إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
الربيع العربي ولبنان.. والثورة السورية
صفحة 1 من اصل 1
الربيع العربي ولبنان.. والثورة السورية
معهد العربية للدراسات والتدريب
تسعى هذه الدراسة التي كتبها الأكاديمي اللبناني الدكتور عبدالغني عماد لقراءة واستكشاف تأثيرات الربيع العربي على لبنان بأطيافها المختلفة سواء قواها السياسية المستقطبة قبل وبعد هذا الربيع، أو الطوائف التي لم يخف بعضها تخوفاته من نتائج هذا الربيع الذي ينحو إسلاميا في بعض هذه الدول، ويركز بشكل خاص على الموقف من الثورة السورية المحاذية والمتماسة مع كل جوانب الاستقطاب في الفضاء اللبناني..
مع دخول الشعوب العربية عصراً جديداً، لم يعد فيه التأريخ يجري على وقع حركة الرؤساء بقدر ما أصبح فيه الشعب فاعلاً والميادين والساحات والفضاءات العامة مجالاً لصناعة شرعياتٍ جديدة، وعلى وقع هذه الثورات وتردداتها، انتصاراتها وخيباتها، استقبل ويستقبل لبنان هذا الحراك العربي الثوري ويتفاعل معه على الطريقة المعتادة به، حيث لا يخلو الخطاب السياسي اللبناني من قراءات وتحليلات "مطيّفة" و"متمذهبة" و"مقنّعة" بمختلف أنواع الشعارات الوطنية والقومية التي توظف لصالح الاصطفاف الذي لا يزال فاعلاً (بين 14 و8 آذار) ودافعاً باتجاه انقسام يتخطى البعد السياسي والصراع على السلطة ليطال جوانب أعمق وأبعد من ذلك تتعلق بإعادة إنتاج وتوزيع السلطة وتوازناتها.
كيف تفاعلت القوى السياسية الفاعلة في لبنان مع الربيع العربي؟ وكيف يمكن أن تنعكس هذه المواقف في ظل هذا الانقسام العمودي والاصطفاف السياسي الحاد على استقرار لبنان وخاصةً في ظل حكومة بقيت مواقفها ملتبسة على الرغم من شعار النأي بالنفس الذي رفعته عندما وصلت رياح الثورات العربية إلى أبواب دمشق؟ كيف ينظر المسيحيون اللبنانيون إلى هذه الثورات؟ الإسلاميون في لبنان أين هم من هذه الثورات وخاصةً مما يجري في سوريا؟! كثير من الأسئلة سوف تحاول هذه الدراسة الإجابة عليها.
الربيع العربي والإسلاميون في لبنان
في الواقع بقيت تداعيات الثورات العربية خاصةً ثورتي تونس ومصر ضمن إمكانيات الاستيعاب المحلي للتوازن السياسي اللبناني، فقد احتفل بها الجميع وإن كان حزب الله من أكثر القوى التي جاهرت في إقامة مظاهر إحتفالية دشنتها في مهرجان انتصار الثورات العربية، حيث أعلن فيه السيد حسن نصر الله دعمه لما يعتبره "إرادة حقيقة من الشعوب العربية المسلمة التي تكافح من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في وجه أنظمة استبدادية فاسدة وغير شرعية تلقى الدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل" ، كان لسقوط مبارك ونجاح الحزب في تهريب عناصره من السجون المصرية الذين حضروا هذا الاحتفال وقعٌ خاص إلا أن ثورة مصر وتونس لم تكن وحدها في نطاق اهتمام الحزب فامتداد الثورات العربية التي بدأت تزهر في أكثر من عاصمة وخاصةً في البحرين وسوريا على أبواب لبنان تحديداً وضع الحزب أمام مواقف صعبة.
شكل الموقف من الحراك الثوري العربي في البحرين وسوريا منذ انطلاقته عاملاً إضافياً في إظهار المزيد من التمايز بين الجماعة الإسلامية وحزب الله وبين باقي الإسلاميين من جهة أخرى.
ترى الجماعة الإسلامية ان ما جرى في البحرين تحوّل إلى فتنة يجب تلافي شرها في العالم الإسلامي، ولا يجوز تشبيهها بثورة 25 يناير المصرية لا من حيث الأعلام المرفوعة ولا من حيث الأطراف، ولا من حيث تعبيرها عن موقف وطني موّحد، فضلاً عن اصطدام القائمين عليها مع شريحة أساسية هي سنّة البحرين. وعليه كان موقف الجماعة مخالفاً لتوصيف حزب الله لما يجري في البحرين، فهي لم تعتبر قوات درع الجزيرة قوات احتلال كما ذهب السيد نصر الله في مهرجان دعم الثورات العربية متسائلاً عن سبب صمت العالم العربي والمسلم "عن الظلم الذي يحيق بإخوانهم الشيعة في البحرين، مستغرباً عدم إثارة المسألة المذهبية عند الحديث عن الشعب الفلسطيني أو المصري أو التونسي أو الليبي".
من هذا المنطلق كانت خطبة الجمعة للعلامة يوسف القرضاوي إذ قال بوضوح إن الحركة في البحرين تحولت طائفية و"أن أهل السنة لما رأوا هذا قالوا نحن لنا مطالب أيضاً.. ولم يكن المحتجون سلميين، بل اعتدوا على كثير من أهل السنة واستولوا على مساجد ليست لهم، واستعملوا الأسلحة كما يفعل البلطجيون في اليمن ومصر وغيرها، ضد كثير من المستضعفين من أهل السنة.. ان الخطر هو أن ينسب الشيعة أنفسهم إلى بلاد أخرى ويحملوا صورة خامنئي وصورة نصر الله وصورة كذا وكأنهم ينتسبون إلى إيران لا إلى البحرين..".
هذا الموقف والردود التي جاءت عليه من الإعلام المؤيد لحزب الله، بل وحتى الرد المباشر الذي جاء من السيد حسن نصر الله دون أن يسميه، خلف توتراً، بين الإسلاميين السنة عموماً ومن ضمنهم جمهور الجماعة وبين حزب الله، ذلك لأن مهاجمة القرضاوي يعادل لدى الإسلاميين مهاجمة السيد نصر الله أو الخميني لدى حزب الله أو مؤيديه في العالم.
لا تتردد الجماعة من تحذير "الأقلام والأفواه المأجورة التي لم تعتد سوى العيش في كنف الظالمين وأن تكون أدوات تستخدم من قبلهم ويخشون على أرزاقهم فيهاجمون العلامة القرضاوي لقوله كلمة الحق. فنقول لهم كفى تمادياً على هذا العلامة المجاهد.. فنحن نقف مع الشرفاء في مسيرة الحرية والكرامة ونرفض منطق الاستكبار والاستعباد للشعوب".
جاءت أحداث انتفاضة الشارع السوري لتشكل بدورها عامل تباين إضافي بين الفريقين، خاصةً وأن الملف الإسلامي في سوريا حساس وضخم، لم يتردد القرضاوي في إدانة ما حصل في درعا وما سبقه من قمع بحق المتظاهرين المسالمين المطالبين بالاصلاح .
في حين أن الجماعة أعلنت بوضوح أن "الصراع اليوم بين فئتين: فئة تطالب بالعزة والكرامة ومستعدة لبذل الأنفس في سبيل رفع الذل والاستعباد. وفئة لا تزال ملتبسة تتلمس رضى السلاطين وتبطش بأيديهم وتسمح لنفسها أن تكون أبواقاً مدافعة عنهم وعوناً للظلمة" ، كان حزب الله يتخذ المزيد من المواقف التي تنسجم مع تحالفه الاستراتيجي مع النظام السوري.
ويبدو أنه راهن كثيراً في البداية على قدرة النظام على استيعاب الاحتجاجات إلا أن استمرارها وتوسعها وارتفاع الأصوات المنتقدة لموقفه والتي تتهمه بازدواجية المعايير، خاصةً بعد تأييده للثورة الليبية والتي تدخل فيها "الناتو" لأسباب تتعلق بخصوصية الطائفة الشيعية وإخفاء الإمام السيد موسى الصدر والمتهم به نظام القذافي، دفعه في احتفال "انتصار الثورات العربية" إلى الإعلان بوضوح إن حزبه وقف إلى جانب ثورات مصر وليبيا واليمن والبحرين وتونس، محدداً معيارين ينطلق منهما في تأييده لأي ثورة: الأول يتمثل بموقف هذا النظام من الصراع العربي الإسرائيلي، والثاني غياب أي أفق أو أمل في الإصلاح على المستوى الداخلي ، معتبراً وفق هذا التحليل إن هذين المعيارين لا ينطبقان على النظام السوري لذلك هو يحظى ببركة وتأييد المقاومة، ولم يتزحزح هذا الموقف منذ ذلك الحين متبنياً رواية النظام الرسمية في إعلانه.
القمع المتمادي الذي تتعرض له المعارضة السورية وإتهامها بالسلفية، وتسليط الأضواء على دور الأخوان المسلمين السوريين فيها من قبل الإعلام السوري، والدور التركي وتصريحات أردوغان والحملة المعادية ضده من قبل إعلام حزب الله والإعلام القريب منه وتشبيهه بالسلطان العثماني الجديد، لا يمكن أن تمر مرور الكرام في الأوساط الإسلامية السنية، بل إن الانتقادت العنيفة التي وجهت للقرضاوي، والتي تعود خلفيتها إلى احتقان بدأ قبل أربعة أعوام تقريباً عندما فتح القرضاوي ملف التشييع المدعوم من إيران في المنطقة محذراً من مخاطره وتداعياته، كلها شكلت عناصر خلافية مضافة على ملف العلاقة بين الإسلاميين السنة وحزب الله في لبنان.
الجماعة الإسلامية والإسلاميون السنة اليوم في عصر الثورات العربية ليسوا كما في الأمس. فهم يقرأون في كتاب الثورة والتغيير الآتي من قلب الشارع العربي ، ويشعرون إن الحياة عادت إلى منظومة التغيير العابر للحدود وأنهم عصب التحركات الشعبية وشريك أساسي فيه، لذلك لم يعد مقبولاً أن يتم التعامل معهم بفوقية ولا مع رموزهم بمنطق التخوين والاتهام. مع ذلك تتفهم الجماعة الواقع اللبناني وخصوصياته وحساسياته، لذلك تتحرك بحذر بالغ في الشارع وتتجنب القيام بحملات تعبئة سياسية أو تظاهرات تأييد ونصرة للشعب السوري كما ذهب حزب الله في تأييده لثورة البحرين متسبباً بأزمة دبلوماسية أضرت بمصالح الكثير من اللبنانيين في الخليج.
فالجماعة رغم تعاطفها الكامل مع ثورة الشعب السوري حريصة على أفضل العلاقات مع المقاومة وهي تتجنب كل ما يسيء إلى هذه العلاقات، لذلك تعرضت إلى الكثير من الانتقاد من بعض الإسلاميين المتشددين الذين اعتبروا موقفها ومواكبتها للحدث السوري مائعاً وخجولاً، ويراعي الظروف والوقائع أكثر مما يراعي الحق والمبادئ. ويتجاذبها تباينات في كيفية التعاطي مع الثورة السورية، حيث البعض متحمس للتصعيد السياسي والشعبي، مقابل البعض الآخر الذي يدعو إلى عقلنة التحرك والاكتفاء بالنشاط الإغاثي للنازحين السوريين، الأمر الذي جعل التحركات الشعبية للجماعة متقطعة وغير منتظمة، وتخضع للكثير من النقاش كما حدث في مهرجان ل"عيونك يا شام" الذي اقتصر على تنظيم فرع طرابلس نهاية العام الماضي.
دفع هذا الأمر بالسلفيين اللبنانيين إلى تصعيد تحركاتهم والانفراد ببعض الأنشطة والتحركات الشعبية لدعم الثورة السورية، وكان أهمها "الظاهرة الجديدة" التي مثلها الشيخ أحمد الأسير، والذي بدأ بسلسلة تحركات تحت عنوان نصرة المظلوم، كان أبرزها في ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية، حيث اعتاد فريق 14 آذار أن يقيم احتفالاته الضخمة والتي ووجهت بتظاهرة مضادة مؤيدة للنظام السوري في ساحة رياض الصلح المحاذية لها ، ثم تلاها تظاهرة في منطقة وادي خالد شمال لبنان فضلاً عن سلسلة من النشاطات والتظاهرات المتتالية.
تيار المستقبل وقوى 14 آذار
لم يتردد تيار المستقبل في الإعلان عن تأييده للحراك الثوري في سوريا والذي كان في البداية خجولاً، ومع ذلك ووجه بحملة إعلامية سورية منظمة، حيث وجهت أجهزة إعلام النظام منذ الأيام الأولى للانتفاضة في درعا أصابع الاتهام إلى قيادات ونواب في تيار المستقبل بأنهم يحوّلون ويحرضون ويقودون "غرفاً سوداء" لتنظيم هذه الاحتجاجات. اكتفى التيار في الشهور الستة الأولى بنفي تهمة التدخل في الشأن السوري، والإعلان عن التعاطف عبر وسائل الإعلامية مع الشعب السوري. إلا أن التطورات دفعته إلى تطوير هذا الموقف باعتبار "أن الربيع العربي يتيح أمام اللبنانيين فرصة ذهبية لتحديث تجربتهم الديموقراطية، وتصفيتها من مخلفات الحروب الطائفية وسياسات الاستقواء والرهانات على الخارج" كما جاء على لسان الرئيس سعد الحريري" .
كان لا بد في سياق تطور أحداث الثورة السورية وتفجر العنف وتدفق النازحين والموقف اللبناني الرسمي الملتبس والذي لم ينسجم مع مقررات جامعة الدول العربية أن يتخذ تيار المستقبل مواقف أكثر حدّة من النظام السوري، فأعلن على لسان سعد الحريري: "أن هناك أنظمة سياسية عمياء، رهينة حب الاستئثار الأبدي بالسلطة، اختارت أن تقود بلدانها بشعارات المزايدة والممانعة المزيفة في خدمة الحزب الواحد والرئيس القائد. وهناك شعوب قررت أن تكسر أبواب السجن الكبير وأن تصعد ببلدانها نحو المسار الديموقراطي، لترفع عن عيونها غمامة عشرات السنين من القهر والظلم والاستبداد لتنهي إلى غير رجعة، زمن الخوف الأبدي، والطاعة المطلقة للحكام وأحزابهم المحنطة. واللبنانيون أمام هذا المشهد، إما أن يختاروا طريق الالتحاق بالأنظمة العمياء.. وإما أن يأخذوا بيد الشعوب الحرة.. وفي يقيني أن شعب لبنان بأصالته الديموقراطية لن يختار سوى طريق الشعوب...".
يقطع تيار المستقبل المساحة الرمادية في المواقف السياسية بصفته معبراً عن أكبر كتلة نيابية برلمانية من جهة وتمثيله السني الكبير من جهة أخرى فيعلن أن أي قراءة غير خلاف ذلك هي غير أخلاقية: "هناك قاتل اسمه نظام بشار الأسد يرتكب يومياً وبالجرم المشهود، عشرات عمليات القتل الموثقة...، وهناك مدينة اسمها حمص شنّ عليها حرباً لا تقل ضراوة وشراسة وحقداً عن حروب اسرائيل ضد لبنان وغزة...".
انعكست مواقف الحريري في وثيقة التيار والتي تمت صياغتها بعد حوارات واسعة مع حلفائه في 14 آذار، وقد كتبت لتشكل مرجعية فكرية واستراتيجية مستندة إلى خبرة لبنانية ديموقراطية عريقة أظهرت إن معاني وقيم الربيع العربي في الحرية هي معاني وقيم لبنانية متأصلة، معتبرة أن التغيير العربي يمثل مرحلة نضوج وتحدياً كبيراً في الوقت نفسه من حيث إنه يضع الوطن العربي على مشارف مستقبل جديد مفعم بطموحات شباب أمتنا لإقامة الأنظمة السياسية على قواعد احترام الحقوق والحريات العامة وخصوصاً الحريات الدينية، وكذلك حقوق الكرامة الإنسانية والعدالة والصلاح في إدارة الشأن العام، وهو "تحدٍ من حيث قدرتنا نحن اللبنانيين على المراجعة والنقد وعلى التأصل القيمي والثقافي والسياسي للخروج من المرحلة السابقة التي سيطر فيها الاستبداد والتطرف وسياسة المحاور.. والهدف من المراجعة والنقد هو التمكن من صون وحدة مجتمعاتنا وتنوعها وكرامة إنساننا في زمن التحولات..".
تؤسس الوثيقة لقراءة معمقة لتيار المستقبل لقضايا تتعلق بالمسألة الوطنية مع دعوة مفتوحة للمصالحة بعيداً عن الاستقواء بالسلاح، وتطلق نداءً تحذيرياً من خطورة الفتنة السنية – الشيعية منادية بالحوار، وتتوقف ملياً عند العلاقات بين المسلمين والمسيحيين والعيش المشترك ومفاهيم المواطنة والفكر الديني المستنير وتتلقف وثائق الأزهر، وتقدم قراءتها المتميزة للعروبة الحضارية في زمن الربيع العربي وتتوقف عن القضية الفلسطينية، ثم تفرد حيزاً مهماً للموقف من الثورة السورية.
المسيحيون والربيع العربي
لم تستطع هذه المواقف التي تضمنتها الوثيقة اختراق حالة الاصطفاف التي يشهدها لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكنها دفعت بالمشهد السياسي اللبناني نحو المزيد من الجدل والحوار، خاصةً بعد ان خرجت العديد من الوثائق والمواقف المسيحية التي تحاكي الربيع العربي وفي مقدمتها الوثيقة التي قدمها الرئيس أمين الجميل وحزب الكتائب ومواقف الدكتور سمير جعجع، والوثيقة المسيحية للقاء سيدة الجبل، خاصةً أن هذه المواقف أطلقت بعد المواقف المثيرة للجدل التي أطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي إثر زيارته إلى فرنسا ولقائه الرئيس ساركوزي والتي اتبعها بسلسلة من التصريحات الملتبسة التي تطرح إشكالية الأقليات في الشرق ومخاوف المسيحيين من تنامي الأصولية الإسلامية ووصولها إلى السلطة مع الربيع العربي وأثر ذلك على مستقبل الوجود المسيحي.
بدا الانقسام المسيحي واضحاً حول الموقف من الربيع العربي وتداعياته، فالكنيسة المارونية ممثلة بالبطريرك الراعي أعادت للنقاش مسألة الأقليات بل ذهبت إلى الحديث عن شتاء العالم العربي لا ربيعه، منتقدةً ربيع العنف والدماء والقتل تعليقاً على ما يحصل في سوريا متسائلة عن مصير المسيحيين في حال سقوط هذا النظام؟؟ ومطالبة بالضمانات لهم؟! لقيت هذه المواقف ترحيباً شديداً من قبل التيار الوطني الحر ورئيسه الجنرال ميشال عون الحليف الأساسي لحزب الله وسورية في الساحة المسيحية، لكنها في المقابل أثارت سجالاً في الوسط المسيحي وتحديداً بين مسيحيي 14 آذار وخصومهم.
وعلى وقع هذه السجالات صدرت الوثيقة التي أعلنها الرئيس أمين الجميل، ثم وثيقة سيدة الجبل، إثر خلوة مسيحية عقدت في أدما جمعت أكثر من 600 شخصية، وقد استندت بحوث الخلوة ومناقشاتها إلى ماضي الكنيسة وتاريخها، وإلى المقررات التي صدرت تاريخياً عن المجمعات التي عقدت على هيئة ورشات عمل شارك فيها مطارنة وبطاركة وسياسيون، وأوصت نتائج تلك البحوث بالوقوف إلى جانب المنادين بالحريات وعدم مساندة أنظمة القمع والاستبداد، معتبرة إن المسيحيين هم أول من أطلق "الربيع العربي" من بيروت، وبالتالي من غير الجائز أن لا يكونوا في صلب هذا الربيع العربي الطابع لنيل الحرية والحقوق والكرامة، كما من غير الجائز أن يصبح القلق من المستقبل والوهم مما يمكن أن يحمله، غطاء لأنظمة القمع والاستبداد وسبباً لبقائها. وخلصت الخلوة إلى تأكيد دور المسيحيين في الربيع العربي كمكون أساسي، ورفض وضعهم في مواجهة خيارات الشعوب ومساندة أنظمة القمع والطغيان والاستبداد.
يكاد يكون موقف سمير جعجع والقوات اللبنانية هو الأكثر وضوحاً في مواجهة الموقف الكنسي، ولا يختلف موقف حزب الكتائب عنه كثيراً وكذلك باقي أطياف قوى 14 آذار المسيحية إلا من حيث أسلوب التعبير وطريقة تظهير الموقف والتصريح به، فالجميع يرفض منطق الأقليات من خلال السكوت أو التحالف مع الدكتاتورية والتخويف من الأصوليات، مؤكدين على حق الشعوب بالحرية والعدالة، وهم في حركتهم تجاوزوا القول إلى الحركة بهدف البحث عن الآليات المناسبة لمواكبة هذا الربيع العربي بما يؤكد دور المسيحيين الرائد في العالم العربي، وفي هذا السياق كانت زيارة الرئيس أمين الجميل إلى مصر ولقائه مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فضلاً عن لقاءات عديدة أجريت مع فعاليات وقيادات الثورة المصرية.
جاء هذا التحرك المسيحي اللبناني في سياق جهد لبناني مسيحي وإسلامي مشترك بدأه الرئيس فؤاد السنيورة حين التقى شيخ الأزهر بعد إصداره لوثائق الحريات والديموقراطية والتي كان لها صدى إيجابي كبير في الأوساط المسيحية كما في الأوساط الليبرالية كافة، حينها اقترح الرئيس السنيورة أن يتم إصدار وثيقة عن الأزهر وبكركي خلال زيارة البطريرك بشارة الراعي إلى العاصمة المصرية.
وحينها تم تكليف المفكر الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد، وفيما كانت الاستعدادات جارية لإعلان هذا الحدث التاريخي الفريد من نوعه والذي حرص الرئيس الجميل على متابعته، فاجأ البطريرك الراعي خلال زيارته للأردن الجميع بمواقف ملتبسة ومشككة بموقف القيادات الإسلامية الجديدة في بلدان الربيع العربي من الوجود المسيحي فضلاً عن انتقاده للثورة السورية، ورغم محاولات تطويق هذه التصريحات وقبول التبرير بأن الكلام المنسوب له كان مجتزءاً، وبعضه كان محرفاً، لكن البطريرك، سرعان ما ردد مثل هذه المواقف في تصريحات له مع الجالية اللبنانية خلال زيارته للدوحة. أثارت هذه المواقف من ثورات الربيع العربي وخيارات الشعوب موجة استياء في أوساط الأزهر الشريف الذي اعتبر أن الوثيقة ستفقد مصداقيتها قبل ولادتها لأنها لا تعبر عن انسجام في المواقف بين الطرفين، عندها طلب الأزهر تأجيل اللقاء الذي كان منتظراً .
في مناخ هذه التناقضات يتحرك الآداء الحكومي الذي يقوده رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي متبعاً سياسة "الحياد" والابتعاد عن المحاور وتجنب لبنان الانعكاسات السلبية وخاصةً تجاه الموقف من الوضع في سوريا، إلا أن هذه السياسة لا تحظى برضى جميع الأطراف، بل إنها تتعرض للانتهاك من داخل الحكومة ذاتها نظراً لطبيعة تشكيل الحكومة التي يغلب عليها فريق 8 آذار المؤيد لسوريا.
تجنبت الحكومة محطات رئيسية تطلبت موقفاً رسمياً واضحاً في مجلس الأمن وفي الجامعة العربية، فكان "النأي بالنفس" مخرجاً مناسباً، إلا أن هذا الموقف بدا ملتبساً تجاه مسألة العقوبات على سوريا، لكنه حازماً تجاه منع تسريب أو تهريب السلاح إلى الداخل السوري من الأراضي اللبنانية . مع ذلك تؤكد الحكومة على لسان رئيسها استعدادها القيام بكامل واجباتها تجاه النازحين السوريين الذين فاق عددهم العشرين ألف في الوقت الذي لا يتردد وزراء من التيار العوني بالقول إن الشعب اللبناني أولى بأي قرش يصرف على هؤلاء باعتبار أغلبهم إرهابيين، الأمر الذي أثار سجالاً ساخناً داخل مجلس الوزراء.
أيضاً يثير الموقف الحكومي من الاعتداءات والانتهاكات السورية للحدود اللبنانية المزيد من التوتر والتي أدت إلى سقوط ضحايا لبنانيين كان آخرهم الصحافي علي شعبان ، سجالاً آخر تسبب به وزير الدفاع اللبناني حين أعلن عن وجود لعناصر القاعدة في بلدة عرسال البقاعية في اليوم الذي سبق انفجارات دمشق، الأمر الذي فسرّ في أوساط 14 آذار بأنه إعلان سياسي مقصود لتشويه حقيقة ما يعاني منه النازحين السوريين ولتوفير الغطاء الأمني والسياسي للادعاءات السورية.
طرابلس الاكثر تفاعلاً .. على خط النار
في خضم هذه الانقسامات التي تعيشها الساحة اللبنانية ثمة بؤر ومربعات قابلة للانفجار أكثر من غيرها، ولعل منطقة بعل محسن الملاصقة لباب التبانة في مدينة طرابلس من المناطق الأكثر شهرة في هذا المجال، إذ إن غالبية سكان بعل محسن هم من الطائفة العلوية (لا يوجد احصاء دقيق لعددهم لكنهم شكلوا نسبة 8,4 بالمئة من نسبة الناخبين في المدينة حسب اللوائح الرسمية ) وبسبب روابط الدين والقرابة والسياسة بقيت علاقتهم بسوريا وبالنظام قوية، وهم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجدوا انفسهم في محيط سني و سياسي مؤيد لما عرف بثورة الأرز و14 آذار، وهو ما زاد من حدّة التباعد مع هذا المحيط الذي يحمل ارث صدامات دموية جرت مع الجيش السوري اثناء وجوده فيها اعوام 1985 و1986.
بقيت الأمور محتقنة طيلة تلك السنوات التي كان فيها النظام السوري وقواته موجوداً في لبنان، لكن التجاذبات بعد خروجه والانقسام الحاد بين قواه السياسية اعوام ( 2006 – 2007) وخاصة التفلت الذي حدث في الشارع والذي رافقه تسلّح تتوّج بما سمي "بغزوة بيروت" في 7 أيار 2008 والتي استخدم فيها حزب الله سلاحه في الداخل لأول مرة، أدت بالجملة الى اعادة تفجير خطوط التماس القديمة بين منطقة بعل محسن العلوية والتي قادها الحزب العربي الديمقراطي والمحيط السني الطرابلسي، والتي اشترك فيها العديد من التنظيمات الإسلامية السلفية وغير السلفية. وتحولت المنطقة إلى خطوط تماس ملتهبة، شهدت خمس جولات من المعارك سقط فيها أكثر من مئة قتيل وضعف هذا العدد من الجرحى، وحرقت العشرات من المنازل والمتاجر وتم تهجير أكثر من 700 عائلة حينها.
وبغض النظر عن كل الخلفيات المذهبية التي ربما تقتضيها آليات الحشد الطائفي في مثل هذه الحالات، إلا أن الاشتباكات لم تندلع مرة لسبب مذهبي او ديني بل لأسباب وخلفيات سياسية في كل الأحوال، والسلاح الذي أغدق على الأطراف كان بهذا الهدف. وهذا ما يجعل هذه المنطقة وكأنها صندوق بريد لتوجيه الرسائل الأمنية والسياسية وجرح نازف ومفتوح في أفقر ضواحي المدن تهميشاً.
حينها تمت المصالحة بحضور الشيخ سعد الحريري وكامل فعاليات المجتمع الطرابلسي السني وممثلي الطائفة العلوية ، حيث دخلت بعدها المنطقة في حالة من الهدوء، دون أن يعني ذلك أن فتيل الأزمة قد سحب نهائياً، فهذه المنطقة يعود إليها التأزيم والتوتر الأمني، كلما حدث إنسداد على المستوى السياسي، حتى يكاد البعض يعتبرها ساحة لتبادل الرسائل والضغوط وجرحاً نازفاً لا يراد له الشفاء.
ومنذ انطلاق الثورة السورية عاد التوتر يسود نفس خطوط التماس بين حي بعل محسن ومحيطه بين الحين والاخر على خلفية المواقف المتعارضة مع مزاج غالبية اهل مدينة طرايلس المتعاطفين بطبيعة الحال مع الثورة السورية والحاضنين للنازحين السوريين والناشطين لتأمين ما يلزم لهم. كان يكفي اي حادث عرضي ليفجر الاوضاع الامنية وخاصة في ظل مواقف رسمية لحكومة اتهمت بعض اطرافها بتغطية مواقف النظام السوري رغم سياسة "النأي" بالنفس التي اعلنها رئيسها الطرابلسي نجيب ميقاتي.
وفعلاً هذا ما حدث صبيحة 13 ايار/مايو الحالي اثر اعتقال احد الناشطين الاسلاميين والعاملين في خدمة النازحين السوريين بتهمة الارهاب، ليختلط ملف اعتقاله بملف الموقوفين الاسلاميين بدون محاكمة منذ 2006 اثر احداث فتح الاسلام ومخيم نهر البارد حيث كانت تجري اعتصامات ومطالبات متسلسلة لتسوية ملفهم اثر المحاكمة المريبة والعاجلة التي حكم فيها العميد فايز كرم احد قياديي التيار العوني بتهمة العمالة لاسرائيل ومن ثم اطلق سراحه بسنتين مما اثار غضب الاسلاميين واشعرهم بالاستهداف والمظلومية في ملف معتقليهم.
ما يجري اليوم في طرابلس يأتي في هذا السياق، ليختلط مع ملفات عديدة اهمها ماجرى في عكار اثر مقتل الشيخين احمد عبد الواحد ومحمد حسين مرعب على احد حواجز الجيش اللبناني اثر توجههما الى احد الاحتفالات وهما من العلماء المعروفين بنصرتهم للثورة السورية، الامر الذي وضع الجيش والحكومة في مواجهة الاهالي الغاضبين، زاد منه انكفاء الحكومة والقوى الامنية في الدفاع عن المواطنين العكاريين في وادي خالد والحدود الشمالية تجاه الخروقات السورية النظامية المتكررة، تلاها مؤخراً إطلاق سراح من كان متهما بقتل الشيخين من العسكريين.
كلها ملفات امنية متشابكة ومزمنة على وقع انقسامات سياسية ومذهبية وطائفية حادة تنفجر بشكل غير بريء دفعة واحدة في وجه حكومة لم تستطع الحفاظ على وحدتها على الرغم من تشكلها من فريق سياسي واحد حليف للنظام السوري يريد رئيسها ان ينأى بحكومته عن تداعيات الحدث السوري الذي قرع ابواب مدينته بقوة هذه المرة .
كذلك أبرز هذه الظواهر اليوم ما يعرف بحالة الشيخ أحمد الأسير إمام جامع بلال بن رباح في صيدا والذي بدأ بتشكيل خطاب أخذ يستقطب بعض المؤيدين تدريجياً، يركز فيه على الدفاع عن أهل السنة في لبنان في مواجهة ما يعتبره غلبة حزب السلاح الممثل بحزب الله وهيمنته، وقد اعتبر تاريخ 7 أيار 2008 يوماً أسوداً في تاريخ لبنان لإذلال الطائفة السنية.
يشكل خطاب الأسير محاولة استنهاضية في إطار البيئة الإسلامية السنية التي يعتبر شرائح عديدة من الفصائل السلفية الناشطة في اوساطها إن تيار المستقبل- بصفته ممثلاً رسمياً للطائفة- مقصرٌ في الدفاع عن مصالحها. إلا أن عدم أصالة الانتماء السلفي للشيخ الأسير وحداثة حركته لم تجعله يحصل على ما يشبه التزكية من كل التيارات السلفية، ولم تسعفه بعد في التحول إلى مرجعية أساسية لهم، وإن كان بدأ يحصل بشكل تدريجي على شيء من التعاطف والتأييد.
تعود الأصول الفكرية والفقهية للشيخ الأسير إلى حركة التبليغ والدعوة أكثر مما تعود إلى التيارات السلفية، ومن المعلوم إن هناك خلاف في النظرة السلفية إلى جماعة التبليغ، فالعديد من مراجعهم الكبار ينتقدون منهجهم بشدة، على الرغم من عدم تبديعهم والسماح لهم بالدعوة في السعودية. اللافت إن جماعة التبليغ تتشدد في منع أعضائها من التحدث بالسياسة في لبنان، بل ان خطباء المساجد المحسوبين عليها لا يقتربون من المواضيع السياسية على الاطلاق، وهو ما يعترف به الشيخ الأسير معتبراً نفسه "حالة خاصة" ومستقلة .
في الواقع أثارت خطب وتصريحات الشيخ الأسير في لبنان الكثير من ردود الأفعال، فهو لم يوفر في انتقاداته القيادات السنية أيضاً والتي وصف بعضها بـ "الانبطاحية" لأنها لم تدافع عن أهلها كما يجب، في المقابل مثلت فعل الصدمة بالنسبة للكثيرين لأنها قامت بتعرية المشهد السياسي وإعادته إلى مكوناته الطائفية والمذهبية، وهو على الرغم من القوة الاستنهاضية التي يتطلع إلى أن يمثلها خطابه في ظل الإنقسام السياسي الذي يشطر لبنان، فإنه لم يفعل ما يخالف القوانين ويحافظ على سلمية تحركاته والتي تركز على مسألة السلاح وهيمنة حزب الله على الدولة بحجة المقاومة والتداعيات الناتجة عنه.
في الواقع يستمر السجال اللبناني على وقع الربيع العربي، وتستمر المعلومات بالتدفق حول مطالب من النظام السوري للحكومة اللبنانية بالمزيد من التشدد على الحدود بل حتى وفي الداخل تجاه الناشطين والمؤيدين للثورة السورية وهو ما يصر رئيس الحكومة على نفيه. ويدخل على خطه السفراء المعنيون من كل الدول، وليس ما جرى من سجال بين السفير السوري في لبنان والسفير السعودي حول الاتهامات بتمويل باخرة السلاح إلى سوريا والتي نفاها الرئيس اللبناني إلا نموذج من هذه السجالات، يبقى ألأهم أن يبقى هذا السجال إعلامياً وسياسياً، وما جرى في طرابلس لا يؤشر الى اية ضمانات في هذا الامر، فما يتخوّف منه الجميع أن ينزلق هذا السجال وتتحول التناقضات السياسية الحادة على أبواب الانتخابات النيابية إلى صراعات أمنية تتفات امكانيات السيطرة عليها وتهدد بالتالي الاستقرار القائم والذي جاءت محاولة اغتيال الدكتور سمير جعجع في سياقه وكأنها رسالة تحذير استباقية ومؤشر يتوقف عنده الجميع بعناية.
التجاذب والصراع بين الأفرقاء اللبنانيين في تموضعه على الطوائف والمذاهب وفي امتداداته على تحالفات محورية في الخارج يجعل الساحة اللبنانية موضوعاً قابلاً للاشتعال من جهة وهو ما يفسر حذر الجميع في التمادي بالمواقف السياسية إلى حد القطيعة، وهو من جهة ثانية يجعل من لبنان ميداناً لاختبار موازين القوى بقدر ما هي تركيبة السلطة فيه انعكاساً لهذه الموازين. لذلك فرياح الربيع العربي الأكثر تأثيراً في لبنان هي التي تأتي بعد حسم ما يجري على أبواب دمشق وريفها.
تسعى هذه الدراسة التي كتبها الأكاديمي اللبناني الدكتور عبدالغني عماد لقراءة واستكشاف تأثيرات الربيع العربي على لبنان بأطيافها المختلفة سواء قواها السياسية المستقطبة قبل وبعد هذا الربيع، أو الطوائف التي لم يخف بعضها تخوفاته من نتائج هذا الربيع الذي ينحو إسلاميا في بعض هذه الدول، ويركز بشكل خاص على الموقف من الثورة السورية المحاذية والمتماسة مع كل جوانب الاستقطاب في الفضاء اللبناني..
مع دخول الشعوب العربية عصراً جديداً، لم يعد فيه التأريخ يجري على وقع حركة الرؤساء بقدر ما أصبح فيه الشعب فاعلاً والميادين والساحات والفضاءات العامة مجالاً لصناعة شرعياتٍ جديدة، وعلى وقع هذه الثورات وتردداتها، انتصاراتها وخيباتها، استقبل ويستقبل لبنان هذا الحراك العربي الثوري ويتفاعل معه على الطريقة المعتادة به، حيث لا يخلو الخطاب السياسي اللبناني من قراءات وتحليلات "مطيّفة" و"متمذهبة" و"مقنّعة" بمختلف أنواع الشعارات الوطنية والقومية التي توظف لصالح الاصطفاف الذي لا يزال فاعلاً (بين 14 و8 آذار) ودافعاً باتجاه انقسام يتخطى البعد السياسي والصراع على السلطة ليطال جوانب أعمق وأبعد من ذلك تتعلق بإعادة إنتاج وتوزيع السلطة وتوازناتها.
كيف تفاعلت القوى السياسية الفاعلة في لبنان مع الربيع العربي؟ وكيف يمكن أن تنعكس هذه المواقف في ظل هذا الانقسام العمودي والاصطفاف السياسي الحاد على استقرار لبنان وخاصةً في ظل حكومة بقيت مواقفها ملتبسة على الرغم من شعار النأي بالنفس الذي رفعته عندما وصلت رياح الثورات العربية إلى أبواب دمشق؟ كيف ينظر المسيحيون اللبنانيون إلى هذه الثورات؟ الإسلاميون في لبنان أين هم من هذه الثورات وخاصةً مما يجري في سوريا؟! كثير من الأسئلة سوف تحاول هذه الدراسة الإجابة عليها.
الربيع العربي والإسلاميون في لبنان
في الواقع بقيت تداعيات الثورات العربية خاصةً ثورتي تونس ومصر ضمن إمكانيات الاستيعاب المحلي للتوازن السياسي اللبناني، فقد احتفل بها الجميع وإن كان حزب الله من أكثر القوى التي جاهرت في إقامة مظاهر إحتفالية دشنتها في مهرجان انتصار الثورات العربية، حيث أعلن فيه السيد حسن نصر الله دعمه لما يعتبره "إرادة حقيقة من الشعوب العربية المسلمة التي تكافح من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في وجه أنظمة استبدادية فاسدة وغير شرعية تلقى الدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل" ، كان لسقوط مبارك ونجاح الحزب في تهريب عناصره من السجون المصرية الذين حضروا هذا الاحتفال وقعٌ خاص إلا أن ثورة مصر وتونس لم تكن وحدها في نطاق اهتمام الحزب فامتداد الثورات العربية التي بدأت تزهر في أكثر من عاصمة وخاصةً في البحرين وسوريا على أبواب لبنان تحديداً وضع الحزب أمام مواقف صعبة.
شكل الموقف من الحراك الثوري العربي في البحرين وسوريا منذ انطلاقته عاملاً إضافياً في إظهار المزيد من التمايز بين الجماعة الإسلامية وحزب الله وبين باقي الإسلاميين من جهة أخرى.
ترى الجماعة الإسلامية ان ما جرى في البحرين تحوّل إلى فتنة يجب تلافي شرها في العالم الإسلامي، ولا يجوز تشبيهها بثورة 25 يناير المصرية لا من حيث الأعلام المرفوعة ولا من حيث الأطراف، ولا من حيث تعبيرها عن موقف وطني موّحد، فضلاً عن اصطدام القائمين عليها مع شريحة أساسية هي سنّة البحرين. وعليه كان موقف الجماعة مخالفاً لتوصيف حزب الله لما يجري في البحرين، فهي لم تعتبر قوات درع الجزيرة قوات احتلال كما ذهب السيد نصر الله في مهرجان دعم الثورات العربية متسائلاً عن سبب صمت العالم العربي والمسلم "عن الظلم الذي يحيق بإخوانهم الشيعة في البحرين، مستغرباً عدم إثارة المسألة المذهبية عند الحديث عن الشعب الفلسطيني أو المصري أو التونسي أو الليبي".
من هذا المنطلق كانت خطبة الجمعة للعلامة يوسف القرضاوي إذ قال بوضوح إن الحركة في البحرين تحولت طائفية و"أن أهل السنة لما رأوا هذا قالوا نحن لنا مطالب أيضاً.. ولم يكن المحتجون سلميين، بل اعتدوا على كثير من أهل السنة واستولوا على مساجد ليست لهم، واستعملوا الأسلحة كما يفعل البلطجيون في اليمن ومصر وغيرها، ضد كثير من المستضعفين من أهل السنة.. ان الخطر هو أن ينسب الشيعة أنفسهم إلى بلاد أخرى ويحملوا صورة خامنئي وصورة نصر الله وصورة كذا وكأنهم ينتسبون إلى إيران لا إلى البحرين..".
هذا الموقف والردود التي جاءت عليه من الإعلام المؤيد لحزب الله، بل وحتى الرد المباشر الذي جاء من السيد حسن نصر الله دون أن يسميه، خلف توتراً، بين الإسلاميين السنة عموماً ومن ضمنهم جمهور الجماعة وبين حزب الله، ذلك لأن مهاجمة القرضاوي يعادل لدى الإسلاميين مهاجمة السيد نصر الله أو الخميني لدى حزب الله أو مؤيديه في العالم.
لا تتردد الجماعة من تحذير "الأقلام والأفواه المأجورة التي لم تعتد سوى العيش في كنف الظالمين وأن تكون أدوات تستخدم من قبلهم ويخشون على أرزاقهم فيهاجمون العلامة القرضاوي لقوله كلمة الحق. فنقول لهم كفى تمادياً على هذا العلامة المجاهد.. فنحن نقف مع الشرفاء في مسيرة الحرية والكرامة ونرفض منطق الاستكبار والاستعباد للشعوب".
جاءت أحداث انتفاضة الشارع السوري لتشكل بدورها عامل تباين إضافي بين الفريقين، خاصةً وأن الملف الإسلامي في سوريا حساس وضخم، لم يتردد القرضاوي في إدانة ما حصل في درعا وما سبقه من قمع بحق المتظاهرين المسالمين المطالبين بالاصلاح .
في حين أن الجماعة أعلنت بوضوح أن "الصراع اليوم بين فئتين: فئة تطالب بالعزة والكرامة ومستعدة لبذل الأنفس في سبيل رفع الذل والاستعباد. وفئة لا تزال ملتبسة تتلمس رضى السلاطين وتبطش بأيديهم وتسمح لنفسها أن تكون أبواقاً مدافعة عنهم وعوناً للظلمة" ، كان حزب الله يتخذ المزيد من المواقف التي تنسجم مع تحالفه الاستراتيجي مع النظام السوري.
ويبدو أنه راهن كثيراً في البداية على قدرة النظام على استيعاب الاحتجاجات إلا أن استمرارها وتوسعها وارتفاع الأصوات المنتقدة لموقفه والتي تتهمه بازدواجية المعايير، خاصةً بعد تأييده للثورة الليبية والتي تدخل فيها "الناتو" لأسباب تتعلق بخصوصية الطائفة الشيعية وإخفاء الإمام السيد موسى الصدر والمتهم به نظام القذافي، دفعه في احتفال "انتصار الثورات العربية" إلى الإعلان بوضوح إن حزبه وقف إلى جانب ثورات مصر وليبيا واليمن والبحرين وتونس، محدداً معيارين ينطلق منهما في تأييده لأي ثورة: الأول يتمثل بموقف هذا النظام من الصراع العربي الإسرائيلي، والثاني غياب أي أفق أو أمل في الإصلاح على المستوى الداخلي ، معتبراً وفق هذا التحليل إن هذين المعيارين لا ينطبقان على النظام السوري لذلك هو يحظى ببركة وتأييد المقاومة، ولم يتزحزح هذا الموقف منذ ذلك الحين متبنياً رواية النظام الرسمية في إعلانه.
القمع المتمادي الذي تتعرض له المعارضة السورية وإتهامها بالسلفية، وتسليط الأضواء على دور الأخوان المسلمين السوريين فيها من قبل الإعلام السوري، والدور التركي وتصريحات أردوغان والحملة المعادية ضده من قبل إعلام حزب الله والإعلام القريب منه وتشبيهه بالسلطان العثماني الجديد، لا يمكن أن تمر مرور الكرام في الأوساط الإسلامية السنية، بل إن الانتقادت العنيفة التي وجهت للقرضاوي، والتي تعود خلفيتها إلى احتقان بدأ قبل أربعة أعوام تقريباً عندما فتح القرضاوي ملف التشييع المدعوم من إيران في المنطقة محذراً من مخاطره وتداعياته، كلها شكلت عناصر خلافية مضافة على ملف العلاقة بين الإسلاميين السنة وحزب الله في لبنان.
الجماعة الإسلامية والإسلاميون السنة اليوم في عصر الثورات العربية ليسوا كما في الأمس. فهم يقرأون في كتاب الثورة والتغيير الآتي من قلب الشارع العربي ، ويشعرون إن الحياة عادت إلى منظومة التغيير العابر للحدود وأنهم عصب التحركات الشعبية وشريك أساسي فيه، لذلك لم يعد مقبولاً أن يتم التعامل معهم بفوقية ولا مع رموزهم بمنطق التخوين والاتهام. مع ذلك تتفهم الجماعة الواقع اللبناني وخصوصياته وحساسياته، لذلك تتحرك بحذر بالغ في الشارع وتتجنب القيام بحملات تعبئة سياسية أو تظاهرات تأييد ونصرة للشعب السوري كما ذهب حزب الله في تأييده لثورة البحرين متسبباً بأزمة دبلوماسية أضرت بمصالح الكثير من اللبنانيين في الخليج.
فالجماعة رغم تعاطفها الكامل مع ثورة الشعب السوري حريصة على أفضل العلاقات مع المقاومة وهي تتجنب كل ما يسيء إلى هذه العلاقات، لذلك تعرضت إلى الكثير من الانتقاد من بعض الإسلاميين المتشددين الذين اعتبروا موقفها ومواكبتها للحدث السوري مائعاً وخجولاً، ويراعي الظروف والوقائع أكثر مما يراعي الحق والمبادئ. ويتجاذبها تباينات في كيفية التعاطي مع الثورة السورية، حيث البعض متحمس للتصعيد السياسي والشعبي، مقابل البعض الآخر الذي يدعو إلى عقلنة التحرك والاكتفاء بالنشاط الإغاثي للنازحين السوريين، الأمر الذي جعل التحركات الشعبية للجماعة متقطعة وغير منتظمة، وتخضع للكثير من النقاش كما حدث في مهرجان ل"عيونك يا شام" الذي اقتصر على تنظيم فرع طرابلس نهاية العام الماضي.
دفع هذا الأمر بالسلفيين اللبنانيين إلى تصعيد تحركاتهم والانفراد ببعض الأنشطة والتحركات الشعبية لدعم الثورة السورية، وكان أهمها "الظاهرة الجديدة" التي مثلها الشيخ أحمد الأسير، والذي بدأ بسلسلة تحركات تحت عنوان نصرة المظلوم، كان أبرزها في ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية، حيث اعتاد فريق 14 آذار أن يقيم احتفالاته الضخمة والتي ووجهت بتظاهرة مضادة مؤيدة للنظام السوري في ساحة رياض الصلح المحاذية لها ، ثم تلاها تظاهرة في منطقة وادي خالد شمال لبنان فضلاً عن سلسلة من النشاطات والتظاهرات المتتالية.
تيار المستقبل وقوى 14 آذار
لم يتردد تيار المستقبل في الإعلان عن تأييده للحراك الثوري في سوريا والذي كان في البداية خجولاً، ومع ذلك ووجه بحملة إعلامية سورية منظمة، حيث وجهت أجهزة إعلام النظام منذ الأيام الأولى للانتفاضة في درعا أصابع الاتهام إلى قيادات ونواب في تيار المستقبل بأنهم يحوّلون ويحرضون ويقودون "غرفاً سوداء" لتنظيم هذه الاحتجاجات. اكتفى التيار في الشهور الستة الأولى بنفي تهمة التدخل في الشأن السوري، والإعلان عن التعاطف عبر وسائل الإعلامية مع الشعب السوري. إلا أن التطورات دفعته إلى تطوير هذا الموقف باعتبار "أن الربيع العربي يتيح أمام اللبنانيين فرصة ذهبية لتحديث تجربتهم الديموقراطية، وتصفيتها من مخلفات الحروب الطائفية وسياسات الاستقواء والرهانات على الخارج" كما جاء على لسان الرئيس سعد الحريري" .
كان لا بد في سياق تطور أحداث الثورة السورية وتفجر العنف وتدفق النازحين والموقف اللبناني الرسمي الملتبس والذي لم ينسجم مع مقررات جامعة الدول العربية أن يتخذ تيار المستقبل مواقف أكثر حدّة من النظام السوري، فأعلن على لسان سعد الحريري: "أن هناك أنظمة سياسية عمياء، رهينة حب الاستئثار الأبدي بالسلطة، اختارت أن تقود بلدانها بشعارات المزايدة والممانعة المزيفة في خدمة الحزب الواحد والرئيس القائد. وهناك شعوب قررت أن تكسر أبواب السجن الكبير وأن تصعد ببلدانها نحو المسار الديموقراطي، لترفع عن عيونها غمامة عشرات السنين من القهر والظلم والاستبداد لتنهي إلى غير رجعة، زمن الخوف الأبدي، والطاعة المطلقة للحكام وأحزابهم المحنطة. واللبنانيون أمام هذا المشهد، إما أن يختاروا طريق الالتحاق بالأنظمة العمياء.. وإما أن يأخذوا بيد الشعوب الحرة.. وفي يقيني أن شعب لبنان بأصالته الديموقراطية لن يختار سوى طريق الشعوب...".
يقطع تيار المستقبل المساحة الرمادية في المواقف السياسية بصفته معبراً عن أكبر كتلة نيابية برلمانية من جهة وتمثيله السني الكبير من جهة أخرى فيعلن أن أي قراءة غير خلاف ذلك هي غير أخلاقية: "هناك قاتل اسمه نظام بشار الأسد يرتكب يومياً وبالجرم المشهود، عشرات عمليات القتل الموثقة...، وهناك مدينة اسمها حمص شنّ عليها حرباً لا تقل ضراوة وشراسة وحقداً عن حروب اسرائيل ضد لبنان وغزة...".
انعكست مواقف الحريري في وثيقة التيار والتي تمت صياغتها بعد حوارات واسعة مع حلفائه في 14 آذار، وقد كتبت لتشكل مرجعية فكرية واستراتيجية مستندة إلى خبرة لبنانية ديموقراطية عريقة أظهرت إن معاني وقيم الربيع العربي في الحرية هي معاني وقيم لبنانية متأصلة، معتبرة أن التغيير العربي يمثل مرحلة نضوج وتحدياً كبيراً في الوقت نفسه من حيث إنه يضع الوطن العربي على مشارف مستقبل جديد مفعم بطموحات شباب أمتنا لإقامة الأنظمة السياسية على قواعد احترام الحقوق والحريات العامة وخصوصاً الحريات الدينية، وكذلك حقوق الكرامة الإنسانية والعدالة والصلاح في إدارة الشأن العام، وهو "تحدٍ من حيث قدرتنا نحن اللبنانيين على المراجعة والنقد وعلى التأصل القيمي والثقافي والسياسي للخروج من المرحلة السابقة التي سيطر فيها الاستبداد والتطرف وسياسة المحاور.. والهدف من المراجعة والنقد هو التمكن من صون وحدة مجتمعاتنا وتنوعها وكرامة إنساننا في زمن التحولات..".
تؤسس الوثيقة لقراءة معمقة لتيار المستقبل لقضايا تتعلق بالمسألة الوطنية مع دعوة مفتوحة للمصالحة بعيداً عن الاستقواء بالسلاح، وتطلق نداءً تحذيرياً من خطورة الفتنة السنية – الشيعية منادية بالحوار، وتتوقف ملياً عند العلاقات بين المسلمين والمسيحيين والعيش المشترك ومفاهيم المواطنة والفكر الديني المستنير وتتلقف وثائق الأزهر، وتقدم قراءتها المتميزة للعروبة الحضارية في زمن الربيع العربي وتتوقف عن القضية الفلسطينية، ثم تفرد حيزاً مهماً للموقف من الثورة السورية.
المسيحيون والربيع العربي
لم تستطع هذه المواقف التي تضمنتها الوثيقة اختراق حالة الاصطفاف التي يشهدها لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكنها دفعت بالمشهد السياسي اللبناني نحو المزيد من الجدل والحوار، خاصةً بعد ان خرجت العديد من الوثائق والمواقف المسيحية التي تحاكي الربيع العربي وفي مقدمتها الوثيقة التي قدمها الرئيس أمين الجميل وحزب الكتائب ومواقف الدكتور سمير جعجع، والوثيقة المسيحية للقاء سيدة الجبل، خاصةً أن هذه المواقف أطلقت بعد المواقف المثيرة للجدل التي أطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي إثر زيارته إلى فرنسا ولقائه الرئيس ساركوزي والتي اتبعها بسلسلة من التصريحات الملتبسة التي تطرح إشكالية الأقليات في الشرق ومخاوف المسيحيين من تنامي الأصولية الإسلامية ووصولها إلى السلطة مع الربيع العربي وأثر ذلك على مستقبل الوجود المسيحي.
بدا الانقسام المسيحي واضحاً حول الموقف من الربيع العربي وتداعياته، فالكنيسة المارونية ممثلة بالبطريرك الراعي أعادت للنقاش مسألة الأقليات بل ذهبت إلى الحديث عن شتاء العالم العربي لا ربيعه، منتقدةً ربيع العنف والدماء والقتل تعليقاً على ما يحصل في سوريا متسائلة عن مصير المسيحيين في حال سقوط هذا النظام؟؟ ومطالبة بالضمانات لهم؟! لقيت هذه المواقف ترحيباً شديداً من قبل التيار الوطني الحر ورئيسه الجنرال ميشال عون الحليف الأساسي لحزب الله وسورية في الساحة المسيحية، لكنها في المقابل أثارت سجالاً في الوسط المسيحي وتحديداً بين مسيحيي 14 آذار وخصومهم.
وعلى وقع هذه السجالات صدرت الوثيقة التي أعلنها الرئيس أمين الجميل، ثم وثيقة سيدة الجبل، إثر خلوة مسيحية عقدت في أدما جمعت أكثر من 600 شخصية، وقد استندت بحوث الخلوة ومناقشاتها إلى ماضي الكنيسة وتاريخها، وإلى المقررات التي صدرت تاريخياً عن المجمعات التي عقدت على هيئة ورشات عمل شارك فيها مطارنة وبطاركة وسياسيون، وأوصت نتائج تلك البحوث بالوقوف إلى جانب المنادين بالحريات وعدم مساندة أنظمة القمع والاستبداد، معتبرة إن المسيحيين هم أول من أطلق "الربيع العربي" من بيروت، وبالتالي من غير الجائز أن لا يكونوا في صلب هذا الربيع العربي الطابع لنيل الحرية والحقوق والكرامة، كما من غير الجائز أن يصبح القلق من المستقبل والوهم مما يمكن أن يحمله، غطاء لأنظمة القمع والاستبداد وسبباً لبقائها. وخلصت الخلوة إلى تأكيد دور المسيحيين في الربيع العربي كمكون أساسي، ورفض وضعهم في مواجهة خيارات الشعوب ومساندة أنظمة القمع والطغيان والاستبداد.
يكاد يكون موقف سمير جعجع والقوات اللبنانية هو الأكثر وضوحاً في مواجهة الموقف الكنسي، ولا يختلف موقف حزب الكتائب عنه كثيراً وكذلك باقي أطياف قوى 14 آذار المسيحية إلا من حيث أسلوب التعبير وطريقة تظهير الموقف والتصريح به، فالجميع يرفض منطق الأقليات من خلال السكوت أو التحالف مع الدكتاتورية والتخويف من الأصوليات، مؤكدين على حق الشعوب بالحرية والعدالة، وهم في حركتهم تجاوزوا القول إلى الحركة بهدف البحث عن الآليات المناسبة لمواكبة هذا الربيع العربي بما يؤكد دور المسيحيين الرائد في العالم العربي، وفي هذا السياق كانت زيارة الرئيس أمين الجميل إلى مصر ولقائه مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فضلاً عن لقاءات عديدة أجريت مع فعاليات وقيادات الثورة المصرية.
جاء هذا التحرك المسيحي اللبناني في سياق جهد لبناني مسيحي وإسلامي مشترك بدأه الرئيس فؤاد السنيورة حين التقى شيخ الأزهر بعد إصداره لوثائق الحريات والديموقراطية والتي كان لها صدى إيجابي كبير في الأوساط المسيحية كما في الأوساط الليبرالية كافة، حينها اقترح الرئيس السنيورة أن يتم إصدار وثيقة عن الأزهر وبكركي خلال زيارة البطريرك بشارة الراعي إلى العاصمة المصرية.
وحينها تم تكليف المفكر الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد، وفيما كانت الاستعدادات جارية لإعلان هذا الحدث التاريخي الفريد من نوعه والذي حرص الرئيس الجميل على متابعته، فاجأ البطريرك الراعي خلال زيارته للأردن الجميع بمواقف ملتبسة ومشككة بموقف القيادات الإسلامية الجديدة في بلدان الربيع العربي من الوجود المسيحي فضلاً عن انتقاده للثورة السورية، ورغم محاولات تطويق هذه التصريحات وقبول التبرير بأن الكلام المنسوب له كان مجتزءاً، وبعضه كان محرفاً، لكن البطريرك، سرعان ما ردد مثل هذه المواقف في تصريحات له مع الجالية اللبنانية خلال زيارته للدوحة. أثارت هذه المواقف من ثورات الربيع العربي وخيارات الشعوب موجة استياء في أوساط الأزهر الشريف الذي اعتبر أن الوثيقة ستفقد مصداقيتها قبل ولادتها لأنها لا تعبر عن انسجام في المواقف بين الطرفين، عندها طلب الأزهر تأجيل اللقاء الذي كان منتظراً .
في مناخ هذه التناقضات يتحرك الآداء الحكومي الذي يقوده رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي متبعاً سياسة "الحياد" والابتعاد عن المحاور وتجنب لبنان الانعكاسات السلبية وخاصةً تجاه الموقف من الوضع في سوريا، إلا أن هذه السياسة لا تحظى برضى جميع الأطراف، بل إنها تتعرض للانتهاك من داخل الحكومة ذاتها نظراً لطبيعة تشكيل الحكومة التي يغلب عليها فريق 8 آذار المؤيد لسوريا.
تجنبت الحكومة محطات رئيسية تطلبت موقفاً رسمياً واضحاً في مجلس الأمن وفي الجامعة العربية، فكان "النأي بالنفس" مخرجاً مناسباً، إلا أن هذا الموقف بدا ملتبساً تجاه مسألة العقوبات على سوريا، لكنه حازماً تجاه منع تسريب أو تهريب السلاح إلى الداخل السوري من الأراضي اللبنانية . مع ذلك تؤكد الحكومة على لسان رئيسها استعدادها القيام بكامل واجباتها تجاه النازحين السوريين الذين فاق عددهم العشرين ألف في الوقت الذي لا يتردد وزراء من التيار العوني بالقول إن الشعب اللبناني أولى بأي قرش يصرف على هؤلاء باعتبار أغلبهم إرهابيين، الأمر الذي أثار سجالاً ساخناً داخل مجلس الوزراء.
أيضاً يثير الموقف الحكومي من الاعتداءات والانتهاكات السورية للحدود اللبنانية المزيد من التوتر والتي أدت إلى سقوط ضحايا لبنانيين كان آخرهم الصحافي علي شعبان ، سجالاً آخر تسبب به وزير الدفاع اللبناني حين أعلن عن وجود لعناصر القاعدة في بلدة عرسال البقاعية في اليوم الذي سبق انفجارات دمشق، الأمر الذي فسرّ في أوساط 14 آذار بأنه إعلان سياسي مقصود لتشويه حقيقة ما يعاني منه النازحين السوريين ولتوفير الغطاء الأمني والسياسي للادعاءات السورية.
طرابلس الاكثر تفاعلاً .. على خط النار
في خضم هذه الانقسامات التي تعيشها الساحة اللبنانية ثمة بؤر ومربعات قابلة للانفجار أكثر من غيرها، ولعل منطقة بعل محسن الملاصقة لباب التبانة في مدينة طرابلس من المناطق الأكثر شهرة في هذا المجال، إذ إن غالبية سكان بعل محسن هم من الطائفة العلوية (لا يوجد احصاء دقيق لعددهم لكنهم شكلوا نسبة 8,4 بالمئة من نسبة الناخبين في المدينة حسب اللوائح الرسمية ) وبسبب روابط الدين والقرابة والسياسة بقيت علاقتهم بسوريا وبالنظام قوية، وهم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجدوا انفسهم في محيط سني و سياسي مؤيد لما عرف بثورة الأرز و14 آذار، وهو ما زاد من حدّة التباعد مع هذا المحيط الذي يحمل ارث صدامات دموية جرت مع الجيش السوري اثناء وجوده فيها اعوام 1985 و1986.
بقيت الأمور محتقنة طيلة تلك السنوات التي كان فيها النظام السوري وقواته موجوداً في لبنان، لكن التجاذبات بعد خروجه والانقسام الحاد بين قواه السياسية اعوام ( 2006 – 2007) وخاصة التفلت الذي حدث في الشارع والذي رافقه تسلّح تتوّج بما سمي "بغزوة بيروت" في 7 أيار 2008 والتي استخدم فيها حزب الله سلاحه في الداخل لأول مرة، أدت بالجملة الى اعادة تفجير خطوط التماس القديمة بين منطقة بعل محسن العلوية والتي قادها الحزب العربي الديمقراطي والمحيط السني الطرابلسي، والتي اشترك فيها العديد من التنظيمات الإسلامية السلفية وغير السلفية. وتحولت المنطقة إلى خطوط تماس ملتهبة، شهدت خمس جولات من المعارك سقط فيها أكثر من مئة قتيل وضعف هذا العدد من الجرحى، وحرقت العشرات من المنازل والمتاجر وتم تهجير أكثر من 700 عائلة حينها.
وبغض النظر عن كل الخلفيات المذهبية التي ربما تقتضيها آليات الحشد الطائفي في مثل هذه الحالات، إلا أن الاشتباكات لم تندلع مرة لسبب مذهبي او ديني بل لأسباب وخلفيات سياسية في كل الأحوال، والسلاح الذي أغدق على الأطراف كان بهذا الهدف. وهذا ما يجعل هذه المنطقة وكأنها صندوق بريد لتوجيه الرسائل الأمنية والسياسية وجرح نازف ومفتوح في أفقر ضواحي المدن تهميشاً.
حينها تمت المصالحة بحضور الشيخ سعد الحريري وكامل فعاليات المجتمع الطرابلسي السني وممثلي الطائفة العلوية ، حيث دخلت بعدها المنطقة في حالة من الهدوء، دون أن يعني ذلك أن فتيل الأزمة قد سحب نهائياً، فهذه المنطقة يعود إليها التأزيم والتوتر الأمني، كلما حدث إنسداد على المستوى السياسي، حتى يكاد البعض يعتبرها ساحة لتبادل الرسائل والضغوط وجرحاً نازفاً لا يراد له الشفاء.
ومنذ انطلاق الثورة السورية عاد التوتر يسود نفس خطوط التماس بين حي بعل محسن ومحيطه بين الحين والاخر على خلفية المواقف المتعارضة مع مزاج غالبية اهل مدينة طرايلس المتعاطفين بطبيعة الحال مع الثورة السورية والحاضنين للنازحين السوريين والناشطين لتأمين ما يلزم لهم. كان يكفي اي حادث عرضي ليفجر الاوضاع الامنية وخاصة في ظل مواقف رسمية لحكومة اتهمت بعض اطرافها بتغطية مواقف النظام السوري رغم سياسة "النأي" بالنفس التي اعلنها رئيسها الطرابلسي نجيب ميقاتي.
وفعلاً هذا ما حدث صبيحة 13 ايار/مايو الحالي اثر اعتقال احد الناشطين الاسلاميين والعاملين في خدمة النازحين السوريين بتهمة الارهاب، ليختلط ملف اعتقاله بملف الموقوفين الاسلاميين بدون محاكمة منذ 2006 اثر احداث فتح الاسلام ومخيم نهر البارد حيث كانت تجري اعتصامات ومطالبات متسلسلة لتسوية ملفهم اثر المحاكمة المريبة والعاجلة التي حكم فيها العميد فايز كرم احد قياديي التيار العوني بتهمة العمالة لاسرائيل ومن ثم اطلق سراحه بسنتين مما اثار غضب الاسلاميين واشعرهم بالاستهداف والمظلومية في ملف معتقليهم.
ما يجري اليوم في طرابلس يأتي في هذا السياق، ليختلط مع ملفات عديدة اهمها ماجرى في عكار اثر مقتل الشيخين احمد عبد الواحد ومحمد حسين مرعب على احد حواجز الجيش اللبناني اثر توجههما الى احد الاحتفالات وهما من العلماء المعروفين بنصرتهم للثورة السورية، الامر الذي وضع الجيش والحكومة في مواجهة الاهالي الغاضبين، زاد منه انكفاء الحكومة والقوى الامنية في الدفاع عن المواطنين العكاريين في وادي خالد والحدود الشمالية تجاه الخروقات السورية النظامية المتكررة، تلاها مؤخراً إطلاق سراح من كان متهما بقتل الشيخين من العسكريين.
كلها ملفات امنية متشابكة ومزمنة على وقع انقسامات سياسية ومذهبية وطائفية حادة تنفجر بشكل غير بريء دفعة واحدة في وجه حكومة لم تستطع الحفاظ على وحدتها على الرغم من تشكلها من فريق سياسي واحد حليف للنظام السوري يريد رئيسها ان ينأى بحكومته عن تداعيات الحدث السوري الذي قرع ابواب مدينته بقوة هذه المرة .
كذلك أبرز هذه الظواهر اليوم ما يعرف بحالة الشيخ أحمد الأسير إمام جامع بلال بن رباح في صيدا والذي بدأ بتشكيل خطاب أخذ يستقطب بعض المؤيدين تدريجياً، يركز فيه على الدفاع عن أهل السنة في لبنان في مواجهة ما يعتبره غلبة حزب السلاح الممثل بحزب الله وهيمنته، وقد اعتبر تاريخ 7 أيار 2008 يوماً أسوداً في تاريخ لبنان لإذلال الطائفة السنية.
يشكل خطاب الأسير محاولة استنهاضية في إطار البيئة الإسلامية السنية التي يعتبر شرائح عديدة من الفصائل السلفية الناشطة في اوساطها إن تيار المستقبل- بصفته ممثلاً رسمياً للطائفة- مقصرٌ في الدفاع عن مصالحها. إلا أن عدم أصالة الانتماء السلفي للشيخ الأسير وحداثة حركته لم تجعله يحصل على ما يشبه التزكية من كل التيارات السلفية، ولم تسعفه بعد في التحول إلى مرجعية أساسية لهم، وإن كان بدأ يحصل بشكل تدريجي على شيء من التعاطف والتأييد.
تعود الأصول الفكرية والفقهية للشيخ الأسير إلى حركة التبليغ والدعوة أكثر مما تعود إلى التيارات السلفية، ومن المعلوم إن هناك خلاف في النظرة السلفية إلى جماعة التبليغ، فالعديد من مراجعهم الكبار ينتقدون منهجهم بشدة، على الرغم من عدم تبديعهم والسماح لهم بالدعوة في السعودية. اللافت إن جماعة التبليغ تتشدد في منع أعضائها من التحدث بالسياسة في لبنان، بل ان خطباء المساجد المحسوبين عليها لا يقتربون من المواضيع السياسية على الاطلاق، وهو ما يعترف به الشيخ الأسير معتبراً نفسه "حالة خاصة" ومستقلة .
في الواقع أثارت خطب وتصريحات الشيخ الأسير في لبنان الكثير من ردود الأفعال، فهو لم يوفر في انتقاداته القيادات السنية أيضاً والتي وصف بعضها بـ "الانبطاحية" لأنها لم تدافع عن أهلها كما يجب، في المقابل مثلت فعل الصدمة بالنسبة للكثيرين لأنها قامت بتعرية المشهد السياسي وإعادته إلى مكوناته الطائفية والمذهبية، وهو على الرغم من القوة الاستنهاضية التي يتطلع إلى أن يمثلها خطابه في ظل الإنقسام السياسي الذي يشطر لبنان، فإنه لم يفعل ما يخالف القوانين ويحافظ على سلمية تحركاته والتي تركز على مسألة السلاح وهيمنة حزب الله على الدولة بحجة المقاومة والتداعيات الناتجة عنه.
في الواقع يستمر السجال اللبناني على وقع الربيع العربي، وتستمر المعلومات بالتدفق حول مطالب من النظام السوري للحكومة اللبنانية بالمزيد من التشدد على الحدود بل حتى وفي الداخل تجاه الناشطين والمؤيدين للثورة السورية وهو ما يصر رئيس الحكومة على نفيه. ويدخل على خطه السفراء المعنيون من كل الدول، وليس ما جرى من سجال بين السفير السوري في لبنان والسفير السعودي حول الاتهامات بتمويل باخرة السلاح إلى سوريا والتي نفاها الرئيس اللبناني إلا نموذج من هذه السجالات، يبقى ألأهم أن يبقى هذا السجال إعلامياً وسياسياً، وما جرى في طرابلس لا يؤشر الى اية ضمانات في هذا الامر، فما يتخوّف منه الجميع أن ينزلق هذا السجال وتتحول التناقضات السياسية الحادة على أبواب الانتخابات النيابية إلى صراعات أمنية تتفات امكانيات السيطرة عليها وتهدد بالتالي الاستقرار القائم والذي جاءت محاولة اغتيال الدكتور سمير جعجع في سياقه وكأنها رسالة تحذير استباقية ومؤشر يتوقف عنده الجميع بعناية.
التجاذب والصراع بين الأفرقاء اللبنانيين في تموضعه على الطوائف والمذاهب وفي امتداداته على تحالفات محورية في الخارج يجعل الساحة اللبنانية موضوعاً قابلاً للاشتعال من جهة وهو ما يفسر حذر الجميع في التمادي بالمواقف السياسية إلى حد القطيعة، وهو من جهة ثانية يجعل من لبنان ميداناً لاختبار موازين القوى بقدر ما هي تركيبة السلطة فيه انعكاساً لهذه الموازين. لذلك فرياح الربيع العربي الأكثر تأثيراً في لبنان هي التي تأتي بعد حسم ما يجري على أبواب دمشق وريفها.
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
مواضيع مماثلة
» أزمة المثقف العربي والثورة الليبية
» حرب أكتوبر في الربيع العربي
» الربيع العربي من الكاسب ..
» (سلطة الربيع العربي )
» الربيع العربي والنموذج السويسري
» حرب أكتوبر في الربيع العربي
» الربيع العربي من الكاسب ..
» (سلطة الربيع العربي )
» الربيع العربي والنموذج السويسري
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
اليوم في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
اليوم في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
اليوم في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
أمس في 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR