إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
بنية غناوة العلم
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
بنية غناوة العلم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لكل واخواتي اعضاء وزاور .. خصيصآ محبي الشعر الشعبي
احببت ان اهديكم هذا الموضوع الذي أثار اعجابي .. واتمني ان ينال اعجابكم كذلك
بِنْية غنَّاوة العَلَم
(1 ـ 3)
شاعر العَلَم ليس مُجرَّد شاعرٍ ، فهو لا يكتفي بالتأليف فقط ، بل يؤدِّي بيت الشِّعْر، أي أنه ليس مُجرَّد إلقاء ، بل غِناء بتنغيم صوتي مُعَيَّن ، وقد ارتبط هذا الشِّعْر بالغِناء ، حتى سُمِّي هذا البيت الواحد غنَّاوة ، ونسي كثير من الناس أنها شِعْر ، فإذا لم تكن غنَّاوة العَلَم شِعْراً فما هو الشِّعْر .. ؟! فالأصل في الشِّعْر أنه أغنية كما قال الناقد والأديب والشاعر خليفة التلّيسي: (الشِّعْر لحن هارب ، وأغنية قصيرة).
وللتعبير عن تأليف الغنَّاوة عدَّة أفعال ، لكنِّني فضَّلتُ الفعل (يَزْرَع)، فله دِلالته ، فُيقال: فلان يزرع الغنَّاوة، أي يُؤلِّفها، وفلان يحفظ فقط ، أو يروي ، ويُقال: فُلان يبَيِّت ، أي لا يرتجل الغنَّاوة ، بل يزرعها قبل الحضور إلى المناسبة ، فتكون جاهزة ، وكلّ شطر من شطرَيّ الغنَّاوة أوالشتّاوة يُسمَّى (رمَّة) ، جاءت التسمية من أَرمام البيت ، وهي الحِبال التي تشدَّه ، وهذا يُماثِل تسميات عَروض الشِّعْر العربي ، حيث أُخِذت من البيت، فقِيْل: عمود الشِّعْر ، بيت مِن الشِّعْر، إلخ.
هناك كلمة في الغنَّاوة تُسمَّى (القَفْلَة) ، تدور حَولها الغنَّاوة كما تدور الرَّحَى حول قلبها ، وهي لا تُعرَف أثناء الأداء إلاَّ في آخر مقطع ، فالشاعر الغنَّاي يبدأ الغنَّاوة من نهايتها ، ثم ينتقل إلى أوَّلها ، ويعود مرّةً أخرى إلى نهايتها، يبدأ من نقطة مُعَيَّنة ثُمَّ يعود إليها، كأنَّه يتحرَّك على محيط دائرة، يتأرجح على مُرتَكَز غير مرئي وهو (القَفْلة) ، وهو يتجنَّب هذا المِفْصَل عن قَصْد ، فهذا في أصول أداء الغنَّاوة ، ثم في المقطع الأخير يأتي بالكلمة الناقصة التي لا يتمُّ المعنى إلاَّ بِها ، وهي تأتي كنوع من المفاجأة ، وهي الرابِط وواسطة العِقْد ، وهذا يجعل السامع في حالة ترَقُّب إلى آخر لحظة ، فهو يدخل في باب ( لَفْت السمْع ) ، بالإضافة إلى التشويق ، فنحن عندما نُنصت إلى الشاعر الغنَّاي ، نحاول معرفة (القَفْلة) واستباق الشاعر في إتمام الغنَّاوة.
يقول الشاعر عبدالكافي البرعصي:
العَقـل نارهـم لَوْلاف قدَّامه وراه وبَجَّـدَت.
القَفْلَة هنا هي كلمة (قدَّامه) ، وهي من القفلات الْمُميَّزة لأنَّها غير مُتوقَّعة، والقَفْلة دائماً هي أوَّل كلمة في الرَّمَّة الثانية ، ومن الأشياء التي تُميِّز شاعراً عن آخر حُسْن وجودة القَفلة ، بَجَّدَت: كثرت وانتشرت ، في الْمُحيط واللسان (بجد): (عَلَيْه بَجْد من الناس، أي جماعة، وجمعه بُجُود، والبَجْد من الخيل مائة فأَكثر، الْمَبْجُود: الْمَنْثُور).
من القفلات المُمَيَّزة أيضاً قول الشاعر عبدالفتَّاح العَقيبي:
عَ الصَّوْب كان تاب العَقل انْخـافَه الاّ زامِق زمَق.
انْخافَه: قَفلة وتَتِمَّة غير متوقَّعة.
من القَفْلات الجميلة كذلك قول الشاعر محمد البزَاري:
غَنْـواهم وقرْب الـدَّار تهفـاية عَلَــيْ نار الغَلا.
هذه الغنَّاوة ليس بها أي فعل ، وكلمة (تهفاية) هي التي منحت هذه الغنَّاوة جمالها وعَمَّقت معناها، والتهفاي حركة، والْحركة تُضْفي بُعداً جَمالياً آخر على الْمَشْهَد، وهذا ما جعل أبا العلاء المعرِّي يقول:
أبَكَت تِلْكُمُ الحَمامةُ أم غَنَّت على فَرْعِ غُصنِها المَيَّادِ.
فكلمة (الْمَيَّاد) لا تُضيف معنىً جديداً ، جاء بها الشاعر فقط لإحداث حركة في المَشهد.
إذا كانت غنَّاوة محمد البزاري خالية من الأفعال ، فغنَّاوة علي طاهر حَوّا التالية بها فعل واحد وهو يُشكِّل القَفْلة:
العَيْن عـــذرْها مَقْطُوع اصْعِب عزيز مَو يَوم صَبْرها.
فالفعل الوحيد هو: اصْعِب. ***
غَـلاي وَيْن دار اَثْمار جَنَـــوْه ناس ما نالَوا شقا.
هنا أيضاً الفعل يُشَكِّل القَفْلة، وإن لم يكن الفعل الوحيد، وحَرف الأَلف المُتكَرِّر في هذه الغنَّاوة سبع مَرَّات أَضفَى عليها الكثير من الموسيقا، وقد جاء الأَلف في كلمات: غلاي ، دار ، اثْمار ، ناس ، ما ، نالَوا، شقا.
***
عَ العَيْن مَو فراق عَزيز الصّاعِب انْها مـــا وادْعَت. "محمد البزاري"
جمال هذه الغنَّاوة في القَفلة، وهي كلمة: الصاعِب ، وأصل الكلام: الصاعب عَلَىَ العَيْن مَو فراق عَزيز ،الصّاعِب انْها ما وادْعَت ، لكنَّ الشاعر استطاع أنْ يتخلَّص من التكرار.
كثيرٌ من الغناوي مُختزلة بطريقة أشبه بالبرقيَّات، وأنا أُسَمِّيها (الغنَّاوة البَرقيَّة)، وهي التي تكون خاليةً من حروف العطف ، ومن أمثلتها:
يرِيْدوا ارْضــا وَلْدَيْن عَـذارهم عَلَي ضَيْعة الغَلا.
"عبدالكافي البرعصي"
***
مَسْتُوْهَة نهار خَــطاه الناس نَيْن ــقالوا بعَزْمها.
"محمد علي المَرْضي"
***
اكْمَلَن كلّ يَوم عَذار أَصْواب كي مداييْن الفَلَس.
والأكثر اختزالاً ، الأقرب إلى شكل البرقيَّة ، الغناوي الخالية من حروف العطف والجر أيضاً:
مشَى العَقل شَوْر الدّار بيُوْض رقْعته نار جابْها.
"سليمان الشرِّيمة"
الرّقْعة: جلد الخروف ، يُستعمل لحفظ الدقيق ، وكانوا عندما يتلقَّون من جيرانهم أو أقاربهم بعض الدقيق أو الأرز أو ما شابَه ، لا يُعيدون الرَّقْعة فارغة ، بل يضعون فيها شيئاً من الأَكل ، فإن لم يجدوا شيئاً أعادوا فيها بعض الملح ، وذلك ما يُعرف بالبيُوض، ووضع الملح له دلالة خاصة ، فهو يرمز إلى العشرة الطيبة (الماء والملح).
إذا طالت القصيدة قَلَّ الشِّعْر ، أو كما يقول الشاعر الإنجليزي كولدرج: (إنَّ قصيدة على درجة مُعيَّنة من الطُّول لا يُمكن أن تكون كلُّها شِعْراً)، ويقول تشيكوف: (الاختصار شقيق الموهبة ، أَمّا بالنسبة للقصائد الطويلة ، فنعرف أَنَّها وسيلة أولئك الذين لا يستطيعون نظم قصائد قصيرة)، ويقول النفري: (إذا اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة)، وقال العرب قديماً في الاختزال: (يكفي مِن القِلادة ما أَحاطَ بالعُنُق)، فانظروا إلى هذه البرقيَّة المُختزَلة:
انْرِيْد نلْتفِت ما صدِتْ لَيَّام قَشْقلَة واخْذاتْنِي.
"سليمان الشرِّيمة"
هناك نوع من الغناوي يعتمِد على التلاعب اللفظي ، وهو ليس كثيراً ، فالشُّعَراء لا يهتمُّون به إلاَّ على سبيل التباري وإظهار التمكُّن ، وهو نوع من الاهتمام بالشَّكْل دون إغفال المُحتَوى ، من ذلك قول الشاعر عبدالكافي البرعصي:
رُوْحَيْن روحِّن في رُوْح قضَت الرُّوْح رُوْحَيْن موَّتَن.
ومنه كذلك قول الشاعر موسى بونقاب:
هَناك مَو هَنــا هاناك هَنِّيْه يا اللِّي بالَك هَنِي.
هَناك الأولى هي الهَناء.
ومن هذا الباب أيضاً قول الشاعر هاشم بومَيَّارة:
جفَا اجْفُونّا اجْفيان النَّوْم يا اللِّي نَوْمَك هَنِيْ.
من الاهتمام بالشكل هذه غنَّاوة ليس بها أي حرف منقوط:
ملَل ومَوْح دار دلال وَرّاك هَول ومْرار وردا.
"حفيظ النَّزَّال"
هناك غناوي تشتمل على تقديم وتأخير في ألفاظها، وذلك يمنح الغنَّاوة جَودةً في السَّبك ، وحلاوةً في الإيقاع ، كما أنه قد يكون ضرورياً لاستقامة الوزن ، مثال ذلك قول الشاعر أبوبكر الصعقار:
عَلَيْه نخطرُوا يا عَيْن قدِيْم الغَلا باهي اللِّي.
فبداية الغنَّاوة: باهي اللِّي ، أُخِّرت وجُعِلت في الختام.
وكذلك قول الشاعر:
يقُول غَفِي ساع يْجُوك هَوَّايْها خَذا لَيله وهُو.
"سالم حمد هويدي"
فترتيب الكلام هو: هَوَّايْها خَذَا لَيله وهُو يقُول غَفِي ساع يْجُوك ، لكنَّ الشاعر قَدَّم وأَخَّرَ.
وقول أبوبكر الصعقار:
عَزيز مَو اللي نَنْسَوه نَنْسَى نْقول عَيْني تقول لي.
أي: نقول نَنْسَى، تقول لي عَيْني: عَزيز مَو اللِّي نَنْسَوه.
وقول عبدالفتَّاح العَقيبي:
يَكْمَوا النار ويعِيْشوا يَلْقَوا عزُوْم يا عَوْنهم اللِّي.
ترتيب الكلام هكذا: يا عَوْنهم اللِّي يَلْقَوا عزُوْم ويَكْمَوا النار ويعِيْشوا.
وقول الشاعر خليفة غيث:
هَنْداب عَ البكا في الدَّار نَنْهَى أوْقات واوْقات نا اللِّي.
أَخَّر: أوقات نا اللِّي، وحَقُّها التقديْم ، لكنَّها هنا أحدثت إيقاعاً جميلاً ، خاصة بتكرار كلمة: أوْقات.
كذلك قول الشاعر ونيس المذْراب:
لَوْهام يا العَيْن انْخَطَوا اغْتاظَتْ عَلَيْ قَولتي لْها.
من حيث المعنى نجد أنَّ الرّمَّة الثانية هي البداية، والرّمَّة الأولى هي النهاية، لكنَّ الشاعرَ قَدَّم وأَخَّر.
وقول الشاعر هاشم بوميَّارة:
يَبْرا العَقل م اللِّي فِيْه انْجَبِّي به عَلَي دارهم ولا.
فترتيب الكلام هو: انْجَبِّي به عَلَي دارهم ولا يَبْرا العَقل م اللي فِيْه، ونُلاحظ أنَّ هناك ثقلاً في الوزن، ولو حذف الجار والمجرور (به) وقال: انْجَبِّي عَلَي دارهم ولا، لتخلَّص من الثقل.
من الإيقاع الجميل أيضاً أن تبدأ الغنَّاوة وتنتهي بنفس الكلمة ، كقول الشاعر أبوبكر الصعقار:
اللِّي الحال يرْعِي فِيْه نطْلِب جداه نا ماني اللِّي.
فقد ابتدأ الغنَّاوة وختمها بنفس اللفظة: اللِّي، وهذه الغنَّاوة في معنى المثل الشعبي: (اللي يحقَّك ما تَومِيله)، والجدا: العَطاء ، وأَصل الجَدا: المطر، في اللسان (جدا): (الجَدا: المطر العامّ ، أَجْدَى عليه يُجْدِي إذا أَعْطاه، واستَجْديتُه: أَتيتُه أَسأله حاجةً وطَلَبْتُ جَدْواه).
ليس من المألوف أن تَرِدَ كلمتا: عزيز وعَلَم في غنَّاوة واحدة، لأنهما لمخاطَبٍ واحد فعزيز هو العَلَم، وهذه غنَّاوة اجتمعت فيها الكلمتان، ولم نشعر بأنَّ هناك تكراراً أو ثقلاً:
خَلَّيْت يا عَزِيْز العَقل غَفُوْد يا عَلَم شاط عَ اللّبا.
كان يجب أن يؤنِّث الفعل (شاط) ويقول (شاطت) لأنّ (غفود) مؤنَّث، لكنّه ذَكَّره للحفاظ على الوزن.
بِنْية غنَّاوة العَلَم
( 2 ـ 3 )
بقلم: أحمد يوسف عقيلة
غنَّاوة العَلَم لها عدَّة أوزان ، ويُمكن تقطيعها عَروضيّاً أيضاً ، وعلى اعتبار أنَّها بيت واحد من الشِّعْر فقد تخَلَّصتْ من الْتزام القافية ، وهذا ـ في رأيي ـ أحد أَهم أسباب قوَّتِها، فمثال الغنَّاوة التي لا تتجاوز الخمس كلمات:
دِيْما خَلاوِي العَيْن عامْرات بمْهاياتّم.
بعض كلمات الغنَّاوة الخماسيَّة طويلة بعض الشيء ، وبها حروف مَدّ: خَلاوي ، عامرات ، مهاياتّم ، وذلك للتعويض عن القِصَر ، ويمكن تقطيع الغنَّاوة كالتالي:
دِيْمهخَـ لاَولْعَينْ عامْراتْبمْـ هاياتّم.
مفعيلُ مفعيلن مفعيلن مفعيلن وهذا الوزن أقرب إلى بحر الهزْج ، سُمِّي بذلك تشبيهاً له بهَزْج الصوت، أي باضطرابه، ووزنه الأَصلي:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
وهو يُستعمَل مجزوءاً بحذف تفعيلة من آخر كل شطرة ، لكن ما نُلاحظه هنا هو أنَّ الغنَّاوة تمرَّدت على هذا البحر، فمن التعسُّف نسبتها إلى بحور الخليل.
مثال الغنَّاوة المؤلَّفة من ست كلمات:
رحْلانِي لدار عَزِيْز يباتَن حَجِيْر ويجهْمَن.
"عبدالكافي البرعصي" الجهِيْم: قُبَيل الفجر، ووزن هذه الغنَّاوة:
فاعِلْتن فَعِلْ فعلاتُ فاعِلْتن فعلْتن فعلْتن
وهي أقرب إلى أن تكون على بحر الرمل ، ويُطلَق الرمل لغةً على الإسراع في المشي، وأصل وزنه:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
لكن ماذا بقي من تفعيلات هذا البحر،؟!
مثال الغنَّاوة السُباعيَّة:
متْواسْيات يَوم بيَوم أَيَّام عمْر عَيْنِي وياسّم.
"عبدالسلام بوجلاوي" في رواية: متساويات.
مثال الغنَّاوة المكونة من ثماني كلمات:
انْزلَوا فيه دار اخْيار حسَّاد عاكْسَوا راي خاطْري.
هذه الغنَّاوة تُحيلك إلى لُعبة السِّيْجة (الشِّيْزة)، وهي أن ينْزِل خصمك في (دار اخْيار) فيقتُل أحد كلبَيك لا محالة ، لأنك لا تستطيع ـ وِفْقاً لأصول اللعبة ـ أن تنقل كلبيك دُفعةً واحدة ، وكما هو معروف فإنَّ بَيادِق السِّيْجة تُسمَّى كِلاباً..!
مثال آخر:
غَلا عزيز حَدْر اَوْعار حتَّى العاقلة فيهن جرَت.
هذه الغنَّاوة تُحيلنا إلى مشهد الإبل حين تجري لاعبةً في المُنحَدَرات ، وإن لم يذكر الشاعر الإبل باللفظ ، وفي المثل الشعبي: (كَيْ الابل في الدَّرْدُوْحَة، اللي ما تَلْعَب تهِزّ راسَّا) ووزنها:
مفعْلتُ مفعلتن مفعلاتُ مفتعلن
وهي أقرب إلى بحر المُقْتَضَب ، سُمِّي بذلك لاقتضابه، وأصل تفاعيله:
مفعولاتُ مستفعلن مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن مستفعلن
إلاَّ أنه لا يُستعمَل إلاَّ مجزوءاً، نلاحظ هنا أيضاً أنَّ المُقْتَضَب ازداد اقتضاباً..!
مثال الغنَّاوة المكوَّنة من تسع كلمات:
مِن خَوْف قَول وَيْن تريد هَوِيْد لَيل للدَّار ننْسرِق.
"سليمان الشرّيمة"
في اللسان (هود): (الهَوَادة: السكون)، ولاحِظْ جمال الإيقاع: خَوْف قَول، وَيْن تريد، هَوِيْد لَيل، وهذه الغنَّاوة أقرب إلى بحر المُتدارَك، وهو البحر الذي تداركَه الأخفش الأوسط تلميذ الخليل بن أحمد ، ووزنه التام:
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
ويصبح وزن الغنَّاوة:
مِن خَوْف قَول وَيْن تريد هَوِيْد لَيل للدّار ننْسرِق.
فاعلْ فعلْ فعلْ فاعلْ فعلْ فاعلْ فاعلْ فعلْ
هنا كذلك خرجت الغنَّاوة عن البحر.
مثال الغنَّاوة المكونة من عَشْر كلمات:
العَقل مِن خَطا لَوْلاف إن ضاع ضاع وإن عاش عَ العَدَم.
"سعد خليفة" من مُميِّزات شِعْر العَلَم أنه خالٍ من الضرورة ، لأنه بيت واحد، والضرورة مهما قيل فيها تظلُّ عيباً يعتري الأنواع الأخرى من الشِّعْر العامِّي، بل حتى الشِّعْر الفصيح ، فالشاعر يُضطَرّ ـ أحياناً ـ إلى ملاءمة القوافي ، فيلوي أَعناق الكلمات ، يترك كلمة أكثر دلالة، ويأتي بكلمة أخرى لضرورة القافية ، أو حسب تعبير الصادق النَّيْهُوم: (الوزن ـ في العادة ـ يُرغِم الشُّعراء على ابتلاع كثيرٍ من الأشياء المُدهشة )، وهذا ما لا يُضْطَرُّ إليه شاعر العَلَم.
غنَّاوة العَلَم من المرونة بحيث تكون قابلة لتناول أي موضوع، فهي تتَّسع في أغراضها حتى تُصبح قانوناً، فالقانون القديْم القائل: (العينُ بالعين، والسِّنُّ بالسِّنّ، والبادئ أَظْلَم) ـ وهو أصلاً نَصٌّ دِيْنِيٌّ ـ صِيْغَ في غنَّاوة عَلَم:
العَيْن هي سلاك العَيْن والنَّاب ناب والبادي اَظْلَم.
بل تتسع غناوة العَلَم حتَّى لقواعد النحو، على غِرار ما فعل ابن مالك في أَلفيّته المشهورة، فقد حاولتُ وصديقي (إبراهيم سعد مجيد) أستاذ اللغة العربية، أن نصوغ بعض قواعد النحو على شكل غناوي عَلَم، ففي النحو العربي الفاعل دائماً مرفوع، ويجب أن يتأخَّر عن فعله، لأنَّه إذا تقدَّم عليه يُعْرَب مبتدأً، فحاولنا صياغة هذه القاعدة في غنَّاوة عَلَم:
الفاعِل ايْجي مَرْفُوع ورا الفِعل ما راه يسْبقَه.
من المرونة أيضاً أنَّ بعض الغناوي يُمكن إعادة ترتيب كلماتها دون أن يختلَّ وزنها أو معناها:
ملاج خاطري سَيَّات تستِيْف كَيْف ما كان بالغَلا.
"بالقاسم الغزالي"
بتعديل بسيط في ترتيب الكلمات تُصبح:
ملاج خاطري تستِيْف سَيَّات كَيْف ما كان بالغَلا.
وقول عبدالله ارْدانُو:
هَفَّوْنِي غْطاي عَزَقْت تطْوِيْحة عَلَيْ طُول حَدْفتِي.
يُمكن إعادة ترتيب كلماتها:
هَفَّوْنِي عَزَقْت غْطاي تطْوِيْحة عَلَيْ طُول حَدْفتِي.
وقد قال: عَزَقْت تطْوِيْحة، فأناب تطْوِيْحة عن عَزْقَة، لأَنَّها في معناها، وهو ما يُعرَف في العربية بنائب المفعول المُطْلَق ، لأَنَّ الأصل في المفعول المُطْلَق أن يأتي من نفس مادة الفعل: عَزَقْت عَزْقَة.
في كلامنا اليوميِّ الكثير من أوزان العَلَم ، فأنت عندما تُنادي صديقك قائلاً: (تعال هَنا يا مسعود) مثلاً، فهذه الجملة جاءت على وزن الرَّمَّة الأولى لغنَّاوة عَلَم، وهذا الوزن جاء بشكل تلقائي ، أو تقول لجارك: (عَطيْنِي اشْوَي دقيق)، أو(خذ معاك كيس الملح) مثلاً، فهذه أوزان عَلَم دون أن تقصد ، بل قد يأتي وزن غنَّاوة كاملة أيضاً بشكلٍ عَفْويٍّ كما حدث مع الشاعر والراوية (حسن دربال) حين سُئل عن بعض المستندات فقال: (واتيات عَ التوقيع يريدَن سعيد يشِيلهِن)، ثم ضحك، فقد أدرك بحِسّ الشاعر أنه صاغ وزن غنَّاوة كاملة دون أن يقصد:
واتْيات عَ التَّوقِيْع يرِيْدَن سعِيْد يشِيلهِن.
بالطبع هو كلام جاء على الوزن فقط ، سواءً أكان تامًّا أم ناقصاً، ما قصدْناه من الأمثلة السابقة هو أنَّ الغنَّاوة أقرب أنواع الشِّعر إلى كلام الناس اليوميِّ ، وهذا بالطبع لا يُقَلِّل من أهمِّيتها ، بل على العكس ، فهذا جعلها أغنية الناس اليوميَّة ، الأغنية الأكثر شعبيَّة.
من جماليَّات بناء غنَّاوة العَلَم أيضاً ما سنحاول استشفافه في الغناوي التالية:
الصَّبْر خَيْر واشْوَى ذَنْب واَكْثَر جمِيل واَوْلَى م البكا.أحد الأَسرار الجمالية لهذه الغنَّاوة أنها تتكون من أربعة أخبار لمبتدأ واحد: (الصَّبْر خَيْر، اشْوَى ذَنْب ، اَكْثَر جمِيل ، اَوْلَى م البكا)، وهذا يُسمَّى في البلاغة العربية: الْجَمْع ، وهو اجتماع عِدَّة أشياء تحت حُكْم واحد ، فقد جَمَعَ الشاعر بين: خَيْر، واشْوَى ذَنْب، واَكْثَر جمِيل ، واَوْلَى م البكا ، تحت حُكْم الصبر ، وهذا الجمال في القرآن الكريم (الكهف46): {المالُ والبنونَ زِيْنةُ الحَياةِ الدُّنيا}، فقد جمع بين المال والبنون تحت حُكم واحد، وهو (زِيْنةُ الحَياة الدُّنيا).
***
مَمْشَى بعِيْد واَمْسَى لَيل وانْظَرْي دَفْر ولْواي منْقطِع.
"فتحي إدريس"هذه الغنَّاوة عبارة عن أربع جُمَل قصيرة، واحدة فعليَّة وثلاثٌ اسميَّة، وهذا سِرّ جمالها الشَّكْليّ ، هذا يُسمَّىَ (التَّفْوِيْف) في البلاغة العربية، وهو من قولهم: ثَوْبٌ مُفَوَّف، وهو الذي يكون من لونٍ واحد ثُمَّ يُخالطه لون أبيض، في اللسان (فوف) : (الفُوْف: البَيَاض الذي يكون في أَظْفار الأَحداث ، ومنه قِيل: بُرْدٌ مُفَوَّف، والفُوفَة: القِشْرَة الرقيقة تكون على النَّوَاة، وهي القِطْمير أيضاً)، والتَّفْوِيْف هو أن تأتي المعاني الْمُتلائمة في جُمَل مُستوية المقادير أو مُتقارِبَة: مَمْشَى بعِيْد ، اَمْسَى لَيل ، انْظَرْي دَفْر ، لْواي منْقطِع ، ثُمَّ لاحِظْ هذه التراتبيَّة: بعِيْد، لَيل، دَفْر، منقطِع.
***
مشَى خَبِيْر جا بالقَوْد وطَى اَوْهام شاوي دَبُوهِن.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
هنا نوع من التراتُبيَّة: ( مشَى خَبِيْر، وطَى اَوْهام، جا بالقَوْد)، لكنَّ التراتُبيَّة قد تبدو نوعاً من الهندسة ، لذلك قام الشاعر بكسر هذا الْمَنْطِق الحادِّ، فقَدَّمَ وأَخَّرَ ، وجاء بالْمُسَبَّب (النتيجة) قبل السَّبَب، فالْمُسَبَّب هو: جا بالقَوْد ، والسبَب هو: وطَى اَوْهام، وهذا ليس غريباً على شاعر في قامة عبدالفتَّاح العَقيبي ، يُحافظ على التقاليد الصارمة للغنَّاوة ، تعامله مع الشِّعْر فيه شيءٌ من القداسة ، وتأَمَّلْ جمال الإيقاع: مشَى خَبِيْر، جا بالقَوْد،وطَى اَوْهام.
***
حَتَّى والْخَطا وَجَّاع وَرَّاكَن الصَّاحِيْب م العْدا.
"عاشور بوجازية"
هذا يُسمَّى في البلاغة العربية (حُسْن التَّعْليل)، حيث تُسَوَّغ الأشياء المذمومة عادةً بنوع من التَّعْليل، فالخطا مذموم، لكنّ الشاعر هنا علَّل أهمِّيته: وَرّاكَن الصّاحِيْب م العْدا، ومثله في الشِّعْر العربي الفصيح:
جَزَى اللهُ الشَّدائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
بِها عَرَفْتُ صَدِيْقِيَ مِنْ عَدُوِيّ.
وكذلك قول محمد بن وهيب الْحِمْيَري:
تفاريقُ شَيْبٍ في السَّوادِ لَوَامِعُ
وما خَي راجل يعجبك لَيلٍ ليس فيه نجُومُ.
فالشَّيْب مَذموم عادةً، لكنَّ الشاعر هنا جعله نوراً وزينة.
من حُسْن التَّعْليل كذلك قول دعبل الخُزاعي:
أُحِبُّ الشَّيبَ لَمَّا قيلَ ضَيفٌ لِحُبِّي لِلضُيوفِ النازِلينا.
***
الـــدّار بالبــكا رَضَّيْت طرْحِيْها وفيها وقَبلها.
"عبدالكافي البرعصي"
هنا تفصيل الْمُجْمَل، فقد ذكَرَ الرِّضَى: رَضَّيْت، ثُمَّ فَصَّلَه: طرْحِيْها وفيها وقَبلها.
***
عَلَيْ كلّ حال اغْلِبْت نرْقِد انْحَلَم نَوْعَى يْخايلُوا.
"خليفة غيث"
الجمال هنا هو تتابع خمسة أفعال: اغْلِبْت نرْقِد انْحَلَم نَوْعَى يْخايلُوا، والأفعال الأربعة المضارعة تفُيد الاستمرارية، كأنَّها تحمل معنى الشرط: نرقِد انْحَلَم نَوْعَى يْخايلُوا.
***
طبِيْبه يقُول اخْذُوْه يطُول هَله ما يطُول عَجّلُوا.
"عثمان ميلاد"
هنا أيضاً تتابع ثلاثة أفعال: يقول اخْذُوه يطُول، وجاءت الأفعال بهذه التراتُبيّة: مضارع/ أمر/مضارع.
***
تْقُول يَشْغَلَوا في العَيْن ايْجُوا بعِيْد ويْخايلُوا لْها.
هنا أربعة أفعال ، وفي رواية:
اعْزاز يَشْغَلَوا في العَيْن ايْجُوا بعِيْد ويْخايلُوا لْها. هنا الأفعال الثلاثة المُضارعة: يَشْغَلَواَ /اِيْجُوا /يخايلُوا ، وُزِّعت على مسافات متساوية تقريباً، وجاءت كُلُّها بصيغة الجَمْع، وهذا جمال بصري وسمعي، إن صَحّ التعبير.
***
كماه ذَيْبله رَدَّاه اجْحده صاف شاكَى به اوْحِل.
هذه الغنَّاوة مُكَوَّنة من سبعة أفعال ماضية مُتتالية، وبتراتُبيّة، وهو شيء لا يحلم به حتَّى (عبدالقاهر الجُرْجاني)،! ومن المعروف أنَّ الفِعل حركة، ومِن ثَمَّ فهذه الغنَّاوة تُقدِّم مَشْهَداً غنِيًّا بالحركة، وهي قريبة إلى حَدٍّ ما من مَجْزوء الهزج ، فيصبح وزنها:
مفاعلْ مفاعيلن مفاعيلن مفعيلن
***
بِنْية غنَّاوة العَلَم
( 3 ـ 3 )
بقلم: أحمد يوسف عقيلة
ماهانِي عَزيز اسْنِيْن واخْتام الغَلا قال قِيلنِي.
"عبدالكافي البرعصي"
هنا نوع من التراتُبيّة الخَفِيّة: ماهانِي، عَزيز اسْنِيْن واخْتام الغَلا، قال، أي: فِعل/أربعة أَسماء/فِعل، ماهانِي: مِن الْمّاهاة، في الفُصْحَى: المُماهاة، وهي المُماطلة، والرمّة الأولى بها ثقل.
***
نْذاري معَا لَيّام بشْواش نَيْن ياك يلايْمَن.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
هذه الغنَّاوة تبدأ بفعل مضارع، وتنتهي بفعل مضارع: نْذاري/يلايْمَن، فالكلام محصور بين فعلين، ومن المعروف أنّ الفِعل حركة، فالحركة هنا في الأَطراف وهو جمال شكلي.
***
أَيّام قَبل داير عَزْم كبِيْر للَوْهام وغَيْرهِن.
"عبدالله اردانو"
عَزْم كبِيْر: موصوف وصفة، الموصوف في آخر الصدر، والصفة في أوَّل العَجْز.
***
نهارة ودَاع عَزيز مْرار والملاقَى كَيفّا.
"أبوبكر الصّعقار"
لاحِظْ خلُوّ الغنَّاوة من الأَفعال، أي من الحركة، وهو يناسب الموقف، فهو موقف عجز، والجمال أيضاً أن يكون الوداع واللقاء بنفس الدرجة من المَرارَة.
***
دقايق معا لَوْلاف سْنِيْن الشّقا طارْداتّا.
"محمد البزاري"
الضمير في (طارْداتّا) في الظاهر أنّه يعود على (دقايق)، أم لعلَّه يعود على (سْنِيْن)،؟ الجمال هنا في الغموض، ويجوز أن يقول: طارْدَاتِّن، دون اختلال في الوزن.
***
ودار العَزيز اهلَبَن سوايا اَنْظاري بَرضْهِن.
"موسى بونقاب"
جمال هذه الغناوة في الغموض أيضاً، دار: ليست الدّار بمعنى المكان، بل هي فعل: دار يدِيْر، بمعنى فَعَل، (دار سوايا).
***
البارِح شكَيْنا له بما دار مَرْهُون في الغَلا.
"فتحي إدريس"
كذلك هنا، البارح هي الليلة البارحة، والبارح أيضاً هو الْمجنون، والمعنيان جائزان، والهاء في (له) تعود على (البارح) بمعنى الْمجنون، ويصحّ أيضاً أن تعود على (مرهون) إذا كان (البارح) بمعنى الليلة الفائتة.
***
أَنْظاري لْدار عَزِيْز وَدَّيتِّن وما وَدَّيتِّن.
"فتحي إدريس"
جمال هذه الغنَّاوة في الجِناس التامّ: وَدَّيتِّن وما وَدَّيتِّن، (وَدَّيتِّن) الأولى مِن (يوَدِّي) بمعنى يوصِّل، (وَدَّيتِّن) الثانية من المَوَدَّة، وفي القرآن الكريم (الروم55): {ويَوْمَ تقُومُ الساعةُ يُقْسِمُ الْمِجْرِمونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعة}، الساعة الأولى هي القيامة، والساعة الثانية هي ساعة الزمن.
***
لْعَيْنِي نظَر في هَلِك اِن جَوا انْجي اِن ما جَوا ما انْجي.
انْجي: ليست من الْمجيء بل من النجاة، أي: انْجي العَقل، والذي يوْهِم أنها من الْمجيء هو الفعل قبلها (جوا)، وقد اعتمد الشاعر على الجناس التامّ بين (انْجي) من الْمجيء و(انْجي) من النجاة، وهذا الغموض منح هذه الغناوة جمالها في المعنى والشكل.
***
م الياس وَيْن بَيْت غَلاي مكَانه خَلا مُوْحِش اخْلِي.
"محمد البزاري"
خَلا مُوْحِش اخْلِيْ: هذا ما يُسمَّى في البلاغة العربية: الإيغال، وهو أحد أنواع الْمُبالَغَة، قال: خَلا، ثُمَّ وَصَفَه بأنَّه (مُوْحِش)، ثُمَّ أَوْغَل وأَغْرَق في المعنى: اخْلِي.
***
رهِيْن يا العَيْن الياس ينْقال له اللي بايت غَنِيْ.
"أبوبكر الصعقار"
في هذه الغنَّاوة فصل بين المضاف والمضاف إليه: رهِيْن الياس، بالنداء: يا العين.
***
مَكْبُورة اصْحاب غَلاه العَقل جال ما جا الاّ بْها.
"أبوبكر الصعقار"
هنا نيابة الصفة عن الموصوف، فكلمة (مكبورة) صفة لازمة للنار، فأغنى ذِك راجل يعجبكها عن الموصوف.
***
عجايب سقاته نار منها العقل ما فيه ناجية.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
فِي هذه الغنَّاوة تَوْرِيَة، والتَّوْرِيَة: أن يُذْكَر لفظٌ له معنيان، معنى بعيد، ومعنى قريب، ويكون المعنى البعيد هو المقصود اعتماداً على قرينة خَفيّة، وأَصل كلمة (التَّوْرِيَة) من الوراء، أي تُخفي الشيء وراءك وتُظْهِر غيره، في العَيْن واللسان (وري): (وَرَّيْتُ الخَبَرَ أُوَرِّيه تَوْرِيَةً إذا سترته وأَظْهرت غيره، كأنَّه مأْخوذ من وراء الإنسان، لأنَّه إذا قال ورَّيته فكأنّه يجعله وراءه حيث لا يظهر)، وفي هذه الغنَّاوة: عجايب وناجية امرأتان، والتَّوْريَة في كلمة (ناجية)، فالمعنى القريب أنها من النَّجَاة، لكنّ الشاعر يقصد امرأة تحمل نفس الاسم، ويُمكن أن يكون في (عجايب) أيضاً تَوْرِيَة، إذا قَصَدَ التعجُّب.
***
اطّاوَل تناسَيْنا الهَجَر يا اقْدِم بَيْناتْنا.
"سعد خليفة"
اطّاوَل تناسَيْنا: من الأَوزان النادرة في غناوي العَلَم، والكلمتان: اطّاوَل تناسَيْنا، بهما الكثير من حروف المَدّ للتعويض عن قِلّة الكلمات، وهي على مَجزوء الهزج، ووزنها:
اطّاوَل تناسَيْنا الهَجَر يا اقْدِم بَيْناتْنا.
مفعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفعيلن
على الرغم من قُرْب أوزان غنَّاوة العَلَم من بحور الشِّعْر العربي المعروفة، إلاَّ أنَّه لا يمكن الجَزْم بصحّة هذه الصِّلَة كما مَرَّ بنا من أمثلة، وأَميل إلى أنَّ أوزان العَلَم مُستقِلَّة، لها كيانها وإيقاعها الخاصّ، وهي على كُلّ حال ليست في حاجة إلى هذه المَرْجَعيّة، ولا إلى سَنَد أو رُخصة من الخليل بن أحمد، وهذا يذكّرنا بقول الشاعر أبي العتاهية: (أنا أكبر من العَروض)، ومادامت الغنَّاوة تُؤدَّى بتنغيم صوتي (تُغَنَّى)، فستحتفظ بإيقاعها، لأَنّ الغناء يفضح أي خَلَل في الإيقاع.
***
صعِيْبة امْداوَاته غَلاك جَرْح في العَيْن بِيْدها.
صعِيْبة امْداوَاته: كلمتان أيضاً بهما ثلاثة أحرف مَدّ، فكأنّهما في المساحة ـ مساحة النُّطق والكتابة ـ أكثر من كلمتين.
***
كمَيْتْ عَبْرتِي وارَيْت طرَوْهم اَنْظاري رَقْرقَن.
"عبدالفتّاح العقِيبي"
كمَيْتْ عَبْرتِي وارَيْتْ: تأَمَّل الموسيقا في هذه الرّمَّة، ولاحِظْ أنّ كلمة (عَبْرتِي) في المعنى مفعول به للفعلين: كمَى/وارَى، بمعنى: كمَيْتْ ووارَيْتْ عَبْرتِي، أي يتنازعها الفعلان، وإن كان التنازع يقتضي سَبْق الفعلين معاً، لكننا هنا نقصد المعنى وليس التركيب النحوي.
***
تناير سداه وباد وفات لَجل يا عَيْن عَ الغَلا.
تنايَر: تهَلْهَل، تأمّل الموسيقا: سداه وباد وفات.
***
معَا عَزِيْز ماني هَنا امْغَيْر هو خَيالي بَيْنكَم.
"سعيد يحيى"
قال: معا عَزِيْز، ثُمَّ أَضاف: ماني هَنا، لتأكيد الغياب، أي: أخْبَرَ ثُمَّ أكَّدَ الخبَرَ بنفي الضِّدّ، وهو ما يُسمَّى: (تأكيد الإيجاب بالنفي).
***
درَس حْصاد بَذْر اِيْدَيْه يستاهَل اللي جاه خاطْري.
"عثمان ميلاد"
درَس حْصاد بَذْر اِيْدَيْه: جَمَعَ دورة الزَّرْع: (البذر والحصاد والدراس) في رمَّة واحدة،! وقد رتّبَها عَكسيًّا: (الدراس/الحصاد/البَذْر)، وهو ترتيب منطقي، وهذا غاية في الاختزال.
***
نمْشِي له بعِيْد قرِيْب أَيّام والغَلا فِيْه نَوفْته.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
في هذه الغنَّاوة طِبَاق بين كلمتي: قرِيْب وبعِيْد، والنَّوفَة: الهَيْبة والزيادة وعلوّ الْمنْزلة، في المُحِيْط واللسان (نوف): (نافَ الشيءُ نَوفاً: ارتفع وأشرف، النَّوْف: العُلُوّ والارتفاع، والنَّوْفُ: السنام العالِي، ومِن نافَ يُقال: مائة ونَيِّف، بتشديد الياء، أي زيادة).
***
فجاوِي الغِرّ عَلَيك عَزيز قَبل يا عَيْن سادّهِنْ.
الجار والمَجْرور (عَلَيك) مُتَعَلِّق باسم الفاعل: (سادّ) الذي جاء في آخر الغنَّاوة، أي:
سادّهِن عَلَيك، وبُعْد الحرف عن مُتعَلَّقه يجعل السامع في حالة ترقُّب، فهو يُجبَر على الإصغاء إلى آخر لحظة، ويجوز هنا أيضاً أن يكون الجار والمجرور (عَلَيك) مُتعلِّقاً بالمصدر: الغِرّ.
***
غَيّات ما وراهِن دنُو ايْعَمَن غَيْر جازَيتِك بْهِن.
"أبوبكر الصَّعقار"
قد لا تُذْكَر العَيْن باللفظ، بل بضمير الغائب، لكنّها معلومة بالضرورة، هذا نوع من الإيجاز، فعَدَم ذِكْر (العَيْن) هنا هو ما يُسَمِّيه البلاغيُّون: الاحتراز مِن العَبَث، والمَقصود أنَّ ما قامت عليه القَرِيْنة، وأصبح معلوماً بالضرورة، فذِكْره يُقَلِّل من قيمة الكلام البلاغية، وبعض شعَراء العَلَم ـ للأسف ـ لا يتنبَّهون لمثل هذا الأمر، فأحياناً تُذكَر ألفاظ وقرائنها موجودة، وهذا يجعل بعض النصوص مُترَهِّلة.
***
عَزيز عاب عابَيتِيه انْسِيتِيه وانْسِيك اسْكتِي.
هنا أيضاً الخطاب للعَيْن، ولاحِظ الموسيقا في الرمّتَيْن، فالكلمات الثلاث الأولى تبدأ بحرف العين، والكلمات الثلاث الأخيرة تشترك في حرف السين.
***
نَلْقان فَقْدتي لْعَزِيْز تكْمِيْضَة عَلَيْ نار ما طْفَتْ.
"سليمان الشرِّيمة"
قول الشاعر: ما طْفَتْ، احتِراز، فلو قال: تكْمِيْضَة عَلَيْ نار فقط، فقد يتبادَر إلى الذِّهْن أنّها ستنطفئ.
***
لفَى عَزيز باهي قلْت بَكّاهِن وفي حاله مشَى.
"أبوبكر الصعقار"
هنا ما أُسَمِّيْه: الإيقاع الْمُرَكَّب، ففي هذه الغنَّاوة أربعة أفعال ماضية وُزِّعت بين رمَّتَيّ الغناوة، فعلان في كل رمَّة: (لفَىَ/قلْت، بَكّاهِن/مشَى)، والأفعال مع بعضها تُعطي وزن الرمَّة الثانية للغنَّاوة: (لفَىَ قلْت بَكّاهِن مشَى)، فهو (إيقاع داخل الإيقاع).
***
سَيّاتَك تماضَن فيه اصْعِب ارْضاه لُو جازَيْت به.
الأفعال الثلاثة الماضية الواردة في هذه الغنَّاوة: تماضَى/اصْعِب/جازَى، وُزِّعت بشكل متوازن على نسيج الغنَّاوة، فِعل بعد كُلّ كلمة تقريباً، وهذا الجمال ليس في الشكل فقط، بل له علاقة بالموسيقا، فهو أيضاً إيقاع مُرَكَّب: تماضَن اصْعِب جازَيْت، أي وزن الرمَّة الأُولى للغنَّاوة، فهو موسيقا داخل الموسيقا، وتمَاضَى: أوغل في الذهاب، في اللسان (مضى): (مَضَى وتَمَضَّى: تقدَّم).
***
لَذْعات سُوْد كَيْف البَصْم اتْركَتْ في فوادي نارْهم.
"محمد البزاري"
فوادي: فُؤادي، تأَمَّل جمال التركيب، فأوَّل كلمة في هذه الغنَّاوة هي المفعول به: لَذْعات، وتأخَّرَ الفاعل إلى آخر الغنَّاوة: نار، واحتَلَّ الفعل موضع الوسط: اتْركَتْ، وتقديم المفعول به هنا للأهمية، وأصل ترتيب الكلام: اتْركَتْ نارهم لَذْعات، وقد جاء على وزن الرمَّة الأولى للغنَّاوة.
***
غنَّاوة العَلَم غنِيّة بالإيقاعات من خلال الجُمَل القصيرة المُتلاحقة، والتي تأتي أحياناً كثيرة بشكل تراتُبِي، إضافة إلى الغِنَى بالمَشْهَديّة والصُّوَر الحيّة النابضة، والابتعاد عن الإنشائية والثرثرة، ومُحاولة الوصول إلى المعنى المُراد بأقصر الطرق، ولكن مِن أين ينبع الشِّعْر في غناوي العَلَم،؟ هل ينبع من المعنى،؟ هل ينبثق من الفِكْرة،؟ أم من الإيقاع والموسيقا الداخليّة،؟ أم من تلاحم كل هذه المقوِّمات،؟ (الشِّع راجل يعجبك لُغة داخل اللغة) كما يقول (فاليري)، إنَّ المعنى مهما كان عميقاً، والفِكرة مهما كانت مُبتكَرة، لا يمكن لهما أن يصنعا غنَّاوة دون إيقاع أو موسيقا داخليّة شفّافة، ولا أتحدَّث هنا عن أوزان أو قوافٍ، بل أتحدَّث عن موسيقا تُحَسّ، ولننظر إلى قول الشاعر سالم حمد هويدي الذي أوردناه سابقاً في التقديم والتأخير:
يقُول غَفِي ساع يْجُوك هَوّايْها خَذا لَيله وهُو.
فإذا رتَّبْنا الكلام ترتيباً عاديًّا دون الحفاظ على الإيقاع يكون: خَذَا هَوّايْها لَيله وهُو يقُول ساع يْجُوك، غَفِي، فعلى الرغم من بقاء الفِكرة والألفاظ إلاّ أنَّ ضياع الإيقاع الداخلي أفقد الكلام ومضته الشِّعْرية، ونحن نقول عن الغنَّاوة الْمُختلَّة الإيقاع بأنّها ليست غنَّاوة، إنَّ شِعريّة الكلمات تُكتَسَب من التركيب والسياق والإيقاع، فليست هناك كلمة شِعْريّة أوغير شِعْريّة في ذاتها، في سِياقٍ مُعَيَّن تُضيء الكلمات، ونفس الكلمات تنطفئ في سِياقٍ آخر، فمِن أين يأتي ضَوءُ الكلام،؟
يقُول غَفِي ساع يْجُوك هَوّايْها خَذا لَيله وهُو.
الموسيقا هنا مُجنَّحة، ليست صاخبة حادّة كأوزان الخليل، بل شَفّافة، شفافيّة تكفي لانتشال الكلمات من ابتذالها اليومي.
***
ممآ قرآت وأعجبني واتمني ان ينال اعجابكم
لكل واخواتي اعضاء وزاور .. خصيصآ محبي الشعر الشعبي
احببت ان اهديكم هذا الموضوع الذي أثار اعجابي .. واتمني ان ينال اعجابكم كذلك
بِنْية غنَّاوة العَلَم
(1 ـ 3)
شاعر العَلَم ليس مُجرَّد شاعرٍ ، فهو لا يكتفي بالتأليف فقط ، بل يؤدِّي بيت الشِّعْر، أي أنه ليس مُجرَّد إلقاء ، بل غِناء بتنغيم صوتي مُعَيَّن ، وقد ارتبط هذا الشِّعْر بالغِناء ، حتى سُمِّي هذا البيت الواحد غنَّاوة ، ونسي كثير من الناس أنها شِعْر ، فإذا لم تكن غنَّاوة العَلَم شِعْراً فما هو الشِّعْر .. ؟! فالأصل في الشِّعْر أنه أغنية كما قال الناقد والأديب والشاعر خليفة التلّيسي: (الشِّعْر لحن هارب ، وأغنية قصيرة).
وللتعبير عن تأليف الغنَّاوة عدَّة أفعال ، لكنِّني فضَّلتُ الفعل (يَزْرَع)، فله دِلالته ، فُيقال: فلان يزرع الغنَّاوة، أي يُؤلِّفها، وفلان يحفظ فقط ، أو يروي ، ويُقال: فُلان يبَيِّت ، أي لا يرتجل الغنَّاوة ، بل يزرعها قبل الحضور إلى المناسبة ، فتكون جاهزة ، وكلّ شطر من شطرَيّ الغنَّاوة أوالشتّاوة يُسمَّى (رمَّة) ، جاءت التسمية من أَرمام البيت ، وهي الحِبال التي تشدَّه ، وهذا يُماثِل تسميات عَروض الشِّعْر العربي ، حيث أُخِذت من البيت، فقِيْل: عمود الشِّعْر ، بيت مِن الشِّعْر، إلخ.
هناك كلمة في الغنَّاوة تُسمَّى (القَفْلَة) ، تدور حَولها الغنَّاوة كما تدور الرَّحَى حول قلبها ، وهي لا تُعرَف أثناء الأداء إلاَّ في آخر مقطع ، فالشاعر الغنَّاي يبدأ الغنَّاوة من نهايتها ، ثم ينتقل إلى أوَّلها ، ويعود مرّةً أخرى إلى نهايتها، يبدأ من نقطة مُعَيَّنة ثُمَّ يعود إليها، كأنَّه يتحرَّك على محيط دائرة، يتأرجح على مُرتَكَز غير مرئي وهو (القَفْلة) ، وهو يتجنَّب هذا المِفْصَل عن قَصْد ، فهذا في أصول أداء الغنَّاوة ، ثم في المقطع الأخير يأتي بالكلمة الناقصة التي لا يتمُّ المعنى إلاَّ بِها ، وهي تأتي كنوع من المفاجأة ، وهي الرابِط وواسطة العِقْد ، وهذا يجعل السامع في حالة ترَقُّب إلى آخر لحظة ، فهو يدخل في باب ( لَفْت السمْع ) ، بالإضافة إلى التشويق ، فنحن عندما نُنصت إلى الشاعر الغنَّاي ، نحاول معرفة (القَفْلة) واستباق الشاعر في إتمام الغنَّاوة.
يقول الشاعر عبدالكافي البرعصي:
العَقـل نارهـم لَوْلاف قدَّامه وراه وبَجَّـدَت.
القَفْلَة هنا هي كلمة (قدَّامه) ، وهي من القفلات الْمُميَّزة لأنَّها غير مُتوقَّعة، والقَفْلة دائماً هي أوَّل كلمة في الرَّمَّة الثانية ، ومن الأشياء التي تُميِّز شاعراً عن آخر حُسْن وجودة القَفلة ، بَجَّدَت: كثرت وانتشرت ، في الْمُحيط واللسان (بجد): (عَلَيْه بَجْد من الناس، أي جماعة، وجمعه بُجُود، والبَجْد من الخيل مائة فأَكثر، الْمَبْجُود: الْمَنْثُور).
من القفلات المُمَيَّزة أيضاً قول الشاعر عبدالفتَّاح العَقيبي:
عَ الصَّوْب كان تاب العَقل انْخـافَه الاّ زامِق زمَق.
انْخافَه: قَفلة وتَتِمَّة غير متوقَّعة.
من القَفْلات الجميلة كذلك قول الشاعر محمد البزَاري:
غَنْـواهم وقرْب الـدَّار تهفـاية عَلَــيْ نار الغَلا.
هذه الغنَّاوة ليس بها أي فعل ، وكلمة (تهفاية) هي التي منحت هذه الغنَّاوة جمالها وعَمَّقت معناها، والتهفاي حركة، والْحركة تُضْفي بُعداً جَمالياً آخر على الْمَشْهَد، وهذا ما جعل أبا العلاء المعرِّي يقول:
أبَكَت تِلْكُمُ الحَمامةُ أم غَنَّت على فَرْعِ غُصنِها المَيَّادِ.
فكلمة (الْمَيَّاد) لا تُضيف معنىً جديداً ، جاء بها الشاعر فقط لإحداث حركة في المَشهد.
إذا كانت غنَّاوة محمد البزاري خالية من الأفعال ، فغنَّاوة علي طاهر حَوّا التالية بها فعل واحد وهو يُشكِّل القَفْلة:
العَيْن عـــذرْها مَقْطُوع اصْعِب عزيز مَو يَوم صَبْرها.
فالفعل الوحيد هو: اصْعِب. ***
غَـلاي وَيْن دار اَثْمار جَنَـــوْه ناس ما نالَوا شقا.
هنا أيضاً الفعل يُشَكِّل القَفْلة، وإن لم يكن الفعل الوحيد، وحَرف الأَلف المُتكَرِّر في هذه الغنَّاوة سبع مَرَّات أَضفَى عليها الكثير من الموسيقا، وقد جاء الأَلف في كلمات: غلاي ، دار ، اثْمار ، ناس ، ما ، نالَوا، شقا.
***
عَ العَيْن مَو فراق عَزيز الصّاعِب انْها مـــا وادْعَت. "محمد البزاري"
جمال هذه الغنَّاوة في القَفلة، وهي كلمة: الصاعِب ، وأصل الكلام: الصاعب عَلَىَ العَيْن مَو فراق عَزيز ،الصّاعِب انْها ما وادْعَت ، لكنَّ الشاعر استطاع أنْ يتخلَّص من التكرار.
كثيرٌ من الغناوي مُختزلة بطريقة أشبه بالبرقيَّات، وأنا أُسَمِّيها (الغنَّاوة البَرقيَّة)، وهي التي تكون خاليةً من حروف العطف ، ومن أمثلتها:
يرِيْدوا ارْضــا وَلْدَيْن عَـذارهم عَلَي ضَيْعة الغَلا.
"عبدالكافي البرعصي"
***
مَسْتُوْهَة نهار خَــطاه الناس نَيْن ــقالوا بعَزْمها.
"محمد علي المَرْضي"
***
اكْمَلَن كلّ يَوم عَذار أَصْواب كي مداييْن الفَلَس.
والأكثر اختزالاً ، الأقرب إلى شكل البرقيَّة ، الغناوي الخالية من حروف العطف والجر أيضاً:
مشَى العَقل شَوْر الدّار بيُوْض رقْعته نار جابْها.
"سليمان الشرِّيمة"
الرّقْعة: جلد الخروف ، يُستعمل لحفظ الدقيق ، وكانوا عندما يتلقَّون من جيرانهم أو أقاربهم بعض الدقيق أو الأرز أو ما شابَه ، لا يُعيدون الرَّقْعة فارغة ، بل يضعون فيها شيئاً من الأَكل ، فإن لم يجدوا شيئاً أعادوا فيها بعض الملح ، وذلك ما يُعرف بالبيُوض، ووضع الملح له دلالة خاصة ، فهو يرمز إلى العشرة الطيبة (الماء والملح).
إذا طالت القصيدة قَلَّ الشِّعْر ، أو كما يقول الشاعر الإنجليزي كولدرج: (إنَّ قصيدة على درجة مُعيَّنة من الطُّول لا يُمكن أن تكون كلُّها شِعْراً)، ويقول تشيكوف: (الاختصار شقيق الموهبة ، أَمّا بالنسبة للقصائد الطويلة ، فنعرف أَنَّها وسيلة أولئك الذين لا يستطيعون نظم قصائد قصيرة)، ويقول النفري: (إذا اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة)، وقال العرب قديماً في الاختزال: (يكفي مِن القِلادة ما أَحاطَ بالعُنُق)، فانظروا إلى هذه البرقيَّة المُختزَلة:
انْرِيْد نلْتفِت ما صدِتْ لَيَّام قَشْقلَة واخْذاتْنِي.
"سليمان الشرِّيمة"
هناك نوع من الغناوي يعتمِد على التلاعب اللفظي ، وهو ليس كثيراً ، فالشُّعَراء لا يهتمُّون به إلاَّ على سبيل التباري وإظهار التمكُّن ، وهو نوع من الاهتمام بالشَّكْل دون إغفال المُحتَوى ، من ذلك قول الشاعر عبدالكافي البرعصي:
رُوْحَيْن روحِّن في رُوْح قضَت الرُّوْح رُوْحَيْن موَّتَن.
ومنه كذلك قول الشاعر موسى بونقاب:
هَناك مَو هَنــا هاناك هَنِّيْه يا اللِّي بالَك هَنِي.
هَناك الأولى هي الهَناء.
ومن هذا الباب أيضاً قول الشاعر هاشم بومَيَّارة:
جفَا اجْفُونّا اجْفيان النَّوْم يا اللِّي نَوْمَك هَنِيْ.
من الاهتمام بالشكل هذه غنَّاوة ليس بها أي حرف منقوط:
ملَل ومَوْح دار دلال وَرّاك هَول ومْرار وردا.
"حفيظ النَّزَّال"
هناك غناوي تشتمل على تقديم وتأخير في ألفاظها، وذلك يمنح الغنَّاوة جَودةً في السَّبك ، وحلاوةً في الإيقاع ، كما أنه قد يكون ضرورياً لاستقامة الوزن ، مثال ذلك قول الشاعر أبوبكر الصعقار:
عَلَيْه نخطرُوا يا عَيْن قدِيْم الغَلا باهي اللِّي.
فبداية الغنَّاوة: باهي اللِّي ، أُخِّرت وجُعِلت في الختام.
وكذلك قول الشاعر:
يقُول غَفِي ساع يْجُوك هَوَّايْها خَذا لَيله وهُو.
"سالم حمد هويدي"
فترتيب الكلام هو: هَوَّايْها خَذَا لَيله وهُو يقُول غَفِي ساع يْجُوك ، لكنَّ الشاعر قَدَّم وأَخَّرَ.
وقول أبوبكر الصعقار:
عَزيز مَو اللي نَنْسَوه نَنْسَى نْقول عَيْني تقول لي.
أي: نقول نَنْسَى، تقول لي عَيْني: عَزيز مَو اللِّي نَنْسَوه.
وقول عبدالفتَّاح العَقيبي:
يَكْمَوا النار ويعِيْشوا يَلْقَوا عزُوْم يا عَوْنهم اللِّي.
ترتيب الكلام هكذا: يا عَوْنهم اللِّي يَلْقَوا عزُوْم ويَكْمَوا النار ويعِيْشوا.
وقول الشاعر خليفة غيث:
هَنْداب عَ البكا في الدَّار نَنْهَى أوْقات واوْقات نا اللِّي.
أَخَّر: أوقات نا اللِّي، وحَقُّها التقديْم ، لكنَّها هنا أحدثت إيقاعاً جميلاً ، خاصة بتكرار كلمة: أوْقات.
كذلك قول الشاعر ونيس المذْراب:
لَوْهام يا العَيْن انْخَطَوا اغْتاظَتْ عَلَيْ قَولتي لْها.
من حيث المعنى نجد أنَّ الرّمَّة الثانية هي البداية، والرّمَّة الأولى هي النهاية، لكنَّ الشاعرَ قَدَّم وأَخَّر.
وقول الشاعر هاشم بوميَّارة:
يَبْرا العَقل م اللِّي فِيْه انْجَبِّي به عَلَي دارهم ولا.
فترتيب الكلام هو: انْجَبِّي به عَلَي دارهم ولا يَبْرا العَقل م اللي فِيْه، ونُلاحظ أنَّ هناك ثقلاً في الوزن، ولو حذف الجار والمجرور (به) وقال: انْجَبِّي عَلَي دارهم ولا، لتخلَّص من الثقل.
من الإيقاع الجميل أيضاً أن تبدأ الغنَّاوة وتنتهي بنفس الكلمة ، كقول الشاعر أبوبكر الصعقار:
اللِّي الحال يرْعِي فِيْه نطْلِب جداه نا ماني اللِّي.
فقد ابتدأ الغنَّاوة وختمها بنفس اللفظة: اللِّي، وهذه الغنَّاوة في معنى المثل الشعبي: (اللي يحقَّك ما تَومِيله)، والجدا: العَطاء ، وأَصل الجَدا: المطر، في اللسان (جدا): (الجَدا: المطر العامّ ، أَجْدَى عليه يُجْدِي إذا أَعْطاه، واستَجْديتُه: أَتيتُه أَسأله حاجةً وطَلَبْتُ جَدْواه).
ليس من المألوف أن تَرِدَ كلمتا: عزيز وعَلَم في غنَّاوة واحدة، لأنهما لمخاطَبٍ واحد فعزيز هو العَلَم، وهذه غنَّاوة اجتمعت فيها الكلمتان، ولم نشعر بأنَّ هناك تكراراً أو ثقلاً:
خَلَّيْت يا عَزِيْز العَقل غَفُوْد يا عَلَم شاط عَ اللّبا.
كان يجب أن يؤنِّث الفعل (شاط) ويقول (شاطت) لأنّ (غفود) مؤنَّث، لكنّه ذَكَّره للحفاظ على الوزن.
بِنْية غنَّاوة العَلَم
( 2 ـ 3 )
بقلم: أحمد يوسف عقيلة
غنَّاوة العَلَم لها عدَّة أوزان ، ويُمكن تقطيعها عَروضيّاً أيضاً ، وعلى اعتبار أنَّها بيت واحد من الشِّعْر فقد تخَلَّصتْ من الْتزام القافية ، وهذا ـ في رأيي ـ أحد أَهم أسباب قوَّتِها، فمثال الغنَّاوة التي لا تتجاوز الخمس كلمات:
دِيْما خَلاوِي العَيْن عامْرات بمْهاياتّم.
بعض كلمات الغنَّاوة الخماسيَّة طويلة بعض الشيء ، وبها حروف مَدّ: خَلاوي ، عامرات ، مهاياتّم ، وذلك للتعويض عن القِصَر ، ويمكن تقطيع الغنَّاوة كالتالي:
دِيْمهخَـ لاَولْعَينْ عامْراتْبمْـ هاياتّم.
مفعيلُ مفعيلن مفعيلن مفعيلن وهذا الوزن أقرب إلى بحر الهزْج ، سُمِّي بذلك تشبيهاً له بهَزْج الصوت، أي باضطرابه، ووزنه الأَصلي:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
وهو يُستعمَل مجزوءاً بحذف تفعيلة من آخر كل شطرة ، لكن ما نُلاحظه هنا هو أنَّ الغنَّاوة تمرَّدت على هذا البحر، فمن التعسُّف نسبتها إلى بحور الخليل.
مثال الغنَّاوة المؤلَّفة من ست كلمات:
رحْلانِي لدار عَزِيْز يباتَن حَجِيْر ويجهْمَن.
"عبدالكافي البرعصي" الجهِيْم: قُبَيل الفجر، ووزن هذه الغنَّاوة:
فاعِلْتن فَعِلْ فعلاتُ فاعِلْتن فعلْتن فعلْتن
وهي أقرب إلى أن تكون على بحر الرمل ، ويُطلَق الرمل لغةً على الإسراع في المشي، وأصل وزنه:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
لكن ماذا بقي من تفعيلات هذا البحر،؟!
مثال الغنَّاوة السُباعيَّة:
متْواسْيات يَوم بيَوم أَيَّام عمْر عَيْنِي وياسّم.
"عبدالسلام بوجلاوي" في رواية: متساويات.
مثال الغنَّاوة المكونة من ثماني كلمات:
انْزلَوا فيه دار اخْيار حسَّاد عاكْسَوا راي خاطْري.
هذه الغنَّاوة تُحيلك إلى لُعبة السِّيْجة (الشِّيْزة)، وهي أن ينْزِل خصمك في (دار اخْيار) فيقتُل أحد كلبَيك لا محالة ، لأنك لا تستطيع ـ وِفْقاً لأصول اللعبة ـ أن تنقل كلبيك دُفعةً واحدة ، وكما هو معروف فإنَّ بَيادِق السِّيْجة تُسمَّى كِلاباً..!
مثال آخر:
غَلا عزيز حَدْر اَوْعار حتَّى العاقلة فيهن جرَت.
هذه الغنَّاوة تُحيلنا إلى مشهد الإبل حين تجري لاعبةً في المُنحَدَرات ، وإن لم يذكر الشاعر الإبل باللفظ ، وفي المثل الشعبي: (كَيْ الابل في الدَّرْدُوْحَة، اللي ما تَلْعَب تهِزّ راسَّا) ووزنها:
مفعْلتُ مفعلتن مفعلاتُ مفتعلن
وهي أقرب إلى بحر المُقْتَضَب ، سُمِّي بذلك لاقتضابه، وأصل تفاعيله:
مفعولاتُ مستفعلن مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن مستفعلن
إلاَّ أنه لا يُستعمَل إلاَّ مجزوءاً، نلاحظ هنا أيضاً أنَّ المُقْتَضَب ازداد اقتضاباً..!
مثال الغنَّاوة المكوَّنة من تسع كلمات:
مِن خَوْف قَول وَيْن تريد هَوِيْد لَيل للدَّار ننْسرِق.
"سليمان الشرّيمة"
في اللسان (هود): (الهَوَادة: السكون)، ولاحِظْ جمال الإيقاع: خَوْف قَول، وَيْن تريد، هَوِيْد لَيل، وهذه الغنَّاوة أقرب إلى بحر المُتدارَك، وهو البحر الذي تداركَه الأخفش الأوسط تلميذ الخليل بن أحمد ، ووزنه التام:
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
ويصبح وزن الغنَّاوة:
مِن خَوْف قَول وَيْن تريد هَوِيْد لَيل للدّار ننْسرِق.
فاعلْ فعلْ فعلْ فاعلْ فعلْ فاعلْ فاعلْ فعلْ
هنا كذلك خرجت الغنَّاوة عن البحر.
مثال الغنَّاوة المكونة من عَشْر كلمات:
العَقل مِن خَطا لَوْلاف إن ضاع ضاع وإن عاش عَ العَدَم.
"سعد خليفة" من مُميِّزات شِعْر العَلَم أنه خالٍ من الضرورة ، لأنه بيت واحد، والضرورة مهما قيل فيها تظلُّ عيباً يعتري الأنواع الأخرى من الشِّعْر العامِّي، بل حتى الشِّعْر الفصيح ، فالشاعر يُضطَرّ ـ أحياناً ـ إلى ملاءمة القوافي ، فيلوي أَعناق الكلمات ، يترك كلمة أكثر دلالة، ويأتي بكلمة أخرى لضرورة القافية ، أو حسب تعبير الصادق النَّيْهُوم: (الوزن ـ في العادة ـ يُرغِم الشُّعراء على ابتلاع كثيرٍ من الأشياء المُدهشة )، وهذا ما لا يُضْطَرُّ إليه شاعر العَلَم.
غنَّاوة العَلَم من المرونة بحيث تكون قابلة لتناول أي موضوع، فهي تتَّسع في أغراضها حتى تُصبح قانوناً، فالقانون القديْم القائل: (العينُ بالعين، والسِّنُّ بالسِّنّ، والبادئ أَظْلَم) ـ وهو أصلاً نَصٌّ دِيْنِيٌّ ـ صِيْغَ في غنَّاوة عَلَم:
العَيْن هي سلاك العَيْن والنَّاب ناب والبادي اَظْلَم.
بل تتسع غناوة العَلَم حتَّى لقواعد النحو، على غِرار ما فعل ابن مالك في أَلفيّته المشهورة، فقد حاولتُ وصديقي (إبراهيم سعد مجيد) أستاذ اللغة العربية، أن نصوغ بعض قواعد النحو على شكل غناوي عَلَم، ففي النحو العربي الفاعل دائماً مرفوع، ويجب أن يتأخَّر عن فعله، لأنَّه إذا تقدَّم عليه يُعْرَب مبتدأً، فحاولنا صياغة هذه القاعدة في غنَّاوة عَلَم:
الفاعِل ايْجي مَرْفُوع ورا الفِعل ما راه يسْبقَه.
من المرونة أيضاً أنَّ بعض الغناوي يُمكن إعادة ترتيب كلماتها دون أن يختلَّ وزنها أو معناها:
ملاج خاطري سَيَّات تستِيْف كَيْف ما كان بالغَلا.
"بالقاسم الغزالي"
بتعديل بسيط في ترتيب الكلمات تُصبح:
ملاج خاطري تستِيْف سَيَّات كَيْف ما كان بالغَلا.
وقول عبدالله ارْدانُو:
هَفَّوْنِي غْطاي عَزَقْت تطْوِيْحة عَلَيْ طُول حَدْفتِي.
يُمكن إعادة ترتيب كلماتها:
هَفَّوْنِي عَزَقْت غْطاي تطْوِيْحة عَلَيْ طُول حَدْفتِي.
وقد قال: عَزَقْت تطْوِيْحة، فأناب تطْوِيْحة عن عَزْقَة، لأَنَّها في معناها، وهو ما يُعرَف في العربية بنائب المفعول المُطْلَق ، لأَنَّ الأصل في المفعول المُطْلَق أن يأتي من نفس مادة الفعل: عَزَقْت عَزْقَة.
في كلامنا اليوميِّ الكثير من أوزان العَلَم ، فأنت عندما تُنادي صديقك قائلاً: (تعال هَنا يا مسعود) مثلاً، فهذه الجملة جاءت على وزن الرَّمَّة الأولى لغنَّاوة عَلَم، وهذا الوزن جاء بشكل تلقائي ، أو تقول لجارك: (عَطيْنِي اشْوَي دقيق)، أو(خذ معاك كيس الملح) مثلاً، فهذه أوزان عَلَم دون أن تقصد ، بل قد يأتي وزن غنَّاوة كاملة أيضاً بشكلٍ عَفْويٍّ كما حدث مع الشاعر والراوية (حسن دربال) حين سُئل عن بعض المستندات فقال: (واتيات عَ التوقيع يريدَن سعيد يشِيلهِن)، ثم ضحك، فقد أدرك بحِسّ الشاعر أنه صاغ وزن غنَّاوة كاملة دون أن يقصد:
واتْيات عَ التَّوقِيْع يرِيْدَن سعِيْد يشِيلهِن.
بالطبع هو كلام جاء على الوزن فقط ، سواءً أكان تامًّا أم ناقصاً، ما قصدْناه من الأمثلة السابقة هو أنَّ الغنَّاوة أقرب أنواع الشِّعر إلى كلام الناس اليوميِّ ، وهذا بالطبع لا يُقَلِّل من أهمِّيتها ، بل على العكس ، فهذا جعلها أغنية الناس اليوميَّة ، الأغنية الأكثر شعبيَّة.
من جماليَّات بناء غنَّاوة العَلَم أيضاً ما سنحاول استشفافه في الغناوي التالية:
الصَّبْر خَيْر واشْوَى ذَنْب واَكْثَر جمِيل واَوْلَى م البكا.أحد الأَسرار الجمالية لهذه الغنَّاوة أنها تتكون من أربعة أخبار لمبتدأ واحد: (الصَّبْر خَيْر، اشْوَى ذَنْب ، اَكْثَر جمِيل ، اَوْلَى م البكا)، وهذا يُسمَّى في البلاغة العربية: الْجَمْع ، وهو اجتماع عِدَّة أشياء تحت حُكْم واحد ، فقد جَمَعَ الشاعر بين: خَيْر، واشْوَى ذَنْب، واَكْثَر جمِيل ، واَوْلَى م البكا ، تحت حُكْم الصبر ، وهذا الجمال في القرآن الكريم (الكهف46): {المالُ والبنونَ زِيْنةُ الحَياةِ الدُّنيا}، فقد جمع بين المال والبنون تحت حُكم واحد، وهو (زِيْنةُ الحَياة الدُّنيا).
***
مَمْشَى بعِيْد واَمْسَى لَيل وانْظَرْي دَفْر ولْواي منْقطِع.
"فتحي إدريس"هذه الغنَّاوة عبارة عن أربع جُمَل قصيرة، واحدة فعليَّة وثلاثٌ اسميَّة، وهذا سِرّ جمالها الشَّكْليّ ، هذا يُسمَّىَ (التَّفْوِيْف) في البلاغة العربية، وهو من قولهم: ثَوْبٌ مُفَوَّف، وهو الذي يكون من لونٍ واحد ثُمَّ يُخالطه لون أبيض، في اللسان (فوف) : (الفُوْف: البَيَاض الذي يكون في أَظْفار الأَحداث ، ومنه قِيل: بُرْدٌ مُفَوَّف، والفُوفَة: القِشْرَة الرقيقة تكون على النَّوَاة، وهي القِطْمير أيضاً)، والتَّفْوِيْف هو أن تأتي المعاني الْمُتلائمة في جُمَل مُستوية المقادير أو مُتقارِبَة: مَمْشَى بعِيْد ، اَمْسَى لَيل ، انْظَرْي دَفْر ، لْواي منْقطِع ، ثُمَّ لاحِظْ هذه التراتبيَّة: بعِيْد، لَيل، دَفْر، منقطِع.
***
مشَى خَبِيْر جا بالقَوْد وطَى اَوْهام شاوي دَبُوهِن.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
هنا نوع من التراتُبيَّة: ( مشَى خَبِيْر، وطَى اَوْهام، جا بالقَوْد)، لكنَّ التراتُبيَّة قد تبدو نوعاً من الهندسة ، لذلك قام الشاعر بكسر هذا الْمَنْطِق الحادِّ، فقَدَّمَ وأَخَّرَ ، وجاء بالْمُسَبَّب (النتيجة) قبل السَّبَب، فالْمُسَبَّب هو: جا بالقَوْد ، والسبَب هو: وطَى اَوْهام، وهذا ليس غريباً على شاعر في قامة عبدالفتَّاح العَقيبي ، يُحافظ على التقاليد الصارمة للغنَّاوة ، تعامله مع الشِّعْر فيه شيءٌ من القداسة ، وتأَمَّلْ جمال الإيقاع: مشَى خَبِيْر، جا بالقَوْد،وطَى اَوْهام.
***
حَتَّى والْخَطا وَجَّاع وَرَّاكَن الصَّاحِيْب م العْدا.
"عاشور بوجازية"
هذا يُسمَّى في البلاغة العربية (حُسْن التَّعْليل)، حيث تُسَوَّغ الأشياء المذمومة عادةً بنوع من التَّعْليل، فالخطا مذموم، لكنّ الشاعر هنا علَّل أهمِّيته: وَرّاكَن الصّاحِيْب م العْدا، ومثله في الشِّعْر العربي الفصيح:
جَزَى اللهُ الشَّدائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
بِها عَرَفْتُ صَدِيْقِيَ مِنْ عَدُوِيّ.
وكذلك قول محمد بن وهيب الْحِمْيَري:
تفاريقُ شَيْبٍ في السَّوادِ لَوَامِعُ
وما خَي راجل يعجبك لَيلٍ ليس فيه نجُومُ.
فالشَّيْب مَذموم عادةً، لكنَّ الشاعر هنا جعله نوراً وزينة.
من حُسْن التَّعْليل كذلك قول دعبل الخُزاعي:
أُحِبُّ الشَّيبَ لَمَّا قيلَ ضَيفٌ لِحُبِّي لِلضُيوفِ النازِلينا.
***
الـــدّار بالبــكا رَضَّيْت طرْحِيْها وفيها وقَبلها.
"عبدالكافي البرعصي"
هنا تفصيل الْمُجْمَل، فقد ذكَرَ الرِّضَى: رَضَّيْت، ثُمَّ فَصَّلَه: طرْحِيْها وفيها وقَبلها.
***
عَلَيْ كلّ حال اغْلِبْت نرْقِد انْحَلَم نَوْعَى يْخايلُوا.
"خليفة غيث"
الجمال هنا هو تتابع خمسة أفعال: اغْلِبْت نرْقِد انْحَلَم نَوْعَى يْخايلُوا، والأفعال الأربعة المضارعة تفُيد الاستمرارية، كأنَّها تحمل معنى الشرط: نرقِد انْحَلَم نَوْعَى يْخايلُوا.
***
طبِيْبه يقُول اخْذُوْه يطُول هَله ما يطُول عَجّلُوا.
"عثمان ميلاد"
هنا أيضاً تتابع ثلاثة أفعال: يقول اخْذُوه يطُول، وجاءت الأفعال بهذه التراتُبيّة: مضارع/ أمر/مضارع.
***
تْقُول يَشْغَلَوا في العَيْن ايْجُوا بعِيْد ويْخايلُوا لْها.
هنا أربعة أفعال ، وفي رواية:
اعْزاز يَشْغَلَوا في العَيْن ايْجُوا بعِيْد ويْخايلُوا لْها. هنا الأفعال الثلاثة المُضارعة: يَشْغَلَواَ /اِيْجُوا /يخايلُوا ، وُزِّعت على مسافات متساوية تقريباً، وجاءت كُلُّها بصيغة الجَمْع، وهذا جمال بصري وسمعي، إن صَحّ التعبير.
***
كماه ذَيْبله رَدَّاه اجْحده صاف شاكَى به اوْحِل.
هذه الغنَّاوة مُكَوَّنة من سبعة أفعال ماضية مُتتالية، وبتراتُبيّة، وهو شيء لا يحلم به حتَّى (عبدالقاهر الجُرْجاني)،! ومن المعروف أنَّ الفِعل حركة، ومِن ثَمَّ فهذه الغنَّاوة تُقدِّم مَشْهَداً غنِيًّا بالحركة، وهي قريبة إلى حَدٍّ ما من مَجْزوء الهزج ، فيصبح وزنها:
مفاعلْ مفاعيلن مفاعيلن مفعيلن
***
بِنْية غنَّاوة العَلَم
( 3 ـ 3 )
بقلم: أحمد يوسف عقيلة
ماهانِي عَزيز اسْنِيْن واخْتام الغَلا قال قِيلنِي.
"عبدالكافي البرعصي"
هنا نوع من التراتُبيّة الخَفِيّة: ماهانِي، عَزيز اسْنِيْن واخْتام الغَلا، قال، أي: فِعل/أربعة أَسماء/فِعل، ماهانِي: مِن الْمّاهاة، في الفُصْحَى: المُماهاة، وهي المُماطلة، والرمّة الأولى بها ثقل.
***
نْذاري معَا لَيّام بشْواش نَيْن ياك يلايْمَن.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
هذه الغنَّاوة تبدأ بفعل مضارع، وتنتهي بفعل مضارع: نْذاري/يلايْمَن، فالكلام محصور بين فعلين، ومن المعروف أنّ الفِعل حركة، فالحركة هنا في الأَطراف وهو جمال شكلي.
***
أَيّام قَبل داير عَزْم كبِيْر للَوْهام وغَيْرهِن.
"عبدالله اردانو"
عَزْم كبِيْر: موصوف وصفة، الموصوف في آخر الصدر، والصفة في أوَّل العَجْز.
***
نهارة ودَاع عَزيز مْرار والملاقَى كَيفّا.
"أبوبكر الصّعقار"
لاحِظْ خلُوّ الغنَّاوة من الأَفعال، أي من الحركة، وهو يناسب الموقف، فهو موقف عجز، والجمال أيضاً أن يكون الوداع واللقاء بنفس الدرجة من المَرارَة.
***
دقايق معا لَوْلاف سْنِيْن الشّقا طارْداتّا.
"محمد البزاري"
الضمير في (طارْداتّا) في الظاهر أنّه يعود على (دقايق)، أم لعلَّه يعود على (سْنِيْن)،؟ الجمال هنا في الغموض، ويجوز أن يقول: طارْدَاتِّن، دون اختلال في الوزن.
***
ودار العَزيز اهلَبَن سوايا اَنْظاري بَرضْهِن.
"موسى بونقاب"
جمال هذه الغناوة في الغموض أيضاً، دار: ليست الدّار بمعنى المكان، بل هي فعل: دار يدِيْر، بمعنى فَعَل، (دار سوايا).
***
البارِح شكَيْنا له بما دار مَرْهُون في الغَلا.
"فتحي إدريس"
كذلك هنا، البارح هي الليلة البارحة، والبارح أيضاً هو الْمجنون، والمعنيان جائزان، والهاء في (له) تعود على (البارح) بمعنى الْمجنون، ويصحّ أيضاً أن تعود على (مرهون) إذا كان (البارح) بمعنى الليلة الفائتة.
***
أَنْظاري لْدار عَزِيْز وَدَّيتِّن وما وَدَّيتِّن.
"فتحي إدريس"
جمال هذه الغنَّاوة في الجِناس التامّ: وَدَّيتِّن وما وَدَّيتِّن، (وَدَّيتِّن) الأولى مِن (يوَدِّي) بمعنى يوصِّل، (وَدَّيتِّن) الثانية من المَوَدَّة، وفي القرآن الكريم (الروم55): {ويَوْمَ تقُومُ الساعةُ يُقْسِمُ الْمِجْرِمونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعة}، الساعة الأولى هي القيامة، والساعة الثانية هي ساعة الزمن.
***
لْعَيْنِي نظَر في هَلِك اِن جَوا انْجي اِن ما جَوا ما انْجي.
انْجي: ليست من الْمجيء بل من النجاة، أي: انْجي العَقل، والذي يوْهِم أنها من الْمجيء هو الفعل قبلها (جوا)، وقد اعتمد الشاعر على الجناس التامّ بين (انْجي) من الْمجيء و(انْجي) من النجاة، وهذا الغموض منح هذه الغناوة جمالها في المعنى والشكل.
***
م الياس وَيْن بَيْت غَلاي مكَانه خَلا مُوْحِش اخْلِي.
"محمد البزاري"
خَلا مُوْحِش اخْلِيْ: هذا ما يُسمَّى في البلاغة العربية: الإيغال، وهو أحد أنواع الْمُبالَغَة، قال: خَلا، ثُمَّ وَصَفَه بأنَّه (مُوْحِش)، ثُمَّ أَوْغَل وأَغْرَق في المعنى: اخْلِي.
***
رهِيْن يا العَيْن الياس ينْقال له اللي بايت غَنِيْ.
"أبوبكر الصعقار"
في هذه الغنَّاوة فصل بين المضاف والمضاف إليه: رهِيْن الياس، بالنداء: يا العين.
***
مَكْبُورة اصْحاب غَلاه العَقل جال ما جا الاّ بْها.
"أبوبكر الصعقار"
هنا نيابة الصفة عن الموصوف، فكلمة (مكبورة) صفة لازمة للنار، فأغنى ذِك راجل يعجبكها عن الموصوف.
***
عجايب سقاته نار منها العقل ما فيه ناجية.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
فِي هذه الغنَّاوة تَوْرِيَة، والتَّوْرِيَة: أن يُذْكَر لفظٌ له معنيان، معنى بعيد، ومعنى قريب، ويكون المعنى البعيد هو المقصود اعتماداً على قرينة خَفيّة، وأَصل كلمة (التَّوْرِيَة) من الوراء، أي تُخفي الشيء وراءك وتُظْهِر غيره، في العَيْن واللسان (وري): (وَرَّيْتُ الخَبَرَ أُوَرِّيه تَوْرِيَةً إذا سترته وأَظْهرت غيره، كأنَّه مأْخوذ من وراء الإنسان، لأنَّه إذا قال ورَّيته فكأنّه يجعله وراءه حيث لا يظهر)، وفي هذه الغنَّاوة: عجايب وناجية امرأتان، والتَّوْريَة في كلمة (ناجية)، فالمعنى القريب أنها من النَّجَاة، لكنّ الشاعر يقصد امرأة تحمل نفس الاسم، ويُمكن أن يكون في (عجايب) أيضاً تَوْرِيَة، إذا قَصَدَ التعجُّب.
***
اطّاوَل تناسَيْنا الهَجَر يا اقْدِم بَيْناتْنا.
"سعد خليفة"
اطّاوَل تناسَيْنا: من الأَوزان النادرة في غناوي العَلَم، والكلمتان: اطّاوَل تناسَيْنا، بهما الكثير من حروف المَدّ للتعويض عن قِلّة الكلمات، وهي على مَجزوء الهزج، ووزنها:
اطّاوَل تناسَيْنا الهَجَر يا اقْدِم بَيْناتْنا.
مفعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفعيلن
على الرغم من قُرْب أوزان غنَّاوة العَلَم من بحور الشِّعْر العربي المعروفة، إلاَّ أنَّه لا يمكن الجَزْم بصحّة هذه الصِّلَة كما مَرَّ بنا من أمثلة، وأَميل إلى أنَّ أوزان العَلَم مُستقِلَّة، لها كيانها وإيقاعها الخاصّ، وهي على كُلّ حال ليست في حاجة إلى هذه المَرْجَعيّة، ولا إلى سَنَد أو رُخصة من الخليل بن أحمد، وهذا يذكّرنا بقول الشاعر أبي العتاهية: (أنا أكبر من العَروض)، ومادامت الغنَّاوة تُؤدَّى بتنغيم صوتي (تُغَنَّى)، فستحتفظ بإيقاعها، لأَنّ الغناء يفضح أي خَلَل في الإيقاع.
***
صعِيْبة امْداوَاته غَلاك جَرْح في العَيْن بِيْدها.
صعِيْبة امْداوَاته: كلمتان أيضاً بهما ثلاثة أحرف مَدّ، فكأنّهما في المساحة ـ مساحة النُّطق والكتابة ـ أكثر من كلمتين.
***
كمَيْتْ عَبْرتِي وارَيْت طرَوْهم اَنْظاري رَقْرقَن.
"عبدالفتّاح العقِيبي"
كمَيْتْ عَبْرتِي وارَيْتْ: تأَمَّل الموسيقا في هذه الرّمَّة، ولاحِظْ أنّ كلمة (عَبْرتِي) في المعنى مفعول به للفعلين: كمَى/وارَى، بمعنى: كمَيْتْ ووارَيْتْ عَبْرتِي، أي يتنازعها الفعلان، وإن كان التنازع يقتضي سَبْق الفعلين معاً، لكننا هنا نقصد المعنى وليس التركيب النحوي.
***
تناير سداه وباد وفات لَجل يا عَيْن عَ الغَلا.
تنايَر: تهَلْهَل، تأمّل الموسيقا: سداه وباد وفات.
***
معَا عَزِيْز ماني هَنا امْغَيْر هو خَيالي بَيْنكَم.
"سعيد يحيى"
قال: معا عَزِيْز، ثُمَّ أَضاف: ماني هَنا، لتأكيد الغياب، أي: أخْبَرَ ثُمَّ أكَّدَ الخبَرَ بنفي الضِّدّ، وهو ما يُسمَّى: (تأكيد الإيجاب بالنفي).
***
درَس حْصاد بَذْر اِيْدَيْه يستاهَل اللي جاه خاطْري.
"عثمان ميلاد"
درَس حْصاد بَذْر اِيْدَيْه: جَمَعَ دورة الزَّرْع: (البذر والحصاد والدراس) في رمَّة واحدة،! وقد رتّبَها عَكسيًّا: (الدراس/الحصاد/البَذْر)، وهو ترتيب منطقي، وهذا غاية في الاختزال.
***
نمْشِي له بعِيْد قرِيْب أَيّام والغَلا فِيْه نَوفْته.
"عبدالفتّاح العَقيبي"
في هذه الغنَّاوة طِبَاق بين كلمتي: قرِيْب وبعِيْد، والنَّوفَة: الهَيْبة والزيادة وعلوّ الْمنْزلة، في المُحِيْط واللسان (نوف): (نافَ الشيءُ نَوفاً: ارتفع وأشرف، النَّوْف: العُلُوّ والارتفاع، والنَّوْفُ: السنام العالِي، ومِن نافَ يُقال: مائة ونَيِّف، بتشديد الياء، أي زيادة).
***
فجاوِي الغِرّ عَلَيك عَزيز قَبل يا عَيْن سادّهِنْ.
الجار والمَجْرور (عَلَيك) مُتَعَلِّق باسم الفاعل: (سادّ) الذي جاء في آخر الغنَّاوة، أي:
سادّهِن عَلَيك، وبُعْد الحرف عن مُتعَلَّقه يجعل السامع في حالة ترقُّب، فهو يُجبَر على الإصغاء إلى آخر لحظة، ويجوز هنا أيضاً أن يكون الجار والمجرور (عَلَيك) مُتعلِّقاً بالمصدر: الغِرّ.
***
غَيّات ما وراهِن دنُو ايْعَمَن غَيْر جازَيتِك بْهِن.
"أبوبكر الصَّعقار"
قد لا تُذْكَر العَيْن باللفظ، بل بضمير الغائب، لكنّها معلومة بالضرورة، هذا نوع من الإيجاز، فعَدَم ذِكْر (العَيْن) هنا هو ما يُسَمِّيه البلاغيُّون: الاحتراز مِن العَبَث، والمَقصود أنَّ ما قامت عليه القَرِيْنة، وأصبح معلوماً بالضرورة، فذِكْره يُقَلِّل من قيمة الكلام البلاغية، وبعض شعَراء العَلَم ـ للأسف ـ لا يتنبَّهون لمثل هذا الأمر، فأحياناً تُذكَر ألفاظ وقرائنها موجودة، وهذا يجعل بعض النصوص مُترَهِّلة.
***
عَزيز عاب عابَيتِيه انْسِيتِيه وانْسِيك اسْكتِي.
هنا أيضاً الخطاب للعَيْن، ولاحِظ الموسيقا في الرمّتَيْن، فالكلمات الثلاث الأولى تبدأ بحرف العين، والكلمات الثلاث الأخيرة تشترك في حرف السين.
***
نَلْقان فَقْدتي لْعَزِيْز تكْمِيْضَة عَلَيْ نار ما طْفَتْ.
"سليمان الشرِّيمة"
قول الشاعر: ما طْفَتْ، احتِراز، فلو قال: تكْمِيْضَة عَلَيْ نار فقط، فقد يتبادَر إلى الذِّهْن أنّها ستنطفئ.
***
لفَى عَزيز باهي قلْت بَكّاهِن وفي حاله مشَى.
"أبوبكر الصعقار"
هنا ما أُسَمِّيْه: الإيقاع الْمُرَكَّب، ففي هذه الغنَّاوة أربعة أفعال ماضية وُزِّعت بين رمَّتَيّ الغناوة، فعلان في كل رمَّة: (لفَىَ/قلْت، بَكّاهِن/مشَى)، والأفعال مع بعضها تُعطي وزن الرمَّة الثانية للغنَّاوة: (لفَىَ قلْت بَكّاهِن مشَى)، فهو (إيقاع داخل الإيقاع).
***
سَيّاتَك تماضَن فيه اصْعِب ارْضاه لُو جازَيْت به.
الأفعال الثلاثة الماضية الواردة في هذه الغنَّاوة: تماضَى/اصْعِب/جازَى، وُزِّعت بشكل متوازن على نسيج الغنَّاوة، فِعل بعد كُلّ كلمة تقريباً، وهذا الجمال ليس في الشكل فقط، بل له علاقة بالموسيقا، فهو أيضاً إيقاع مُرَكَّب: تماضَن اصْعِب جازَيْت، أي وزن الرمَّة الأُولى للغنَّاوة، فهو موسيقا داخل الموسيقا، وتمَاضَى: أوغل في الذهاب، في اللسان (مضى): (مَضَى وتَمَضَّى: تقدَّم).
***
لَذْعات سُوْد كَيْف البَصْم اتْركَتْ في فوادي نارْهم.
"محمد البزاري"
فوادي: فُؤادي، تأَمَّل جمال التركيب، فأوَّل كلمة في هذه الغنَّاوة هي المفعول به: لَذْعات، وتأخَّرَ الفاعل إلى آخر الغنَّاوة: نار، واحتَلَّ الفعل موضع الوسط: اتْركَتْ، وتقديم المفعول به هنا للأهمية، وأصل ترتيب الكلام: اتْركَتْ نارهم لَذْعات، وقد جاء على وزن الرمَّة الأولى للغنَّاوة.
***
غنَّاوة العَلَم غنِيّة بالإيقاعات من خلال الجُمَل القصيرة المُتلاحقة، والتي تأتي أحياناً كثيرة بشكل تراتُبِي، إضافة إلى الغِنَى بالمَشْهَديّة والصُّوَر الحيّة النابضة، والابتعاد عن الإنشائية والثرثرة، ومُحاولة الوصول إلى المعنى المُراد بأقصر الطرق، ولكن مِن أين ينبع الشِّعْر في غناوي العَلَم،؟ هل ينبع من المعنى،؟ هل ينبثق من الفِكْرة،؟ أم من الإيقاع والموسيقا الداخليّة،؟ أم من تلاحم كل هذه المقوِّمات،؟ (الشِّع راجل يعجبك لُغة داخل اللغة) كما يقول (فاليري)، إنَّ المعنى مهما كان عميقاً، والفِكرة مهما كانت مُبتكَرة، لا يمكن لهما أن يصنعا غنَّاوة دون إيقاع أو موسيقا داخليّة شفّافة، ولا أتحدَّث هنا عن أوزان أو قوافٍ، بل أتحدَّث عن موسيقا تُحَسّ، ولننظر إلى قول الشاعر سالم حمد هويدي الذي أوردناه سابقاً في التقديم والتأخير:
يقُول غَفِي ساع يْجُوك هَوّايْها خَذا لَيله وهُو.
فإذا رتَّبْنا الكلام ترتيباً عاديًّا دون الحفاظ على الإيقاع يكون: خَذَا هَوّايْها لَيله وهُو يقُول ساع يْجُوك، غَفِي، فعلى الرغم من بقاء الفِكرة والألفاظ إلاّ أنَّ ضياع الإيقاع الداخلي أفقد الكلام ومضته الشِّعْرية، ونحن نقول عن الغنَّاوة الْمُختلَّة الإيقاع بأنّها ليست غنَّاوة، إنَّ شِعريّة الكلمات تُكتَسَب من التركيب والسياق والإيقاع، فليست هناك كلمة شِعْريّة أوغير شِعْريّة في ذاتها، في سِياقٍ مُعَيَّن تُضيء الكلمات، ونفس الكلمات تنطفئ في سِياقٍ آخر، فمِن أين يأتي ضَوءُ الكلام،؟
يقُول غَفِي ساع يْجُوك هَوّايْها خَذا لَيله وهُو.
الموسيقا هنا مُجنَّحة، ليست صاخبة حادّة كأوزان الخليل، بل شَفّافة، شفافيّة تكفي لانتشال الكلمات من ابتذالها اليومي.
***
ممآ قرآت وأعجبني واتمني ان ينال اعجابكم
عدل سابقا من قبل حبة مسك في 2010-02-01, 11:33 am عدل 1 مرات (السبب : تصحيح كلمة)
حبة مسك- مشرف
-
عدد المشاركات : 3906
العمر : 61
رقم العضوية : 263
قوة التقييم : 57
تاريخ التسجيل : 12/06/2009
رد: بنية غناوة العلم
موضوع جدى وهداف تستحق ان تبارك على ماقدمت..ولك منى كل احترام وتقدير.:اخى العزيز..
رد: بنية غناوة العلم
بارك الله فيك على ما طرحت
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
مواضيع مماثلة
» مصطلاحات في غناوي العلم والشتاوي ادخل لتعرف معناها
» الألغاز في غناوة العلم
» غناوة علم لها تاريخ..من قصص العلم
» تعريف غناوة العلم
» دور غناوة العلم فى حركة الجهاد..
» الألغاز في غناوة العلم
» غناوة علم لها تاريخ..من قصص العلم
» تعريف غناوة العلم
» دور غناوة العلم فى حركة الجهاد..
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR