إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الأولى): عناصر الأمن أكثر من المسافرين على حدود ليبيا.. وتحذي
صفحة 1 من اصل 1
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الأولى): عناصر الأمن أكثر من المسافرين على حدود ليبيا.. وتحذي
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الأولى): عناصر الأمن أكثر من المسافرين على حدود ليبيا.. وتحذير من «بوابات» للمتطرفين
«لكي تعبر كل هذه النقاط الأمنية، لا بد أن تكون من مواليد محافظة مطروح، أو متزوجا ليبية، أو لديك ما يثبت أن لك أقارب في ليبيا». هكذا قال الضابط المصري على جانب الحدود، بينما كانت نحو 50 شاحنة، ونحو 70 مصريا وليبيا، ينتظرون إنهاء الإجراءات في منفذ السلوم البري لدخول ليبيا.
في السابق كانت كل هذه الساحات الخالية والممرات الشاغرة، تزدحم بألوف المغادرين والقادمين بين جانبي الحدود. كل هذا انتهى، وأصبح عدد عناصر قوات الأمن أكبر من عدد المسافرين، وأصبحت آليات حراسة الحدود أكثر من شاحنات نقل البضائع. أما بعد أن تعبر الحدود فلن تستمع في مسجل السيارة لأصوات الشعراء وهم يتغنون على وقع الموسيقى، كما كان الحال في الماضي، ولكن ستبحث عن أخبار القتلى والمهجرين وتطورات الحرب ضد المتطرفين في المدن التي تقصدها الآن.
حتى هنا في منفذ السلوم، حيث تنتظر مع 5 أو 6 من المصريين والليبيين الذين يعدون أنفسهم لاجتياز آخر حاجز أمني في اتجاه ليبيا، يمكن أن تستمع لأخبار من تعرضوا للذبح على أيدي مقاتلي داعش في مدينة درنة التي تبعد عن حدود مصر نحو 300 كيلومتر. وتتلفت حولك في المنفذ فترى نظرات الترقب في أعين الضباط والجنود والموظفين، وتكاد تشم رائحة الاقتتال والتربص على الجانب الآخر من الحدود، على مرمى البصر. ومن بين المنتظرين هنا، يقول رحومة سعيد، وهو تاجر مصري يستغل أوراق زواجه من امرأة ليبية في التنقل بين جانبي الحدود، إن مظاهر النشاط الدائب، في هذا المنفذ البري الرسمي الوحيد بين البلدين، كانت في الماضي «مظاهر تملأ العين من شدة الازدحام والرواج الاقتصادي»، أي قبل أن تندلع الاشتباكات في طول ليبيا وعرضها، وتغلق مصر حدودها مع هذا البلد النفطي شاسع المساحة.
ويتدخل أحد زملاء الطريق المتأهبين لدخول ليبيا، وهو طالب من مدينة بنغازي، وكان يدرس في جامعة الأزهر بالقاهرة، ويدعى احسونة، ويقول في أسى إن رفاق الأمس، في إشارة إلى من قاموا بالثورة ضد العقيد معمر القذافي، يبدو أنهم كانوا يحشدون إمكاناتهم في مواجهة كل منهم للآخر، منذ وقت طويل، من أجل خوض هذه الحرب المستعرة منذ أشهر.
يصمت احسونة وينظر إلى سيارات الإسعاف الجديدة المحملة بالجرحى والقادمة حالا من الجانب الليبي من الحدود، ثم يقول: «كل يوم يسقط ضحايا.. وكل يوم تهدم المباني»، لافتا إلى أن أخبار أسرته انقطعت عنه منذ بدأ الجيش الليبي في دخول بنغازي لتحريرها من جماعات المتطرفين أواخر الشهر الماضي، ويخشى أن تكون أسرته التي تتبع المنهج السلفي قد تعرضت للانتقام من جماعة «أنصار الشريعة» الدموية.
وبينما يتدخل أحد رفاق السفر لمواساته وتطمينه على أن أسرته «بالتأكيد بين يدي الله»، وأنه «ربما لم يصبها ضرر»، تأتي من الجانب الآخر، من فوق خط الحدود، حيث يمكن أن ترى ذلك بعينيك رغم بُعد المسافة، مجموعة من العجائز الليبيات وهن يجتزن معبر إمساعد الليبي، وقد وصلن توا، وبدأن في المشي على أقدامهن ناحية منفذ السلوم، وعلى ملابسهن آثار الغبار. وولجت إحداهن وهي تحمل أوراق صاحباتها، إلى صالة الوصول المصرية الخاوية، في انتظار الضابط المسؤول لكي تأخذ إذن الدخول.
أما باقي العجائز المتعبات فجلسن يترقبنها بجوار عدة سيارات إسعاف ليبية محملة بالجرحى والمرضى كانت هي الأخرى في انتظار إنهاء إجراءات الدخول للأراضي المصرية وهي إجراءات أصبحت شديدة التعقيد. وفي الخلفية من كل هذا، أي على طول السلك المصري الشائك الممتد على الجانبين، كانت هناك عدة آليات مصفحة وجنود يرتدون الخوذات ويقفون خلف مواسير المدافع الموجهة إلى الناحية الأخرى.
ويقول عبد الله، وهو سائق سيارة إسعاف ليبية تنتظر دورها لاجتياز معبر السلوم: «المصريون أغلقوا الحدود، ويؤخرون دخول الجرحى وكبار السن، لكن هذا حقهم، فهم يخشون تسلل عناصر من داعش أو من الإخوان لتنفيذ عمليات تخريبية في مصر.. على كل حال نقل الجرحى لمصر أفضل من نقلهم إلى تونس، فبالإضافة إلى بُعد المسافة من بنغازي لتونس، تتقاضى السلطات التونسية على الحدود مبالغ كبيرة تصل لنحو 50 دينارا (نحو 30 دولارا) عن كل فرد بينما المصريون لا يتقاضون أكثر من 10 جنيهات (أقل من دولار ونصف دولار».
وعلى نافذة الجوازات بدأت الحركة تدب.. فقد انتهى الضابط المصري من وقت استراحته، واستأنف عمله الذي لا يزيد عن فحص وختم بضع عشرات من جوازات السفر في اليوم. والآن أخذ يدقق في أوراق رجل ليبي وزوجته المصرية وأطفاله الـ3. ويسأل عن سبب قدومه، ويفحص على جهاز الكومبيوتر عما إذا كان اسمه من بين الأسماء المطلوبة أو الممنوعة من دخول البلاد. وأخيرا يختم جوازاتهم، ويقول وهو يتنفس الصعداء: «تفضلوا».
ويقول هذا الضابط، ويدعى أحمد، إن منفذ السلوم مغلق بشكل رسمي، وإن المنفذ يستقبل فقط المصريين العائدين من ليبيا، أما بالنسبة للأشخاص الليبيين الذين تستثنيهم السلطات المصرية ويحق لهم دخول البلاد، من المنفذ نفسه، فلا بد أن تتوافر فيهم شروط محددة وهي أن يكون من الجرحى أو المرضى الموصى بعلاجهم في مصر، لكن بعد أن تقوم السلطات الليبية بإبلاغ الجانب المصري من الحدود بأسماء هؤلاء، اسما اسما.
ومن بين الشروط أيضا أن يكون الليبي الذي يرغب في دخول مصر متزوجا من مصرية أو أنه ابن لأم مصرية. ليس هذا فقط، بل لا بد أن تكون زوجته أو والدته بصحبته، وهناك استثناءات أخرى تتعلق بكبار السن مثل العجائز اللائي ينتظرن دورهن في دخول مصر وهن يحملن صُررا من ملابسهن وما تبقى لهن من متاع الدنيا.
وبدأت تشيع فوق هضبة السلوم مقولة يرددها المسافرون لليبيا على أسماع بعضهم البعض، وهي أن الداخل إلى هناك مفقود والخارج منها مولود، بسبب ما يأتي من أخبار عن الميليشيات التي تخوض حرب حياة أو موت مع الجيش الوطني، وقيامها بالانتقام من كل من يقع بين أيديها من مؤيدي الجيش، وذلك بقتله ونحره بلا رحمة.
وعلى كل حال لم يكن من السهل اجتياز الهضبة المصرية للوصول للأراضي الليبية إلا بشق الأنفس واجتياز إجراءات متشابكة عبر عدة نقاط يتمركز فيها رجال أمن مصريون يعيدون عليك مرة وراء مرة تحذيرات بالأخطار الكامنة هناك.. «حتى لو كان من حقك أن تسافر كصحافي أو كمواطن لديه أقارب في ليبيا، فعليك أن تعلم أنك، بوصفك مصريا، ربما لن تعود إلا جثة.. وربما جثة مقطوعة الرأس.. وفي هذه الحالة لن نستطيع أن نقدم لك إلا خدمة وحيدة، وهي تسلّم جثمانك من الجانب الآخر من الحدود لتوصيله لذويك بمصر».
ويصيح أحد موظفي الجوازات متعجبا: «يا إلهي.. كيف يمكن أن تواصل السفر إلى هناك، وأنت تستمع إلى هذه الوصايا والتوقعات التي لا يحمد عقباها».
الكل يعلم أن ليبيا يتقاتل فيها من كانوا يعرفون، حتى أشهر مضت، باسم «ثوار فبراير»، أي أولئك الذين قادوا الليبيين للانتفاضة المسلحة على حكم العقيد القذافي، بمساعدة ضربات طيران حلف الناتو، في عام 2011. الكل يعلم ذلك، لكن المشكلة في التفاصيل.
الطريق من إمساعد، وهي أول مدينة ليبية بعد الحدود المصرية، إلى الداخل الليبي، غير مأمونة «لا أحد يضمن عدم وجود متطرفين أو قطاع طرق، أو مسلحين متشددين يكرهون مصر والمصريين. هؤلاء لا يتفاوضون. بل يقتلونك على الفور، وفي أفضل الأحوال، يختطفونك لكي يتفاوضوا على مبلغ مالي كبير مقابل إطلاق سراحك، وفي نهاية المطاف يمكن أن يقتلوك أيضا بعد أن يحصلوا على الفدية». هكذا يخبرك موظف في الأمن المصري بالسلوم، يدعى شريف، وهو يرفع حاجبيه كأنه يروي لك أحداث فيلم من أفلام الرعب التي يمكن أن تشاهدها على أرض الواقع وأنت في الطريق.
وتخشى السلطات المصرية من تسلل المتطرفين من جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم داعش وأنصار تنظيم القاعدة، وغيرها من التنظيمات الخطرة التي أصبحت تنتشر في ليبيا، إلى داخل أراضيها. ولهذا أصبحت إجراءات اجتياز الحدود صعبة، سواء من حيث تقديم ما يلزم من أوراق أو من خلال ما تسمعه من قصص مخيفة لا تشجع على السفر.
وفي الليلة قبل الأخيرة على الحدود تجد في الفنادق الصغيرة الواقعة تحت هضبة السلوم حكايات لا حصر لها، تجعلك تأخذ تحذيرات الموظف شريف مأخذ الجد. فبالإضافة إلى عبور العشرات يوميا ذهابا وإيابا بين حدود مصر وليبيا البرية، توجد محاولات للتسلل من خلف الحدود الرسمية، يفشل أغلبها في حينه، ويقوم بها مصريون وعرب وأفارقة للوصول لليبيا، ويقوم بها أيضا متطرفون قادمون من ليبيا في اتجاه مصر.
وتطرح الكثير من الأسئلة، وأنت تندفع إلى الأمام، من «سوق الخضراوات» بالسلوم بمصر، حتى «سوق الحوت» في طبرق الليبية، عن سبب تسلل مواطنين من جنسيات مختلفة من مصر، إلى بلد فيه قطع للرؤوس وضربات عسكرية وتوجس من الغرباء؟ هذه أسئلة ستعرف لها إجابات متعددة ضمن هذه الحلقات التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن الحرب في ليبيا بين «الجيش الوطني» المؤيَّد من البرلمان، و«قوات المتطرفين» بكل أنواعهم، ومن بين هذه الإجابات بشكل سريع: إن بعض المغامرين يسعون فعلا للعمل في ليبيا، وبعضهم يسعى للهجرة إلى أوروبا، لكن البعض الآخر يطمح في الالتحاق بالمتطرفين الذين يقاتلون قوات الجيش والشرطة في المدن الليبية.
أما بالنسبة لمحاولات المتطرفين المدربين التسلل من ليبيا إلى الأراضي المصرية، لتنفيذ عمليات تخريبية فيها، انتقاما من الجيش والأمن بمصر، فقد أصبحت شديدة الصعوبة. أولا بالنسبة لتأمين المنفذ الرسمي بين البلدين، فتوجد في الوقت الحالي إجراءات غير مسبوقة.. مثلا توجد قوة شرطية مصرية معززة بقوة أمنية مسلحة بأسلحة ثقيلة، على المدخل الخارجي لمدينة السلوم، أي أنك قبل أن تدخل إلى، أو تخرج من، المدينة الواقعة تحت الهضبة الفاصلة بين حدود البلدين، لا بد من التعريف بنفسك وبوجهتك إضافة لتفتيشك وتفتيش سيارتك.
وقبل أن تسلك الطريق الأفعوانية الصاعدة إلى أعلى الهضبة، توجد نقطة أمنية مسلحة أخرى، تقوم بعمليات تفتيش دقيقة، وتتأكد من أن معك من الأوراق ما يمكنك من مواصلة العبور في اتجاه المنفذ. وفي أعلى الهضبة تمر بـ5 نقاط تفتيش لا يفصل كل منها عن الأخرى سوى عدة عشرات من الأمتار. نقطتان في منفذ السلوم القديم، وهو منفذ كان مهجورا وغير مستخدم منذ سنوات، لكن الآن، وبعد القلاقل المتفجرة في ليبيا، أصبحت تتمركز فيه قوات من الأمن تقف خلف متاريس وخلف مواسير المدفعية.. وهكذا تخضع في كل مرة لتفتيش دقيق لكل شيء، بداية من الأوراق الثبوتية حتى الجيوب الداخلية لحقائب السفر.
وأخيرا تنتهي من إجراءات الخروج من مصر.. تقطع نحو 500 متر مشيا على الأقدام للوصول إلى المنفذ الليبي، أي منفذ إمساعد. تجر حقائبك تحت الشمس وتتلفت خلفك فربما تأتي سيارة لتريحك من هذا المشوار المرهق. في السابق كانت هناك سيارات تقل المسافرين من منفذ السلوم إلى منفذ إمساعد، مقابل 50 جنيها للفرد الذي يفضل استئجار سيارة خاصة، أو مقابل 10 جنيهات لمن يريد أن يركب مع آخرين. في الوقت الحالي لم تعد توجد هذه الرفاهية بسبب قلة عدد المسافرين.. فقط تمشي وتتلفت وراءك ربما تأتي سيارة عابرة.
وهذا ما كان؛ سيارة كورية الصنع فخمة يقودها شاب ليبي، يدعى جمال، في العشرينات من العمر. كان في زيارة لأقاربه في السلوم، من قبيلة القطعان، وهي من كبرى القبائل في الشرق الليبي. والآن هو عائد إلى أسرته في مدينة طبرق التي يوجد فيها مقر البرلمان الليبي الجديد. سأل «إلى أين؟». وكانت الإجابة جاهزة «إلى المنفذ.. جوازات إمساعد». فوافق وقد حدد الأجرة بشكل مبالغ فيه، قائلا «أوكي.. 10 دنانير».
ومن يستطيع أن يرفض في مثل هذه الظروف. وعلى الفور كانت الحقائب في السيارة وبوابة إمساعد تقترب. يا للمفاجأة المرعبة.. البوابة خاوية. لا وجود لأي حرس أو جنود أو ضباط. لا وجود لأي موظفين. مجرد طرقات ومسارات وغرف مغلقة وقطع كبيرة من الحجارة كانت تستخدم في السابق في غلق شوارع المنفذ على ما يبدو. واجتاز السائق المعبر من دون أن نختم شعار الدخول على جواز السفر، وقال: إن هذا أمر عادي، لأنه لا يوجد أحد.
وهنا بدأ الخوف. أين هي عناصر الدولة الليبية؟ أين هو حرس الحدود؟ أين كتائب التأمين التي نقرأ عنها؟ ولم يعد هناك من ملاذ سوى السائق جمال، الذي كان يريد أن يأخذ أجرته، الـ10 دنانير، ويمضي، بيد أنه كان لا بد من إغرائه لكي ينتظر «أنت، يا أخ جمال، بالتأكيد مسافر إلى طبرق.. ولهذا دعنا نتفق على سعر التوصيلة إلى هناك بالمرة.. لكن لا يمكن مواصلة السير أكثر من هذا، قبل العودة لختم جواز السفر من المنفذ الليبي. هل تعرف أين هم ضباط الجوازات الآن؟ مَن يضمن ما يمكن أن يحدث هناك، وساعتها، لو تعرضت لأذى، لن يكون هناك أي دليل رسمي على دخولي الأراضي الليبية».
وبدأ جمال يظهر نفاد صبره، ورجع بسيارته مرة أخرى، لكن في الاتجاه المعاكس، أي من المنفذ المتجه ناحية مصر. وهناك عثر على 5 جنود ليبيين كانوا يلهون مع أحد زملائهم من زوار المنفذ قرب سيارة عسكرية عليها مدفع عيار 23 مم. قال لأحدهم «نريد أن نختم دخول مصري». وكان هناك ختمان للدخول والخروج يتدليان من عنق الجندي الذي دخل إلى غرفة ونحن خلفه، وحين شاهد كلمة صحافي في جواز السفر قال: إن هذا ممنوع، ويتطلب إجراء اتصالات مع قيادته العسكرية في المنطقة الشرقية من ليبيا. حسنا!
واستغرق الأمر مزيدا من الوقت قبل أن تأتي الموافقة بالدخول. وطبع الختم على الجواز. وبدأت السيارة تتحرك مجددا إلى أول بلدة ليبية بعد الحدود. وكما ضرب الكساد مدينة السلوم في الجانب المصري، تجد الشلل الاقتصادي شبه التام قد تمكن من مدينة إمساعد على الجانب الليبي.. محال تجارية شبه مغلقة ومقاه خاوية ومراكز اتصالات يطن فيها الذباب. توجد شاحنات ليبية وأخرى مصرية لنقل البضائع، لكن السائق جمال يقول إنها لا تساوي شيئا مقارنة بالمئات من الشاحنات الضخمة التي كانت تسد الطرقات هنا وتملأ الساحات الممتدة على جانبي المدينة.
كانت البضائع تأتي من الموانئ البحرية الليبية ويجري تشوينها في مخازن كبيرة في «إمساعد»، إلى أن تأتي الشاحنات المصرية لنقلها إلى داخل مصر. وفي المقابل كانت الشاحنات المصرية تحجب الشمس هنا من كثرتها وهي محملة بقوالب الرخام والسيراميك والإسمنت والجبس والحبال وغيرها.
وخلافا للفراغ الأمني الموجود في منفذ إمساعد البري، يبدو الأمر مختلفا في داخل بلدة إمساعد نفسها، والتي لا يزيد عدد سكانها عن نحو 5 آلاف نسمة. هنا توجد قوات عسكرية ليبية نشطة. وكان يمكن مشاهدة ما لا يقل عن 9 سيارات دفع رباعي فوقها مدافع من عيار 14.5 مم و23 مم، وجنود يحملون أسلحة من نوع «إيه كيه 47». وتشعر بوجود عيون تراقب الغرباء. وفي ساحة سيارات الأجرة بدا الموقف يعبر عن نفسه. لا أحد هنا. وتبدو موائد مطعم «ثورة 17 فبراير» الذي كان يعتمد على المسافرين بين البلدين، مهجورة ويغطيها التراب، بينما الريح تطير بقايا الورق والغبار على الواجهة.
وقبل أن يتوقف أمام مقهى «الحدود» المتخصص في بيع القهوة الإيطالي، يضيف السائق جمال قائلا في يأس، وكأنه غير قادر على السكوت، إن الحرب الداخلية في ليبيا أثرت على كل شيء وقتلت التجارة بين البلدين، ولم تعد هناك غير محاولات بائسة لتهريب البضائع إما عن طريق البر، وهو أمر أصبح شديد الصعوبة، أو عن طريق البحر، حيث تتولى مراكب صغيرة نقل السلع إلى السلوم عبر خليج البردي المقابل للهضبة المصرية.
ويزيد موضحا «اليوم.. لا يوجد شيء مضمون. الأمن الليبي في إمساعد لم يعد يتساهل مع المهربين كما كان الحال قبل شهور.. وحراس الحدود المصريون، من الجانب الآخر، يراقبون كل شيء، وأصبحوا يبصرون المراكب وهي في الظلام في عرض البحر، ويصادرونها بما فيها من سلع، ومهربين».
وظن صاحب المقهى وهو يمسح بملعقة صغيرة على رغوة الفنجان قبل أن يقدمه للسائق جمال، أننا تجار ممنوعات أو مهربون، فنبهنا سريعا لكي نأخذ حذرنا، وهو يشير إلى سيارة جيش ليبية توقفت حالا أمام المحل. وما هي إلا أقل من دقيقة حتى دخل ضابط أسمر وأحمر العينين ومتحفز.. مسدس يتدلى من خصره، وفي يده بندقية «إيه كيه 47». وفحص الأوراق، ثم بدا أنه استراح أخيرا لفكرة وجود صحافي هنا، فطلب من زميله عبر جهاز اللاسلكي أن يترك السيارة ويأتي لشرب القهوة هنا.
ويحمل الضابط رتبة مقدم، ويدعى احميدة، وهو من قبيلة العبيدات، وهي واحدة من القبائل الكبرى التي تهيمن على المنطقة الشرقية من البلاد، ويرى أن مسؤولية حماية الحدود ليست لكونه يتبع الجيش الليبي فقط، ولكن لأنه «عبيدي» أيضا هو والمجموعة التي تعمل معه، وغالبيتهم متطوعون ولا يتقاضون أي رواتب من الدولة. ويضيف أنه لا يصح أن يقال: إن المتطرفين يمرون من أراضي العبيدات سواء كان أولئك المتطرفون قادمين من مصر إلى ليبيا أو العكس.
وتمكنت مجموعة احميدة من توقيف عشرات المتسللين عبر الحدود، وتسليم المصريين منهم إلى الجيش المصري، وتسليم الليبيين أو الجنسيات غير الليبية، ممكن كانوا في طريقهم إلى مصر، إلى وحدات الجيش الليبي القريبة من هنا. ومع ذلك يقول المقدم احميدة إن مجموعته التي تعمل بالتعاون مع كتيبة «عمر المختار» التابعة لرئاسة الأركان العامة للجيش الليبي تفتقر للكثير من المعدات اللازمة لضبط الحدود، ومن بينها السيارات المجهزة والأسلحة ومناظير الرؤية الليلية.
ويقول إنه رغم ضعف الإمكانات فإن الكتيبة الحدودية تمكنت من توقيف المئات من الجنسيات المختلفة ممن كانوا يسعون للعبور إلى مصر أو إلى ليبيا بشكل غير قانوني، على أيدي مهربين مسلحين يستخدمون سيارات الدفع الرباعي، وإن من بين من جرى توقيفهم خلال الشهرين الماضيين مصريون وليبيون وسودانيون ويمنيون وسوريون، لافتا إلى أن غالبية هؤلاء كانوا يقصدون مدينة بنغازي للانضمام إلى المتطرفين مما يسمى بـ«أنصار الشريعة» و«ميليشيات الإخوان» الذين يحاربون الجيش والشرطة، وأن بعضهم كان قادما من مصر مباشرة والبعض الآخر كان قادما من السودان عبر الأراضي المصرية. ويضيف أن هذا النوع من المهاجرين المتطرفين يجري التعامل معهم عن طريق جهات التحقيق الليبية لمعرفة من يقف وراءهم ومن يقوم بتمويلهم، وأن بعض المهاجرين الآخرين يسعون فقط للعمل في مدينة طبرق الهادئة، لكن كل من يلقى القبض عليه تجري إعادته من حيث أتى، حيث جرى تسليم الجانب المصري أكثر من 300 مهاجر من هذا النوع خلال الأسابيع الماضية.
والعجيب أن الضابط احميدة قدم نصائح وهو يشيعنا متطابقة للنصائح التي سبق أن قدمها الضباط المصريون عن خطر البوابات الأمنية الوهمية التي يديرها المتطرفون بين المدن الليبية، واحتمال أن يذبحوك مباشرة لو عرفوا أنك صحافي مصري. وبدأت رحلة المتاعب، إلا أن السائق جمال بدأ في تلطيف الأجواء وإملاء التعليمات التي تضمن سلامة الوصول إلى طبرق؛ إنها تعليماته الخاصة.
أولا: الأجرة 160 دينارا، يضاف إليها الدنانير الـ10 الأولى الخاصة بالتوصيلة من منفذ السلوم لمنفذ إمساعد، فتكون 170 دينارا. ثانيا: لا حديث باللهجة المصرية في أي من البوابات والنقاط الأمنية التي سنمر بها، فربما تكون إحداها تابعة للمتطرفين، فيذبحونك من دون أن آخذ أجرتي. وضحك. وصمت قليلا. ثم واصل قائلا: التصوير ممنوع.. الحديث في أي أمور سياسية مع الناس، وأنت معي، ممنوع، سواء في بلدة قصر الجدي أو في طبرق. وبعد أن نفترق، افعل ما تشاء، لا تعرفني ولا أعرفك. والآن نستمع إلى الأخبار في الراديو.
«لكي تعبر كل هذه النقاط الأمنية، لا بد أن تكون من مواليد محافظة مطروح، أو متزوجا ليبية، أو لديك ما يثبت أن لك أقارب في ليبيا». هكذا قال الضابط المصري على جانب الحدود، بينما كانت نحو 50 شاحنة، ونحو 70 مصريا وليبيا، ينتظرون إنهاء الإجراءات في منفذ السلوم البري لدخول ليبيا.
في السابق كانت كل هذه الساحات الخالية والممرات الشاغرة، تزدحم بألوف المغادرين والقادمين بين جانبي الحدود. كل هذا انتهى، وأصبح عدد عناصر قوات الأمن أكبر من عدد المسافرين، وأصبحت آليات حراسة الحدود أكثر من شاحنات نقل البضائع. أما بعد أن تعبر الحدود فلن تستمع في مسجل السيارة لأصوات الشعراء وهم يتغنون على وقع الموسيقى، كما كان الحال في الماضي، ولكن ستبحث عن أخبار القتلى والمهجرين وتطورات الحرب ضد المتطرفين في المدن التي تقصدها الآن.
حتى هنا في منفذ السلوم، حيث تنتظر مع 5 أو 6 من المصريين والليبيين الذين يعدون أنفسهم لاجتياز آخر حاجز أمني في اتجاه ليبيا، يمكن أن تستمع لأخبار من تعرضوا للذبح على أيدي مقاتلي داعش في مدينة درنة التي تبعد عن حدود مصر نحو 300 كيلومتر. وتتلفت حولك في المنفذ فترى نظرات الترقب في أعين الضباط والجنود والموظفين، وتكاد تشم رائحة الاقتتال والتربص على الجانب الآخر من الحدود، على مرمى البصر. ومن بين المنتظرين هنا، يقول رحومة سعيد، وهو تاجر مصري يستغل أوراق زواجه من امرأة ليبية في التنقل بين جانبي الحدود، إن مظاهر النشاط الدائب، في هذا المنفذ البري الرسمي الوحيد بين البلدين، كانت في الماضي «مظاهر تملأ العين من شدة الازدحام والرواج الاقتصادي»، أي قبل أن تندلع الاشتباكات في طول ليبيا وعرضها، وتغلق مصر حدودها مع هذا البلد النفطي شاسع المساحة.
ويتدخل أحد زملاء الطريق المتأهبين لدخول ليبيا، وهو طالب من مدينة بنغازي، وكان يدرس في جامعة الأزهر بالقاهرة، ويدعى احسونة، ويقول في أسى إن رفاق الأمس، في إشارة إلى من قاموا بالثورة ضد العقيد معمر القذافي، يبدو أنهم كانوا يحشدون إمكاناتهم في مواجهة كل منهم للآخر، منذ وقت طويل، من أجل خوض هذه الحرب المستعرة منذ أشهر.
يصمت احسونة وينظر إلى سيارات الإسعاف الجديدة المحملة بالجرحى والقادمة حالا من الجانب الليبي من الحدود، ثم يقول: «كل يوم يسقط ضحايا.. وكل يوم تهدم المباني»، لافتا إلى أن أخبار أسرته انقطعت عنه منذ بدأ الجيش الليبي في دخول بنغازي لتحريرها من جماعات المتطرفين أواخر الشهر الماضي، ويخشى أن تكون أسرته التي تتبع المنهج السلفي قد تعرضت للانتقام من جماعة «أنصار الشريعة» الدموية.
وبينما يتدخل أحد رفاق السفر لمواساته وتطمينه على أن أسرته «بالتأكيد بين يدي الله»، وأنه «ربما لم يصبها ضرر»، تأتي من الجانب الآخر، من فوق خط الحدود، حيث يمكن أن ترى ذلك بعينيك رغم بُعد المسافة، مجموعة من العجائز الليبيات وهن يجتزن معبر إمساعد الليبي، وقد وصلن توا، وبدأن في المشي على أقدامهن ناحية منفذ السلوم، وعلى ملابسهن آثار الغبار. وولجت إحداهن وهي تحمل أوراق صاحباتها، إلى صالة الوصول المصرية الخاوية، في انتظار الضابط المسؤول لكي تأخذ إذن الدخول.
أما باقي العجائز المتعبات فجلسن يترقبنها بجوار عدة سيارات إسعاف ليبية محملة بالجرحى والمرضى كانت هي الأخرى في انتظار إنهاء إجراءات الدخول للأراضي المصرية وهي إجراءات أصبحت شديدة التعقيد. وفي الخلفية من كل هذا، أي على طول السلك المصري الشائك الممتد على الجانبين، كانت هناك عدة آليات مصفحة وجنود يرتدون الخوذات ويقفون خلف مواسير المدافع الموجهة إلى الناحية الأخرى.
ويقول عبد الله، وهو سائق سيارة إسعاف ليبية تنتظر دورها لاجتياز معبر السلوم: «المصريون أغلقوا الحدود، ويؤخرون دخول الجرحى وكبار السن، لكن هذا حقهم، فهم يخشون تسلل عناصر من داعش أو من الإخوان لتنفيذ عمليات تخريبية في مصر.. على كل حال نقل الجرحى لمصر أفضل من نقلهم إلى تونس، فبالإضافة إلى بُعد المسافة من بنغازي لتونس، تتقاضى السلطات التونسية على الحدود مبالغ كبيرة تصل لنحو 50 دينارا (نحو 30 دولارا) عن كل فرد بينما المصريون لا يتقاضون أكثر من 10 جنيهات (أقل من دولار ونصف دولار».
وعلى نافذة الجوازات بدأت الحركة تدب.. فقد انتهى الضابط المصري من وقت استراحته، واستأنف عمله الذي لا يزيد عن فحص وختم بضع عشرات من جوازات السفر في اليوم. والآن أخذ يدقق في أوراق رجل ليبي وزوجته المصرية وأطفاله الـ3. ويسأل عن سبب قدومه، ويفحص على جهاز الكومبيوتر عما إذا كان اسمه من بين الأسماء المطلوبة أو الممنوعة من دخول البلاد. وأخيرا يختم جوازاتهم، ويقول وهو يتنفس الصعداء: «تفضلوا».
ويقول هذا الضابط، ويدعى أحمد، إن منفذ السلوم مغلق بشكل رسمي، وإن المنفذ يستقبل فقط المصريين العائدين من ليبيا، أما بالنسبة للأشخاص الليبيين الذين تستثنيهم السلطات المصرية ويحق لهم دخول البلاد، من المنفذ نفسه، فلا بد أن تتوافر فيهم شروط محددة وهي أن يكون من الجرحى أو المرضى الموصى بعلاجهم في مصر، لكن بعد أن تقوم السلطات الليبية بإبلاغ الجانب المصري من الحدود بأسماء هؤلاء، اسما اسما.
ومن بين الشروط أيضا أن يكون الليبي الذي يرغب في دخول مصر متزوجا من مصرية أو أنه ابن لأم مصرية. ليس هذا فقط، بل لا بد أن تكون زوجته أو والدته بصحبته، وهناك استثناءات أخرى تتعلق بكبار السن مثل العجائز اللائي ينتظرن دورهن في دخول مصر وهن يحملن صُررا من ملابسهن وما تبقى لهن من متاع الدنيا.
وبدأت تشيع فوق هضبة السلوم مقولة يرددها المسافرون لليبيا على أسماع بعضهم البعض، وهي أن الداخل إلى هناك مفقود والخارج منها مولود، بسبب ما يأتي من أخبار عن الميليشيات التي تخوض حرب حياة أو موت مع الجيش الوطني، وقيامها بالانتقام من كل من يقع بين أيديها من مؤيدي الجيش، وذلك بقتله ونحره بلا رحمة.
وعلى كل حال لم يكن من السهل اجتياز الهضبة المصرية للوصول للأراضي الليبية إلا بشق الأنفس واجتياز إجراءات متشابكة عبر عدة نقاط يتمركز فيها رجال أمن مصريون يعيدون عليك مرة وراء مرة تحذيرات بالأخطار الكامنة هناك.. «حتى لو كان من حقك أن تسافر كصحافي أو كمواطن لديه أقارب في ليبيا، فعليك أن تعلم أنك، بوصفك مصريا، ربما لن تعود إلا جثة.. وربما جثة مقطوعة الرأس.. وفي هذه الحالة لن نستطيع أن نقدم لك إلا خدمة وحيدة، وهي تسلّم جثمانك من الجانب الآخر من الحدود لتوصيله لذويك بمصر».
ويصيح أحد موظفي الجوازات متعجبا: «يا إلهي.. كيف يمكن أن تواصل السفر إلى هناك، وأنت تستمع إلى هذه الوصايا والتوقعات التي لا يحمد عقباها».
الكل يعلم أن ليبيا يتقاتل فيها من كانوا يعرفون، حتى أشهر مضت، باسم «ثوار فبراير»، أي أولئك الذين قادوا الليبيين للانتفاضة المسلحة على حكم العقيد القذافي، بمساعدة ضربات طيران حلف الناتو، في عام 2011. الكل يعلم ذلك، لكن المشكلة في التفاصيل.
الطريق من إمساعد، وهي أول مدينة ليبية بعد الحدود المصرية، إلى الداخل الليبي، غير مأمونة «لا أحد يضمن عدم وجود متطرفين أو قطاع طرق، أو مسلحين متشددين يكرهون مصر والمصريين. هؤلاء لا يتفاوضون. بل يقتلونك على الفور، وفي أفضل الأحوال، يختطفونك لكي يتفاوضوا على مبلغ مالي كبير مقابل إطلاق سراحك، وفي نهاية المطاف يمكن أن يقتلوك أيضا بعد أن يحصلوا على الفدية». هكذا يخبرك موظف في الأمن المصري بالسلوم، يدعى شريف، وهو يرفع حاجبيه كأنه يروي لك أحداث فيلم من أفلام الرعب التي يمكن أن تشاهدها على أرض الواقع وأنت في الطريق.
وتخشى السلطات المصرية من تسلل المتطرفين من جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم داعش وأنصار تنظيم القاعدة، وغيرها من التنظيمات الخطرة التي أصبحت تنتشر في ليبيا، إلى داخل أراضيها. ولهذا أصبحت إجراءات اجتياز الحدود صعبة، سواء من حيث تقديم ما يلزم من أوراق أو من خلال ما تسمعه من قصص مخيفة لا تشجع على السفر.
وفي الليلة قبل الأخيرة على الحدود تجد في الفنادق الصغيرة الواقعة تحت هضبة السلوم حكايات لا حصر لها، تجعلك تأخذ تحذيرات الموظف شريف مأخذ الجد. فبالإضافة إلى عبور العشرات يوميا ذهابا وإيابا بين حدود مصر وليبيا البرية، توجد محاولات للتسلل من خلف الحدود الرسمية، يفشل أغلبها في حينه، ويقوم بها مصريون وعرب وأفارقة للوصول لليبيا، ويقوم بها أيضا متطرفون قادمون من ليبيا في اتجاه مصر.
وتطرح الكثير من الأسئلة، وأنت تندفع إلى الأمام، من «سوق الخضراوات» بالسلوم بمصر، حتى «سوق الحوت» في طبرق الليبية، عن سبب تسلل مواطنين من جنسيات مختلفة من مصر، إلى بلد فيه قطع للرؤوس وضربات عسكرية وتوجس من الغرباء؟ هذه أسئلة ستعرف لها إجابات متعددة ضمن هذه الحلقات التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن الحرب في ليبيا بين «الجيش الوطني» المؤيَّد من البرلمان، و«قوات المتطرفين» بكل أنواعهم، ومن بين هذه الإجابات بشكل سريع: إن بعض المغامرين يسعون فعلا للعمل في ليبيا، وبعضهم يسعى للهجرة إلى أوروبا، لكن البعض الآخر يطمح في الالتحاق بالمتطرفين الذين يقاتلون قوات الجيش والشرطة في المدن الليبية.
أما بالنسبة لمحاولات المتطرفين المدربين التسلل من ليبيا إلى الأراضي المصرية، لتنفيذ عمليات تخريبية فيها، انتقاما من الجيش والأمن بمصر، فقد أصبحت شديدة الصعوبة. أولا بالنسبة لتأمين المنفذ الرسمي بين البلدين، فتوجد في الوقت الحالي إجراءات غير مسبوقة.. مثلا توجد قوة شرطية مصرية معززة بقوة أمنية مسلحة بأسلحة ثقيلة، على المدخل الخارجي لمدينة السلوم، أي أنك قبل أن تدخل إلى، أو تخرج من، المدينة الواقعة تحت الهضبة الفاصلة بين حدود البلدين، لا بد من التعريف بنفسك وبوجهتك إضافة لتفتيشك وتفتيش سيارتك.
وقبل أن تسلك الطريق الأفعوانية الصاعدة إلى أعلى الهضبة، توجد نقطة أمنية مسلحة أخرى، تقوم بعمليات تفتيش دقيقة، وتتأكد من أن معك من الأوراق ما يمكنك من مواصلة العبور في اتجاه المنفذ. وفي أعلى الهضبة تمر بـ5 نقاط تفتيش لا يفصل كل منها عن الأخرى سوى عدة عشرات من الأمتار. نقطتان في منفذ السلوم القديم، وهو منفذ كان مهجورا وغير مستخدم منذ سنوات، لكن الآن، وبعد القلاقل المتفجرة في ليبيا، أصبحت تتمركز فيه قوات من الأمن تقف خلف متاريس وخلف مواسير المدفعية.. وهكذا تخضع في كل مرة لتفتيش دقيق لكل شيء، بداية من الأوراق الثبوتية حتى الجيوب الداخلية لحقائب السفر.
وأخيرا تنتهي من إجراءات الخروج من مصر.. تقطع نحو 500 متر مشيا على الأقدام للوصول إلى المنفذ الليبي، أي منفذ إمساعد. تجر حقائبك تحت الشمس وتتلفت خلفك فربما تأتي سيارة لتريحك من هذا المشوار المرهق. في السابق كانت هناك سيارات تقل المسافرين من منفذ السلوم إلى منفذ إمساعد، مقابل 50 جنيها للفرد الذي يفضل استئجار سيارة خاصة، أو مقابل 10 جنيهات لمن يريد أن يركب مع آخرين. في الوقت الحالي لم تعد توجد هذه الرفاهية بسبب قلة عدد المسافرين.. فقط تمشي وتتلفت وراءك ربما تأتي سيارة عابرة.
وهذا ما كان؛ سيارة كورية الصنع فخمة يقودها شاب ليبي، يدعى جمال، في العشرينات من العمر. كان في زيارة لأقاربه في السلوم، من قبيلة القطعان، وهي من كبرى القبائل في الشرق الليبي. والآن هو عائد إلى أسرته في مدينة طبرق التي يوجد فيها مقر البرلمان الليبي الجديد. سأل «إلى أين؟». وكانت الإجابة جاهزة «إلى المنفذ.. جوازات إمساعد». فوافق وقد حدد الأجرة بشكل مبالغ فيه، قائلا «أوكي.. 10 دنانير».
ومن يستطيع أن يرفض في مثل هذه الظروف. وعلى الفور كانت الحقائب في السيارة وبوابة إمساعد تقترب. يا للمفاجأة المرعبة.. البوابة خاوية. لا وجود لأي حرس أو جنود أو ضباط. لا وجود لأي موظفين. مجرد طرقات ومسارات وغرف مغلقة وقطع كبيرة من الحجارة كانت تستخدم في السابق في غلق شوارع المنفذ على ما يبدو. واجتاز السائق المعبر من دون أن نختم شعار الدخول على جواز السفر، وقال: إن هذا أمر عادي، لأنه لا يوجد أحد.
وهنا بدأ الخوف. أين هي عناصر الدولة الليبية؟ أين هو حرس الحدود؟ أين كتائب التأمين التي نقرأ عنها؟ ولم يعد هناك من ملاذ سوى السائق جمال، الذي كان يريد أن يأخذ أجرته، الـ10 دنانير، ويمضي، بيد أنه كان لا بد من إغرائه لكي ينتظر «أنت، يا أخ جمال، بالتأكيد مسافر إلى طبرق.. ولهذا دعنا نتفق على سعر التوصيلة إلى هناك بالمرة.. لكن لا يمكن مواصلة السير أكثر من هذا، قبل العودة لختم جواز السفر من المنفذ الليبي. هل تعرف أين هم ضباط الجوازات الآن؟ مَن يضمن ما يمكن أن يحدث هناك، وساعتها، لو تعرضت لأذى، لن يكون هناك أي دليل رسمي على دخولي الأراضي الليبية».
وبدأ جمال يظهر نفاد صبره، ورجع بسيارته مرة أخرى، لكن في الاتجاه المعاكس، أي من المنفذ المتجه ناحية مصر. وهناك عثر على 5 جنود ليبيين كانوا يلهون مع أحد زملائهم من زوار المنفذ قرب سيارة عسكرية عليها مدفع عيار 23 مم. قال لأحدهم «نريد أن نختم دخول مصري». وكان هناك ختمان للدخول والخروج يتدليان من عنق الجندي الذي دخل إلى غرفة ونحن خلفه، وحين شاهد كلمة صحافي في جواز السفر قال: إن هذا ممنوع، ويتطلب إجراء اتصالات مع قيادته العسكرية في المنطقة الشرقية من ليبيا. حسنا!
واستغرق الأمر مزيدا من الوقت قبل أن تأتي الموافقة بالدخول. وطبع الختم على الجواز. وبدأت السيارة تتحرك مجددا إلى أول بلدة ليبية بعد الحدود. وكما ضرب الكساد مدينة السلوم في الجانب المصري، تجد الشلل الاقتصادي شبه التام قد تمكن من مدينة إمساعد على الجانب الليبي.. محال تجارية شبه مغلقة ومقاه خاوية ومراكز اتصالات يطن فيها الذباب. توجد شاحنات ليبية وأخرى مصرية لنقل البضائع، لكن السائق جمال يقول إنها لا تساوي شيئا مقارنة بالمئات من الشاحنات الضخمة التي كانت تسد الطرقات هنا وتملأ الساحات الممتدة على جانبي المدينة.
كانت البضائع تأتي من الموانئ البحرية الليبية ويجري تشوينها في مخازن كبيرة في «إمساعد»، إلى أن تأتي الشاحنات المصرية لنقلها إلى داخل مصر. وفي المقابل كانت الشاحنات المصرية تحجب الشمس هنا من كثرتها وهي محملة بقوالب الرخام والسيراميك والإسمنت والجبس والحبال وغيرها.
وخلافا للفراغ الأمني الموجود في منفذ إمساعد البري، يبدو الأمر مختلفا في داخل بلدة إمساعد نفسها، والتي لا يزيد عدد سكانها عن نحو 5 آلاف نسمة. هنا توجد قوات عسكرية ليبية نشطة. وكان يمكن مشاهدة ما لا يقل عن 9 سيارات دفع رباعي فوقها مدافع من عيار 14.5 مم و23 مم، وجنود يحملون أسلحة من نوع «إيه كيه 47». وتشعر بوجود عيون تراقب الغرباء. وفي ساحة سيارات الأجرة بدا الموقف يعبر عن نفسه. لا أحد هنا. وتبدو موائد مطعم «ثورة 17 فبراير» الذي كان يعتمد على المسافرين بين البلدين، مهجورة ويغطيها التراب، بينما الريح تطير بقايا الورق والغبار على الواجهة.
وقبل أن يتوقف أمام مقهى «الحدود» المتخصص في بيع القهوة الإيطالي، يضيف السائق جمال قائلا في يأس، وكأنه غير قادر على السكوت، إن الحرب الداخلية في ليبيا أثرت على كل شيء وقتلت التجارة بين البلدين، ولم تعد هناك غير محاولات بائسة لتهريب البضائع إما عن طريق البر، وهو أمر أصبح شديد الصعوبة، أو عن طريق البحر، حيث تتولى مراكب صغيرة نقل السلع إلى السلوم عبر خليج البردي المقابل للهضبة المصرية.
ويزيد موضحا «اليوم.. لا يوجد شيء مضمون. الأمن الليبي في إمساعد لم يعد يتساهل مع المهربين كما كان الحال قبل شهور.. وحراس الحدود المصريون، من الجانب الآخر، يراقبون كل شيء، وأصبحوا يبصرون المراكب وهي في الظلام في عرض البحر، ويصادرونها بما فيها من سلع، ومهربين».
وظن صاحب المقهى وهو يمسح بملعقة صغيرة على رغوة الفنجان قبل أن يقدمه للسائق جمال، أننا تجار ممنوعات أو مهربون، فنبهنا سريعا لكي نأخذ حذرنا، وهو يشير إلى سيارة جيش ليبية توقفت حالا أمام المحل. وما هي إلا أقل من دقيقة حتى دخل ضابط أسمر وأحمر العينين ومتحفز.. مسدس يتدلى من خصره، وفي يده بندقية «إيه كيه 47». وفحص الأوراق، ثم بدا أنه استراح أخيرا لفكرة وجود صحافي هنا، فطلب من زميله عبر جهاز اللاسلكي أن يترك السيارة ويأتي لشرب القهوة هنا.
ويحمل الضابط رتبة مقدم، ويدعى احميدة، وهو من قبيلة العبيدات، وهي واحدة من القبائل الكبرى التي تهيمن على المنطقة الشرقية من البلاد، ويرى أن مسؤولية حماية الحدود ليست لكونه يتبع الجيش الليبي فقط، ولكن لأنه «عبيدي» أيضا هو والمجموعة التي تعمل معه، وغالبيتهم متطوعون ولا يتقاضون أي رواتب من الدولة. ويضيف أنه لا يصح أن يقال: إن المتطرفين يمرون من أراضي العبيدات سواء كان أولئك المتطرفون قادمين من مصر إلى ليبيا أو العكس.
وتمكنت مجموعة احميدة من توقيف عشرات المتسللين عبر الحدود، وتسليم المصريين منهم إلى الجيش المصري، وتسليم الليبيين أو الجنسيات غير الليبية، ممكن كانوا في طريقهم إلى مصر، إلى وحدات الجيش الليبي القريبة من هنا. ومع ذلك يقول المقدم احميدة إن مجموعته التي تعمل بالتعاون مع كتيبة «عمر المختار» التابعة لرئاسة الأركان العامة للجيش الليبي تفتقر للكثير من المعدات اللازمة لضبط الحدود، ومن بينها السيارات المجهزة والأسلحة ومناظير الرؤية الليلية.
ويقول إنه رغم ضعف الإمكانات فإن الكتيبة الحدودية تمكنت من توقيف المئات من الجنسيات المختلفة ممن كانوا يسعون للعبور إلى مصر أو إلى ليبيا بشكل غير قانوني، على أيدي مهربين مسلحين يستخدمون سيارات الدفع الرباعي، وإن من بين من جرى توقيفهم خلال الشهرين الماضيين مصريون وليبيون وسودانيون ويمنيون وسوريون، لافتا إلى أن غالبية هؤلاء كانوا يقصدون مدينة بنغازي للانضمام إلى المتطرفين مما يسمى بـ«أنصار الشريعة» و«ميليشيات الإخوان» الذين يحاربون الجيش والشرطة، وأن بعضهم كان قادما من مصر مباشرة والبعض الآخر كان قادما من السودان عبر الأراضي المصرية. ويضيف أن هذا النوع من المهاجرين المتطرفين يجري التعامل معهم عن طريق جهات التحقيق الليبية لمعرفة من يقف وراءهم ومن يقوم بتمويلهم، وأن بعض المهاجرين الآخرين يسعون فقط للعمل في مدينة طبرق الهادئة، لكن كل من يلقى القبض عليه تجري إعادته من حيث أتى، حيث جرى تسليم الجانب المصري أكثر من 300 مهاجر من هذا النوع خلال الأسابيع الماضية.
والعجيب أن الضابط احميدة قدم نصائح وهو يشيعنا متطابقة للنصائح التي سبق أن قدمها الضباط المصريون عن خطر البوابات الأمنية الوهمية التي يديرها المتطرفون بين المدن الليبية، واحتمال أن يذبحوك مباشرة لو عرفوا أنك صحافي مصري. وبدأت رحلة المتاعب، إلا أن السائق جمال بدأ في تلطيف الأجواء وإملاء التعليمات التي تضمن سلامة الوصول إلى طبرق؛ إنها تعليماته الخاصة.
أولا: الأجرة 160 دينارا، يضاف إليها الدنانير الـ10 الأولى الخاصة بالتوصيلة من منفذ السلوم لمنفذ إمساعد، فتكون 170 دينارا. ثانيا: لا حديث باللهجة المصرية في أي من البوابات والنقاط الأمنية التي سنمر بها، فربما تكون إحداها تابعة للمتطرفين، فيذبحونك من دون أن آخذ أجرتي. وضحك. وصمت قليلا. ثم واصل قائلا: التصوير ممنوع.. الحديث في أي أمور سياسية مع الناس، وأنت معي، ممنوع، سواء في بلدة قصر الجدي أو في طبرق. وبعد أن نفترق، افعل ما تشاء، لا تعرفني ولا أعرفك. والآن نستمع إلى الأخبار في الراديو.
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
مواضيع مماثلة
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة الثانية): «إخوان» ليبيا أسسوا جهاز مخابرات في طبرق.. وسعوا لا
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة الخامسة) خريطة ولاءات القبائل في الصراع مع المتطرفين
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة السابعة والأخيرة) «الإخوان» متهمون بعرقلة فرص الحوار بين الفر
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة الرابعة): مقتل قيادات مهمة في أنصار الشريعة بينهم جزائريون وم
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة السادسة): ميليشيات الإخوان تتجه جنوبا للسيطرة على حقول النفط
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة الخامسة) خريطة ولاءات القبائل في الصراع مع المتطرفين
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة السابعة والأخيرة) «الإخوان» متهمون بعرقلة فرص الحوار بين الفر
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة الرابعة): مقتل قيادات مهمة في أنصار الشريعة بينهم جزائريون وم
» يوميات الحرب الليبية (الحلقة السادسة): ميليشيات الإخوان تتجه جنوبا للسيطرة على حقول النفط
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 8:36 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR
» الأرز الإسباني
2024-11-18, 7:45 am من طرف STAR
» عن مشاركة نيمار في مونديال الاندية.. هذا موقف الهلال
2024-11-16, 8:14 am من طرف STAR
» لضمان نوم هادئ ومريح.. تجنب 5 عادات
2024-11-16, 8:13 am من طرف STAR
» ترتيب المنتخبات العربية في تصفيات آسيا لكأس العالم 2026
2024-11-16, 8:12 am من طرف STAR
» الخضار الأعلى كثافة بالمغذيات
2024-11-16, 8:11 am من طرف STAR
» رونالدو يثير التفاعل بتصرف رائع خلال مباراة البرتغال
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR
» غرامة بمليار دولار تُهدد "ميتا" بالتفكك وسط ضغوط تنظيمية دولية
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR