء الناقم الذي يخرج على الحاكم.. الغيّ يورث العيّ، والعصيان يؤدي إلى البهتان، وطاعة السلطان واجب على كلّ إنسان!" تنفّست بعمق حتى لا أتقيأ، وصرخت في نفسي حتى لا ينكتم نفسي، وانزلقت مع الريح التي تحمل الصبيان إلى البحيرة التي كانت يوما في لون الصفاء.
بدأت الحياة تتغلب على جحافل الطحالب الغازية، فانقلب لون البحيرة رويدا إلى لون أصفى، وصار النسيم أنقى.. الطحالب القديمة لبست حلتها الجديدة، وغاصت في المياه العميقة متخلية عن عادتها القديمة في التسلق على الصخور، ولحس صوّان القلاع والقصور.. إنحدرت حتى طغى الماء الرقراق على جلدها الخشن فلانت قليلا، إبيضّت وازرقّت فلمعت وتلألأت بريقا يخدع العيون.. إغتسلت بماء البحيرة المقدس الذي ينبع من عين إسمها "السماح" تنزّ كدم الشهيد من صخرة لها شكل القلب، وشربت من ينبوعها المتدفق فابيضت وجوهها تحت سواد، ولانت أفئدتها تحت نفاق، واندفعت مع الجموع تبغي خيرات الجموع.
رأيت المهندس الذي كان يخطّط مع التنين لفتح البحيرة على المياه البعيدة، يمسك بعدته القديمة الجديدة.. ورأيت القائد الذي كان يقود مركبه المتوحش نحو الجموع البائسة، يرمي بمرساته حول البحيرة الساكنة. ورأيت الوزير الذي كان يحمل جواهر التاج الصدئة يرميها في المياه الضحلة، ورأيت الخطباء الذين وقعوا على "وثيقة ولاية العهد" يقفون على منابر من خشب الأبنوس. رأيت القوادين، والحواة، والمومسات، والراقصين على الحبال والراقصات يتقدمون الصفوف ويتسابقون لرش الأجساد الناشفة بماء البحيرة الدافق.
ومن خلال خشخشة الأوراق، وخرخشة الحصى سمعت "الشيخ المشلول" يثني على الحاكم المعلول، فعرفت أن دربنا مقفول!
سألت العارفين فقالوا أن هناك أسماك، وقواقع، وطحالب تأكل الطحالب.. كتبت رسالة إلى أمير الحي، ثم أرفقتها بصورة إلى شهبندر التجار، وحامي الذمة ذي اللحية الكثة.. وانتظرت.. إنتظرت، وانتظرت حتى جاء من يقول: "صبرا يا بني.. فأمير الحي لا زال يظن نفسه "البي،" والتاجر الجديد، لم يشبع بعد من النقود، والشيخ العتيد يلهث وراء النفود.
وبينما أنا أقلب بصري، وأسرح بفكري سمعت من يهمس: "صبرا لم نكمل تنظيف البحيرة بعد!" كلمات رماها شاب يسبح الربيع في عينيه، ويركض الغد في قدميه، ثم أدلف "يا عمي الحاج،" فعرفت أننا يجب أن نسرع في التنظيف قبل أن نعجز عن العوم.
طرابلس 12 / 7 / 2012
التاريخ : 15/7/2012
علي عمر التكبالي
ها أنت قد خضت بحار الرمل الذي يقبض على قدميك كالمفك المكهرب، حاملا أسمالك العتيقة، وبعض لبان وبخور، وقبضتك تشتد حول حجاب كتبه شيخ مأفون، أوهمك بأنه يقرأ الغيب، فتنبّأ لك بدليل سوف يقودك إلى بر الأمان.. كنت وحيدا وتعيسا إنتزع قطّاع الطرق منك كل ما تملك، وتركوك تحت شمس محرقة تسفع أرضا هالكة لا يكبر فيها إلا الصبار الذي أضحى غذاءك، والصبر الذي صار عزاءك.. تركت تميمة أمك التي خاطتها حول رسغك، ونسيت وصاية الرجل الصالح الذي لقنك الآيات المحكمات في كتّاب القرية؟.. جئت وتركت النخيل نافقة، والناس ساجدة، والبرك راكدة.. جئت من موطن السكون تبغي مغامرة.. إذن إسمع مني يا بني تاريخ الحاضرة.
حين تسلك الدروب بين وديان الجبل،رابطا دربك بالقدر، تجد نفسك في وهدة تمتد كسبيل الخلاص تقودك إلى بحيرة زرقاء صافية تعجّ بالقوارب التي تسلم نفسها للريح تقودها خارج "البوغاز،" رامية بها في بحر واسع يغمق كلما مطّ جسده شمالا.. وكان الناس من كل الأنحاء يسبحون ويمرحون في مياهها، وينعمون بخيراتها، وينتعشون بهوائها.
ويحكى أن رجلا مسنّا حاول يوما أن يمتطي قاربه الملوّن، ويحوم فيها تاركا صباغه على سطحها فما قدر.. كان هزيلا لكنه قوي، وطيبا لكنه عنيد.. تتقوس كتفاه بعد الفقرة الأخيرة من طول أضناه، وتنفرج رجلاه تحت الركبة من حمل أشقاه.. قيل يومها أن موجة عاتية هبّت على البحيرة من وجهة غير معروفة أكلت دهانه، وشربت قاربه قبل أن تكرّ راجعة كالأخطبوط العظيم إلى وجهة لم يستطع شيخ القبيلة ولا أعوانه تحديدها... لقد رأوه يتمايل في القارب الصغير، يقوم ويقع، ويستقيم ويترنّح، ثم رأوها تتحول إلى لجّة عالية لها فم وأسنان وتشفط كل ما حولها.. قال "المستر جون" المسؤول عن سلامة البحيرة أنه لمح طاقيته تطفو ما بين الأرض والسماء داخل شلال من مياه سوداء تنساب إلى القرن الذهبي.
مضت الأيام ونسي الناس القصة، وإن ظل بعضهم يحكي للصغار عن البحيرة التي كادت أن تغيّر لونها من الأبيض إلى الأبيض، ولكن أغلبهم عادوا إلى سابق عهدهم يتنزّهون ويمرحون، ويأكلون ويرقصون، تاركين أمور البحيرة في أيد أناس من خارج نطاقها، لا يفهمون في طبعها، ولا يكثرتون بشأنها.
بدأت حدود البحيرة الممتدة من بحر الأمان إلى البحر الواسع تضيق، وبدأ خصرها في الترهّل، وجلدها في التعرّق حتى ذابت سحنتها، وأكلت الطحالب أطرافها، فجفّ نبعها، وفرّ سمكها، وانكمشت أطرافها، وانكفأت على نفسها عليلة من جفاف مائها وهزال هوائها.. طغى اللون الأخضر، والأزرق، والأحمر، والأسود، والبني على شفافيتها.. نمت طحالب "الإسبيروجيرا، والكلوروفيتا، والكريزوفيتا، والرودوفيتا، والطحالب السوطية والبكتيرية والمدورة والمستطيلة" في مياهها، والتفت حول الشعب والحواف، وتسلقت القضبان، ثم دارت ونسجت كالعليق سقوفا تحجب الشمس، وتلوّن الصبح بلون المغيب.
ورغم أن الشمس قد إرتدت برقعا مزيفا، ونشرت خيوطها العنكبوتية في عنق الطحالب متعاونة معها في شفط ماء البحيرة التي بدأت تتلون باللون الأخضر القاتم، إلا أن الناس ظلوا نصف نائمين يغدون ما بين البيت والمقهي، يمجّون تلك القهوة العجيبة التي يسمونها "الماكياتو،" والتي بطل مفعولها فصارت عونا على النوم بدل أن تنبّه القوم ، وزادهم همّا هيامهم بتلك اللعبة الكروية الشكل التي يركلها قوم من هنا، فيردّها قوم من هناك حتى زاد وهنهم، وعلا صوتهم على حساب فعلهم، فاندسّوا في كراسيهم حتى بانوا قصارا، فركب سورهم كل من هبّ ودب، وسرق من مالهم البهلوانات، والمهرجين، والراقصات، والسحرة ومدّعي علم الغيب.
إزداد لون البحيرة قتامة وازداد لون الناس إصفرارا وهم يشربون الشاي من الصين، ويتنشّقون توابل الهند، ويذوبون في ذبذبة تلفزيونات "إل – جي" الكورية بحاملها السحري الذي يمكّن الرائي من التفرّج على صندوق الدنيا... وحين حاول بعض العقلاء أن يلووا رقابهم ناحية البحيرة، ويذكّروهم بعهدها وبعهدتها، رموهم بالحجارة، وتولّوهم بالهمس واللمز حتى صاروا عرّة القوم بدلا أن يكونوا من أشرافه.
وذات يوم تسربل فيه الظلام على البحيرة ونواحيها جمع سفهاء القوم عقلاء القوم، وعلّقوهم في المشانق على "بوغاز البحيرة" حتى يكونوا نهشا للقروش، والأسماك المتوحشة التي ظلت تتواثب قاضمة أطراف الجثت المصلوبة تحت بصر الناس وتهليلهم.. في ذلك اليوم رأيت "الشيخ المشلول" يبسمل ويحوقل حامدا رب العالمين على نجاته ونجاة إبنه "السميّنة.." ثم رأيته في اليوم الذي تلى اليوم يرمي بكلماته النارية في خطبة الجمعة الحزينة يحمل كل كتب الدين تحت إبطه، ويصادر كل الفتاوى متهما الجموع بالمروق عن الدين، مستنكرا محاولاتهم الشريرة لقلب الميزان، مستشهدا بسورة الرحمن.
لا أدري لماذا قدر لي أن أرى هذا "الشيخ المشلول" مرات عديدة، ولماذا قدّر لي أن أشهد بأنه شيخ بلا عمة، وفارس بلا حصان، ورجل بلا خصيتين!. ولكن، دعونا منه الآن ولنمض في قصّتنا العجيبة، وأعدكم بأننا سوف نوافيه حين تتضح مراميه.
بدأت البحيرة تتنفس من أنوف الناس بعد أن كانت تهبهم هواء نقيا، وصار الماء يحطّ على البقعة فينشفها، وعلى العمود فيشقّقه، وعلى الإنسان فيملّحه.. بدأت روائح البحيرة النتنة تذلق أريجها على البطاح فتلوّن ترابها بالأسود، تم تنثني على الوجوه فتجعلها قاحلة كالحة.. تعجّب الناس كيف يصير الأزرق أخضر، ثم يخضر فيصير أسود.. ثم تذكروا أن الطحالب السوداء طغت على لون النماء ورمت فيه من خيوطها فانذلق ليلا لا ضوء فيه.
قال الرجال الباقون: "كي تنزاح الغمة، لا بد من شق هذه الغيمة السوداء كي ينفذ الضوء ويهبط الهواء، لم يتشاوروا أو يتحاوروا.. لم ينبسوا ببنت شفة، أو يتبادلوا غمزة، فقط إندفعوا عبر السهوب، والوديان، والبطاح، والوهاد وهجا أحمر ينذلق في فروع البحيرة القديمة، ويقتفي خطى المسارب التي مدتهم يوما بالماء والنماء.. رأيت إبني وابن الجيران، وإبن عمي "الشيخ غضبان.." رأيت الحاجة "حدهم" والحاجة "عتيقة" وأختها "مباركة.." رأيت "سارة، وابتهال، وأريج.." رأيت "سالم وسلام، وحمد وأحمد، وعلي وعلاء.." كل ما في الحي هبّ نحو البحيرة: الضوء والظلام، الربيع والخريف، القفر والزرع.. حتى السحاب الذي غيم لجيل من الزمان إنحلّ وتساقط ندفا من صوف أخضر مسود تحت الأقدام.. كان الجمع عجيبا.. قريبا وبعيدا، صغيرا وكبيرا، طويلا وقصيرا، قويا وضعيفا.. يهتفون ويدندنون، يبكون ويضحكون، يتصايحون ويهمسون.. أغرب ما رأيت خلال حياتي في هذه البحيرة التي عشقت ماءها، وتنسّمت هواءها، وتسنّمت أمواجها سقوط ذاك الصنم الكبير الذي يمتد وجهه القبيح في كل الأنحاء.. سقط الحاجز الرّمادي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.. صار مسحوقا هشّا لا يصدر صوتا تحت وقع الأقدام الغاضبة.
وخمّنوا من رأيت، وأنا أشهد ثورة البحيرة الساكنة.. كان الوقت غسقا، والسماء حمراء، والأرض منتثرة.. في منتصف الشارع تنام عدة أجداث يافعة رفض الذباب أن يحوم فوقها، وأبى الدود أن يهمّ بها... كنت أمشي وأقف، وأزفر وأشهق.. أنادي الشباب السابح فوق الريح إلى بقايا الصنم المتحطّم حين لمحت بطرف عيني "الشيخ المشلول" يرمي بخوره على الأجداث الطاهرة، ويتمتم بصوت مهموس: "هذا جزاء الناقم الذي يخرج على الحاكم.. الغيّ يورث العيّ، والعصيان يؤدي إلى البهتان، وطاعة السلطان واجب على كلّ إنسان!" تنفّست بعمق حتى لا أتقيأ، وصرخت في نفسي حتى لا ينكتم نفسي، وانزلقت مع الريح التي تحمل الصبيان إلى البحيرة التي كانت يوما في لون الصفاء.
بدأت الحياة تتغلب على جحافل الطحالب الغازية، فانقلب لون البحيرة رويدا إلى لون أصفى، وصار النسيم أنقى.. الطحالب القديمة لبست حلتها الجديدة، وغاصت في المياه العميقة متخلية عن عادتها القديمة في التسلق على الصخور، ولحس صوّان القلاع والقصور.. إنحدرت حتى طغى الماء الرقراق على جلدها الخشن فلانت قليلا، إبيضّت وازرقّت فلمعت وتلألأت بريقا يخدع العيون.. إغتسلت بماء البحيرة المقدس الذي ينبع من عين إسمها "السماح" تنزّ كدم الشهيد من صخرة لها شكل القلب، وشربت من ينبوعها المتدفق فابيضت وجوهها تحت سواد، ولانت أفئدتها تحت نفاق، واندفعت مع الجموع تبغي خيرات الجموع.
رأيت المهندس الذي كان يخطّط مع التنين لفتح البحيرة على المياه البعيدة، يمسك بعدته القديمة الجديدة.. ورأيت القائد الذي كان يقود مركبه المتوحش نحو الجموع البائسة، يرمي بمرساته حول البحيرة الساكنة. ورأيت الوزير الذي كان يحمل جواهر التاج الصدئة يرميها في المياه الضحلة، ورأيت الخطباء الذين وقعوا على "وثيقة ولاية العهد" يقفون على منابر من خشب الأبنوس. رأيت القوادين، والحواة، والمومسات، والراقصين على الحبال والراقصات يتقدمون الصفوف ويتسابقون لرش الأجساد الناشفة بماء البحيرة الدافق.
ومن خلال خشخشة الأوراق، وخرخشة الحصى سمعت "الشيخ المشلول" يثني على الحاكم المعلول، فعرفت أن دربنا مقفول!
سألت العارفين فقالوا أن هناك أسماك، وقواقع، وطحالب تأكل الطحالب.. كتبت رسالة إلى أمير الحي، ثم أرفقتها بصورة إلى شهبندر التجار، وحامي الذمة ذي اللحية الكثة.. وانتظرت.. إنتظرت، وانتظرت حتى جاء من يقول: "صبرا يا بني.. فأمير الحي لا زال يظن نفسه "البي،" والتاجر الجديد، لم يشبع بعد من النقود، والشيخ العتيد يلهث وراء النفود.
وبينما أنا أقلب بصري، وأسرح بفكري سمعت من يهمس: "صبرا لم نكمل تنظيف البحيرة بعد!" كلمات رماها شاب يسبح الربيع في عينيه، ويركض الغد في قدميه، ثم أدلف "يا عمي الحاج،" فعرفت أننا يجب أن نسرع في التنظيف قبل أن نعجز عن العوم.
طرابلس 12 / 7 / 2012
التاريخ : 15/7/2012
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
مواضيع مماثلة
» الثلاجة العجيبة
» اللحية العجيبة جدا جدا جدا
» فوائد اللبن العجيبة
» الزعتر وفوائده العجيبة
» فوائد التمر العجيبة
» اللحية العجيبة جدا جدا جدا
» فوائد اللبن العجيبة
» الزعتر وفوائده العجيبة
» فوائد التمر العجيبة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2024-11-21, 8:36 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR
» الأرز الإسباني
2024-11-18, 7:45 am من طرف STAR
» عن مشاركة نيمار في مونديال الاندية.. هذا موقف الهلال
2024-11-16, 8:14 am من طرف STAR
» لضمان نوم هادئ ومريح.. تجنب 5 عادات
2024-11-16, 8:13 am من طرف STAR
» ترتيب المنتخبات العربية في تصفيات آسيا لكأس العالم 2026
2024-11-16, 8:12 am من طرف STAR
» الخضار الأعلى كثافة بالمغذيات
2024-11-16, 8:11 am من طرف STAR
» رونالدو يثير التفاعل بتصرف رائع خلال مباراة البرتغال
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR
» غرامة بمليار دولار تُهدد "ميتا" بالتفكك وسط ضغوط تنظيمية دولية
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR