إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
+5
فرج احميد
التمساح
رؤوف عوض الجبالي
STAR
عبدالحفيظ عوض ربيع
9 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
تنبأ لنفسه أنه سيعيش ثلاثا وثمانين عاما، فكان الأمر كما قال!. زاره صديق ذات صباح فقال له: "رأيتك في المنام تنشد:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
فسكت ساعة ثم قال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن، فهو شيعي وأنا سني، وهو قصير وأنا لست بقصير، وقد عاش ثلاثا وثمانين سنة فسأعيش كما عاش أن شاء الله.
ولد في دمشق عام 577 هـ، وتوفى بالقاهرة عام 660 هـ، ودفن بسفح المقطم.
وحين بلغ الثانية والستين، بدأ حياة جديدة، وغير كل ما تعوده وهو صغير: فقد ترك دمشق مغاضبا وهاجر إلى الله من بغي حاكم دمشق، واستقر في القاهرة، وشرع في تأليف الكتب. فوضع كل مصنفاته فيها، وما كان من قبل قد كتب شيئا يعتد به، ذلك أنه كان ينفق كل وقته في التدريس والخطابه والوعظ .. وفي القاهرة جمع إلى هذه الأعباء مسئولية الكتابة، فصنف كتبا في الفقه والتفسير والأصول والتصوف. وصاول الحكام!.
أطلق عليه أبوه اسم العز عز الدين عبد العزيز .. ولكنه عندما كبر اشتهر باسم عز الدين وباسم العز، وقلما كان يناديه الناس عبد العزيز.
وقد فتح العز بن عبد السلام عينيه على حياة الحرمان .. كان أبوه عبد السلام فقيرا جهد الفقر وكان يجوب الأسواق بحثا عن عمل.
وحين شب الطفل صحبه أبوه ليساعده في بعض الأعمال الشاقة كإصلاح الطرق وحمل الأمتعة، وتنظيف ما أمام محلات التجار..
وكان أبوه عبد السلام يأخذه إلى الجامع الأموي إذا حان وقت الصلاة، ورآه أحد شيوخ المسجد. فأعجب به ودعا له. مات أبوه فلم يجد في نفسه القوة إلى القيام بالأعمال الشاقة التي كان يؤديها أبوه، ولم يجد الصبي مكانا يأوي إليه، فذهب إلى الشيخ يلتمس عنده المساعدة في الحصول على عمل يقتات منه وكان يبيت فيه.
وتوسط له الشيخ فألحقوا الصبي بالجامع الأموي، يساعد الكبار في أعمال النظافة، وفي حراسة نعال المصلين وأهل الحلقات التي يتركونها عند أحد أبواب الجامع، وسمحوا له بأن ينام الليل في زاوية بأحد دهاليز الجامع، على الرخام. وكان الصبي يعايش مرائي الغنى والمتاع خلف أسوار القصور بحدائقها الفيحاء في دمشق، ويشاهد الجياد الفارهة على صهواتها رجال تنعكس الشمس على خوذاتهم، وملابسهم الزاهية وسيوفهم المرصعة بالذهب، ويتأمل حاله وثوبه الذي تقتحمه العيون، ومضجعه البارد على رخام زاوية في المسجد، ثم يتساءل في أغوار نفسه كيف يعيش في بلد واحد رجال ونساء كهؤلاء الغارقين في النعيم، والذين يسقطون من الحرمان، ويقتاتون بالأسى والأحلام؟!
على أنه صرف همه إلى ما يقوله الشيوخ في الحلقات .. وكان يتناهى إلى سمعه وهو على باب المسجد يحرص النعال كلام يثير خياله، ويلهب أشواقه إلى دنيا أخرى لا يجوع فيها ولا يعرى!
وتسلل إلى إحدى الحلقات ذات يوم، ودس جسده النحيل الصغير بين الطلبة الكبار. ورآه شيخ الحلقات، فنهره، وسأله كيف يسمح لنفسه أن يجلس بثوب ممزق في مجلس للعلم ينبغي على الطالب فيه أن يأخذ زينته..؟!
وجرى الصبي إلى باب المسجد، وتكور على نفسه يبكي! .. حتى إذا حان خروج الشيوخ والطلاب، رآه الشيخ الذي ألحقه بالجامع وهو الفاخر بن عساكر صاحب حلقة الفقه الشافعي، وسأله الشيخ عما يبكيه، فروى له ما كان من أمره، فطيب الشيخ خاطره، ووعده أن يتعهده، وسيحضر الحلقات عندما يبلغ الشباب. ومن يدري!؟ فربما أصبح هذا الصبي نفسه شيخا لحلقة في هذا الجامع ذات يوم! ..
وضحك الصبي، والتمعت عيناه، واقتحمت نظراته الجدران إلى آفاق المستقبل، ورأى نفسه طالب علم، ثم شيخا لحلقة، فأوشك أن يثب من الفرح، وقبل يد الشيخ وسأله متى يبدأ التعليم، فقد جاوز سن الطلب؟!. وقال له الشيخ الفخر بن عساكر، أنه سيبدأ من الغد.
حتى إذا كان الغد، أخذه الشيخ إلى مكتب ملحق بالمسجد وأوصى بإن يتعلم القراءة والكتابة والخط وأن يحفظ القرآن، وتعهد الشيخ بنفقة الصبي.
وأقبل العز على المكتب في شغف عظيم، وحفظ القرآن، وأتقن القراءة والكتابة والخط الحسن وعوض ما فاته من سنوات الدرس.
وكان كلما لقي شيخه على باب الجامع سأله الشيخ عن حاله، فيسمعه الصبي ما حفظ من القرآن، ويطلعه على ما يكتب في اللوح الصفيح من الآيات الكريمة.
وأعجب الشيخ ابن عساكر بما يبدو على العز من مخايل النجابة والذكاء وحسن ترتيله للقرآن، وأعجب بصفة خاصة ببشاشة الصبي على الرغم من فقره الطاحن.!
ومرت أعوام، واطمأن الشيخ فخر الدين إلى أن الصبي قد أتقن حفظ القرآن وجوده، وإلى أنه قد أصبح يحذق القراءة والكتابة بخط جميل، فبشره الشيخ بأنه سيضمه إلى الطلاب الذين يحضرون حلقته، ودفع إليه بما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور حلقات العلم.
وأمضى الصبي ليلته يحلم بالمستقبل!
إنه الآن ليثب إلى مرحلة الشباب، وفي حاجة إلى عمل يكفل له دفء المسكن والثوب اللائق والطعام الطيب..! هو في حاجة إلى ما يوفر له شراء أدوات التحصيل من دفاتر وأقلام وأوراق ومحبرة، وما يلزم من كتب.
وتحرج أن يكلم الشيخ ليساعده في الحصول على عمل آخر يحصل منه على أجر أكبر ويوفر له ما ينبغي لطالب العلم! .. لقد منعه الحياء! ..
وقبل أن تنتهي ليلته استيقظ فجأة..!
ويحدثنا السبكي في طبقات الشافعية عن تلك الليلة فيقول: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في كلاسة "زاوية" من جامع دمشق، فبات فيها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعا ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فناد، فاحتلم ثانيا، فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمى عليه من شدة البرد .. ثم سمع النداء: "يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال: بل العمل لأنه يهدي إلى العلم".
وأصبح الفتى عز الدين، فروى لشيخه ابن عساكر ما كان من أمر تلك الليلة. وقال الشيخ له "لقد بلغت مبلغ الرجال. وهذا النداء هاتف من السماء يأمرك أن تهب نفسك للعلم".
وأعطاه الشيخ كتاب "التنبيه" في الفقه للشافعي، وأعطاه أسبوعين مهلة ليحسن قراءته واستيعابه. وعاد العز إلى شيخه بعد ثلاثة أيام وقد استوعب الكتاب وحفظه عن ظهر قلب!
وضمه الشيخ إلى حلقته، ونظم له حضور حلقات أخرى في اللغة وآدابها، وفي الحديث وأصول الفقه. ونصحه أن يتقن علوم اللغة من نحو وصرف، وأن يحفظ الشعر ويدرسه ليحسن فهم نصوص القرآن.
وكان العصر زاخرا بكثير من المعارف. ولكن الشيخ ابن عساكر نصح تلميذه ألا يهتم من كل تلك العلوم إلا بما يعين على فهم القرآن.
ولزم عز الدين شيخه ابن عساكر، وتعلم منه الفقه الشافعي، وكان الشيخ زاهدا ورعا واسع المعرفة كثير الصدقات، خطيبا، لاذعا، وهو في الوقت نفسه شديد الحياء، وكان مرحا متألق الظرف، فتأثر تلميذه عز الدين ونقل عنه كثيرا من خصاله وسجاياه.
من الحق أن عز الدين لزم شيخه ابن عساكر وتأثر به، ولكنه لم يلتزم نصحه فيما يطلب من علوم، فتاق إلى التزود بمعارف عصره جميعا. وكانت أفكار اليونان والمصريين القدماء والهنود والفارسيين قد نقلت إلى اللغة العربية .. وكان المسلمون قد تفوقوا في علوم الطبيعة والطب والكمياء والرياضيات والفلك، وتعاطوا الفلسفة فأراد عز الدين أن ينهل من هذا كله.
وكانت فلسفة الإشراق التي جاء بها السهروردي إلى دمشق وحلب تعيش، وتصك أعداء تلك الفلسفة الذين نجحوا من قبل في الإيقاع بالسهروردي، فأغروا به صلاح الدين. وكان ابنه الظاهر يحمي السهروردي في قصره بحلب ..
فأمر صلاح الدين ابنه الظاهر أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبرا وجوعا وعطشا، ولكن الظاهر بن صلاح امتنع، فأرسل إليه أبوه يخبره بين إحدى اثنتين: أما قتل السهروردي أو العزل!
وأذعن صاحب حلب لأمر أبيه صلاح الدين وجاء السهروردي وخصومه، وأمرهم أن يناظروه قبل أن يقضي في أمره.
كان السهروردي شيعيا، وصلاح الدين يحارب الشيعة ويضربهم في مكان .. وكان السهروردي ينادي بأن العالم لم يخل من الحكمة ومن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات، وهذا الشخص هو الإمام وهو خليفة الله في أرضه، وهو واجب الاتباع فهو معصوم يوحي إليه لكن على نحو آخر غير الأنبياء والرسل!
وكان السهروردي يذهب إلى أن النور أساس كل الموجودات، ويعتمد على الآية الكريمة: "الله نور السماوات والأرض". وقد استفاد بحكمه اخناتون الذي نادى بالتوحيد في مصر القديمة، واعتبر النور والشمس بالذات سبب وجود كل الكائنات الحية، كما استفاد الرجل بأفكار أفلاطون في المثل وآراء زاردشت الفارسي. ولكنه رد كل أفكاره إلى القرآن الكريم .. واحسن الاستشهاد بآياته..
ولم يعرف أحد لماذا آثار فقهاء دمشق على السهروردي، واتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالكفر! .. وعلى الرغم من أن الظاهر بن صلاح الدين كان سنيا كأبيه، فقد بسط حمايته على السهروردي معجبا بأفكاره الصوفية، وبفكرة الإشراق، والفيض الإلهي الذي تشرق به قلوب الصالحين فيحصلون المعرفة الذوقية مع المعرفة العقلية.
ومهما يكن من أمر فقد جمع الظاهر بن صلاح الدين خصوم السهروردي من الفقهاء .. وبدأت المناظر أو المحاكمة التي صدر فيها سلفا أمر صلاح الدين بقتل السهروردي حكيم الإشراق!!
سأله خصومه: "الله قادر على أن يخلق ما يشاء؟!"
قال السهروردي: "نعم" فسألوه ونبي الإسلام أليس هو خاتم الأنبياء؟."
قال: "بلى" قالوا: "ألا يستطيع" إله هكذا أن يبعث نبيا بعد نبي الإسلام؟".
كان السؤال مصيدة للرجل!
قال السهروردي بعد لحظة: "ختمت النبوة ولكن الولاية قائمة."
وأخذوه برأيه في الولاية .. فهو يرى أن ولي الله وهو الإمام المعصوم قطب الأقطاب خليفة الله في الأرض يجب أن يكون من نسل النبي .. وهذا النظر يحكم بعدم شرعية الخلفاء والملوك إلا إذا كانوا من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم .. أي من أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهما .. وصلاح الدين نفسه ليس عربيا على الإطلاق فهو كردي الأصل. وهكذا اضطر الظاهر بن صلاح الدين أن يودع السهروردي غيابة السجن، حيث قتلوه صبرا وجوعا!
ولقد وقعت الواقعة بالسهروردي بينما كان عز الدين بن عبد السلام صبيا في نحوه العاشرة من عمره، وزلزلت نهاية السهروردي الفاجعة نفس الصبي زلزالا شديدا، ولم يفارقه الحزن والعجب .. كيف يقضي على رجال بالموت لأنه قال رأيا يخالف فيه بعض الفقهاء، ولا يرضى عنه الحاكم!؟
ولكن أفكار السهروردي في الإشراق قد ذاعت وملأت أماكن العلم، وأصطك فيها الناس بين مستنكر ومعارض ..
منهم من يرى القتيل شهيدا مات دفاعا عن تصوفه ومنهم من يراه كافرا!! حتى ظهر في دمشق رجل آخر تسمى باسم السهروردي، وأذاع أفكار السهروردي في الإشراق، ولكنه لم يعد يتحدث الإمامة والولاية، ولبس خرقة التصوف، ومضى في الطرقات يهتف بالناس: "الله نور السماوات والأرض." وأخذ يشرح أفكار السهروردي عن النور والفيض الإلهي...
وتبعه قوم لبسوا خرق التصوف، وأطلقوا كلمات في الأسواق وندوات العلم. كلمات مكثفة تحمل رموزا كثيرة..!
وبهر الشاب عز الدين بهؤلاء وأحوالهم .. وبهرته بصفة خاصة شخصية السهروردي الجديد فلزمه على الرغم من نصيحة شيخه .. ولبس عز الدين خرقة التصوف عاما أو بعض عام ملتمسا على الحقيقة على يد السهروردي الجديد، حتى إذا علم ما عنده، عاد إلى أستاذه ابن عساكر يلتمس عنده علوم الشريعة من جديد ..
وسمع عز الدين أن في العراق شيخا عنده من علم الحديث ما ليس عند غيره في دمشق فحمل متاعه وزاده وسافر إلى بغداد، وجلس إلى ذلك الشيخ وحفظ عنه الحديث .. ثم عاد من جديد إلى دمشق.
كان صلاح الدين الأيوبي قد مات، وترك دولة شاسعة تقاسمها أخوته وأبناؤه وأبناء أخوته .. وما هي إلا سنوات حتى تقطعوا أمرهم، فتفرقوا وأصبح بأسهم بينهم شديدا .. وتمزقت دولة صلاح الدين إلى دويلات تناحرت فيما بينها، مما أغرى التتار والصليبيين بالطمع في الاستيلاء على بعض أجزاء هذه الدولة الإسلامية الكبرى.
وقد أسكت هؤلاء الحكام معارضيهم إما بالإرهاب والقمع أو بإغراقهم في المال أو بدفعهم إلى الزهد والتصوف على نحو لم يعرفه السلف الصالح من الزهاد والمتصوفين. وكان هؤلاء جميعا من العلماء والفقهاء الذين يؤثرون في الأمة أبلغ تأثير!
وعز الدين يرى كل هذا.، فيتقدم صفوف طلاب العالم تحت راية الإسلام وخلف قيادة بعض شيوخه من العلماء القلائل المقاومين .. وعرفه الشباب خطيبا يستثير الحمية. وكان إلى هذا شديد الدأب على تحصيل العلم، مما أثار إعجاب شيوخه به.
ولم يكد ينتهي من الدراسة على شيخه الفخر بن عساكر، وغيره من الشيوخ في جامع دمشق، حتى أجازوه للتدريس.
وعين مدرسا بدمشق، يقرئ صغار الطلاب القرآن، ويعلمهم القراءة والكتابة .. ثم نقل إلى مدرسة أعلى .. يعلم الطلاب الفقه وأصول الفقه على المذهب الشافعي .. وهو المذهب السائد إذ ذاك في كل البلاد التي حكمها صلاح الدين.
وهيأت له مهنة التدريس أجرا طيبا أصلح به حاله، فاستأجر بيتا لائقا وتزوج ..
وعرف الناس في ندوات دمشق شيخا متوسط الطول، يسخر مما يلقي، مرحا ضاحك السن وعليه مع ذلك وقاره عذب الحديث، خفيض الصوت إذا تكلم، جهير الصوت إذا انفعل أو خطب، نظيف الثوب، لا يرد سائلا، فإذا لم يجد ما يتصدق به اقتطع جزءا من عمامته ودفع به إلى سائله!
وكان نحيلا يقتحم بنظراته المجهول كأنه يفتش وراء الغيب عن شيء ما..!
لم يقتنع بما نال من علم، فتعود أن يغشى مكتبه الجامع الأموي يقرأ فيها كل ما يقع عليه من معارف، وقد كشفت له تأملاته ودراساته في آثار السلف أن كل المعارف الإنسانية تعين على فهم القرآن .. وكان يريد أن يفسر القرآن، ولكنه شعر أن الوقت لم يحن بعد، وأن عليه أن يستوعب الكثير من العلوم حتى يجسر على العمل بالتفسير وهو مطمئن الضمير!
ودرس خلافات المتقدمين حول الفلسفة، وكان الإمام الغزالي قد هاجم الفلسفة من قبل، ولكن هذا لم يصرف كل العلماء عن دراسة الفلسفة، فهاهو ذا السهروردي المفتول الذي فتن عز الدين بآرائه قد خلف ميراثا سخيا من الفكر وفق فيه بين الفلسفة والدين.
واستوعب العز كل ما تركه السلف في علم الكلام. العلم الذي يتكلم عن الله وصفاته وأسمائه. ومن السلف من هاجم هذا العلم ونبذه واعتبره بدعة فاسدة، ومنهم من عالجه وتعمق فيه وأضاف إليه، واعتبره علم أصول الدين.
والخلاف بين العلماء حول هذا الأمر قديم يرجع إلى نهاية القرن الأول وأوائل القرن الثاني للهجرة، حين ظهر المعتزلة وأخضعوا كل شيء للعقل، وتحدثوا في القضاء والقدر والجبر والاختيار وصفات الله تعالى، واعتمدوا في كل آرائهم على الأدلة العقلية. ونبذهم أهل السنة ورفضوا واعتمدوا على ما تركه السلف منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة ومن بعدهم عصر التابعين. وذهب أهل السنة إلى رفض الكلام في كل هذه الأمور، لأن أسلافهم لم يتكلموا فيها بل إن منهم من نهى عن الاقتراب منها.
واتهم أهل السنة مفكري المعتزلة بالزيغ والضلال، واتهمهم المعتزلة بالجمود وانعكس هذا على قواعد استنباط الأحكام وأصول الفقه، فمن تأثروا بالنظر العقلي اعتمدوا على الرأي في الاستنباط، وتمسك آخرون بالنصوص، وحدها، ولم يعدلوا عنها إلى الرأي إن لم يجدوا الحكم في النصوص كما صنع أهل الرأي ودعاة أعمال العقل، بل آثروا الصمت. ومن أهل السنة من آخذ بظاهر النص وحده، ومنهم من تأول النص ليستنبط الحكم أن لم يسعفه الظاهر.
وانتقلت كل هذه الأفكار بصراعاتها على أمواج الزمن من جيل إلى جيل. حتى أتيح لأهل السنة مفكر كان من قبل من كبار مفكري المعتزلة ثم هجرهم، مستخدما أدواتهم في التفكير والاستنباط، فاعتمد على البراهين العقلية في مناصرة آراء أهل السنة والنصوص.
حدث هذا في القرن الرابع الهجري.
وهذا الفقيه هو الأشعري الذي ألف الكتب على مذاهب أهل السنة ورد على المعتزلة في كل مقولات علم الكلام. "حتى دخلوا في أقماع السمسم".
وكان المعتزلة قد ذهبوا إلى أن العقل هو أساس الحكم بالقبح والحسن، وتبين الحلال والحرام، وذهبوا في تفسير الآية الكريمة وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. إلى أن الرسول ليس هو النبي الذي يرسله الله، ولكنه العقل.
وأتهمهم أهل السنة بالكفر، ورفضوا أن يتكلموا في العقائد بالأدلة العقلية، وهاجموا المنطق والفلسفة، حتى جاء الأشعري، فاستعان بالمنطق والفلسفة في الكلام عن العقائد، ودافع عن السنة بأدلة المعتزلة. فلم يعتمد على النصوص وحدها في كلامه عن العقائد، وإنما أعمل العقل، ليناور المعتزلة بأسلحتهم.
وقد أعجب العز بهذا كله، واعتنق عقيدة الأشعري، كما اعتنقها من قبل أكثر المستنرين من أهل السنة والرأي مهما تختلف مذاهبهم الفقهية. أعجب العز عز الدين بمحاولات المعتزلة والأشاعرة وتوفر على دراستها في مكتبة الجامع الأموي.
ولقد أعجبته بصفة خاصة مناظرة بين الأشعري والجبائي أحد أئمة المعتزلة، "عن ثلاثة أخوة ماتوا: الأكبر منهم مؤمن بر تقي، والأوسط كافر فاسق شقي، والأصغر مات على الصغر لم يبلغ الحلم.
فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات ـ بناء على أن ثواب المطيع وعقاب العاصي واجب على الله تعالى عند المعتزلة ـ وأما الصغير فمن أهل السلامة لا يثاب ولا يعاقب.
فقال الأشعري: فإن طلب الصغير درجات أخيه الأكبر في الجنة؟
الجبائي: يقول الله تعالى الدرجات ثمرة الطاعات.
الأشعري: فإن قال الصغير ليس مني النقص والتقصير .. فإنك إن أبقيتني إلى أن أكبر لأطعتك ودخلت الجنة.
الجبائي: يقول الباري تعالى قد كنت أعلم منك أنك لو بقيت لعصيت ودخلت في دركات الجحيم. فإن الأصلح لك أن تموت صغيرا.
الأشعري: فإن قال العاصي المقيم في العذاب الأليم مناديا من بين دركات النار وأطباق الجحيم يا إله العالمين! يا أرحم الراحمين! لم راعيت مصلحة أخي دوني أنت تعلم أن الأصلح لي أن أموت صغيرا ولا أصير في السعير أسيرا؟ فماذا يقول الرب؟
فبهت الجبائي في الحال وانقطع عن الجدال.
وعن دور الأشعري في الفكر الديني.
كتب المغفور له الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق: أخذت الفلسفة توجه أهل الفرق إلى الاعتماد على العقل. فلما أخذ الأشعري في مناضلة المبتدعة بالعقل حفاظا للسنة، جاء أنصار مذهبه من بعده يثبتون عقائدهم بالعقل تدعيما لها ومنعا لإثارة الشبهة حولها. ووضعوا الأدلة العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار".
وإذن فمذهب الأشعري مقرر لمذاهب السلف ولكنه يناضل عنها بالأدلة العقلية لا بالنصوص وحدها. وهو رأي وسط بين مذهب المعتزلة الذين نفوا التجسيم عن الله تعالى ومذهب غلاة الحنابلة الذين آمنوا بالتجسيم كما يدل ظاهر النص.
ولقد شاعت عقيدة الأشعري فاجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلا الحنابلة .. كما قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيما بعد. وكان صلاح الدين قد اعتنق المذهب الشافعي وعقيدة الأشعري فألزم بهما الناس.
غير أن الذين جاءوا من بعده تفرقوا: فظل بعضهم شافعيا على رأي صلاح الدين، واعتنق بعضهم غير ذلك من المذاهب، وإن ظلوا جميعا على رأي الأشعري إلا قليلا!
وكان الملك الكامل حاكم مصر وهو ابن العادل شقيق صلاح الدين أوسعهم أفقا وأشدهم احتفالا بالعلم والعلماء حتى لقد جلس وهو ملك مصر إلى الشيوخ ليتعلم منهم في الحلقات ثم تقدم لنيل إجازة علمية كما يتقدم غيره من الطلاب ونجح فيها! وتعود أن يعقد مجلسا للعلماء في مساء كل خميس، وفتح المدارس والمكاتب وأغدق على أهل الفقه والعلم .. وكف عن اضطهاد أصحاب المذاهب الأخرى كما كان يصنع عمه صلاح الدين. وعين قضاة من كل المذاهب بدلا من القاضي الشافعي الذي اكتفى به أبوه .. ولقد نافسه في تشجيع العلماء أخوه عيسى، فكافأ المؤلفين حتى وضعوا في عهد الملك الكامل كتابا من أضخم كتب الفقه الحنفي وهو كتاب (التذكرة).
وقد أرسل العز بن عبد السلام إلى الملك الكامل وأخيه عيسى كتاب شكر على ما يصنعان للعلم والعلماء، فأرسلا إليه ردا جميلا. وبعث الملك الكامل إلى أخيه صاحب دمشق ـ الملك الأشرف ـ يستوصيه خيرا بالعالم الشاب عز الدين بن عبد السلام.
وكان عز الدين قد جذب إليه عديدا من الطلاب أحبوا دروسه التي كان يرصعها بما يحفظ من طرائف الحكمة وروائع الشعر مما كان ييسر على الطلاب صعوبة الفقه.
وقصده الناس يستفتونه فلم يبخل عليهم بالرأي، ولم يعد يتقيد بالمذهب الشافعي الذي كان يعتنقه من قبل، بل كان يبحث في كل المذاهب عن إجابات لم يرد إليه من أسئلة، فإن لم يجد حاول أن يجتهد رأيه.
وكان شديد الحرج في فتياه. يفكر طويلا قبل الإجابة، ويظل يفكر بعدها وينقب حتى يطمئن أنه على الصواب. ولقد أصدر فتيا ذات مرة، ثم طفق يفكر بعدها فيما قال، وعاد إلى كتب السلف عسى أن يجد فيها ما يسانده، فاكتشف أنه أخطأ، ولم يكن يعرف صاحب المسألة الذي أستفتاه، فأطلق عددا من تلاميذه في الأسواق والطرقات والمساجد ينادون في الناس: "من صدرت له فتيا بالأمس من العز عز الدين بن عبد السلام فلا يعمل بها فهي خطأ، وليعد إلى الشيخ ليفتيه بالرأي من جديد بالصواب".
شاع ذكر الشيخ في أقطار المسلمين، ولم يكن قد ألف كتابا بعد ولكن هاهو ذا شاب عالم فقيه زاهد أمين، يتحرر من المذاهب الفقهية في عصر شاع فيه التقليد للأئمة الأربعة، كل جماعة تتعصب لمذاهب ولا تعدوه حتى إن وجدت الجواب الصحيح عند غيره من المذاهب، وكل حزب بما لديهم فرحون! فإذا صدرت الفتيا من أحدهم فلا رجعة فيها حتى إن تبين الخطأ ...
وعز الدين لا يتفرغ للعلم والتدريس والفتيا فحسب، ولكنه يتحرك في الأسواق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في رحمة وحكمة وموعظة حسنة، ويشدد النكير على الظالمين من التجار الذين يبخسون الناس أشياءهم، وعلى جباة المكوس، والمرتشين والجائرين ممن يلون أمرا من أمور المسلمين.
من أجل ذلك أحبه الناس: المظلومون والفقراء خاصة، وطلاب العلم الذين يجاهدون من أجل مستقبل افضل. وخافه الجائرون من الحكام، أما العادلون منهم فقد حاولوا أن يقربوه، ولكنه كان يطبعه لا يحب الاقتراب من السلطان ..
وضاق به بعض الفقهاء المقلدين ممن ينافقون الحكام .. ذلك أنه احتل مكانة لا يؤهلها له عمره فهو بعد في الخمسين، وأنه ليعتمد على مكانته هذه، فيسلق المقلدين والجاهدين والمرتشين والمرتزقة والفقهاء بألسنة حداد، ويطالب المسلمين ألا يتبعوهم حتى لا يفسدوا عليهم دينهم!
وفي أحد الدروس وجه أحد الطلاب إلى الشيخ عز الدين سؤالا عن حكم الدين في العلماء الذين يسكتون عن الظلم، وهم بعد ذاك يتصدرون بعض الحلقات في الجامع الأموي يعلمون ويفتون؟!
فأفتى الشيخ عز الدين بأن السكوت عن المنكر منكر .. وعلماء المسلمين هم أولى الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تخلوا فما أطاعوا الله والرسول، وإن كان سكوتهم طمعا. في الأموال والهدايا والمناصب أو حرصا فإثمهم مضاعف. وقد قال الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَع راجل يعجبكوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } (آل عمران ، الآية :104).
هؤلاء هم العلماء، فإن لم يفعلوا فهم العصاة والعياذ بالله! ..
وسأل طالب آخر: ألمثل هؤلاء طاعة؟! فقال الشيخ: لا طاعة لهم .. ورأى ذلك النفر من العلماء في كلام الشيخ عز الدين تحريضا للطلاب وللعامة عليهم وعلى السلطان نفسه! ..
وتوجه أحد طلاب الحلقات في الجامع الأموي إلى شيخ حلقة يسأله عن حكم الدين في العلماء الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر!. وغضب الشيخ غضبا شديدا وسب الطالبين سبا عنيفا، وطردهما من الحلقة طردا غليظا وحرم عليهما دخول الجامع، وذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام بالسوء وأنذر أن يوقع به العقاب حتى لا يفتن الشباب!
فأعلن سائر الطلاب سخطهم لمقالة الشيخ وفعلته، فسبهم جميعا، وانسحب من الحلقة وهو يصيح أن ابن عبد السلام قد أفسد العامة والطلاب.!
وانصرف الرجل فاجتمع ببعض شيوخ الحلقات من المتصلين بالسلطات وذهبوا جميعا إليه، فطالبوه أن يردع الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأن ينزل به عقاب من يثير الفتنة، ولكن الحاكم طيب خاطرهم، وكساهم حللا فاخرة وأغدق عليهم الهدايا وصررا من المال، وطلب منهم أن يمهلوه في أمر الشيخ عز الدين هذا..!
ولكنهم عادوا يطالبون بأن يمنع عز الدين من الفتيا والتدريس والمشي في الأسواق.
غير أن السلطان الأشرف لم يستجب لهم، فالشيخ علي أية حال لا يدرس في الجامع الأموي، ولكن في مدرسة صغيرة قليلة الخطر! .. فليردوا هم والجامع الأموي على آرائه.
ولكنهم مازالوا بالحاكم يغرونه بالشيخ عز الدين حتى صرح لهم بأنه لا يستطيع أن يسيء إلى عز الدين، فالملك الكامل حاكم مصر يحب عز الدين، ويوصي به خيرا، فإن نال من عز الدين سلطانهم فسيغضب له الملك الكامل ولا طاقة له بغضب أخيه الأكبر!
ولم يهدأ كيد الخصوم عن الشيخ عز الدين، وظلوا يتربصون به .. وحملتهم عليه وشدة عز الدين في نقد ذلك النفر من العلماء مكنت له في قلوب أهل دمشق، وزادته مكانة في قلب الملك الكامل. فأرسل الملك الكامل إلى أخيه الأشرف، يطالبه بأن يحسن صلة الشيخ عز الدين، وأن يعينه شيخ حلقة في الجامع الأموي، لتعم الفائدة من علمه.
أما الصلة فقد ردها الشيخ عز الدين شاكرا، وأما منصبه في الجامع الأموي، فقد فرح به، لأنه يتيح له الاتصال بعدد اكبر من الطلاب هم انضج عقلا واكبر سنا من طلاب المدرسة التي يعلم بها.
وكان منصب شيخ حلقة في الجامع الأموي هو اكبر منصب علمي في دمشق.
وتقدم الشيخ عز الدين، بوجهه النحيل الباسم، في ثياب بسيطة نظيفة، فاختار الزاوية الغزالية حيث كان الإمام الغزالي يعتكف منذ أجيال، وبدأ يدرس للطلاب علوم الدين .. وتوافد عليه الطلاب حتى ضاقت بهم الحلقة، وأقفرت سائر الحلقات من طلابها. وكان يلقي أكثر من درس في النهار والليل في الحديث والفقه والأصول .. غير متقيد بمذهب من المذاهب الأربعة.
وشرع يفتي كلما استفتاه أحد، ويشرح عقيدة الأشعري في أصول الدين، وأدلته العقلية على صحة مذهب أهل السنة. ويأخذ الطلاب بإتقان وعلوم اللغة ليفهموا نصوص الشريعة.
وغاظ التفاف الناس حوله وانصرافهم عن سواه، كثيرا من خصومه، فعادوا يحاولون الإيقاع به ولكنهم خشوا أن يردهم سلطان دمشق حرصا على إرضاء أخيه سلطان مصر!
أما الشيخ عز الدين فلم يكن ليبالي بهم، بل مضى في طريقه، يقرأ ويدرس ويفتي، وقد اطمأنت به الحياة فالراتب الذي يأخذه من المسجد الأموي راتب كبير يكفيه لحياة موفورة.
وخاطبته زوجته في أن يغير المسكن الضيق الذي كان قد استأجره وهو مدرس في مدرسة صغيرة!.
لقد ضاق بهم المسكن بعد أن أنجبا أولادا. وقال لها إنه يعرف أن المسكن الضيق هو الجحيم الأصغر كما قال الإمام علي كرم الله وجهه، وهو يتمنى أن يغيره، ولكن لا سبيل..! وعادت الزوجة تلح عليه، وكان حانيا عليها شديد البر بها، وتمنت لو أنه اشترى بيتا فسيحا يحيط به بستان جميل فهو بعد أستاذ حلقة بالجامع الأموي، وينبغي أن يتخذ له سكنا مريحا يليق به، ويتسع لأهله وبنيه، ولضيوفه الذين يتوافدون عليه ملتمسين عنده العلم، والفتيا بعد أن يفرغ من الحلقات ..
ووعدها خيرا، غير أنه لم يستطع، فقد كان ينفق عن سعة على أهل بيته، ويحسن إكرام ضيوفه ويتصدق بما بقى، ولا يدخر شيئا على الإطلاق.
ثم أصابت دمشق أزمة، فهبطت الأسعار، وقل المال، أعنت الناس عنتا شديدا .. وصارت البيوت الواسعة بما حولها من البساتين تباع بثمن قليل.
فجاءته امرأة وطلبت منه مرة أخرى أن يشتري بيتا واسعا بحديقة وجمعت مصاغا لها وقالت:
ـ اشتر لنا بهذا بستانا.
فأخذ المصاغ وباعه، وتصدق بثمنه.
فلما عاد إلى زوجته استقبلته فرحة:
ـ يا سيدي .. اشتريت لنا بستانا!
ـ نعم، بستانا في الجنة.! إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمن المصاغ.
وكان الناس يتسامعون بفضل الشيخ عز الدين فيزداد مكانة واحتراما. ولقد علم الأشرف صاحب دمشق بكثرة صدقاته، فطلبه، وحاول أن يقدم إليه مالا ليتصدق به ولكنه رد السلطان، وأفتاه أنه من الخير أن يتصدق السلطان نفسه بالمال!.
وقارن السلطان الأشرف بين هذا الرجل الذي يرفض عطاياه الخفية، وبين الآخرين الذين يرتشون ويجهرون بالإلحاح في طلب المزيد من الهدايا والأموال والمناصب!!
ودخل السلطان الأشرف إكبار خارق لعز الدين، وأدرك أن أخاه الكامل ملك مصر على حق، فمثل هذا الشيخ جدير بالاحترام. وإنه له لهيبة!
ولاحظ السلطان الأشرف أن الشيخ عز الدين لا يطالب مقابلته على خلاف الآخرين، وكانت سيطرة عز الدين على قلوب الشباب وسائر الناس تقوى يوما بعد يوم، وهو لا ينفك يهاجم خصومه من الفقهاء لجمودهم وتمسحهم بأصحاب السلطان، ولا يكف عن نفد أخطاء الحكام.
ورأى الأشرف أن من الحكمة أن يصطنع الشيخ لنفسه ويدنيه من القصر، فأخذ يمدح الشيخ عز الدين في كل مكان، ويطلبه لمجالسته فيتثاقل عنه الشيخ إلى حلقات الدرس ومجال الفتيا، ولا يبادله مدحا بمدح.
وانتهز خصومه الفرصة، فزعموا للسلطان الأشرف أن الشيخ عز الدين قد غره حب الناس له والتفاف الشباب حوله، فسولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يتعالى على الجميع حتى على السلطان نفسه!
وفي الحق أن السلطان الأشرف، كان يشعر بحرج لموقف الشيخ عز الدين منه، وكان يحس في أغوار نفسه أن الشيخ لا يضمر له من الاحترام ما يجب على المحكوم للحاكم!!..
وكان في حاشية السلطان نفر من فقهاء الحنابلة المتشددين المضيقين، وكان الشيخ عز الدين ينكر عليهم غلظتهم مع مخالفيهم، ويتهمهم بالحمق والجمود وفساد الرأي، وبالإساءة إلى صاحب المذهب الإمام أحمد بن حنبل، الذي كان فقيها جليلا عميق النظر واسع الأفق رائع الحكمة .. والذي ترك تراثا عظيما يحمل كل طاقات التجديد.
ولكن هذا النفر من فقهاء الحنابلة، كانوا قد خالطوا السلطان الأشرف منذ كان حدثا صغيرا؛ وصاغوا عقله على رأيهم الجامد المتحجر حتى "اختلط هذا بلحم السلطان ودمه وصار يعتقد أن مخالفه كافر حلال دمه"
وقد أتاحت لهم منزلتهم عند السلطان. ونفوذهم عليه أن يصنعوا في البلاد كما يشاءون، فكانوا إذا خلوا بمخالفيهم من الشافعية أو الأشعرية آذوهم وضربوهم!
وما كان ليغمض لهم جفن وهم يرون السلطان الأشرف يخطب ود الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وغدوا إلى السلطان ليوقعوا بالشيخ عز الدين، قبل أن يتقارب الرجلان فزعموا للسلطان أن العز عز الدين يخالف السلف ويقول في القرآن قولا عظيما .. ويخطئ من يقول في القرآن بالحرف والصوت، وأنه يعتنق رأي الأشعري: أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق!! .. وهذا كله كفر!!
وكان الأشرف قليل الحظ من الثقافة وعلوم الدين والإطلاع على آثار السلف .. فما تعلم إلا ما علمه ذلك النفر المحيطون به من أراذل فقهاء الحنابلة الذين ينافقونه!
ولم يصدق السلطان أول الأمر أن الشيخ عز الدين يقول هذا وهو العالم الورع عظيم التقوى .. وزجرهم السلطان .. ولكنهم وعدوا السلطان أن يقدموا له الدليل الحاسم.
وأجمعوا أمرهم، وجاءوا عز الدين بن عبد السلام فقدموا إليه ورقة فيها فتيا بأن القرآن حرف وصوت، وطلبوا من الشيخ أن يكتب رأيه في هذه الفتيا، وكان قد علم بكيدهم وهم لا يشعرون!
قال لهم الشيخ عز الدين: "هذه فتيا كتبت امتحانا لي. والله لا اكتب فيها إلا ما هو الحق."
وبدأ الكتابة بتسفيه الفتيا، وتأكيد أن الإمام احمد بن حنبل لا يعتقد أن القرآن حرف وصوت وقولهم هذا إنما هو جهل فاضح برأي الإمام احمد .. واستطرد الشيخ عز الدين فكتب أن الإمام احمد بن حنبل برئ من كل ما يدعون. وأن فضلاء الحنابلة أبرياء منهم. وكذلك سائر السلف: فهم لا يقولون بالحرف والصوت. فالإمام احمد بن حنبل وغيره من فقهاء السلف الصالح. لا يعتقدون أن وصف الله القديم القائم بذاته هو عين لفظ اللافظين ومداد الكاتبين مع أن لفظ إله قديم، وهذه الأشكال والألفاظ حادثة بضرورة العقل وصريح النقل. قال تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } (الأنبياء،الآية 2) .. والعجب ممن يقول إن القرآن مركب من حرف وصوت ثم يزعم أنه في المصحف!! وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه!! وإنما أتى القوم من قبل جهلهم بكتاب الله وسنة رسوله وسخافة العقل وبلادة الذهن فإن لفظ القرآن يطلق في الشرع واللسان على الوصف القديم، ويطلق على القراءة الحادثة، والقراءة غير المقروءة، لأن القراءة حادثة والقرآن قديم وهؤلاء القوم يذمون الأشعري لقوله أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق. وقول الأشعري كلام أنزل الله معناه في كتابه: فإن الشبع والري والإحراق حوادث انفرد الرب بخلقها. فليس الخبز هو الذي يخلق الشبع، ولم يخلق الماء الري، ولم تخلق النار الإحراق، وإن كانت أسبابا في ذلك. فالخالق هو المسبب دون السبب كما قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فقد نفى أن يكون رسوله خالقا للرمي وإن كان سببا فيه ..
وعندما ظفروا بجواب الشيخ تمايلوا من الفرح، وأيقنوا أنها القاضية عليه!
وأوحوا إلى السلطان أن يدعو جميع الفقهاء والعلماء إلى سماطه على الإفطار ـ وكان الوقت رمضان ـ ففعل، وذهبوا بما كتبه الشيخ عز الدين إلى السلطان الأشرف، فانفجر سخطه على الشيخ..! سخط عنيف هائل ينبع من أعماق نفس امتلأت بالحب والإكبار لشخص رفضت فيه كل الوشايات والأقاويل، ثم إذ بها تتكشف بغتة أن هذا الآخر، كان يخدعها ويسخر منها، ويظن بها الغفلة!! .. واختلط غضبه على الشيخ بضيقه المتراكم من سيرة الشيخ معه .. فهو كلما قربه هجر، وكلما تألفه نفر..!
وعلى سماط الإفطار، ظلت صيحة السلطان تندد بالشيخ عز الدين: "صح عندي ما قالوه عنه! .. هذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، فظهر بعد الأخبار أنه من الفجار .. لا .. بل من الكفار"!..
ولم يستطع أحد من الفقهاء أو العلماء أن يرد على السلطان الأشرف وظل صوته يدوي بالوعيد في بهو الطعام بقصره السلطاني. وضيوفه يمضغون طعام الإفطار على مهل، ويزدردون المضض، وقلوبهم تدق!!
ما من صوت واحد يرتفع إلا أنفاس تلهث، وصراخ السلطان يتصاعد كحيوان جريح يوشك أن ينقض ليفترس، بكل ضراوة الألم والإهانة وغريزة البقاء!!
وبعد لأي تجرأ أحد الفقهاء فقال في تذلل: "السلطان أولى بالصفح والعفو، ولاسيما في مثل هذا الشهر، شهر رمضان. فلم يرد السلطان، وهمهم آخر ملتمسا مغفرة السلطان..!
ولم يرد السلطان .. وانصرف الفقهاء والعلماء، وكان معهم على مائدة الإفطار، عدد من العلماء والفقهاء من كل الأقطار.
وتناقل العلماء والفقهاء ما حدث، ولاموا أنفسهم على الصمت في حضرة السلطان، وهم يعلمون أنه على الباطل، وأن الشيخ عز الدين على الحق الذي يؤمنون به هم أنفسهم!. وتحفز الطلاب والمعجبون!
ما عسى أن يصنع السلطان بشيخهم عز الدين؟!
أيتهم السلطان الأشرف وهو جاهل بأصول الدين، شيخهم العالم الورع التقي بالفجر والكفر؟!! .. أتراه ينزل به عقاب الفجار والكفار وهم ينظرون!!
واشتعل التوتر في دمشق، وأصبح الناس وما من شيخ من الذين حضروا المأدبة بالأمس، يستطيع أن يمشي في الأسواق!
احتشد الطلاب حول باب الشيخ عز الدين، وتعهدوا أن يمنعوه إذا حاول السلطان أن ينزل به أي مكروه.
ولاذ أراذل شيوخ الحنابلة من حاشية السلطان بالقصر، غير أن شيخ المالكية عمرو بن الحاجب عذبه صمته وصمت الفقهاء الآخرين أمام السلطان، فركب بغلته وأخذ يطوف المدينة، حتى جمع العلماء في الجامع الأموي بعد صلاة العصر وانقض عليهم يعنفهم: "العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل، وما فيكم من نطق بالحق. وسكتم وما انتصرتم لله تعالى والشريعة المطهرة".
ولما تكلم متكلم منكم قال: السلطان أولى بالعفو والصفح ولاسيما في مثل هذا الشهر!! وهذا غلط يوهم الذنب، فإن العفو والصفح لا يكون إلا عن جرم وذنب .. أما كنتم سلكتم طريق التلطف بإعلام السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم ومذهب أهل الحق وأن جمهور السلف والخلف على ذلك، ولم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يكفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله، ومنهم السلطان الأشرف؟! لقد قال الله تعالى: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(البقرة ،الآية :42) ولام ابن الحاجب لأنه سكت، وأعلن الندم والتوبة .. ثم اقترح عليهم أن يكتبوا فتيا بموافقة الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وكتبوا الفتيا ووقعوها، وذهبوا إلى بيت العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وخاضوا إليه زحام الناس الذين رابطوا عند بيته.
وقبل أن يتدافع الناس لإدانتهم على موقفهم أعلن ابن الحاجب، أنهم جاءوا الشيخ بفتيا موقعة منهم توافق رأيه. وهذا هو اعتذارهم له عما فرط منهم أمام السلطان في حق الشريعة وحق ابن عبد السلام.
وفرح الشيخ بموقف ابن الحاجب ومن معه من العلماء والفقهاء. فأرسل الشيخ إلى السلطان يعلمه بفتيا الشيوخ، وأنهم إذا كانوا قد سكتوا ولم يعلنوا رأيهم على سماط الإفطار بالأمس، فما ذلك إلا لأن السلطان لم يمكنهم من الكلام لما ظهر من حدة غضبه"!
وأنهى رسالته طالبا من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة يحضره المالكية والحنفية وغيرهم من العلماء لتدور المناظرة أمام الجميع بينه وبين خصومه من فقهاء رجال الحاشية!
وأنهى رسالته إلى السلطان بقوله: "والذي نعتقده في السلطان أنه إذا ظهر له الحق رجع إليه وأنه يعاقب من موه بالباطل عليه، وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل. فإنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادعا، وبدع بهم وأهانهم."
وذهب ابن الحاجب إلى السلطان وسلمه الرسالة، ولم يقرأها السلطان أمامه، ووعده السلطان خيرا ودعه خير وداع ..
وعندما خلال السلطان الأشرف إلى رجال حاشيته من الفقهاء الحنابلة وقرأوا الرسالة وجسوا خيفة من مجلس المناظرة الذي اقترحه الشيخ عز الدين، فما كانوا يطيقون مواجهة أمام سائر الفقهاء والعلماء. وخلصوا نجيا وأجمعوا على ألا تكون مناظرة، ثم وسوسوا في صدر السلطان ألا يقبل عقد المناظرة، فقد يهينه ابن عبد السلام!
وكتبوا ردا فوقعه السلطان. واستدعى رسولا يحمل الرسالة إلى الشيخ عز الدين ليأتي في الوقت برده.
وفض الشيخ رسالة السلطان وقرأها بصوت مرتفع ليسمعها ضيوفه. "بسم الله الرحمن الرحيم. وصل إلى ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام أصلحه الله من عقد مجلس وجمع المفتين والعلماء وقد وقفنا على خطه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به.
ونحن نتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم في حقهم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواة، ويتبع الحق ويتخلص من البدع، اللهم إلا إن كنت تدعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قدر الدعوى، ولتكون صاحب مذهب خامس، وأما ما ذكره عن الذي جرى في أيام والدي تغمده الله برحمته، فذلك الحال أنا أعلم به منك، وما كان له سببه إلا فتح باب السلامة لأمر ديني.
وجرم جره سفهاء قوم فحل يغير جانيه العذاب
ومع هذا لقد ورد في الحديث: (الفتنة نائمة لعن الله مثيرها). ومن تعرض إلى إثارتها قاتلناه مما يخلصنا من الله تعالى، وما يعضده كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم." وعندما فرغ الشيخ من قراءة الرسالة طواها وقال للرسول: "قد وصلت وقرأتها وفهمت ما فيها فاذهب بسلام. فرد الرسول: "لقد تقدمت الأوامر السلطانية بإحضار جوابها."
والطلاب ومؤيدو الشيخ مازالوا خارج الدار ينتظرون ما يكون، وقد استبد بهم التوتر والقلق منذ دخل رسول السلطان!
وفي داخل الدار يجلس مع الشيخ ابنه عبد اللطيف، وبعض الأصدقاء، وأحد العلماء الفضلاء ممن يغشون مجالس السلطان، وقد أقبل يتوسط بين السلطان والشيخ .. ولكنه لم يكد يسمع الرسالة حتى تغير لونه وأيقن أنه لا جدوى من وساطته، ودخل في نفسه أن الشيخ يعجز عن الجواب، وأنه هالك لا محالة!
غير أن الشيخ كتب للسلطان مترسلا بلا توقف وهو يقرأ ما يكتبه: "بسم الله الرحمن الرحيم. { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } * { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (الحجر،92-93) أما بعد. حمدا لله الذي جلت قدرته وعلت كلمته، فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم عليه: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخ راجل يعجبكصُونَ }( الأنعام ،الآية:116). وقد أنزل الله كتبه ورسله لنصائح خلقه. فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه. وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين، وقد أديت ما علي في ذلك. والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف في ذلك إلا رعاع لا يعبأ بهم! وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع. والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .." وختم الرسالة بتوقيعه وطواها وسلمها رسول السلطان.
وقال له العالم الذي جاء للوساطة بينه وبين السلطان: لو أن هذه الرسالة التي وصلت إليك وصلت إلى قس بن ساعده لعجز عن الجواب، وعدم الصواب، ولكن هذا تأييد من الله.
وتليت الرسالة على السلطان، فألقوا في روعه أن الشيخ يتحداه محتميا بالعامة والطلاب وسائر العلماء! فلينزل بالشيخ عقاب الفجار والكفار!
ولكن السلطان لم يستطع فقد وجد كل العلماء حتى فضلاء الحنابلة يؤيدون الشيخ! فما يقف مع السلطان إلا بعض رجال الحاشية من فقهاء الحنابلة وهم الذين أسماهم الشيخ في رسالته: الرعاع الجهال. وأتهمهم بالبلادة والإساءة إلى الإمام أحمد بن حنبل!
وفكر السلطان مليا، ثم استدعى وزيره واسمه خليل ليشاوره في الأمر، وكان الرجل من الذين يحبون الشيخ عز الدين ويحترمونه. ومازال الوزير يحاور السلطان ويوضح له سوء عاقبة البطش بالشيخ حتى هدأ السلطان.
وذهب خليل وزير السلطان إلى الشيخ العز يبلغه أمر السلطان: "ألا لا يفتي، وألا يجتمع بأحد وأن يلزم بيته". وحاول الوزير خليل أن يهون على الشيخ عز الدين. فهذا العقاب أخف مما كان معدا له.
غير أن عز الدين ابتدره باسما: "أن هذا العقاب من نعم الله الجزيلة علي، الموجبة للشكر على الدوام. أما الفتيا فإنى كنت والله متبرما منها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم. ومن سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطئه، واشتغل بطاعة الله."
وأراد الشيخ أن يقدم هدية للرسول شكرا على هذه الرسالة السارة، فلم يجد غير سجادة صغيرة: ولما عاد خليل يروي للسلطان ما قاله الشيخ عز الدين قال السلطان محنقا: "قولوا لي ما افعل به؟! .. هذا رجل يرى العقوبة نعمة. اتركوه بيننا وبينه الله."
على أن الذين أحاطوا بدار الشيخ العز عز الدين لحراسته أنكروا عليه طاعته لأمر السلطان، وكلموه في ذلك فقال لهم إن مصلحة قيام الشرع تقتضي وجود السلطان، ومتى وجد وجبت طاعته وإلا تعطلت الأحكام!! ولكن لا طاعة للسلطان إذا خان عهد الله وأهدر مصالح المسلمين وأمر بمعصية الخالق. أما فيما عدا ذلك فالطاعة واجبة.
فأمرهم بالحسنى أن ينصرفوا إلى شئونهم ويدعوه وشأنه، فسيعتكف للعبادة .. أما وجودهم حول الدار فسيتيح لأعدائه أن يتهموه بإثارة الفتنة!
غير أنهم انصرفوا إلى الزاوية الغزالية التي كان يدرس بها، وأقسموا ألا يستمعوا لشيخ غيره.! وجلسوا في حلقته الفارغة متربصين! ولم يجئ إليهم أستاذ غيره يعلمهم مكانه!!
على أن سائر العلماء والفقهاء أضمروا السخط على ما أصاب الشيخ، ولكنهم رضوا به لأنهم كانوا يتوقعون عقابا أشد ودعوا الناس إلى الصبر وقضاء أخف من قضاء!!
أما الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية فما كان ليستطيع على ما جرى صبرا..! وكان عالما ورعا فاضلا صاحب نفوذ على قلوب الناس جميعا، وكان السلطان يحسب له ألف حساب!
وما هي إلا ثلاثة أيام قضاها عز الدين في بيته، متمثلا للأمر السلطاني، ممتنعا عن لقاء من سعوا إلى لقائه، حتى كان الشيخ الخضري يركب حماره إلى السلطان، ومعه ابن الحاجب شيخ المالكية. ولم يكد السلطان يعلم أن الشيخ الخضيري شيخ الحنفية قادم إليه حتى أمر كبير وزرائه وكبار حاشيته أن يستقبلوا الشيخ خارج القصر، وأن يدخلوه القصر راكبا حماره تكريما له.
ودخل الشيخ ساحة القصر، فاستقبله السلطان وأنزله بنفسه عن حماره، ودخله القصر وأجلسه إلى جواره وهش له، وجلس ابن الحاجب وفي يده ورقة فيها توقيع العلماء على تأييد موقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام ..
وحين أذن لصلاة المغرب وبسطت المائدة للإفطار، أم الشيخ الخضيري السلطان في الصلاة! وبعد الصلاة دار الشراب عليهم وهم جلوس قبل أن ينتقلوا
تنبأ لنفسه أنه سيعيش ثلاثا وثمانين عاما، فكان الأمر كما قال!. زاره صديق ذات صباح فقال له: "رأيتك في المنام تنشد:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
فسكت ساعة ثم قال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن، فهو شيعي وأنا سني، وهو قصير وأنا لست بقصير، وقد عاش ثلاثا وثمانين سنة فسأعيش كما عاش أن شاء الله.
ولد في دمشق عام 577 هـ، وتوفى بالقاهرة عام 660 هـ، ودفن بسفح المقطم.
وحين بلغ الثانية والستين، بدأ حياة جديدة، وغير كل ما تعوده وهو صغير: فقد ترك دمشق مغاضبا وهاجر إلى الله من بغي حاكم دمشق، واستقر في القاهرة، وشرع في تأليف الكتب. فوضع كل مصنفاته فيها، وما كان من قبل قد كتب شيئا يعتد به، ذلك أنه كان ينفق كل وقته في التدريس والخطابه والوعظ .. وفي القاهرة جمع إلى هذه الأعباء مسئولية الكتابة، فصنف كتبا في الفقه والتفسير والأصول والتصوف. وصاول الحكام!.
أطلق عليه أبوه اسم العز عز الدين عبد العزيز .. ولكنه عندما كبر اشتهر باسم عز الدين وباسم العز، وقلما كان يناديه الناس عبد العزيز.
وقد فتح العز بن عبد السلام عينيه على حياة الحرمان .. كان أبوه عبد السلام فقيرا جهد الفقر وكان يجوب الأسواق بحثا عن عمل.
وحين شب الطفل صحبه أبوه ليساعده في بعض الأعمال الشاقة كإصلاح الطرق وحمل الأمتعة، وتنظيف ما أمام محلات التجار..
وكان أبوه عبد السلام يأخذه إلى الجامع الأموي إذا حان وقت الصلاة، ورآه أحد شيوخ المسجد. فأعجب به ودعا له. مات أبوه فلم يجد في نفسه القوة إلى القيام بالأعمال الشاقة التي كان يؤديها أبوه، ولم يجد الصبي مكانا يأوي إليه، فذهب إلى الشيخ يلتمس عنده المساعدة في الحصول على عمل يقتات منه وكان يبيت فيه.
وتوسط له الشيخ فألحقوا الصبي بالجامع الأموي، يساعد الكبار في أعمال النظافة، وفي حراسة نعال المصلين وأهل الحلقات التي يتركونها عند أحد أبواب الجامع، وسمحوا له بأن ينام الليل في زاوية بأحد دهاليز الجامع، على الرخام. وكان الصبي يعايش مرائي الغنى والمتاع خلف أسوار القصور بحدائقها الفيحاء في دمشق، ويشاهد الجياد الفارهة على صهواتها رجال تنعكس الشمس على خوذاتهم، وملابسهم الزاهية وسيوفهم المرصعة بالذهب، ويتأمل حاله وثوبه الذي تقتحمه العيون، ومضجعه البارد على رخام زاوية في المسجد، ثم يتساءل في أغوار نفسه كيف يعيش في بلد واحد رجال ونساء كهؤلاء الغارقين في النعيم، والذين يسقطون من الحرمان، ويقتاتون بالأسى والأحلام؟!
على أنه صرف همه إلى ما يقوله الشيوخ في الحلقات .. وكان يتناهى إلى سمعه وهو على باب المسجد يحرص النعال كلام يثير خياله، ويلهب أشواقه إلى دنيا أخرى لا يجوع فيها ولا يعرى!
وتسلل إلى إحدى الحلقات ذات يوم، ودس جسده النحيل الصغير بين الطلبة الكبار. ورآه شيخ الحلقات، فنهره، وسأله كيف يسمح لنفسه أن يجلس بثوب ممزق في مجلس للعلم ينبغي على الطالب فيه أن يأخذ زينته..؟!
وجرى الصبي إلى باب المسجد، وتكور على نفسه يبكي! .. حتى إذا حان خروج الشيوخ والطلاب، رآه الشيخ الذي ألحقه بالجامع وهو الفاخر بن عساكر صاحب حلقة الفقه الشافعي، وسأله الشيخ عما يبكيه، فروى له ما كان من أمره، فطيب الشيخ خاطره، ووعده أن يتعهده، وسيحضر الحلقات عندما يبلغ الشباب. ومن يدري!؟ فربما أصبح هذا الصبي نفسه شيخا لحلقة في هذا الجامع ذات يوم! ..
وضحك الصبي، والتمعت عيناه، واقتحمت نظراته الجدران إلى آفاق المستقبل، ورأى نفسه طالب علم، ثم شيخا لحلقة، فأوشك أن يثب من الفرح، وقبل يد الشيخ وسأله متى يبدأ التعليم، فقد جاوز سن الطلب؟!. وقال له الشيخ الفخر بن عساكر، أنه سيبدأ من الغد.
حتى إذا كان الغد، أخذه الشيخ إلى مكتب ملحق بالمسجد وأوصى بإن يتعلم القراءة والكتابة والخط وأن يحفظ القرآن، وتعهد الشيخ بنفقة الصبي.
وأقبل العز على المكتب في شغف عظيم، وحفظ القرآن، وأتقن القراءة والكتابة والخط الحسن وعوض ما فاته من سنوات الدرس.
وكان كلما لقي شيخه على باب الجامع سأله الشيخ عن حاله، فيسمعه الصبي ما حفظ من القرآن، ويطلعه على ما يكتب في اللوح الصفيح من الآيات الكريمة.
وأعجب الشيخ ابن عساكر بما يبدو على العز من مخايل النجابة والذكاء وحسن ترتيله للقرآن، وأعجب بصفة خاصة ببشاشة الصبي على الرغم من فقره الطاحن.!
ومرت أعوام، واطمأن الشيخ فخر الدين إلى أن الصبي قد أتقن حفظ القرآن وجوده، وإلى أنه قد أصبح يحذق القراءة والكتابة بخط جميل، فبشره الشيخ بأنه سيضمه إلى الطلاب الذين يحضرون حلقته، ودفع إليه بما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور حلقات العلم.
وأمضى الصبي ليلته يحلم بالمستقبل!
إنه الآن ليثب إلى مرحلة الشباب، وفي حاجة إلى عمل يكفل له دفء المسكن والثوب اللائق والطعام الطيب..! هو في حاجة إلى ما يوفر له شراء أدوات التحصيل من دفاتر وأقلام وأوراق ومحبرة، وما يلزم من كتب.
وتحرج أن يكلم الشيخ ليساعده في الحصول على عمل آخر يحصل منه على أجر أكبر ويوفر له ما ينبغي لطالب العلم! .. لقد منعه الحياء! ..
وقبل أن تنتهي ليلته استيقظ فجأة..!
ويحدثنا السبكي في طبقات الشافعية عن تلك الليلة فيقول: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في كلاسة "زاوية" من جامع دمشق، فبات فيها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعا ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فناد، فاحتلم ثانيا، فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمى عليه من شدة البرد .. ثم سمع النداء: "يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال: بل العمل لأنه يهدي إلى العلم".
وأصبح الفتى عز الدين، فروى لشيخه ابن عساكر ما كان من أمر تلك الليلة. وقال الشيخ له "لقد بلغت مبلغ الرجال. وهذا النداء هاتف من السماء يأمرك أن تهب نفسك للعلم".
وأعطاه الشيخ كتاب "التنبيه" في الفقه للشافعي، وأعطاه أسبوعين مهلة ليحسن قراءته واستيعابه. وعاد العز إلى شيخه بعد ثلاثة أيام وقد استوعب الكتاب وحفظه عن ظهر قلب!
وضمه الشيخ إلى حلقته، ونظم له حضور حلقات أخرى في اللغة وآدابها، وفي الحديث وأصول الفقه. ونصحه أن يتقن علوم اللغة من نحو وصرف، وأن يحفظ الشعر ويدرسه ليحسن فهم نصوص القرآن.
وكان العصر زاخرا بكثير من المعارف. ولكن الشيخ ابن عساكر نصح تلميذه ألا يهتم من كل تلك العلوم إلا بما يعين على فهم القرآن.
ولزم عز الدين شيخه ابن عساكر، وتعلم منه الفقه الشافعي، وكان الشيخ زاهدا ورعا واسع المعرفة كثير الصدقات، خطيبا، لاذعا، وهو في الوقت نفسه شديد الحياء، وكان مرحا متألق الظرف، فتأثر تلميذه عز الدين ونقل عنه كثيرا من خصاله وسجاياه.
من الحق أن عز الدين لزم شيخه ابن عساكر وتأثر به، ولكنه لم يلتزم نصحه فيما يطلب من علوم، فتاق إلى التزود بمعارف عصره جميعا. وكانت أفكار اليونان والمصريين القدماء والهنود والفارسيين قد نقلت إلى اللغة العربية .. وكان المسلمون قد تفوقوا في علوم الطبيعة والطب والكمياء والرياضيات والفلك، وتعاطوا الفلسفة فأراد عز الدين أن ينهل من هذا كله.
وكانت فلسفة الإشراق التي جاء بها السهروردي إلى دمشق وحلب تعيش، وتصك أعداء تلك الفلسفة الذين نجحوا من قبل في الإيقاع بالسهروردي، فأغروا به صلاح الدين. وكان ابنه الظاهر يحمي السهروردي في قصره بحلب ..
فأمر صلاح الدين ابنه الظاهر أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبرا وجوعا وعطشا، ولكن الظاهر بن صلاح امتنع، فأرسل إليه أبوه يخبره بين إحدى اثنتين: أما قتل السهروردي أو العزل!
وأذعن صاحب حلب لأمر أبيه صلاح الدين وجاء السهروردي وخصومه، وأمرهم أن يناظروه قبل أن يقضي في أمره.
كان السهروردي شيعيا، وصلاح الدين يحارب الشيعة ويضربهم في مكان .. وكان السهروردي ينادي بأن العالم لم يخل من الحكمة ومن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات، وهذا الشخص هو الإمام وهو خليفة الله في أرضه، وهو واجب الاتباع فهو معصوم يوحي إليه لكن على نحو آخر غير الأنبياء والرسل!
وكان السهروردي يذهب إلى أن النور أساس كل الموجودات، ويعتمد على الآية الكريمة: "الله نور السماوات والأرض". وقد استفاد بحكمه اخناتون الذي نادى بالتوحيد في مصر القديمة، واعتبر النور والشمس بالذات سبب وجود كل الكائنات الحية، كما استفاد الرجل بأفكار أفلاطون في المثل وآراء زاردشت الفارسي. ولكنه رد كل أفكاره إلى القرآن الكريم .. واحسن الاستشهاد بآياته..
ولم يعرف أحد لماذا آثار فقهاء دمشق على السهروردي، واتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالكفر! .. وعلى الرغم من أن الظاهر بن صلاح الدين كان سنيا كأبيه، فقد بسط حمايته على السهروردي معجبا بأفكاره الصوفية، وبفكرة الإشراق، والفيض الإلهي الذي تشرق به قلوب الصالحين فيحصلون المعرفة الذوقية مع المعرفة العقلية.
ومهما يكن من أمر فقد جمع الظاهر بن صلاح الدين خصوم السهروردي من الفقهاء .. وبدأت المناظر أو المحاكمة التي صدر فيها سلفا أمر صلاح الدين بقتل السهروردي حكيم الإشراق!!
سأله خصومه: "الله قادر على أن يخلق ما يشاء؟!"
قال السهروردي: "نعم" فسألوه ونبي الإسلام أليس هو خاتم الأنبياء؟."
قال: "بلى" قالوا: "ألا يستطيع" إله هكذا أن يبعث نبيا بعد نبي الإسلام؟".
كان السؤال مصيدة للرجل!
قال السهروردي بعد لحظة: "ختمت النبوة ولكن الولاية قائمة."
وأخذوه برأيه في الولاية .. فهو يرى أن ولي الله وهو الإمام المعصوم قطب الأقطاب خليفة الله في الأرض يجب أن يكون من نسل النبي .. وهذا النظر يحكم بعدم شرعية الخلفاء والملوك إلا إذا كانوا من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم .. أي من أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهما .. وصلاح الدين نفسه ليس عربيا على الإطلاق فهو كردي الأصل. وهكذا اضطر الظاهر بن صلاح الدين أن يودع السهروردي غيابة السجن، حيث قتلوه صبرا وجوعا!
ولقد وقعت الواقعة بالسهروردي بينما كان عز الدين بن عبد السلام صبيا في نحوه العاشرة من عمره، وزلزلت نهاية السهروردي الفاجعة نفس الصبي زلزالا شديدا، ولم يفارقه الحزن والعجب .. كيف يقضي على رجال بالموت لأنه قال رأيا يخالف فيه بعض الفقهاء، ولا يرضى عنه الحاكم!؟
ولكن أفكار السهروردي في الإشراق قد ذاعت وملأت أماكن العلم، وأصطك فيها الناس بين مستنكر ومعارض ..
منهم من يرى القتيل شهيدا مات دفاعا عن تصوفه ومنهم من يراه كافرا!! حتى ظهر في دمشق رجل آخر تسمى باسم السهروردي، وأذاع أفكار السهروردي في الإشراق، ولكنه لم يعد يتحدث الإمامة والولاية، ولبس خرقة التصوف، ومضى في الطرقات يهتف بالناس: "الله نور السماوات والأرض." وأخذ يشرح أفكار السهروردي عن النور والفيض الإلهي...
وتبعه قوم لبسوا خرق التصوف، وأطلقوا كلمات في الأسواق وندوات العلم. كلمات مكثفة تحمل رموزا كثيرة..!
وبهر الشاب عز الدين بهؤلاء وأحوالهم .. وبهرته بصفة خاصة شخصية السهروردي الجديد فلزمه على الرغم من نصيحة شيخه .. ولبس عز الدين خرقة التصوف عاما أو بعض عام ملتمسا على الحقيقة على يد السهروردي الجديد، حتى إذا علم ما عنده، عاد إلى أستاذه ابن عساكر يلتمس عنده علوم الشريعة من جديد ..
وسمع عز الدين أن في العراق شيخا عنده من علم الحديث ما ليس عند غيره في دمشق فحمل متاعه وزاده وسافر إلى بغداد، وجلس إلى ذلك الشيخ وحفظ عنه الحديث .. ثم عاد من جديد إلى دمشق.
كان صلاح الدين الأيوبي قد مات، وترك دولة شاسعة تقاسمها أخوته وأبناؤه وأبناء أخوته .. وما هي إلا سنوات حتى تقطعوا أمرهم، فتفرقوا وأصبح بأسهم بينهم شديدا .. وتمزقت دولة صلاح الدين إلى دويلات تناحرت فيما بينها، مما أغرى التتار والصليبيين بالطمع في الاستيلاء على بعض أجزاء هذه الدولة الإسلامية الكبرى.
وقد أسكت هؤلاء الحكام معارضيهم إما بالإرهاب والقمع أو بإغراقهم في المال أو بدفعهم إلى الزهد والتصوف على نحو لم يعرفه السلف الصالح من الزهاد والمتصوفين. وكان هؤلاء جميعا من العلماء والفقهاء الذين يؤثرون في الأمة أبلغ تأثير!
وعز الدين يرى كل هذا.، فيتقدم صفوف طلاب العالم تحت راية الإسلام وخلف قيادة بعض شيوخه من العلماء القلائل المقاومين .. وعرفه الشباب خطيبا يستثير الحمية. وكان إلى هذا شديد الدأب على تحصيل العلم، مما أثار إعجاب شيوخه به.
ولم يكد ينتهي من الدراسة على شيخه الفخر بن عساكر، وغيره من الشيوخ في جامع دمشق، حتى أجازوه للتدريس.
وعين مدرسا بدمشق، يقرئ صغار الطلاب القرآن، ويعلمهم القراءة والكتابة .. ثم نقل إلى مدرسة أعلى .. يعلم الطلاب الفقه وأصول الفقه على المذهب الشافعي .. وهو المذهب السائد إذ ذاك في كل البلاد التي حكمها صلاح الدين.
وهيأت له مهنة التدريس أجرا طيبا أصلح به حاله، فاستأجر بيتا لائقا وتزوج ..
وعرف الناس في ندوات دمشق شيخا متوسط الطول، يسخر مما يلقي، مرحا ضاحك السن وعليه مع ذلك وقاره عذب الحديث، خفيض الصوت إذا تكلم، جهير الصوت إذا انفعل أو خطب، نظيف الثوب، لا يرد سائلا، فإذا لم يجد ما يتصدق به اقتطع جزءا من عمامته ودفع به إلى سائله!
وكان نحيلا يقتحم بنظراته المجهول كأنه يفتش وراء الغيب عن شيء ما..!
لم يقتنع بما نال من علم، فتعود أن يغشى مكتبه الجامع الأموي يقرأ فيها كل ما يقع عليه من معارف، وقد كشفت له تأملاته ودراساته في آثار السلف أن كل المعارف الإنسانية تعين على فهم القرآن .. وكان يريد أن يفسر القرآن، ولكنه شعر أن الوقت لم يحن بعد، وأن عليه أن يستوعب الكثير من العلوم حتى يجسر على العمل بالتفسير وهو مطمئن الضمير!
ودرس خلافات المتقدمين حول الفلسفة، وكان الإمام الغزالي قد هاجم الفلسفة من قبل، ولكن هذا لم يصرف كل العلماء عن دراسة الفلسفة، فهاهو ذا السهروردي المفتول الذي فتن عز الدين بآرائه قد خلف ميراثا سخيا من الفكر وفق فيه بين الفلسفة والدين.
واستوعب العز كل ما تركه السلف في علم الكلام. العلم الذي يتكلم عن الله وصفاته وأسمائه. ومن السلف من هاجم هذا العلم ونبذه واعتبره بدعة فاسدة، ومنهم من عالجه وتعمق فيه وأضاف إليه، واعتبره علم أصول الدين.
والخلاف بين العلماء حول هذا الأمر قديم يرجع إلى نهاية القرن الأول وأوائل القرن الثاني للهجرة، حين ظهر المعتزلة وأخضعوا كل شيء للعقل، وتحدثوا في القضاء والقدر والجبر والاختيار وصفات الله تعالى، واعتمدوا في كل آرائهم على الأدلة العقلية. ونبذهم أهل السنة ورفضوا واعتمدوا على ما تركه السلف منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة ومن بعدهم عصر التابعين. وذهب أهل السنة إلى رفض الكلام في كل هذه الأمور، لأن أسلافهم لم يتكلموا فيها بل إن منهم من نهى عن الاقتراب منها.
واتهم أهل السنة مفكري المعتزلة بالزيغ والضلال، واتهمهم المعتزلة بالجمود وانعكس هذا على قواعد استنباط الأحكام وأصول الفقه، فمن تأثروا بالنظر العقلي اعتمدوا على الرأي في الاستنباط، وتمسك آخرون بالنصوص، وحدها، ولم يعدلوا عنها إلى الرأي إن لم يجدوا الحكم في النصوص كما صنع أهل الرأي ودعاة أعمال العقل، بل آثروا الصمت. ومن أهل السنة من آخذ بظاهر النص وحده، ومنهم من تأول النص ليستنبط الحكم أن لم يسعفه الظاهر.
وانتقلت كل هذه الأفكار بصراعاتها على أمواج الزمن من جيل إلى جيل. حتى أتيح لأهل السنة مفكر كان من قبل من كبار مفكري المعتزلة ثم هجرهم، مستخدما أدواتهم في التفكير والاستنباط، فاعتمد على البراهين العقلية في مناصرة آراء أهل السنة والنصوص.
حدث هذا في القرن الرابع الهجري.
وهذا الفقيه هو الأشعري الذي ألف الكتب على مذاهب أهل السنة ورد على المعتزلة في كل مقولات علم الكلام. "حتى دخلوا في أقماع السمسم".
وكان المعتزلة قد ذهبوا إلى أن العقل هو أساس الحكم بالقبح والحسن، وتبين الحلال والحرام، وذهبوا في تفسير الآية الكريمة وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. إلى أن الرسول ليس هو النبي الذي يرسله الله، ولكنه العقل.
وأتهمهم أهل السنة بالكفر، ورفضوا أن يتكلموا في العقائد بالأدلة العقلية، وهاجموا المنطق والفلسفة، حتى جاء الأشعري، فاستعان بالمنطق والفلسفة في الكلام عن العقائد، ودافع عن السنة بأدلة المعتزلة. فلم يعتمد على النصوص وحدها في كلامه عن العقائد، وإنما أعمل العقل، ليناور المعتزلة بأسلحتهم.
وقد أعجب العز بهذا كله، واعتنق عقيدة الأشعري، كما اعتنقها من قبل أكثر المستنرين من أهل السنة والرأي مهما تختلف مذاهبهم الفقهية. أعجب العز عز الدين بمحاولات المعتزلة والأشاعرة وتوفر على دراستها في مكتبة الجامع الأموي.
ولقد أعجبته بصفة خاصة مناظرة بين الأشعري والجبائي أحد أئمة المعتزلة، "عن ثلاثة أخوة ماتوا: الأكبر منهم مؤمن بر تقي، والأوسط كافر فاسق شقي، والأصغر مات على الصغر لم يبلغ الحلم.
فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات ـ بناء على أن ثواب المطيع وعقاب العاصي واجب على الله تعالى عند المعتزلة ـ وأما الصغير فمن أهل السلامة لا يثاب ولا يعاقب.
فقال الأشعري: فإن طلب الصغير درجات أخيه الأكبر في الجنة؟
الجبائي: يقول الله تعالى الدرجات ثمرة الطاعات.
الأشعري: فإن قال الصغير ليس مني النقص والتقصير .. فإنك إن أبقيتني إلى أن أكبر لأطعتك ودخلت الجنة.
الجبائي: يقول الباري تعالى قد كنت أعلم منك أنك لو بقيت لعصيت ودخلت في دركات الجحيم. فإن الأصلح لك أن تموت صغيرا.
الأشعري: فإن قال العاصي المقيم في العذاب الأليم مناديا من بين دركات النار وأطباق الجحيم يا إله العالمين! يا أرحم الراحمين! لم راعيت مصلحة أخي دوني أنت تعلم أن الأصلح لي أن أموت صغيرا ولا أصير في السعير أسيرا؟ فماذا يقول الرب؟
فبهت الجبائي في الحال وانقطع عن الجدال.
وعن دور الأشعري في الفكر الديني.
كتب المغفور له الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق: أخذت الفلسفة توجه أهل الفرق إلى الاعتماد على العقل. فلما أخذ الأشعري في مناضلة المبتدعة بالعقل حفاظا للسنة، جاء أنصار مذهبه من بعده يثبتون عقائدهم بالعقل تدعيما لها ومنعا لإثارة الشبهة حولها. ووضعوا الأدلة العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار".
وإذن فمذهب الأشعري مقرر لمذاهب السلف ولكنه يناضل عنها بالأدلة العقلية لا بالنصوص وحدها. وهو رأي وسط بين مذهب المعتزلة الذين نفوا التجسيم عن الله تعالى ومذهب غلاة الحنابلة الذين آمنوا بالتجسيم كما يدل ظاهر النص.
ولقد شاعت عقيدة الأشعري فاجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلا الحنابلة .. كما قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيما بعد. وكان صلاح الدين قد اعتنق المذهب الشافعي وعقيدة الأشعري فألزم بهما الناس.
غير أن الذين جاءوا من بعده تفرقوا: فظل بعضهم شافعيا على رأي صلاح الدين، واعتنق بعضهم غير ذلك من المذاهب، وإن ظلوا جميعا على رأي الأشعري إلا قليلا!
وكان الملك الكامل حاكم مصر وهو ابن العادل شقيق صلاح الدين أوسعهم أفقا وأشدهم احتفالا بالعلم والعلماء حتى لقد جلس وهو ملك مصر إلى الشيوخ ليتعلم منهم في الحلقات ثم تقدم لنيل إجازة علمية كما يتقدم غيره من الطلاب ونجح فيها! وتعود أن يعقد مجلسا للعلماء في مساء كل خميس، وفتح المدارس والمكاتب وأغدق على أهل الفقه والعلم .. وكف عن اضطهاد أصحاب المذاهب الأخرى كما كان يصنع عمه صلاح الدين. وعين قضاة من كل المذاهب بدلا من القاضي الشافعي الذي اكتفى به أبوه .. ولقد نافسه في تشجيع العلماء أخوه عيسى، فكافأ المؤلفين حتى وضعوا في عهد الملك الكامل كتابا من أضخم كتب الفقه الحنفي وهو كتاب (التذكرة).
وقد أرسل العز بن عبد السلام إلى الملك الكامل وأخيه عيسى كتاب شكر على ما يصنعان للعلم والعلماء، فأرسلا إليه ردا جميلا. وبعث الملك الكامل إلى أخيه صاحب دمشق ـ الملك الأشرف ـ يستوصيه خيرا بالعالم الشاب عز الدين بن عبد السلام.
وكان عز الدين قد جذب إليه عديدا من الطلاب أحبوا دروسه التي كان يرصعها بما يحفظ من طرائف الحكمة وروائع الشعر مما كان ييسر على الطلاب صعوبة الفقه.
وقصده الناس يستفتونه فلم يبخل عليهم بالرأي، ولم يعد يتقيد بالمذهب الشافعي الذي كان يعتنقه من قبل، بل كان يبحث في كل المذاهب عن إجابات لم يرد إليه من أسئلة، فإن لم يجد حاول أن يجتهد رأيه.
وكان شديد الحرج في فتياه. يفكر طويلا قبل الإجابة، ويظل يفكر بعدها وينقب حتى يطمئن أنه على الصواب. ولقد أصدر فتيا ذات مرة، ثم طفق يفكر بعدها فيما قال، وعاد إلى كتب السلف عسى أن يجد فيها ما يسانده، فاكتشف أنه أخطأ، ولم يكن يعرف صاحب المسألة الذي أستفتاه، فأطلق عددا من تلاميذه في الأسواق والطرقات والمساجد ينادون في الناس: "من صدرت له فتيا بالأمس من العز عز الدين بن عبد السلام فلا يعمل بها فهي خطأ، وليعد إلى الشيخ ليفتيه بالرأي من جديد بالصواب".
شاع ذكر الشيخ في أقطار المسلمين، ولم يكن قد ألف كتابا بعد ولكن هاهو ذا شاب عالم فقيه زاهد أمين، يتحرر من المذاهب الفقهية في عصر شاع فيه التقليد للأئمة الأربعة، كل جماعة تتعصب لمذاهب ولا تعدوه حتى إن وجدت الجواب الصحيح عند غيره من المذاهب، وكل حزب بما لديهم فرحون! فإذا صدرت الفتيا من أحدهم فلا رجعة فيها حتى إن تبين الخطأ ...
وعز الدين لا يتفرغ للعلم والتدريس والفتيا فحسب، ولكنه يتحرك في الأسواق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في رحمة وحكمة وموعظة حسنة، ويشدد النكير على الظالمين من التجار الذين يبخسون الناس أشياءهم، وعلى جباة المكوس، والمرتشين والجائرين ممن يلون أمرا من أمور المسلمين.
من أجل ذلك أحبه الناس: المظلومون والفقراء خاصة، وطلاب العلم الذين يجاهدون من أجل مستقبل افضل. وخافه الجائرون من الحكام، أما العادلون منهم فقد حاولوا أن يقربوه، ولكنه كان يطبعه لا يحب الاقتراب من السلطان ..
وضاق به بعض الفقهاء المقلدين ممن ينافقون الحكام .. ذلك أنه احتل مكانة لا يؤهلها له عمره فهو بعد في الخمسين، وأنه ليعتمد على مكانته هذه، فيسلق المقلدين والجاهدين والمرتشين والمرتزقة والفقهاء بألسنة حداد، ويطالب المسلمين ألا يتبعوهم حتى لا يفسدوا عليهم دينهم!
وفي أحد الدروس وجه أحد الطلاب إلى الشيخ عز الدين سؤالا عن حكم الدين في العلماء الذين يسكتون عن الظلم، وهم بعد ذاك يتصدرون بعض الحلقات في الجامع الأموي يعلمون ويفتون؟!
فأفتى الشيخ عز الدين بأن السكوت عن المنكر منكر .. وعلماء المسلمين هم أولى الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تخلوا فما أطاعوا الله والرسول، وإن كان سكوتهم طمعا. في الأموال والهدايا والمناصب أو حرصا فإثمهم مضاعف. وقد قال الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَع راجل يعجبكوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } (آل عمران ، الآية :104).
هؤلاء هم العلماء، فإن لم يفعلوا فهم العصاة والعياذ بالله! ..
وسأل طالب آخر: ألمثل هؤلاء طاعة؟! فقال الشيخ: لا طاعة لهم .. ورأى ذلك النفر من العلماء في كلام الشيخ عز الدين تحريضا للطلاب وللعامة عليهم وعلى السلطان نفسه! ..
وتوجه أحد طلاب الحلقات في الجامع الأموي إلى شيخ حلقة يسأله عن حكم الدين في العلماء الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر!. وغضب الشيخ غضبا شديدا وسب الطالبين سبا عنيفا، وطردهما من الحلقة طردا غليظا وحرم عليهما دخول الجامع، وذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام بالسوء وأنذر أن يوقع به العقاب حتى لا يفتن الشباب!
فأعلن سائر الطلاب سخطهم لمقالة الشيخ وفعلته، فسبهم جميعا، وانسحب من الحلقة وهو يصيح أن ابن عبد السلام قد أفسد العامة والطلاب.!
وانصرف الرجل فاجتمع ببعض شيوخ الحلقات من المتصلين بالسلطات وذهبوا جميعا إليه، فطالبوه أن يردع الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأن ينزل به عقاب من يثير الفتنة، ولكن الحاكم طيب خاطرهم، وكساهم حللا فاخرة وأغدق عليهم الهدايا وصررا من المال، وطلب منهم أن يمهلوه في أمر الشيخ عز الدين هذا..!
ولكنهم عادوا يطالبون بأن يمنع عز الدين من الفتيا والتدريس والمشي في الأسواق.
غير أن السلطان الأشرف لم يستجب لهم، فالشيخ علي أية حال لا يدرس في الجامع الأموي، ولكن في مدرسة صغيرة قليلة الخطر! .. فليردوا هم والجامع الأموي على آرائه.
ولكنهم مازالوا بالحاكم يغرونه بالشيخ عز الدين حتى صرح لهم بأنه لا يستطيع أن يسيء إلى عز الدين، فالملك الكامل حاكم مصر يحب عز الدين، ويوصي به خيرا، فإن نال من عز الدين سلطانهم فسيغضب له الملك الكامل ولا طاقة له بغضب أخيه الأكبر!
ولم يهدأ كيد الخصوم عن الشيخ عز الدين، وظلوا يتربصون به .. وحملتهم عليه وشدة عز الدين في نقد ذلك النفر من العلماء مكنت له في قلوب أهل دمشق، وزادته مكانة في قلب الملك الكامل. فأرسل الملك الكامل إلى أخيه الأشرف، يطالبه بأن يحسن صلة الشيخ عز الدين، وأن يعينه شيخ حلقة في الجامع الأموي، لتعم الفائدة من علمه.
أما الصلة فقد ردها الشيخ عز الدين شاكرا، وأما منصبه في الجامع الأموي، فقد فرح به، لأنه يتيح له الاتصال بعدد اكبر من الطلاب هم انضج عقلا واكبر سنا من طلاب المدرسة التي يعلم بها.
وكان منصب شيخ حلقة في الجامع الأموي هو اكبر منصب علمي في دمشق.
وتقدم الشيخ عز الدين، بوجهه النحيل الباسم، في ثياب بسيطة نظيفة، فاختار الزاوية الغزالية حيث كان الإمام الغزالي يعتكف منذ أجيال، وبدأ يدرس للطلاب علوم الدين .. وتوافد عليه الطلاب حتى ضاقت بهم الحلقة، وأقفرت سائر الحلقات من طلابها. وكان يلقي أكثر من درس في النهار والليل في الحديث والفقه والأصول .. غير متقيد بمذهب من المذاهب الأربعة.
وشرع يفتي كلما استفتاه أحد، ويشرح عقيدة الأشعري في أصول الدين، وأدلته العقلية على صحة مذهب أهل السنة. ويأخذ الطلاب بإتقان وعلوم اللغة ليفهموا نصوص الشريعة.
وغاظ التفاف الناس حوله وانصرافهم عن سواه، كثيرا من خصومه، فعادوا يحاولون الإيقاع به ولكنهم خشوا أن يردهم سلطان دمشق حرصا على إرضاء أخيه سلطان مصر!
أما الشيخ عز الدين فلم يكن ليبالي بهم، بل مضى في طريقه، يقرأ ويدرس ويفتي، وقد اطمأنت به الحياة فالراتب الذي يأخذه من المسجد الأموي راتب كبير يكفيه لحياة موفورة.
وخاطبته زوجته في أن يغير المسكن الضيق الذي كان قد استأجره وهو مدرس في مدرسة صغيرة!.
لقد ضاق بهم المسكن بعد أن أنجبا أولادا. وقال لها إنه يعرف أن المسكن الضيق هو الجحيم الأصغر كما قال الإمام علي كرم الله وجهه، وهو يتمنى أن يغيره، ولكن لا سبيل..! وعادت الزوجة تلح عليه، وكان حانيا عليها شديد البر بها، وتمنت لو أنه اشترى بيتا فسيحا يحيط به بستان جميل فهو بعد أستاذ حلقة بالجامع الأموي، وينبغي أن يتخذ له سكنا مريحا يليق به، ويتسع لأهله وبنيه، ولضيوفه الذين يتوافدون عليه ملتمسين عنده العلم، والفتيا بعد أن يفرغ من الحلقات ..
ووعدها خيرا، غير أنه لم يستطع، فقد كان ينفق عن سعة على أهل بيته، ويحسن إكرام ضيوفه ويتصدق بما بقى، ولا يدخر شيئا على الإطلاق.
ثم أصابت دمشق أزمة، فهبطت الأسعار، وقل المال، أعنت الناس عنتا شديدا .. وصارت البيوت الواسعة بما حولها من البساتين تباع بثمن قليل.
فجاءته امرأة وطلبت منه مرة أخرى أن يشتري بيتا واسعا بحديقة وجمعت مصاغا لها وقالت:
ـ اشتر لنا بهذا بستانا.
فأخذ المصاغ وباعه، وتصدق بثمنه.
فلما عاد إلى زوجته استقبلته فرحة:
ـ يا سيدي .. اشتريت لنا بستانا!
ـ نعم، بستانا في الجنة.! إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمن المصاغ.
وكان الناس يتسامعون بفضل الشيخ عز الدين فيزداد مكانة واحتراما. ولقد علم الأشرف صاحب دمشق بكثرة صدقاته، فطلبه، وحاول أن يقدم إليه مالا ليتصدق به ولكنه رد السلطان، وأفتاه أنه من الخير أن يتصدق السلطان نفسه بالمال!.
وقارن السلطان الأشرف بين هذا الرجل الذي يرفض عطاياه الخفية، وبين الآخرين الذين يرتشون ويجهرون بالإلحاح في طلب المزيد من الهدايا والأموال والمناصب!!
ودخل السلطان الأشرف إكبار خارق لعز الدين، وأدرك أن أخاه الكامل ملك مصر على حق، فمثل هذا الشيخ جدير بالاحترام. وإنه له لهيبة!
ولاحظ السلطان الأشرف أن الشيخ عز الدين لا يطالب مقابلته على خلاف الآخرين، وكانت سيطرة عز الدين على قلوب الشباب وسائر الناس تقوى يوما بعد يوم، وهو لا ينفك يهاجم خصومه من الفقهاء لجمودهم وتمسحهم بأصحاب السلطان، ولا يكف عن نفد أخطاء الحكام.
ورأى الأشرف أن من الحكمة أن يصطنع الشيخ لنفسه ويدنيه من القصر، فأخذ يمدح الشيخ عز الدين في كل مكان، ويطلبه لمجالسته فيتثاقل عنه الشيخ إلى حلقات الدرس ومجال الفتيا، ولا يبادله مدحا بمدح.
وانتهز خصومه الفرصة، فزعموا للسلطان الأشرف أن الشيخ عز الدين قد غره حب الناس له والتفاف الشباب حوله، فسولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يتعالى على الجميع حتى على السلطان نفسه!
وفي الحق أن السلطان الأشرف، كان يشعر بحرج لموقف الشيخ عز الدين منه، وكان يحس في أغوار نفسه أن الشيخ لا يضمر له من الاحترام ما يجب على المحكوم للحاكم!!..
وكان في حاشية السلطان نفر من فقهاء الحنابلة المتشددين المضيقين، وكان الشيخ عز الدين ينكر عليهم غلظتهم مع مخالفيهم، ويتهمهم بالحمق والجمود وفساد الرأي، وبالإساءة إلى صاحب المذهب الإمام أحمد بن حنبل، الذي كان فقيها جليلا عميق النظر واسع الأفق رائع الحكمة .. والذي ترك تراثا عظيما يحمل كل طاقات التجديد.
ولكن هذا النفر من فقهاء الحنابلة، كانوا قد خالطوا السلطان الأشرف منذ كان حدثا صغيرا؛ وصاغوا عقله على رأيهم الجامد المتحجر حتى "اختلط هذا بلحم السلطان ودمه وصار يعتقد أن مخالفه كافر حلال دمه"
وقد أتاحت لهم منزلتهم عند السلطان. ونفوذهم عليه أن يصنعوا في البلاد كما يشاءون، فكانوا إذا خلوا بمخالفيهم من الشافعية أو الأشعرية آذوهم وضربوهم!
وما كان ليغمض لهم جفن وهم يرون السلطان الأشرف يخطب ود الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وغدوا إلى السلطان ليوقعوا بالشيخ عز الدين، قبل أن يتقارب الرجلان فزعموا للسلطان أن العز عز الدين يخالف السلف ويقول في القرآن قولا عظيما .. ويخطئ من يقول في القرآن بالحرف والصوت، وأنه يعتنق رأي الأشعري: أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق!! .. وهذا كله كفر!!
وكان الأشرف قليل الحظ من الثقافة وعلوم الدين والإطلاع على آثار السلف .. فما تعلم إلا ما علمه ذلك النفر المحيطون به من أراذل فقهاء الحنابلة الذين ينافقونه!
ولم يصدق السلطان أول الأمر أن الشيخ عز الدين يقول هذا وهو العالم الورع عظيم التقوى .. وزجرهم السلطان .. ولكنهم وعدوا السلطان أن يقدموا له الدليل الحاسم.
وأجمعوا أمرهم، وجاءوا عز الدين بن عبد السلام فقدموا إليه ورقة فيها فتيا بأن القرآن حرف وصوت، وطلبوا من الشيخ أن يكتب رأيه في هذه الفتيا، وكان قد علم بكيدهم وهم لا يشعرون!
قال لهم الشيخ عز الدين: "هذه فتيا كتبت امتحانا لي. والله لا اكتب فيها إلا ما هو الحق."
وبدأ الكتابة بتسفيه الفتيا، وتأكيد أن الإمام احمد بن حنبل لا يعتقد أن القرآن حرف وصوت وقولهم هذا إنما هو جهل فاضح برأي الإمام احمد .. واستطرد الشيخ عز الدين فكتب أن الإمام احمد بن حنبل برئ من كل ما يدعون. وأن فضلاء الحنابلة أبرياء منهم. وكذلك سائر السلف: فهم لا يقولون بالحرف والصوت. فالإمام احمد بن حنبل وغيره من فقهاء السلف الصالح. لا يعتقدون أن وصف الله القديم القائم بذاته هو عين لفظ اللافظين ومداد الكاتبين مع أن لفظ إله قديم، وهذه الأشكال والألفاظ حادثة بضرورة العقل وصريح النقل. قال تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } (الأنبياء،الآية 2) .. والعجب ممن يقول إن القرآن مركب من حرف وصوت ثم يزعم أنه في المصحف!! وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه!! وإنما أتى القوم من قبل جهلهم بكتاب الله وسنة رسوله وسخافة العقل وبلادة الذهن فإن لفظ القرآن يطلق في الشرع واللسان على الوصف القديم، ويطلق على القراءة الحادثة، والقراءة غير المقروءة، لأن القراءة حادثة والقرآن قديم وهؤلاء القوم يذمون الأشعري لقوله أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق. وقول الأشعري كلام أنزل الله معناه في كتابه: فإن الشبع والري والإحراق حوادث انفرد الرب بخلقها. فليس الخبز هو الذي يخلق الشبع، ولم يخلق الماء الري، ولم تخلق النار الإحراق، وإن كانت أسبابا في ذلك. فالخالق هو المسبب دون السبب كما قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فقد نفى أن يكون رسوله خالقا للرمي وإن كان سببا فيه ..
وعندما ظفروا بجواب الشيخ تمايلوا من الفرح، وأيقنوا أنها القاضية عليه!
وأوحوا إلى السلطان أن يدعو جميع الفقهاء والعلماء إلى سماطه على الإفطار ـ وكان الوقت رمضان ـ ففعل، وذهبوا بما كتبه الشيخ عز الدين إلى السلطان الأشرف، فانفجر سخطه على الشيخ..! سخط عنيف هائل ينبع من أعماق نفس امتلأت بالحب والإكبار لشخص رفضت فيه كل الوشايات والأقاويل، ثم إذ بها تتكشف بغتة أن هذا الآخر، كان يخدعها ويسخر منها، ويظن بها الغفلة!! .. واختلط غضبه على الشيخ بضيقه المتراكم من سيرة الشيخ معه .. فهو كلما قربه هجر، وكلما تألفه نفر..!
وعلى سماط الإفطار، ظلت صيحة السلطان تندد بالشيخ عز الدين: "صح عندي ما قالوه عنه! .. هذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، فظهر بعد الأخبار أنه من الفجار .. لا .. بل من الكفار"!..
ولم يستطع أحد من الفقهاء أو العلماء أن يرد على السلطان الأشرف وظل صوته يدوي بالوعيد في بهو الطعام بقصره السلطاني. وضيوفه يمضغون طعام الإفطار على مهل، ويزدردون المضض، وقلوبهم تدق!!
ما من صوت واحد يرتفع إلا أنفاس تلهث، وصراخ السلطان يتصاعد كحيوان جريح يوشك أن ينقض ليفترس، بكل ضراوة الألم والإهانة وغريزة البقاء!!
وبعد لأي تجرأ أحد الفقهاء فقال في تذلل: "السلطان أولى بالصفح والعفو، ولاسيما في مثل هذا الشهر، شهر رمضان. فلم يرد السلطان، وهمهم آخر ملتمسا مغفرة السلطان..!
ولم يرد السلطان .. وانصرف الفقهاء والعلماء، وكان معهم على مائدة الإفطار، عدد من العلماء والفقهاء من كل الأقطار.
وتناقل العلماء والفقهاء ما حدث، ولاموا أنفسهم على الصمت في حضرة السلطان، وهم يعلمون أنه على الباطل، وأن الشيخ عز الدين على الحق الذي يؤمنون به هم أنفسهم!. وتحفز الطلاب والمعجبون!
ما عسى أن يصنع السلطان بشيخهم عز الدين؟!
أيتهم السلطان الأشرف وهو جاهل بأصول الدين، شيخهم العالم الورع التقي بالفجر والكفر؟!! .. أتراه ينزل به عقاب الفجار والكفار وهم ينظرون!!
واشتعل التوتر في دمشق، وأصبح الناس وما من شيخ من الذين حضروا المأدبة بالأمس، يستطيع أن يمشي في الأسواق!
احتشد الطلاب حول باب الشيخ عز الدين، وتعهدوا أن يمنعوه إذا حاول السلطان أن ينزل به أي مكروه.
ولاذ أراذل شيوخ الحنابلة من حاشية السلطان بالقصر، غير أن شيخ المالكية عمرو بن الحاجب عذبه صمته وصمت الفقهاء الآخرين أمام السلطان، فركب بغلته وأخذ يطوف المدينة، حتى جمع العلماء في الجامع الأموي بعد صلاة العصر وانقض عليهم يعنفهم: "العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل، وما فيكم من نطق بالحق. وسكتم وما انتصرتم لله تعالى والشريعة المطهرة".
ولما تكلم متكلم منكم قال: السلطان أولى بالعفو والصفح ولاسيما في مثل هذا الشهر!! وهذا غلط يوهم الذنب، فإن العفو والصفح لا يكون إلا عن جرم وذنب .. أما كنتم سلكتم طريق التلطف بإعلام السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم ومذهب أهل الحق وأن جمهور السلف والخلف على ذلك، ولم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يكفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله، ومنهم السلطان الأشرف؟! لقد قال الله تعالى: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(البقرة ،الآية :42) ولام ابن الحاجب لأنه سكت، وأعلن الندم والتوبة .. ثم اقترح عليهم أن يكتبوا فتيا بموافقة الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وكتبوا الفتيا ووقعوها، وذهبوا إلى بيت العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وخاضوا إليه زحام الناس الذين رابطوا عند بيته.
وقبل أن يتدافع الناس لإدانتهم على موقفهم أعلن ابن الحاجب، أنهم جاءوا الشيخ بفتيا موقعة منهم توافق رأيه. وهذا هو اعتذارهم له عما فرط منهم أمام السلطان في حق الشريعة وحق ابن عبد السلام.
وفرح الشيخ بموقف ابن الحاجب ومن معه من العلماء والفقهاء. فأرسل الشيخ إلى السلطان يعلمه بفتيا الشيوخ، وأنهم إذا كانوا قد سكتوا ولم يعلنوا رأيهم على سماط الإفطار بالأمس، فما ذلك إلا لأن السلطان لم يمكنهم من الكلام لما ظهر من حدة غضبه"!
وأنهى رسالته طالبا من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة يحضره المالكية والحنفية وغيرهم من العلماء لتدور المناظرة أمام الجميع بينه وبين خصومه من فقهاء رجال الحاشية!
وأنهى رسالته إلى السلطان بقوله: "والذي نعتقده في السلطان أنه إذا ظهر له الحق رجع إليه وأنه يعاقب من موه بالباطل عليه، وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل. فإنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادعا، وبدع بهم وأهانهم."
وذهب ابن الحاجب إلى السلطان وسلمه الرسالة، ولم يقرأها السلطان أمامه، ووعده السلطان خيرا ودعه خير وداع ..
وعندما خلال السلطان الأشرف إلى رجال حاشيته من الفقهاء الحنابلة وقرأوا الرسالة وجسوا خيفة من مجلس المناظرة الذي اقترحه الشيخ عز الدين، فما كانوا يطيقون مواجهة أمام سائر الفقهاء والعلماء. وخلصوا نجيا وأجمعوا على ألا تكون مناظرة، ثم وسوسوا في صدر السلطان ألا يقبل عقد المناظرة، فقد يهينه ابن عبد السلام!
وكتبوا ردا فوقعه السلطان. واستدعى رسولا يحمل الرسالة إلى الشيخ عز الدين ليأتي في الوقت برده.
وفض الشيخ رسالة السلطان وقرأها بصوت مرتفع ليسمعها ضيوفه. "بسم الله الرحمن الرحيم. وصل إلى ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام أصلحه الله من عقد مجلس وجمع المفتين والعلماء وقد وقفنا على خطه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به.
ونحن نتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم في حقهم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواة، ويتبع الحق ويتخلص من البدع، اللهم إلا إن كنت تدعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قدر الدعوى، ولتكون صاحب مذهب خامس، وأما ما ذكره عن الذي جرى في أيام والدي تغمده الله برحمته، فذلك الحال أنا أعلم به منك، وما كان له سببه إلا فتح باب السلامة لأمر ديني.
وجرم جره سفهاء قوم فحل يغير جانيه العذاب
ومع هذا لقد ورد في الحديث: (الفتنة نائمة لعن الله مثيرها). ومن تعرض إلى إثارتها قاتلناه مما يخلصنا من الله تعالى، وما يعضده كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم." وعندما فرغ الشيخ من قراءة الرسالة طواها وقال للرسول: "قد وصلت وقرأتها وفهمت ما فيها فاذهب بسلام. فرد الرسول: "لقد تقدمت الأوامر السلطانية بإحضار جوابها."
والطلاب ومؤيدو الشيخ مازالوا خارج الدار ينتظرون ما يكون، وقد استبد بهم التوتر والقلق منذ دخل رسول السلطان!
وفي داخل الدار يجلس مع الشيخ ابنه عبد اللطيف، وبعض الأصدقاء، وأحد العلماء الفضلاء ممن يغشون مجالس السلطان، وقد أقبل يتوسط بين السلطان والشيخ .. ولكنه لم يكد يسمع الرسالة حتى تغير لونه وأيقن أنه لا جدوى من وساطته، ودخل في نفسه أن الشيخ يعجز عن الجواب، وأنه هالك لا محالة!
غير أن الشيخ كتب للسلطان مترسلا بلا توقف وهو يقرأ ما يكتبه: "بسم الله الرحمن الرحيم. { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } * { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (الحجر،92-93) أما بعد. حمدا لله الذي جلت قدرته وعلت كلمته، فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم عليه: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخ راجل يعجبكصُونَ }( الأنعام ،الآية:116). وقد أنزل الله كتبه ورسله لنصائح خلقه. فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه. وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين، وقد أديت ما علي في ذلك. والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف في ذلك إلا رعاع لا يعبأ بهم! وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع. والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .." وختم الرسالة بتوقيعه وطواها وسلمها رسول السلطان.
وقال له العالم الذي جاء للوساطة بينه وبين السلطان: لو أن هذه الرسالة التي وصلت إليك وصلت إلى قس بن ساعده لعجز عن الجواب، وعدم الصواب، ولكن هذا تأييد من الله.
وتليت الرسالة على السلطان، فألقوا في روعه أن الشيخ يتحداه محتميا بالعامة والطلاب وسائر العلماء! فلينزل بالشيخ عقاب الفجار والكفار!
ولكن السلطان لم يستطع فقد وجد كل العلماء حتى فضلاء الحنابلة يؤيدون الشيخ! فما يقف مع السلطان إلا بعض رجال الحاشية من فقهاء الحنابلة وهم الذين أسماهم الشيخ في رسالته: الرعاع الجهال. وأتهمهم بالبلادة والإساءة إلى الإمام أحمد بن حنبل!
وفكر السلطان مليا، ثم استدعى وزيره واسمه خليل ليشاوره في الأمر، وكان الرجل من الذين يحبون الشيخ عز الدين ويحترمونه. ومازال الوزير يحاور السلطان ويوضح له سوء عاقبة البطش بالشيخ حتى هدأ السلطان.
وذهب خليل وزير السلطان إلى الشيخ العز يبلغه أمر السلطان: "ألا لا يفتي، وألا يجتمع بأحد وأن يلزم بيته". وحاول الوزير خليل أن يهون على الشيخ عز الدين. فهذا العقاب أخف مما كان معدا له.
غير أن عز الدين ابتدره باسما: "أن هذا العقاب من نعم الله الجزيلة علي، الموجبة للشكر على الدوام. أما الفتيا فإنى كنت والله متبرما منها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم. ومن سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطئه، واشتغل بطاعة الله."
وأراد الشيخ أن يقدم هدية للرسول شكرا على هذه الرسالة السارة، فلم يجد غير سجادة صغيرة: ولما عاد خليل يروي للسلطان ما قاله الشيخ عز الدين قال السلطان محنقا: "قولوا لي ما افعل به؟! .. هذا رجل يرى العقوبة نعمة. اتركوه بيننا وبينه الله."
على أن الذين أحاطوا بدار الشيخ العز عز الدين لحراسته أنكروا عليه طاعته لأمر السلطان، وكلموه في ذلك فقال لهم إن مصلحة قيام الشرع تقتضي وجود السلطان، ومتى وجد وجبت طاعته وإلا تعطلت الأحكام!! ولكن لا طاعة للسلطان إذا خان عهد الله وأهدر مصالح المسلمين وأمر بمعصية الخالق. أما فيما عدا ذلك فالطاعة واجبة.
فأمرهم بالحسنى أن ينصرفوا إلى شئونهم ويدعوه وشأنه، فسيعتكف للعبادة .. أما وجودهم حول الدار فسيتيح لأعدائه أن يتهموه بإثارة الفتنة!
غير أنهم انصرفوا إلى الزاوية الغزالية التي كان يدرس بها، وأقسموا ألا يستمعوا لشيخ غيره.! وجلسوا في حلقته الفارغة متربصين! ولم يجئ إليهم أستاذ غيره يعلمهم مكانه!!
على أن سائر العلماء والفقهاء أضمروا السخط على ما أصاب الشيخ، ولكنهم رضوا به لأنهم كانوا يتوقعون عقابا أشد ودعوا الناس إلى الصبر وقضاء أخف من قضاء!!
أما الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية فما كان ليستطيع على ما جرى صبرا..! وكان عالما ورعا فاضلا صاحب نفوذ على قلوب الناس جميعا، وكان السلطان يحسب له ألف حساب!
وما هي إلا ثلاثة أيام قضاها عز الدين في بيته، متمثلا للأمر السلطاني، ممتنعا عن لقاء من سعوا إلى لقائه، حتى كان الشيخ الخضري يركب حماره إلى السلطان، ومعه ابن الحاجب شيخ المالكية. ولم يكد السلطان يعلم أن الشيخ الخضيري شيخ الحنفية قادم إليه حتى أمر كبير وزرائه وكبار حاشيته أن يستقبلوا الشيخ خارج القصر، وأن يدخلوه القصر راكبا حماره تكريما له.
ودخل الشيخ ساحة القصر، فاستقبله السلطان وأنزله بنفسه عن حماره، ودخله القصر وأجلسه إلى جواره وهش له، وجلس ابن الحاجب وفي يده ورقة فيها توقيع العلماء على تأييد موقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام ..
وحين أذن لصلاة المغرب وبسطت المائدة للإفطار، أم الشيخ الخضيري السلطان في الصلاة! وبعد الصلاة دار الشراب عليهم وهم جلوس قبل أن ينتقلوا
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
يتبع - العزعزالدين عبدالعزيزعبد السلام
وقال "يا سيدي أيش تعمل"؟.
ـ أنادي عليكم وأبيعكم ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
ـ فيم تصرف ثمننا؟
ـ في مصالح المسلمين.
ـ من يقبضه؟
ـ أنا.
أنصرف نائب السلطنة إلى السلطان حيث كان جميع الأمراء قد اجتمعوا عنده، فروى لهم نائب السلطان ما كان بينه وبين الشيخ.
ولم يذعن السلطان، فأرسل إلى الشيخ من يتلطف له ويحاول صرفه عن بيع الأمراء، وأخبره الرسول بعد حوار طويل أن السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهو فوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلى أية حال فليس للشيخ أن يدخل في أمور الدولة فشئون الأمراء لا تتعلق به. بل بالسلطان وحده!!
وأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء وقام فجمع أمتعته ووضعها على حمار، ووضع أهله على حمير أخرى، وساق الحمير ماشيا! ..
إلى أين يا شيخ!؟ ..
قال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! ..
فيم المقام بأرض يستضعف فيها أهل الشريعة، ويعتدي فيها على القضاء؟!
وتجمع الناس وراءه .. وكلما سار في طريق تزاحم الناس عليه يحاولون منعه من الهجرة، فهو أملهم في مواجهة مظالم الأمراء المماليك، فلكم عانى التجار والصناع وسائر الناس من صلفهم، وهاهم أولاء يرون فيهم يوما من أياما الانكسار على يد هذا الشيخ الجليل عز الدين بن عبد السلام! .. فلماذا يتركهم الشيخ؟! .. ولمن يكلهم؟! .. إلى هؤلاء الأفراد العبيد المتغطرسين من جديد؟!
أحاط الناس بموكب الشيخ وهم يتوسلون باكين ألا يتركهم، فقد عرفوا في قضائه قوة الانتصار للمظلوم، وهيبة العدالة، خلال تلك الأشهر القلائل التي ولى فيها المنصب...
ولكن الشيخ مضى في طريقه لا يبالي ..
سار الشيخ أميالا خارج القاهرة والناس من ورائه يرجون ملحين ساخطين حتى امتلأت بهم الأرض الفضاء إذ لم يتخلف عن اللحاق به "امرأة ولا صبي ولا رجل ولاسيما العلماء والصلحاء والتجار وأمثالهم."
وبدا أن هذه الجموع ستذهب في تحدي السلطان إلى أبعد مدى! .. ولئن هي رجعت بغير الشيخ لتثيرن الدنيا على السلطان حتى الذين هم تحت التراب!
وعلم السلطان بما يجرى، وقال له أحد ناصحيه: "تدارك ملكك وإلا نهب بذهاب الشيخ".
فأسرع السلطان إلى فرس سريع فامتطاه على عجل وانطلق حتى أدرك الشيخ عز الدين، وشهد الناس من حوله وعاين سخطهم، فنزل عن فرسه، وتقدم متلطفا معتذرا إلى الشيخ عز الدين، وقال له: "لا تفارقنا. عد يا إمام وأصنع ما بدا لك." .. وقدم للشيخ فرسا فامتطاه وعاد الشيخ.
وعاد الشيخ والناس يهللون من حوله ومن خلفه.
وجمع السلطان كل الأمراء في القلعة بأمر الشيخ، ثم عرضوا في مزاد ونادى الشيخ عليهم وغالى في ثمنهم. حتى إذا امتنع الحاضرون عن المزايدة في الثمن لارتفاعه الفاحش، تقدم السلطان فدفع ثمنا أزيد من ماله الخاص لا من بيت المال، حتى اشترى جميع الأمراء المماليك وأعتقهم لوجه الله، فأصبحوا أحرارا.
وصحح الشيخ عقودهم بما فيها عقود الزواج.
أما ما قبضه الشيخ من ثمنهم فقد وزعه على الفقراء وأصحاب الحاجات وبصفة خاصة أهل العلم وطلابه، وأقام به مكاتب لتعليم القرآن والخط وعلوم اللغة.
وازدادت مكانة الشيخ في قلوب الناس، وتزاحموا عليه وما كانوا يتركونه بعد صلاة الجمعة في جامع عمرو حتى يؤذن لصلاة العصر.
أما السلطان، فقد أضمر أن يتخلص من الشيخ، فقد خافه على ملكه!. إن هذا الشيخ الخجول النحيل ليستطيع أن يحرك الناس ضده كيفما يشاء!
على أن أمراء المماليك لم يعودوا بعد لصلفهم واستبدادهم بالناس كما كانوا من قبل بيعهم في المزاد!
واستمر عز الدين في القضاء حازما حاسما لا يخشى إلا الله ولا يأبه إلا بالحق، ولا يراعي إلا مصلحة الأمة. لقد تأتيه الدعوى من أحد الأفراد على أحد خواص السلطان، فيسوي بينهما في المجلس، ويتحرى العدل وحده .. ولكم أدان خواص السلطان! ..
لم يعد السلطان يتوقع منه مجاملة، وتمنى أن يزيحه من مكانه، ولكنه خشي غضب الناس! كان الملك الصالح نجم الدين أيوب، سلطانا قويا واسع الحيلة، ولكنه وجد نفسه مع الشيخ عز الدين بلا حيلة!
وفي الحق أن الشيخ عز الدين، لم يجهر بعداء السلطان، ولا حتى بنقده، ولكنه مضى في طريقه: يفتي، ويخطب الجمعة في جامع عمرو، ويقضي بما يهديه إليه فهمه لنصوص الشريعة أو اجتهاده إن لم يجد حكما في النصوص، ثم يخلص إلى بيته ليكتب .. ولكنه على انفساح بيته وهدوئه وجماله لم يكن يجد الوقت الكافي للكتابة، فالناس يتزاحمون حيث يكون، ومنهم من يلح عليه بالزيارة..!
ولم يشأ أن يتخذ حاجبا يمنع عنه الناس، كما كان يصنع الفقهاء من قبله حين يخلون إلى الكتابة .. وكان كثير الصدقات ينفق معظم رواتبه خفية على أصحاب الحاجات، فكان كثير من أصحاب الحاجات يطرقون بابه.
وكان يلح بالدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر القيام بهما واجبا شرعيا يأثم تاركه، فيأتيه الناس يستفتونه في المعروف والمنكر.
ووجد بعض الأقوياء الظالمين يغتصبون حقوق المستضعفين، فأفتى أن واجب المستضعفين أن ينتزعوا ما اغتصب منهم، ولا عقاب عليهم، فهذا حقهم الشرعي.
فإن هم وجدوا السلطان عاجزا عن رد أموالهم المغتصبة، فعليهم استردادها بأنفسهم، وإلا أثموا شرعا!
وأثارت هذه الفتيا عددا من الأمراء الذين ألفوا أن يستضعفوا، بعض التجار والصناع والحرف، ويغصبون منهم خفية بعض البضائع أو الأجور!!
وكان يعتبر من الحقوق المغصوبة إنقاص أجر العامل، أو قهر البائع أو تخويفه فيبيع بثمن أقل من الثمن المعروف! ثمن المثل!
وسخط السلطان نفسه عليه، فقد رآه في أحكامه وفتاويه يفرض أوامره على الشرطة، وليس هذا لأحد غير السلطان، فإن لم تستجب الشرطة حرض الناس على الدولة!!
ثم اصطدم الشيخ عز الدين بأقرب أعوان السلطان وأعزهم عليه. وهو أستادرا أو أستاذ دار السلطان: الرجل الذي يتولى شئون مساكن السلطان وسائر حوائجه الخاصة.
ذلك أن "الأستادار" فخر الدين بن شيخ الشيوخ كان مولعا بالغناء والرقص، فعمد إلى مسجد وسط حديقة واسعة مطلة على النيل، فصعد إلى سطح المسجد فأفتن بجمال المنظر، فبنى فوق المسجد "طبلخانة" أي خانا أو دارا للطبل والغناء، وتعود السهر فيها مع صحبة يسمعون إلى الجواري المغنيات والراقصات..!
ولم يجرؤ أحد على أن يشكو الأستادار إلى قاضي القضاة، ولكنه ذهب حتى تحقق مما سمع، فعاد وعقد مجلس القضاء، وأصدر الحكم بإزالة البناء.
غير أن الشرطة لم تزل الملهى من سطح المسجد، فنهض الشيخ عز يقود أبناءه وبعض الشباب من مريديه، وأخذوا المعاول والفئوس، وأزالوا البناء .. ثم أعلن الشيخ أنه يقيل نفسه من منصب قاضي القضاة، فما عاد يطيق أن يقضي بقضاء فتنتظر الشرطة إذن رئيس الشرطة أو السلطان لتنفذ الأحكام، وقد لا تنفذها..!
ولم يكد السلطان يسمع بما حدث من الشيخ حتى أضطرم غيظا، ثم جاءه من يخبره بأن الشيخ قد أقال نفسه، فصفق السلطان طربا، وحمد الله لأن الشيخ أعفاه من حرج كبير، فأقال نفسه بنفسه! وأرسل السلطان رسولا إلى الشيخ بموافقته على استقالته، ففرح الشيخ، وحمل سجادة من على أرض بيته وأهداها رسول السلطان تعبيرا عن الفرح، معتذرا إليه بأنه لا يجد هدية أثمن منها..!
هاهو ذا عبء ثقيل انزاح عن قلب الشيخ!
صمم الشيخ على أن يخصص أكثر وقته للتأليف، ضاع منه عمر طويل وما كتب بعد شيئا.! غير أن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب زاره وطلب منه أن يدرس الفقه الشافعي في المدرسة الجديدة التي أقامها السلطان للفقه على المذاهب الأربعة فقبل الشيخ ونهض بتدريس الفقه، والتفسير. وكان هو أول من ألقى دروسا في التفسير بمصر منذ عهد بعيد. ولقد قام الشيخ بتدريس الفقه الشافعي في هذه المدرسة.
وخطط دروسه لكي تكون كتبا ينتفع بها الناس، فدرس أصول الفقه والتصوف، بهذه المدرسة الجديدة التي اسماها السلطان باسمه .. المدرسة الصالحية .. وحزن الناس لأن الشيخ ترك القضاء وما عرفوا في زمانهم قاضيا أكثر حسما وأعمق نظرا ولا انهض منه للأمر، ولا أشد تقي وروعا وورعة من هذا الشيخ العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام!
وعبر عن ذلك شاعرهم الجزار:
سار عبد العزيز في الحكم سيرا
لم يسره سوى بن عبد العزيز
"يعني عمر بن عبد العزيز"
عندما حكــمه بعـدل وسيط
شامل للورى بلفـظ وجـيز
لقد راح الشيخ واستراح. ولكن حكمه على "الأستادار" قد وصم الرجل في مصر وسائر بلاد الإسلام. فقد جاء في كتاب "حسن المحاضرة" بعد الحديث عن حكم الشيخ في أمر الملهى، كما جاء في تاريخ ابن إياس وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا يتأثر به في الخارج، فاتفق أن جهز السلطان رسولا من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول إلى الديوان، وقف بين يدي الخليفة، وأدى الرسالة له، خرج إليه، وسأله:
ـ هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟
ـ فقال الخليفة لا. ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين بن شيخ الشيوخ أستاداره.
ـ فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام. فنحن لا نقبل روايته.
فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد، وأداها.
استقر الشيخ في داره، يؤلف الكتب، مستفيدا من كل ما مر به: ألف نحو أربعين كتابا في الفقه والتفسير وأصول الفقه والتصوف حصاد تجاريه وقراءاته وتأملاته وفتاويه.
على أن الشيخ لم يكد يسيطر على وقته وينظمه، ويستقر في داره ليكتب، حتى هاجمه جماعة من الأشقياء ذات ليلة مظلمة فتسوروا عليه الحديقة، وتقدموا إلى باب الدار يحاولون كسره، والشيخ مستغرق في عمله لا يشعر بهم..!
وهب أهل الدار من نومهم فزعين، خاف كل من في الدار إلا الشيخ! وحاول أحد أبنائه أن يخرج من باب خلفي فيستدعي العسس، ولكن الشيخ رفض وتقدم نحو الباب الذي حاول اللصوص اقتحامه، فتأخروا إلى الحديقة، وتقدم هو إليهم قائلا: "أهلا بضيوفنا".
وعلى ضوء النجوم تبين الشيخ أنهم جماعة من الفتاك ممن كان يستأجرهم بعض أمراء المماليك للفتك بأعدائهم!! وتعرف على رئيسهم، وتذكر أنه وثيق الصلة بأمير كان يصرخ ويبكي ويتوعد الشيخ عندما نادى على الأمراء في المزاد! .. وكانت تفلت من الأمير حكات أنثوية!
وكان هذا الفاتك يدلف إلى الأمير ويهون عليه .. فأبديا من آيات المودة والتعاطف المريب ما آثار سخرية الذين شهدوا المزاد!!.
مثل أمامه هذا الفحل الفاتك فيما بعد متهما في نهب المتجر، وشهد الأمير له زورا، وأثنى عليه في رقة .. فحكم الشيخ عز الدين على الأمير بغرامة لشهادة الزور، وبمبلغ من المال تعويضا للتاجر المعتدى عليه، وحكم على الناهب بالسجن. غير أن الشرطة لم تسجنه وزعمت أنه فر إلى جبل في صعيد مصر!
إن الشيخ يعرف أن هذا الأمير وغيره يتخذون من بعض السوقة ضعاف العقول أشداء الأجسام، عصابات يؤدبون بها من يرفض لهم طلبا، فإذا سقط أحدهم فهو مصري اعتدى على مصري ولا شأن للأمراء المماليك بالأمر كله!
وطلب الشيخ عز الدين عشاء لضيوفه، فالضيف ينبغي أن يكرم في أي وقت جاء. وذهل رجال العصابة..! ثم أخذ يعظهم، حتى ألقوا تحت قدميه ما أخفوه وراء العباءات من أسلحة. وفاض الدمع من أحدهم فاعترف من خلال الدمع أن ذلك الأمير المخنث الشرس حرضهم على قتل الشيخ ونهب بيته ووعدهم بأموال طائلة، وقد أقسم ألا يبقي الشيخ على وجه الأرض، بعد أن نادى على الأمراء المماليك في المزاد العلني وهم ملوك الأرض كما ينادي على الجواري والعبيد!!
فدعا الشيخ لضيوفه وللأمير بالهداية بعد الضلال. وقام الفتاك، فقبلوا يد الشيخ، وظلوا يقبلونها حتى غسلوها بدموع الندم! .. وطلبوا منه الدعاء، فطلب منهم أن يتوضأوا أو ليصلي بهم. وحين فرغوا من الوضوء أمهم الشيخ في صلاة توبة على خضرة الأرض، تحت شعاع النجوم! .. وطلب أبناء الشيخ منه أن يبلغ السلطان، فأبى.
حتى إذا جاء يوم العيد، وخرج السلطان في أبهة الملك إلى القلعة، وحوله الأمراء يتشامخون ـ وفيهم ذلك الأمير ـ واجه الشيخ سلطانهم بما روع الأمراء وألقى الهيبة من الشيخ في قلوبهم. ويصف السبكي ذلك المشهد في طبقات الشافعية: "طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطان عليه يوم العيد في الأبهة، وقد خرج على قومه في زينة على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه:
(يا أيوب. ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟)
فقال السلطان: "هل جرى ذلك؟"
قال: "نعم الحانة الفلانية تبيع الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة."
وأخذ الشيخ يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون:
فقال السلطان: "يا سيدي هذا أنا ما عملته. هذا من زمان أبي."
فقال الشيخ: "أنت من الذين يقولون: أنا وجدنا آباءنا على أمة؟!"
فأمر السلطان بإغلاق الحانة.
وبعد أن انصرف سأله أحد تلاميذه عما فعله فقال الشيخ:
ـ رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لكيلا تكبر نفسه فتؤذي.
فقال التلميذ: أما خفته؟
قال الشيخ:
ـ "والله يا بني لقد استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقط."
وكان هذا التلميذ هو تاج الدين الذي أصبح فيما بعد. وعاد الشيخ من القلعة، فطاف ببيوت بعض أصدقائه وتلاميذه يهنئهم بالعيد، ثم عاد إلى بيته يستقبل المهنئين.
اهتم الشيخ عز الدين بوضع أصول للفقه، فألف كتابه قواعد "الأحكام في مصالح الأنام" وقد ضمنه كثيرا من القواعد الفقهية. وقال في أوله: "الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح. فإذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر. وقد أبان الله تعالى ما في بعض الأحكام من المفاسد فحث على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح فحث على إتيان المصالح."
ثم يقول: إما مصالح الدنيا "الدنيا والآخرة" وأسبابها ومفاسدها وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع. فإن خفي طلب بأدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال الصحيح. أما مصالح الدنيا وأسبابها ومقاصدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد فليعرضها على العقل.
فهو يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح. وهو يرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة. والعقل هو أداة هذا الاستنباط.
ويقول: "إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب فإن كل واحد منهما لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم."
وتأسيسا على هذا النظر، استنبط كثيرا من الأحكام:
ـ فنهى عن تعمد المشقة في العبادات والمعاملات. فلا مصلحة في المشقة: "قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب باستعمال الدواء المر البشع. فإنه ليس غرضه إلا الشفاء، ولو قال قائل كان غرض الطبيب أن يوجد مشقة ألم مرارة الدواء لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح.
وقيل في بعض كتب الله: "بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي" .. فلا يصح التقرب بالمشاق. ومن آرائه أنه من الممكن تأخير بعض المصالح لما لتأخيرها من مفاسد فقد أخر الله إيجاب الصلاة والصيام، "ولو عجل بهما لنفروا من الدخول في الإسلام".
ـ في تحصيل المصالح يراعى الأفضل فالأفضل لقوله تعالى: {... فَبَشِّرْ عِبَاد} * {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }(الزمر،الآية:18).
وقوله { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } (الزمر،الآية:55) .
وعلى ذلك:
ـ فإنقاذ الغرقى مقدم على أداء الصلوات لأنه افضل عند الله من أداء الصلاة والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك.
ـ لو رأى الصائم في رمضان غريقا لا يتمكن من تخليصه إلا بالتقوى بالفطر فإنه يفطر وينقذه. لأنه في النفوس حقا لله تعالى وحقا لصاحب النفس، فقد ذلك على أداة الصوم.
ـ لا يتقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحرب والقتال، وقد جاء في الحديث الشريف: "من ولى من أمر المسلمين شيئا ثم لم يجهد له ولم ينصح فالجنة عليه حرام."
ـ الأئمة "الحكام" البغاة لا ولاية لهم. وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة مصلحة الرعايا، وأنه مع غلبة الفجور عليهم لا إنفكاك للناس منهم. وأما أخذهم الزكاة فإن صرفوها في مصارفها أجزأت، وإن صرفوها في غير مصارفها لم يبرأ الأغنياء منها. ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء لأنهم يتضررون بعدم أخذ نصيبهم من الزكاة، ولا يتضرر به الأغنياء من تثنية الزكاة.
ـ دفع المشقة واجب فيجوز لبس المخيط في الحج وكذلك الطيب والدهن وقلم الأظافر.
ـ يجوز التيمم للمشقة كالخوف من حدوث المرض من ماء الوضوء أو الخوف إبطاء الشفاء. أو إذا غلا ثمن الماء وأصبح الحصول عليه مشقة أو إذا احتاج الإنسان إلى ثمنه في سفر أو نحوه.
ـ يجوز للمرأة أن تتيمم بدلا من الوضوء بالماء إذا كان الماء يؤذي جمال وجهها. كان يظهر عليه من آثر الوضوء في الشتاء ما يشين هذا إذا كان الوضوء يؤثر على جمال المرأة في وجهها أجاز لها الشافعي أن تتيمم.
ـ من أطلق لفظا لا يعرف معناه لا يؤاخذ بمقتضاه كمن لفظ بكلمة الخلع أو الطلاق وهو لا يعرف أحكامهما فلا يترتب حكم على من قال.
ـ لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعوا إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات لأنه لو وقف عليها لأدى ضعف العبد واستلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام .. ويقتصر على ما تمس إليه الحاجات دون أكل الطيبات وشرب المستلذات وشرب الناعمات .. "ولو دعت ضرورة واحدا إلى غضب أموال الناس لجاز له ذلك بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو برد وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء النفوس. فثورة المغصوبين على الغاصب واجبة."
ـ إذا سرق إنسان مالا سرقة موجبة لقطع اليد لم يجب عليه الإعلام أي الاعتراف بالسرقة، بل يخير مالك المسروق بأن له عليه مالا، ويرده إليه أو يعوضه عنه إن كان قد تلف. ولا يتعرض لذكر السرقة.
فإن رد السارق المال أو عوضه أبرأه منه المسروق فقد برئ السارق، وإلا وجب قطع يده فهو حد من حدود الله.
ـ الوسائل تسقط بسقوط المقاصد. فلا يجوز ضرب الصبي للصلاة إذا لم يثمر الضرب. فهذا الضرب ينفره من الصلاة.
ـ إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فادعاه كل منهما، أو ادعى أحدهما الاشتراك في الجميع فإن الشافعي يسوي بينهما نظرا إلى الظاهر. وبعض العلماء يخص كل منهما بما يليق به نظرا إلى العادة الغالبة. وهذا أصوب فإذا كان الزوج جنديا وادعت الزوجة ملكية السلاح والخيل أو ادعى هو ملكية أدوات زينتها، فإن ما يختص بالرجال يصير للزوج وما يختص بالنساء لا يصير للمرأة. على خلاف ما يقول الشافعي.
ـ إذا اختلف الزوجان في النفقة فالشافعي يجعل القول قول المرأة لأن الأصل عدم قبضها، ومالك يجعل القول للزوج لأنه الغالب في العادة وقول مالك احسن.
ـ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهي تحقق مصلحة للأمة، والصلاة التي لا تحقق هذه المصلحة لا جدوى منها ولا يقبلها الله. فالصلاة أمر بالسيرة الحسنة ومكارم الأخلاق.
ـ الكذب حرام ولكنه جائز لتحقيق مصلحة .. كالإصلاح بين الناس أو الكذب على الزوجة لتقويمها.
ولاحظ الشيخ أن بعض المشعوذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد والتصوف وادعوا أنهم قد سقطت التكاليف عنهم فليس عليهم صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ..
وتصدى لهم فسفه سلوكهم، ومدح الأقطاب الكبار من أئمة الصوفية، وكانت له صلات مودة أو معرفة بآراء بعضهم كالشاذلي والعباسي المرسي وإبراهيم الدسوقي والسيد احمد البدوي.
وكان يحترم هؤلاء ويحض تلاميذه على الإفادة منهم فيقول: "اسمعوا كلامهم فهو قريب العهد بنبع الحقيقة." وكانوا هم يقولون عنه: " ما من مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام."
وشرع وهو يعلم تلاميذه أن الزهد ليس هو ما يفعله عامة الصوفية الذين يسيئون إلى التصوف: لا هو تعذيب النفس ولا لبس المرقعات. "وليس الزهد هو خلو اليد من المال ولكن هو خلو القلب من التعلق بالمال. فليس الغني بمناف للزهد". وقد كان عبد الله بن المبارك والليث بن سعد وهما من أغنى الأغنياء من أزهد الناس.
وسمى التصوف علم الحقيقة وهي معرفة أحوال الباطن، والشريعة تستغرقه لأنها تتناول الظاهر والباطن جميعا. "فكل حقيقة لا شريعة لها فهي عاطلة، وكل حقيقة لا شريعة لها فهي باطلة." وليست الحقيقة خارجة من الشريعة بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال. فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع ومعرفة أحكام البواطن معرفة لبعض الشرع ولا ينكر ذلك كافر أو فاجر.
وهكذا احسن التوفيق والمزاوجة بين النصوص والشريعة والتصوف. قال: الشريعة مجاهدة والحقيقة مشاهدة ولا تباين بينهما إذ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى لها ظاهر وباطن. فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة .. والحقيقة والشريعة يجمعهما كلمتان هو قوله: "إياك نعبد وإياك نستعين" فإياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلم علمان علم باللسان وعلم بالقلب."
وفرق بين الإسلام والإيمان: "فالإسلام هو قيام البدن بوظائف الأحكام، والإيمان هو قيام القلب بوظائف الاستسلام. والإحسان أن تعبد الله كأنما تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فتكون قائما بوظائف العبودية مع شهوده إياك."
وكتب عن المحبة الإلهية شعرا جاء فيه:
نار المحبة أحرقت أحشائي
ومدامـعي تنـهـل كالأنـواء
فأنا الحريق بأضلعي وأنا
الغريق بأدمعي يا منقذ الغرقاء!
فالمحبة تكمن في ذات المحب وتسلبها صفاتها كما تكمن النار في ذاتية الماء الحار فأنت تظنه في الصورة ماء يغرق وهو في الحقيقة نار تحرق، فإن قلت أن المحرق هو النار فأين الماء؟! وإن قلت المغرق هو الماء فأين النار؟!
وللشيخ سبحان صوفية عديدة أودعها كتابه "حل الرموز ومفاتيح الكنوز". وقد عنى فيها بشرح الغامض من أقوال شيوخ الزهد والتصوف. واستشهد ببعض أقوال الإمام علي كرم الله وجهه وهو إمام الزاهدين: "سئل علي رضي الله عنه هل عرفت الله بمحمد أو عرفت محمدا بالله؟ فأجاب لو عرفت الله بمحمد ما عبدته ولكان محمد أوثق في نفسي من الله. ولو عرفت محمدا بالله لما احتجت إلى رسول الله. ولكن عرفني نفسه بلا كيف كما شاء وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام القرآن وبيان معضلات الإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقت بما جاء به."
ويعلق الشيخ على هذا: "يستحيل الوصول إلى شيء من معرفة الله بغير الله ولا سبيل لمعرفة الله إلا بالله.
ويكتب دروسه في التفسير، فتحس فيها آثار الفكر الإشراقي الذي تعلمه في صباه عن السهروردي .. ومثال ذلك تفسيره للآية الكريمة: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } (النور،الآية:35) .
قال الشيخ: جاء في الحديث الشريف إن الله خلقهم من ظلمه ثم رش عليهم النور فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل. ويضيف الشيخ: معرفة العبد لربه هي نور الله الذي يقذفه في قلب عبده فيدرك بذلك أسرار ملكه ويشاهد غيب ملكوته ويلاحظ صفات جبروته ثم تنزل قوة إدراكه على مقدار ما أفيض عليه من ذلك النور.
ثم يفسر سورة العصر بظاهرها فالناس خاسرون إلا في اجتماع فيه أربع أوصاف: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وقال إن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لم يفترقوا حتى يقرءوا: { وَٱلْعَصْرِ*إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ* إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } (العصر).
وتحدث في التفسير عن أنواع المجاز في القرآن من مجاز الحذف كحذف القسم أو المبتدأ أو الخبر أو بعض حروف الجر ثم أنواع المجاز المعروفة في علوم البلاغة والبيان، ثم تحدث عن الكناية في القرآن، وضرب لكل ذلك أمثلة بآيات القرآن مرتبة حسب المصحف. وضمن ذلك كتابه "الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز".
وقد ذهب بعض مؤرخي المتصوفة إلى أن العز تصوف، ولكن الأستاذ محمد حسن عبد الله ينفي ذلك عنه ويذهب إلى أن التصوف يخالف طبيعة الشيخ عز الدين .. وهذا حق فقد كان بعض التصوف في عصر الشيخ هروبا من الواقع، وكان الشيخ من أشد الناس جسارة في مواجهة الواقع، وأنشطهم إلى تغييره. فقد ظل يواجه عصره ويقاوم مفاسده ويصك المجتمع بمواقف رائعة، وكان إلى كل ذلك زاهدا من أولئك الزهاد العظام الذين يفرضون بالقول والموقف والسيرة قيما شريفة فاضلة على مجتمع تمتهن فيه الفضائل ويشقى به الشرفاء!
ومهما يكن من أمر الشيخ فقد كتب في التصوف وشرح أحوال الصادقين من المتصوفة، ودافع في شعر له عن سماع الأذكار وأناشد الصوفية في حلقات الذكر..
وما كان يمكنه أن يتجاهل تيارا يجتاح العصر، ولكنه رد التصوف إلى أصوله النبيلة في مجاهدة النفس لتتطهر من الهوى فلا تمتلئ إلا بالحقيقة ونور الحق، وتناضل في سبيل الخير وتعمر الدنيا بالحب والعدل والجمال والحرية.
وللشيخ في التصوف شعر حسن .. من ذلك قوله:
أيها العاشق معنى حسننا جسد مضني وروح في العنا وفؤاد ليس فيه غيرنا فافن إن شئت فناء سرمدا وأخلع النعلين إن جئت إلى وعن الكونين كن منخلعا وإذا قيل من تهوى فقل مهرنا غال لمن يطلبنا وجفون لا تذوق الوسنا فإذا ما شئت أد الثمنا فالفنا يفضي إلى ذاك الغنى ذلك الحي ففيه قدسنا وأزل ما بيننا من بيننا أنا من أهوى ومن أهوى أنا
ومن ذلك قوله في تجلي الله على قلب عبده المؤمن "يشاهده بعين يقينه، ويجليه ببصر بصيرته من غير حلول ولا تحيز ولا انفصال ولا اتصال":
ولما تجلى من أحب تكرما تعرف لي حتى تيقنت أنني وفي كل حال أجتليه ولم يزل وما هو في وصلي بمتصل ولا وأشهدني ذاك الجمال المعظما أراه بعيني جهرة لا توهما على طور قلبي حيث كنت مكلما بمنفصل عني وحاشاه منهما .
ومن شعره في العشق الإلهي:
شربت حميا حبكم مذ عرفتكم فلا مورد للعالمين كموردي فلي رتبة تعلو على كل رتبة ومن العجائب أن نار تحرقي فالنار والماء القراح تألقا على ظمأ مني فزاد تلهبي ولا مشرب للعاشقين كمشربي ولي منصب يسمو على كل منصب تزداد وقد اعند فرط بكائي! هذا لعمري أعجب الأشياء!
وهو يعني رتبته من الزهد، وانشغال قلبه بغير الدنيا، مما جعله فوق الطمع والرغبة في الدنيا، فما يخاف ولا يخاف ولا يرجو إلا الله تعالى، وهذا هو منصبه الديني وهو أعلى من كل منصب دنيوي.
وقال:
حبه راحتي وروح حياتي وإذا ما مرضت فهو طبيبي وإذا ما ضللت أو ضل ركب يا عذيري فكن عليه عذيري إن تلمني أو لا تلمني فإني وكذا ذكره بلاغي وزادي كلما عادني بلغت اعتمادي عن حماه فوجهه لي هادي أو فقل لي ما حيلتي واعتمادي حبه مذهبي وحسن اعتقادي
وقال:
فلو شاهدوا معنى جمالك مثلما خلعت عذاري في هواك ولم يكن ومزقت أثواب الوقار تهتكا فما في الهوى شكوى ولو فرق الحشا وكم كنت من خوف الهوى أتقي شهدت بعيني القلب ما أنكروا الدعوى خليع عذار سره في الهوى نجوى عليك وطابت في محبتك البلوى وعار على العشاق أن يعلنوا الشكوى ولكنما حكم الهوى غلب التقوى
وقال من قصيدة طويلة:
لئن كان جرمك جرما صغيرا ففيك الظوى العالم الأكبر
وقال يلوم الذين أساءوا إلى التصوف في عصره، من لابسي المرقعات ومرتكبي المنكرات:
ليس التصوف عكازا ومسبحة وإن تروح وتغدو في مرقعة وتظهر الزهد في الدنيا وأنت على وكلا ولا … … …
تحتها موبقات الكبر والسرف عكوفها كلعوق الكلب في الجيف
وقال فيهم، وفي المخلصين من أهل التصوف:
ذهب الرجال وحال دون مجالهم زعموا بأنهم على آثارهم قطعوا طريق السالكين وأظلموا عمروا ظواهرهم بأثواب التقى إن قلت قال الله قال رسوله تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا وترصدوا أكل الحرام تخادعا فهناك طاب المخلصون وأصبحوا عملوا بما علموا وجادوا بالذي وعيونهم تجري بفيض دموعهم تاهوا على كل الملوك وإنهم بوجوههم أثر السجود لربهم لا ينظرون إلى سوى محبوبهم واخيبة الآمال إن أقصيتني فهم إليك وسيلتي يا سيدي زمر من الأوباش والأنذال ساروا ولكن سيرة البطال سبل الهدى بجهالة وضلال وحشوا بواطنهم من الأدغال همزوك همز المنتهى المتغالي بطرائق الجهال والضلال كتخادع المتلصص المحتال متسترين بصورة الأشكال وجدوا وما بخلوا بفضل نوال مثل انهمال الوابل الهطال لهم الملوك بعزة الإقبال وبها أشعة نوره المتلالي شغلوا به عن سائر الأشغال عن قصدهم يا خيبة الآمال هلا وصلت حبالهم بحبالي
كان الشيخ يكتب الكتب بخطه أو يمليها على تلاميذه. وقد جاءه في مصر عدد كبير من علمائها وسمعوا دروسه، ولازموه معجبين بعلمه ومواقفه وغيرته للحق، ودفاعه عن الشريعة وأحكامها لا يبالي في ذلك بشيء ولا يريد إلا وجه الله فأطلق عليه أحد علماء مصر ومتصوفيها وهو ابن دقيق العيد. "سلطان العلماء". وقال عنه لقد تحرر من سلطان الفقهاء السابقين، وقاوم سلاطين الزمان فهو السلطان.! .. وسماه آخرون شيخ الإسلام.
وتمر السنوات بالشيخ وهو في عمله مطمئن البال آمن السرب يدرس ويخطب ويكتب .. ولكن قارعة تنزل، فتنتزع الشيخ من كل هذا .. فقد انتشرت في القاهرة أخبار غزوة صليبية تتجه إلى دمياط بقيادة لويس التاسع. فوقف الشيخ تاركا كل أعماله ليدعو كل أفراد الأمة إلى الجهاد.
ولم يعد صوت يرتفع من على منابر المساجد إلا بالدعوة إلى الجهاد .. وهجر الشيوخ كتبهم وحلقاتهم وذهبوا جميعا إلى دمياط للاشتراك في الجهاد المقدس، وانتقل السلطان إلى المنصورة ليكون قريبا من ميدان المعركة .. وزحف الفرنج إلى المنصورة وهناك انتصر المصريون على الصليبيين الفرنج وأسروا قائدهم لويس التاسع ملك فرنسا.
ومات السلطان في المنصورة ثم تولى مكانه ابنه طوران شاه، فقتله مماليك أبيه حرقا وغرقا. وتولت شجرة الدر، وقتلت، وتوالى أمراء المماليك بعد سقوط بني أيوب كل يقتل صاحبه ويتولى مكانه!
وعاد الشيخ إلى القاهرة وعاد الشيوخ إلى حلقاتهم والجميع يطالبون ملوك المسلمين في كل ابلاد بأن يتحدوا ليواجهوا خطر الفرنج وخطر التتار، ولكن بلا جدوى! فما كان يشغل الملوك المسلمين غير ذهو السلطان وأبهة الملك!
وذات صباح روعت الدنيا باستيلاء التتار على بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وألقوا بمكتبتها العامرة في ماء دجلة لتختلط الكتب بأشلاء العلماء والفقهاء وآلاف الضحايا الذين قتلهم التتار في وحشية لم يعرف التاريخ مثيلا من قبل.
ومن جديد يطلق الشيخ عز الدين صيحته إلى الملوك والأمراء العرب والمسلمين أن يتفقوا فما استباح التتار أرضهم وأعراضهم في العراق إلا لأنهم تفرقوا..!
وذهبت النداءات المخلصة أدراج الرياح .. فزحف التتار إلى الشام واستولوا على حلب في طريقهم إلى مصر!
وكان السلطان قطز على عرش مصر، فجمع الأمراء والأعيان والعلماء ليتشاوروا في أمر غزو التتار. ورأى قطز أن الحرب تقتضي مالا كثيرا وخزانة الدولة خاوية، فلابد من فرض ضرائب جديدة على الرعية لتجهيز جيش قوي يصد زحف التتار.
ووافق الأمراء المماليك على فرض ضرائب جديدة. إلا أن المعز بن عبد السلام قال: "إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم. وجاز أن لا يبقي في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية والمزركشات .. وأن تبعيوا مالكم من الحوائص "أحزمة الخيل" الذهبية والآلات الفضية. ويقتصر كل الجند على سلاحه، ومركوبه ويتساووا هم والعامة .. وأما أخذ الأموال من العامة مع إبقاء الأموال والآلات الفاخرة في أيدي الجند، فلا".
واقتنع السلطان بهذا الكلام فكان الأمر كما قال الشيخ، ولم يقرر السلطان ضرائب جديدة، وبيعت الأشياء الثمينة التي يمتلكها الأمراء والجند المماليك وجهز بثمنها جيشا ضخما.
كان الشيخ في الثمانين، مضني من مقارعة الخطوب والمكاره ومن السن، فلم يستطع أن يخرج مع الجيش كما خرج إلى دمياط، ولكن شباب العلماء والقادرين خرجوا مع الجيش، والتقى الجمعان في عين جالون فأوقع الجيش المصري بقيادة قطز بالتتار هزيمة منكرة لم تقم لها بعدها قائمة!
وفي طريق العودة وثب بيبرس على قطز فقتله وتولى مكانه، واستأثر هو بكل ما منحته الجماهير لقائد الجيش المنتصر من إعجاب وترحاب..!
عاد الظاهر بيبرس إلى مصر يتلقى البيعة، فلم يبايعه الشيخ عز الدين بل قال له: "ما أعرفك حرا لأبايعك. وما أعرفك مملوكا للبندقدار. (والبندقدار هو الذي يحمل كيس البندق للسلطان أثناء الصيد). فأنت عبد تصلح لتولي الأمر. فالشرط أن يكون ولي الأمر حرا".
وأثبت الظاهر بيبرس أنه أعتق وأنه قد أصبح حرا، فبايعه الشيخ آخر الأمر بعد أن تأكد بكل الطرق الشرعية أن السلطان حر ..
لم يستقر الظاهر بيبرس على عرشه إلا بعد أن بايعه الشيخ العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وهو يقترب من الثالثة والثمانين، وقد كبر أبناؤه وأحفاده وأصبح ابنه عبد اللطيف أحد علماء مصر.
هاهو ذا الشيخ يخطو وئيدا إلى الثالثة والثمانين، وقد تخرج على يده أئمة، وأرسى تقاليد للقضاة والفقهاء والعلماء، وترك ميراثا عظيما من جسارة المواقف.
ومهما يكن حظه من الفقه، فقد كان داعية إلى التجديد، عدوا للتقليد يعيب على اتباع المذاهب تجمدهم عند مذاهبهم حتى حين يبدو لهم الخطأ في بعض الفروع أو الأصول .. وكان يقول لهم: إننا لم نؤمر بتقليد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب؟ ...
وكان هو نفسه شافعيا ولكنه لم يتقيد بالمذهب الشافعي، وخالفه وأخذ بغيره أو اجتهد رأيه بقدر ما استطاع، وبقدر ما سمحت له ظروف عصره. وفي الحق أن دعوته أثمرت فعدل بعض المقلدين عن التقليد ..
وإنه الآن ليطرق أبواب الثالثة والثمانين .. لكم مر به من أهوال في قراع الباطل، ومصاولة البغي، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! .. وآن للشيخ أن يستريح.
مرض وغلبه الوهن، فأدرك كل من عرفوه أنه مفارقهم، وحدثهم أنه سيفارقهم إلى جوار الله عندما يبلغ الثالثة والثمانين، كما تنبأ لنفسه من قبل.
وعاده السلطان الظاهر بيبرس في مرضه، ورآه يشرف على التلف، فاستأذنه في أن يعين أبناءه مكانه في مناصبه، فقال له الشيخ: "ما فيهم من يصلح، والمدرسة الصالحية للقاضي تاج الدين".
وكانت أخبار كراماته قد ذاعت، وكان هو يكذب أن له كرامات.
فحين أشرف الشيخ على الموت أذاعوا عنه أنه عندما قدم الصليبيون دمياط بقيادة الملك لوليس التاسع، وهبت الريح لصالح سفائن الفرنج، دعا الشيخ ربه أن يغير اتجاه الريح، فتغيرت لصالح المسلمين وكان هذا هو سبب الانتصار..!!
وحكوا أن صديقا من ريف مصر اسمه البلتاجي تعود أن يهديه هدايا من خيرات الفلاحين، فأهداه حمل جمل من الهدايا وكان فيها إناء جبن، فسقط في الطريق فانكسر ففسد الجبن، وأخذ حامل الهدية يصرخ، فجاءه رجل رومي فسأله فحكى له أن الجبن قد فسد، فقال له الرومي أنا أعطيك خيرا منه، وأعطاه إناء جبن. وعندما وصلت الهدايا إلى الشيخ تقلبها ورد إناء الجبن قائلا أنه عرف فيه ريح الخنزير فقد صنعته امرأة رومية متنجسة.
وكان الشيخ وهو على فراشه يسمع حكايات أخرى عن كرامته، فيغضب وينكر ما يسمع، ويستغفر الله لنفسه وللرواة، ويطالب الناس ألا يبالغوا فيما يحكون عنه فما هو إلا عبد فقير لله عمل جهده ليفيد الناس ويقيم الشريعة ويدافع عن السنة ويميت البدعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. وبلغ الثالثة والثمانين، فطلب إلى أبنائه أن يسندوه إلى المدرسة الصالحية التي تعود أن يدرس فيها .. وكان شديدا الضعف من المرض، فحاولوا أن يثنوه ولكنه صمم..!
وساندوه إلى المدرسة، فألقى الدرس...
وكان درسه الأخير، فقد مات في المدرسة وهو يفسر الآية الكريمة: الله نور السماوات والأرض .. فاضت روحه..
لتعود إلى نور السماوات والأرض، التي نعمت من فيضه طوال الحياة.
وشيعته مصر كلها برجالها وأطفالها ونسائها .. وأمر السلطان الأمراء أن يحملوا نعش الشيخ، واشترك معهم السلطان نفسه في حمل النعش. وأقيمت له في دمشق جنازة ضخمة وصولا عليه صلاة الغائب.
وحين استقر جثمان الشيخ آخر الدهر تحت سفح المقطم، وعاد السلطان الظاهر بيبرس إلى قصر ملكه تنفس الصعداء وقال: "الآن استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: أخرجوا عليه لانتزعوا الملك مني".
لقد صدق الظاهر بيبرس!!
فقد كان الشيخ سلطانا فوق السلاطين!. كان سلطان العلماء
وقال "يا سيدي أيش تعمل"؟.
ـ أنادي عليكم وأبيعكم ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
ـ فيم تصرف ثمننا؟
ـ في مصالح المسلمين.
ـ من يقبضه؟
ـ أنا.
أنصرف نائب السلطنة إلى السلطان حيث كان جميع الأمراء قد اجتمعوا عنده، فروى لهم نائب السلطان ما كان بينه وبين الشيخ.
ولم يذعن السلطان، فأرسل إلى الشيخ من يتلطف له ويحاول صرفه عن بيع الأمراء، وأخبره الرسول بعد حوار طويل أن السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهو فوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلى أية حال فليس للشيخ أن يدخل في أمور الدولة فشئون الأمراء لا تتعلق به. بل بالسلطان وحده!!
وأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء وقام فجمع أمتعته ووضعها على حمار، ووضع أهله على حمير أخرى، وساق الحمير ماشيا! ..
إلى أين يا شيخ!؟ ..
قال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! ..
فيم المقام بأرض يستضعف فيها أهل الشريعة، ويعتدي فيها على القضاء؟!
وتجمع الناس وراءه .. وكلما سار في طريق تزاحم الناس عليه يحاولون منعه من الهجرة، فهو أملهم في مواجهة مظالم الأمراء المماليك، فلكم عانى التجار والصناع وسائر الناس من صلفهم، وهاهم أولاء يرون فيهم يوما من أياما الانكسار على يد هذا الشيخ الجليل عز الدين بن عبد السلام! .. فلماذا يتركهم الشيخ؟! .. ولمن يكلهم؟! .. إلى هؤلاء الأفراد العبيد المتغطرسين من جديد؟!
أحاط الناس بموكب الشيخ وهم يتوسلون باكين ألا يتركهم، فقد عرفوا في قضائه قوة الانتصار للمظلوم، وهيبة العدالة، خلال تلك الأشهر القلائل التي ولى فيها المنصب...
ولكن الشيخ مضى في طريقه لا يبالي ..
سار الشيخ أميالا خارج القاهرة والناس من ورائه يرجون ملحين ساخطين حتى امتلأت بهم الأرض الفضاء إذ لم يتخلف عن اللحاق به "امرأة ولا صبي ولا رجل ولاسيما العلماء والصلحاء والتجار وأمثالهم."
وبدا أن هذه الجموع ستذهب في تحدي السلطان إلى أبعد مدى! .. ولئن هي رجعت بغير الشيخ لتثيرن الدنيا على السلطان حتى الذين هم تحت التراب!
وعلم السلطان بما يجرى، وقال له أحد ناصحيه: "تدارك ملكك وإلا نهب بذهاب الشيخ".
فأسرع السلطان إلى فرس سريع فامتطاه على عجل وانطلق حتى أدرك الشيخ عز الدين، وشهد الناس من حوله وعاين سخطهم، فنزل عن فرسه، وتقدم متلطفا معتذرا إلى الشيخ عز الدين، وقال له: "لا تفارقنا. عد يا إمام وأصنع ما بدا لك." .. وقدم للشيخ فرسا فامتطاه وعاد الشيخ.
وعاد الشيخ والناس يهللون من حوله ومن خلفه.
وجمع السلطان كل الأمراء في القلعة بأمر الشيخ، ثم عرضوا في مزاد ونادى الشيخ عليهم وغالى في ثمنهم. حتى إذا امتنع الحاضرون عن المزايدة في الثمن لارتفاعه الفاحش، تقدم السلطان فدفع ثمنا أزيد من ماله الخاص لا من بيت المال، حتى اشترى جميع الأمراء المماليك وأعتقهم لوجه الله، فأصبحوا أحرارا.
وصحح الشيخ عقودهم بما فيها عقود الزواج.
أما ما قبضه الشيخ من ثمنهم فقد وزعه على الفقراء وأصحاب الحاجات وبصفة خاصة أهل العلم وطلابه، وأقام به مكاتب لتعليم القرآن والخط وعلوم اللغة.
وازدادت مكانة الشيخ في قلوب الناس، وتزاحموا عليه وما كانوا يتركونه بعد صلاة الجمعة في جامع عمرو حتى يؤذن لصلاة العصر.
أما السلطان، فقد أضمر أن يتخلص من الشيخ، فقد خافه على ملكه!. إن هذا الشيخ الخجول النحيل ليستطيع أن يحرك الناس ضده كيفما يشاء!
على أن أمراء المماليك لم يعودوا بعد لصلفهم واستبدادهم بالناس كما كانوا من قبل بيعهم في المزاد!
واستمر عز الدين في القضاء حازما حاسما لا يخشى إلا الله ولا يأبه إلا بالحق، ولا يراعي إلا مصلحة الأمة. لقد تأتيه الدعوى من أحد الأفراد على أحد خواص السلطان، فيسوي بينهما في المجلس، ويتحرى العدل وحده .. ولكم أدان خواص السلطان! ..
لم يعد السلطان يتوقع منه مجاملة، وتمنى أن يزيحه من مكانه، ولكنه خشي غضب الناس! كان الملك الصالح نجم الدين أيوب، سلطانا قويا واسع الحيلة، ولكنه وجد نفسه مع الشيخ عز الدين بلا حيلة!
وفي الحق أن الشيخ عز الدين، لم يجهر بعداء السلطان، ولا حتى بنقده، ولكنه مضى في طريقه: يفتي، ويخطب الجمعة في جامع عمرو، ويقضي بما يهديه إليه فهمه لنصوص الشريعة أو اجتهاده إن لم يجد حكما في النصوص، ثم يخلص إلى بيته ليكتب .. ولكنه على انفساح بيته وهدوئه وجماله لم يكن يجد الوقت الكافي للكتابة، فالناس يتزاحمون حيث يكون، ومنهم من يلح عليه بالزيارة..!
ولم يشأ أن يتخذ حاجبا يمنع عنه الناس، كما كان يصنع الفقهاء من قبله حين يخلون إلى الكتابة .. وكان كثير الصدقات ينفق معظم رواتبه خفية على أصحاب الحاجات، فكان كثير من أصحاب الحاجات يطرقون بابه.
وكان يلح بالدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر القيام بهما واجبا شرعيا يأثم تاركه، فيأتيه الناس يستفتونه في المعروف والمنكر.
ووجد بعض الأقوياء الظالمين يغتصبون حقوق المستضعفين، فأفتى أن واجب المستضعفين أن ينتزعوا ما اغتصب منهم، ولا عقاب عليهم، فهذا حقهم الشرعي.
فإن هم وجدوا السلطان عاجزا عن رد أموالهم المغتصبة، فعليهم استردادها بأنفسهم، وإلا أثموا شرعا!
وأثارت هذه الفتيا عددا من الأمراء الذين ألفوا أن يستضعفوا، بعض التجار والصناع والحرف، ويغصبون منهم خفية بعض البضائع أو الأجور!!
وكان يعتبر من الحقوق المغصوبة إنقاص أجر العامل، أو قهر البائع أو تخويفه فيبيع بثمن أقل من الثمن المعروف! ثمن المثل!
وسخط السلطان نفسه عليه، فقد رآه في أحكامه وفتاويه يفرض أوامره على الشرطة، وليس هذا لأحد غير السلطان، فإن لم تستجب الشرطة حرض الناس على الدولة!!
ثم اصطدم الشيخ عز الدين بأقرب أعوان السلطان وأعزهم عليه. وهو أستادرا أو أستاذ دار السلطان: الرجل الذي يتولى شئون مساكن السلطان وسائر حوائجه الخاصة.
ذلك أن "الأستادار" فخر الدين بن شيخ الشيوخ كان مولعا بالغناء والرقص، فعمد إلى مسجد وسط حديقة واسعة مطلة على النيل، فصعد إلى سطح المسجد فأفتن بجمال المنظر، فبنى فوق المسجد "طبلخانة" أي خانا أو دارا للطبل والغناء، وتعود السهر فيها مع صحبة يسمعون إلى الجواري المغنيات والراقصات..!
ولم يجرؤ أحد على أن يشكو الأستادار إلى قاضي القضاة، ولكنه ذهب حتى تحقق مما سمع، فعاد وعقد مجلس القضاء، وأصدر الحكم بإزالة البناء.
غير أن الشرطة لم تزل الملهى من سطح المسجد، فنهض الشيخ عز يقود أبناءه وبعض الشباب من مريديه، وأخذوا المعاول والفئوس، وأزالوا البناء .. ثم أعلن الشيخ أنه يقيل نفسه من منصب قاضي القضاة، فما عاد يطيق أن يقضي بقضاء فتنتظر الشرطة إذن رئيس الشرطة أو السلطان لتنفذ الأحكام، وقد لا تنفذها..!
ولم يكد السلطان يسمع بما حدث من الشيخ حتى أضطرم غيظا، ثم جاءه من يخبره بأن الشيخ قد أقال نفسه، فصفق السلطان طربا، وحمد الله لأن الشيخ أعفاه من حرج كبير، فأقال نفسه بنفسه! وأرسل السلطان رسولا إلى الشيخ بموافقته على استقالته، ففرح الشيخ، وحمل سجادة من على أرض بيته وأهداها رسول السلطان تعبيرا عن الفرح، معتذرا إليه بأنه لا يجد هدية أثمن منها..!
هاهو ذا عبء ثقيل انزاح عن قلب الشيخ!
صمم الشيخ على أن يخصص أكثر وقته للتأليف، ضاع منه عمر طويل وما كتب بعد شيئا.! غير أن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب زاره وطلب منه أن يدرس الفقه الشافعي في المدرسة الجديدة التي أقامها السلطان للفقه على المذاهب الأربعة فقبل الشيخ ونهض بتدريس الفقه، والتفسير. وكان هو أول من ألقى دروسا في التفسير بمصر منذ عهد بعيد. ولقد قام الشيخ بتدريس الفقه الشافعي في هذه المدرسة.
وخطط دروسه لكي تكون كتبا ينتفع بها الناس، فدرس أصول الفقه والتصوف، بهذه المدرسة الجديدة التي اسماها السلطان باسمه .. المدرسة الصالحية .. وحزن الناس لأن الشيخ ترك القضاء وما عرفوا في زمانهم قاضيا أكثر حسما وأعمق نظرا ولا انهض منه للأمر، ولا أشد تقي وروعا وورعة من هذا الشيخ العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام!
وعبر عن ذلك شاعرهم الجزار:
سار عبد العزيز في الحكم سيرا
لم يسره سوى بن عبد العزيز
"يعني عمر بن عبد العزيز"
عندما حكــمه بعـدل وسيط
شامل للورى بلفـظ وجـيز
لقد راح الشيخ واستراح. ولكن حكمه على "الأستادار" قد وصم الرجل في مصر وسائر بلاد الإسلام. فقد جاء في كتاب "حسن المحاضرة" بعد الحديث عن حكم الشيخ في أمر الملهى، كما جاء في تاريخ ابن إياس وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا يتأثر به في الخارج، فاتفق أن جهز السلطان رسولا من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول إلى الديوان، وقف بين يدي الخليفة، وأدى الرسالة له، خرج إليه، وسأله:
ـ هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟
ـ فقال الخليفة لا. ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين بن شيخ الشيوخ أستاداره.
ـ فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام. فنحن لا نقبل روايته.
فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد، وأداها.
استقر الشيخ في داره، يؤلف الكتب، مستفيدا من كل ما مر به: ألف نحو أربعين كتابا في الفقه والتفسير وأصول الفقه والتصوف حصاد تجاريه وقراءاته وتأملاته وفتاويه.
على أن الشيخ لم يكد يسيطر على وقته وينظمه، ويستقر في داره ليكتب، حتى هاجمه جماعة من الأشقياء ذات ليلة مظلمة فتسوروا عليه الحديقة، وتقدموا إلى باب الدار يحاولون كسره، والشيخ مستغرق في عمله لا يشعر بهم..!
وهب أهل الدار من نومهم فزعين، خاف كل من في الدار إلا الشيخ! وحاول أحد أبنائه أن يخرج من باب خلفي فيستدعي العسس، ولكن الشيخ رفض وتقدم نحو الباب الذي حاول اللصوص اقتحامه، فتأخروا إلى الحديقة، وتقدم هو إليهم قائلا: "أهلا بضيوفنا".
وعلى ضوء النجوم تبين الشيخ أنهم جماعة من الفتاك ممن كان يستأجرهم بعض أمراء المماليك للفتك بأعدائهم!! وتعرف على رئيسهم، وتذكر أنه وثيق الصلة بأمير كان يصرخ ويبكي ويتوعد الشيخ عندما نادى على الأمراء في المزاد! .. وكانت تفلت من الأمير حكات أنثوية!
وكان هذا الفاتك يدلف إلى الأمير ويهون عليه .. فأبديا من آيات المودة والتعاطف المريب ما آثار سخرية الذين شهدوا المزاد!!.
مثل أمامه هذا الفحل الفاتك فيما بعد متهما في نهب المتجر، وشهد الأمير له زورا، وأثنى عليه في رقة .. فحكم الشيخ عز الدين على الأمير بغرامة لشهادة الزور، وبمبلغ من المال تعويضا للتاجر المعتدى عليه، وحكم على الناهب بالسجن. غير أن الشرطة لم تسجنه وزعمت أنه فر إلى جبل في صعيد مصر!
إن الشيخ يعرف أن هذا الأمير وغيره يتخذون من بعض السوقة ضعاف العقول أشداء الأجسام، عصابات يؤدبون بها من يرفض لهم طلبا، فإذا سقط أحدهم فهو مصري اعتدى على مصري ولا شأن للأمراء المماليك بالأمر كله!
وطلب الشيخ عز الدين عشاء لضيوفه، فالضيف ينبغي أن يكرم في أي وقت جاء. وذهل رجال العصابة..! ثم أخذ يعظهم، حتى ألقوا تحت قدميه ما أخفوه وراء العباءات من أسلحة. وفاض الدمع من أحدهم فاعترف من خلال الدمع أن ذلك الأمير المخنث الشرس حرضهم على قتل الشيخ ونهب بيته ووعدهم بأموال طائلة، وقد أقسم ألا يبقي الشيخ على وجه الأرض، بعد أن نادى على الأمراء المماليك في المزاد العلني وهم ملوك الأرض كما ينادي على الجواري والعبيد!!
فدعا الشيخ لضيوفه وللأمير بالهداية بعد الضلال. وقام الفتاك، فقبلوا يد الشيخ، وظلوا يقبلونها حتى غسلوها بدموع الندم! .. وطلبوا منه الدعاء، فطلب منهم أن يتوضأوا أو ليصلي بهم. وحين فرغوا من الوضوء أمهم الشيخ في صلاة توبة على خضرة الأرض، تحت شعاع النجوم! .. وطلب أبناء الشيخ منه أن يبلغ السلطان، فأبى.
حتى إذا جاء يوم العيد، وخرج السلطان في أبهة الملك إلى القلعة، وحوله الأمراء يتشامخون ـ وفيهم ذلك الأمير ـ واجه الشيخ سلطانهم بما روع الأمراء وألقى الهيبة من الشيخ في قلوبهم. ويصف السبكي ذلك المشهد في طبقات الشافعية: "طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطان عليه يوم العيد في الأبهة، وقد خرج على قومه في زينة على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه:
(يا أيوب. ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟)
فقال السلطان: "هل جرى ذلك؟"
قال: "نعم الحانة الفلانية تبيع الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة."
وأخذ الشيخ يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون:
فقال السلطان: "يا سيدي هذا أنا ما عملته. هذا من زمان أبي."
فقال الشيخ: "أنت من الذين يقولون: أنا وجدنا آباءنا على أمة؟!"
فأمر السلطان بإغلاق الحانة.
وبعد أن انصرف سأله أحد تلاميذه عما فعله فقال الشيخ:
ـ رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لكيلا تكبر نفسه فتؤذي.
فقال التلميذ: أما خفته؟
قال الشيخ:
ـ "والله يا بني لقد استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقط."
وكان هذا التلميذ هو تاج الدين الذي أصبح فيما بعد. وعاد الشيخ من القلعة، فطاف ببيوت بعض أصدقائه وتلاميذه يهنئهم بالعيد، ثم عاد إلى بيته يستقبل المهنئين.
اهتم الشيخ عز الدين بوضع أصول للفقه، فألف كتابه قواعد "الأحكام في مصالح الأنام" وقد ضمنه كثيرا من القواعد الفقهية. وقال في أوله: "الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح. فإذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر. وقد أبان الله تعالى ما في بعض الأحكام من المفاسد فحث على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح فحث على إتيان المصالح."
ثم يقول: إما مصالح الدنيا "الدنيا والآخرة" وأسبابها ومفاسدها وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع. فإن خفي طلب بأدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال الصحيح. أما مصالح الدنيا وأسبابها ومقاصدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد فليعرضها على العقل.
فهو يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح. وهو يرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة. والعقل هو أداة هذا الاستنباط.
ويقول: "إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب فإن كل واحد منهما لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم."
وتأسيسا على هذا النظر، استنبط كثيرا من الأحكام:
ـ فنهى عن تعمد المشقة في العبادات والمعاملات. فلا مصلحة في المشقة: "قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب باستعمال الدواء المر البشع. فإنه ليس غرضه إلا الشفاء، ولو قال قائل كان غرض الطبيب أن يوجد مشقة ألم مرارة الدواء لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح.
وقيل في بعض كتب الله: "بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي" .. فلا يصح التقرب بالمشاق. ومن آرائه أنه من الممكن تأخير بعض المصالح لما لتأخيرها من مفاسد فقد أخر الله إيجاب الصلاة والصيام، "ولو عجل بهما لنفروا من الدخول في الإسلام".
ـ في تحصيل المصالح يراعى الأفضل فالأفضل لقوله تعالى: {... فَبَشِّرْ عِبَاد} * {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }(الزمر،الآية:18).
وقوله { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } (الزمر،الآية:55) .
وعلى ذلك:
ـ فإنقاذ الغرقى مقدم على أداء الصلوات لأنه افضل عند الله من أداء الصلاة والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك.
ـ لو رأى الصائم في رمضان غريقا لا يتمكن من تخليصه إلا بالتقوى بالفطر فإنه يفطر وينقذه. لأنه في النفوس حقا لله تعالى وحقا لصاحب النفس، فقد ذلك على أداة الصوم.
ـ لا يتقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحرب والقتال، وقد جاء في الحديث الشريف: "من ولى من أمر المسلمين شيئا ثم لم يجهد له ولم ينصح فالجنة عليه حرام."
ـ الأئمة "الحكام" البغاة لا ولاية لهم. وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة مصلحة الرعايا، وأنه مع غلبة الفجور عليهم لا إنفكاك للناس منهم. وأما أخذهم الزكاة فإن صرفوها في مصارفها أجزأت، وإن صرفوها في غير مصارفها لم يبرأ الأغنياء منها. ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء لأنهم يتضررون بعدم أخذ نصيبهم من الزكاة، ولا يتضرر به الأغنياء من تثنية الزكاة.
ـ دفع المشقة واجب فيجوز لبس المخيط في الحج وكذلك الطيب والدهن وقلم الأظافر.
ـ يجوز التيمم للمشقة كالخوف من حدوث المرض من ماء الوضوء أو الخوف إبطاء الشفاء. أو إذا غلا ثمن الماء وأصبح الحصول عليه مشقة أو إذا احتاج الإنسان إلى ثمنه في سفر أو نحوه.
ـ يجوز للمرأة أن تتيمم بدلا من الوضوء بالماء إذا كان الماء يؤذي جمال وجهها. كان يظهر عليه من آثر الوضوء في الشتاء ما يشين هذا إذا كان الوضوء يؤثر على جمال المرأة في وجهها أجاز لها الشافعي أن تتيمم.
ـ من أطلق لفظا لا يعرف معناه لا يؤاخذ بمقتضاه كمن لفظ بكلمة الخلع أو الطلاق وهو لا يعرف أحكامهما فلا يترتب حكم على من قال.
ـ لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعوا إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات لأنه لو وقف عليها لأدى ضعف العبد واستلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام .. ويقتصر على ما تمس إليه الحاجات دون أكل الطيبات وشرب المستلذات وشرب الناعمات .. "ولو دعت ضرورة واحدا إلى غضب أموال الناس لجاز له ذلك بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو برد وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء النفوس. فثورة المغصوبين على الغاصب واجبة."
ـ إذا سرق إنسان مالا سرقة موجبة لقطع اليد لم يجب عليه الإعلام أي الاعتراف بالسرقة، بل يخير مالك المسروق بأن له عليه مالا، ويرده إليه أو يعوضه عنه إن كان قد تلف. ولا يتعرض لذكر السرقة.
فإن رد السارق المال أو عوضه أبرأه منه المسروق فقد برئ السارق، وإلا وجب قطع يده فهو حد من حدود الله.
ـ الوسائل تسقط بسقوط المقاصد. فلا يجوز ضرب الصبي للصلاة إذا لم يثمر الضرب. فهذا الضرب ينفره من الصلاة.
ـ إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فادعاه كل منهما، أو ادعى أحدهما الاشتراك في الجميع فإن الشافعي يسوي بينهما نظرا إلى الظاهر. وبعض العلماء يخص كل منهما بما يليق به نظرا إلى العادة الغالبة. وهذا أصوب فإذا كان الزوج جنديا وادعت الزوجة ملكية السلاح والخيل أو ادعى هو ملكية أدوات زينتها، فإن ما يختص بالرجال يصير للزوج وما يختص بالنساء لا يصير للمرأة. على خلاف ما يقول الشافعي.
ـ إذا اختلف الزوجان في النفقة فالشافعي يجعل القول قول المرأة لأن الأصل عدم قبضها، ومالك يجعل القول للزوج لأنه الغالب في العادة وقول مالك احسن.
ـ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهي تحقق مصلحة للأمة، والصلاة التي لا تحقق هذه المصلحة لا جدوى منها ولا يقبلها الله. فالصلاة أمر بالسيرة الحسنة ومكارم الأخلاق.
ـ الكذب حرام ولكنه جائز لتحقيق مصلحة .. كالإصلاح بين الناس أو الكذب على الزوجة لتقويمها.
ولاحظ الشيخ أن بعض المشعوذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد والتصوف وادعوا أنهم قد سقطت التكاليف عنهم فليس عليهم صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ..
وتصدى لهم فسفه سلوكهم، ومدح الأقطاب الكبار من أئمة الصوفية، وكانت له صلات مودة أو معرفة بآراء بعضهم كالشاذلي والعباسي المرسي وإبراهيم الدسوقي والسيد احمد البدوي.
وكان يحترم هؤلاء ويحض تلاميذه على الإفادة منهم فيقول: "اسمعوا كلامهم فهو قريب العهد بنبع الحقيقة." وكانوا هم يقولون عنه: " ما من مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام."
وشرع وهو يعلم تلاميذه أن الزهد ليس هو ما يفعله عامة الصوفية الذين يسيئون إلى التصوف: لا هو تعذيب النفس ولا لبس المرقعات. "وليس الزهد هو خلو اليد من المال ولكن هو خلو القلب من التعلق بالمال. فليس الغني بمناف للزهد". وقد كان عبد الله بن المبارك والليث بن سعد وهما من أغنى الأغنياء من أزهد الناس.
وسمى التصوف علم الحقيقة وهي معرفة أحوال الباطن، والشريعة تستغرقه لأنها تتناول الظاهر والباطن جميعا. "فكل حقيقة لا شريعة لها فهي عاطلة، وكل حقيقة لا شريعة لها فهي باطلة." وليست الحقيقة خارجة من الشريعة بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال. فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع ومعرفة أحكام البواطن معرفة لبعض الشرع ولا ينكر ذلك كافر أو فاجر.
وهكذا احسن التوفيق والمزاوجة بين النصوص والشريعة والتصوف. قال: الشريعة مجاهدة والحقيقة مشاهدة ولا تباين بينهما إذ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى لها ظاهر وباطن. فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة .. والحقيقة والشريعة يجمعهما كلمتان هو قوله: "إياك نعبد وإياك نستعين" فإياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلم علمان علم باللسان وعلم بالقلب."
وفرق بين الإسلام والإيمان: "فالإسلام هو قيام البدن بوظائف الأحكام، والإيمان هو قيام القلب بوظائف الاستسلام. والإحسان أن تعبد الله كأنما تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فتكون قائما بوظائف العبودية مع شهوده إياك."
وكتب عن المحبة الإلهية شعرا جاء فيه:
نار المحبة أحرقت أحشائي
ومدامـعي تنـهـل كالأنـواء
فأنا الحريق بأضلعي وأنا
الغريق بأدمعي يا منقذ الغرقاء!
فالمحبة تكمن في ذات المحب وتسلبها صفاتها كما تكمن النار في ذاتية الماء الحار فأنت تظنه في الصورة ماء يغرق وهو في الحقيقة نار تحرق، فإن قلت أن المحرق هو النار فأين الماء؟! وإن قلت المغرق هو الماء فأين النار؟!
وللشيخ سبحان صوفية عديدة أودعها كتابه "حل الرموز ومفاتيح الكنوز". وقد عنى فيها بشرح الغامض من أقوال شيوخ الزهد والتصوف. واستشهد ببعض أقوال الإمام علي كرم الله وجهه وهو إمام الزاهدين: "سئل علي رضي الله عنه هل عرفت الله بمحمد أو عرفت محمدا بالله؟ فأجاب لو عرفت الله بمحمد ما عبدته ولكان محمد أوثق في نفسي من الله. ولو عرفت محمدا بالله لما احتجت إلى رسول الله. ولكن عرفني نفسه بلا كيف كما شاء وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام القرآن وبيان معضلات الإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقت بما جاء به."
ويعلق الشيخ على هذا: "يستحيل الوصول إلى شيء من معرفة الله بغير الله ولا سبيل لمعرفة الله إلا بالله.
ويكتب دروسه في التفسير، فتحس فيها آثار الفكر الإشراقي الذي تعلمه في صباه عن السهروردي .. ومثال ذلك تفسيره للآية الكريمة: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } (النور،الآية:35) .
قال الشيخ: جاء في الحديث الشريف إن الله خلقهم من ظلمه ثم رش عليهم النور فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل. ويضيف الشيخ: معرفة العبد لربه هي نور الله الذي يقذفه في قلب عبده فيدرك بذلك أسرار ملكه ويشاهد غيب ملكوته ويلاحظ صفات جبروته ثم تنزل قوة إدراكه على مقدار ما أفيض عليه من ذلك النور.
ثم يفسر سورة العصر بظاهرها فالناس خاسرون إلا في اجتماع فيه أربع أوصاف: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وقال إن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لم يفترقوا حتى يقرءوا: { وَٱلْعَصْرِ*إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ* إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } (العصر).
وتحدث في التفسير عن أنواع المجاز في القرآن من مجاز الحذف كحذف القسم أو المبتدأ أو الخبر أو بعض حروف الجر ثم أنواع المجاز المعروفة في علوم البلاغة والبيان، ثم تحدث عن الكناية في القرآن، وضرب لكل ذلك أمثلة بآيات القرآن مرتبة حسب المصحف. وضمن ذلك كتابه "الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز".
وقد ذهب بعض مؤرخي المتصوفة إلى أن العز تصوف، ولكن الأستاذ محمد حسن عبد الله ينفي ذلك عنه ويذهب إلى أن التصوف يخالف طبيعة الشيخ عز الدين .. وهذا حق فقد كان بعض التصوف في عصر الشيخ هروبا من الواقع، وكان الشيخ من أشد الناس جسارة في مواجهة الواقع، وأنشطهم إلى تغييره. فقد ظل يواجه عصره ويقاوم مفاسده ويصك المجتمع بمواقف رائعة، وكان إلى كل ذلك زاهدا من أولئك الزهاد العظام الذين يفرضون بالقول والموقف والسيرة قيما شريفة فاضلة على مجتمع تمتهن فيه الفضائل ويشقى به الشرفاء!
ومهما يكن من أمر الشيخ فقد كتب في التصوف وشرح أحوال الصادقين من المتصوفة، ودافع في شعر له عن سماع الأذكار وأناشد الصوفية في حلقات الذكر..
وما كان يمكنه أن يتجاهل تيارا يجتاح العصر، ولكنه رد التصوف إلى أصوله النبيلة في مجاهدة النفس لتتطهر من الهوى فلا تمتلئ إلا بالحقيقة ونور الحق، وتناضل في سبيل الخير وتعمر الدنيا بالحب والعدل والجمال والحرية.
وللشيخ في التصوف شعر حسن .. من ذلك قوله:
أيها العاشق معنى حسننا جسد مضني وروح في العنا وفؤاد ليس فيه غيرنا فافن إن شئت فناء سرمدا وأخلع النعلين إن جئت إلى وعن الكونين كن منخلعا وإذا قيل من تهوى فقل مهرنا غال لمن يطلبنا وجفون لا تذوق الوسنا فإذا ما شئت أد الثمنا فالفنا يفضي إلى ذاك الغنى ذلك الحي ففيه قدسنا وأزل ما بيننا من بيننا أنا من أهوى ومن أهوى أنا
ومن ذلك قوله في تجلي الله على قلب عبده المؤمن "يشاهده بعين يقينه، ويجليه ببصر بصيرته من غير حلول ولا تحيز ولا انفصال ولا اتصال":
ولما تجلى من أحب تكرما تعرف لي حتى تيقنت أنني وفي كل حال أجتليه ولم يزل وما هو في وصلي بمتصل ولا وأشهدني ذاك الجمال المعظما أراه بعيني جهرة لا توهما على طور قلبي حيث كنت مكلما بمنفصل عني وحاشاه منهما .
ومن شعره في العشق الإلهي:
شربت حميا حبكم مذ عرفتكم فلا مورد للعالمين كموردي فلي رتبة تعلو على كل رتبة ومن العجائب أن نار تحرقي فالنار والماء القراح تألقا على ظمأ مني فزاد تلهبي ولا مشرب للعاشقين كمشربي ولي منصب يسمو على كل منصب تزداد وقد اعند فرط بكائي! هذا لعمري أعجب الأشياء!
وهو يعني رتبته من الزهد، وانشغال قلبه بغير الدنيا، مما جعله فوق الطمع والرغبة في الدنيا، فما يخاف ولا يخاف ولا يرجو إلا الله تعالى، وهذا هو منصبه الديني وهو أعلى من كل منصب دنيوي.
وقال:
حبه راحتي وروح حياتي وإذا ما مرضت فهو طبيبي وإذا ما ضللت أو ضل ركب يا عذيري فكن عليه عذيري إن تلمني أو لا تلمني فإني وكذا ذكره بلاغي وزادي كلما عادني بلغت اعتمادي عن حماه فوجهه لي هادي أو فقل لي ما حيلتي واعتمادي حبه مذهبي وحسن اعتقادي
وقال:
فلو شاهدوا معنى جمالك مثلما خلعت عذاري في هواك ولم يكن ومزقت أثواب الوقار تهتكا فما في الهوى شكوى ولو فرق الحشا وكم كنت من خوف الهوى أتقي شهدت بعيني القلب ما أنكروا الدعوى خليع عذار سره في الهوى نجوى عليك وطابت في محبتك البلوى وعار على العشاق أن يعلنوا الشكوى ولكنما حكم الهوى غلب التقوى
وقال من قصيدة طويلة:
لئن كان جرمك جرما صغيرا ففيك الظوى العالم الأكبر
وقال يلوم الذين أساءوا إلى التصوف في عصره، من لابسي المرقعات ومرتكبي المنكرات:
ليس التصوف عكازا ومسبحة وإن تروح وتغدو في مرقعة وتظهر الزهد في الدنيا وأنت على وكلا ولا … … …
تحتها موبقات الكبر والسرف عكوفها كلعوق الكلب في الجيف
وقال فيهم، وفي المخلصين من أهل التصوف:
ذهب الرجال وحال دون مجالهم زعموا بأنهم على آثارهم قطعوا طريق السالكين وأظلموا عمروا ظواهرهم بأثواب التقى إن قلت قال الله قال رسوله تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا وترصدوا أكل الحرام تخادعا فهناك طاب المخلصون وأصبحوا عملوا بما علموا وجادوا بالذي وعيونهم تجري بفيض دموعهم تاهوا على كل الملوك وإنهم بوجوههم أثر السجود لربهم لا ينظرون إلى سوى محبوبهم واخيبة الآمال إن أقصيتني فهم إليك وسيلتي يا سيدي زمر من الأوباش والأنذال ساروا ولكن سيرة البطال سبل الهدى بجهالة وضلال وحشوا بواطنهم من الأدغال همزوك همز المنتهى المتغالي بطرائق الجهال والضلال كتخادع المتلصص المحتال متسترين بصورة الأشكال وجدوا وما بخلوا بفضل نوال مثل انهمال الوابل الهطال لهم الملوك بعزة الإقبال وبها أشعة نوره المتلالي شغلوا به عن سائر الأشغال عن قصدهم يا خيبة الآمال هلا وصلت حبالهم بحبالي
كان الشيخ يكتب الكتب بخطه أو يمليها على تلاميذه. وقد جاءه في مصر عدد كبير من علمائها وسمعوا دروسه، ولازموه معجبين بعلمه ومواقفه وغيرته للحق، ودفاعه عن الشريعة وأحكامها لا يبالي في ذلك بشيء ولا يريد إلا وجه الله فأطلق عليه أحد علماء مصر ومتصوفيها وهو ابن دقيق العيد. "سلطان العلماء". وقال عنه لقد تحرر من سلطان الفقهاء السابقين، وقاوم سلاطين الزمان فهو السلطان.! .. وسماه آخرون شيخ الإسلام.
وتمر السنوات بالشيخ وهو في عمله مطمئن البال آمن السرب يدرس ويخطب ويكتب .. ولكن قارعة تنزل، فتنتزع الشيخ من كل هذا .. فقد انتشرت في القاهرة أخبار غزوة صليبية تتجه إلى دمياط بقيادة لويس التاسع. فوقف الشيخ تاركا كل أعماله ليدعو كل أفراد الأمة إلى الجهاد.
ولم يعد صوت يرتفع من على منابر المساجد إلا بالدعوة إلى الجهاد .. وهجر الشيوخ كتبهم وحلقاتهم وذهبوا جميعا إلى دمياط للاشتراك في الجهاد المقدس، وانتقل السلطان إلى المنصورة ليكون قريبا من ميدان المعركة .. وزحف الفرنج إلى المنصورة وهناك انتصر المصريون على الصليبيين الفرنج وأسروا قائدهم لويس التاسع ملك فرنسا.
ومات السلطان في المنصورة ثم تولى مكانه ابنه طوران شاه، فقتله مماليك أبيه حرقا وغرقا. وتولت شجرة الدر، وقتلت، وتوالى أمراء المماليك بعد سقوط بني أيوب كل يقتل صاحبه ويتولى مكانه!
وعاد الشيخ إلى القاهرة وعاد الشيوخ إلى حلقاتهم والجميع يطالبون ملوك المسلمين في كل ابلاد بأن يتحدوا ليواجهوا خطر الفرنج وخطر التتار، ولكن بلا جدوى! فما كان يشغل الملوك المسلمين غير ذهو السلطان وأبهة الملك!
وذات صباح روعت الدنيا باستيلاء التتار على بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وألقوا بمكتبتها العامرة في ماء دجلة لتختلط الكتب بأشلاء العلماء والفقهاء وآلاف الضحايا الذين قتلهم التتار في وحشية لم يعرف التاريخ مثيلا من قبل.
ومن جديد يطلق الشيخ عز الدين صيحته إلى الملوك والأمراء العرب والمسلمين أن يتفقوا فما استباح التتار أرضهم وأعراضهم في العراق إلا لأنهم تفرقوا..!
وذهبت النداءات المخلصة أدراج الرياح .. فزحف التتار إلى الشام واستولوا على حلب في طريقهم إلى مصر!
وكان السلطان قطز على عرش مصر، فجمع الأمراء والأعيان والعلماء ليتشاوروا في أمر غزو التتار. ورأى قطز أن الحرب تقتضي مالا كثيرا وخزانة الدولة خاوية، فلابد من فرض ضرائب جديدة على الرعية لتجهيز جيش قوي يصد زحف التتار.
ووافق الأمراء المماليك على فرض ضرائب جديدة. إلا أن المعز بن عبد السلام قال: "إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم. وجاز أن لا يبقي في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية والمزركشات .. وأن تبعيوا مالكم من الحوائص "أحزمة الخيل" الذهبية والآلات الفضية. ويقتصر كل الجند على سلاحه، ومركوبه ويتساووا هم والعامة .. وأما أخذ الأموال من العامة مع إبقاء الأموال والآلات الفاخرة في أيدي الجند، فلا".
واقتنع السلطان بهذا الكلام فكان الأمر كما قال الشيخ، ولم يقرر السلطان ضرائب جديدة، وبيعت الأشياء الثمينة التي يمتلكها الأمراء والجند المماليك وجهز بثمنها جيشا ضخما.
كان الشيخ في الثمانين، مضني من مقارعة الخطوب والمكاره ومن السن، فلم يستطع أن يخرج مع الجيش كما خرج إلى دمياط، ولكن شباب العلماء والقادرين خرجوا مع الجيش، والتقى الجمعان في عين جالون فأوقع الجيش المصري بقيادة قطز بالتتار هزيمة منكرة لم تقم لها بعدها قائمة!
وفي طريق العودة وثب بيبرس على قطز فقتله وتولى مكانه، واستأثر هو بكل ما منحته الجماهير لقائد الجيش المنتصر من إعجاب وترحاب..!
عاد الظاهر بيبرس إلى مصر يتلقى البيعة، فلم يبايعه الشيخ عز الدين بل قال له: "ما أعرفك حرا لأبايعك. وما أعرفك مملوكا للبندقدار. (والبندقدار هو الذي يحمل كيس البندق للسلطان أثناء الصيد). فأنت عبد تصلح لتولي الأمر. فالشرط أن يكون ولي الأمر حرا".
وأثبت الظاهر بيبرس أنه أعتق وأنه قد أصبح حرا، فبايعه الشيخ آخر الأمر بعد أن تأكد بكل الطرق الشرعية أن السلطان حر ..
لم يستقر الظاهر بيبرس على عرشه إلا بعد أن بايعه الشيخ العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وهو يقترب من الثالثة والثمانين، وقد كبر أبناؤه وأحفاده وأصبح ابنه عبد اللطيف أحد علماء مصر.
هاهو ذا الشيخ يخطو وئيدا إلى الثالثة والثمانين، وقد تخرج على يده أئمة، وأرسى تقاليد للقضاة والفقهاء والعلماء، وترك ميراثا عظيما من جسارة المواقف.
ومهما يكن حظه من الفقه، فقد كان داعية إلى التجديد، عدوا للتقليد يعيب على اتباع المذاهب تجمدهم عند مذاهبهم حتى حين يبدو لهم الخطأ في بعض الفروع أو الأصول .. وكان يقول لهم: إننا لم نؤمر بتقليد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب؟ ...
وكان هو نفسه شافعيا ولكنه لم يتقيد بالمذهب الشافعي، وخالفه وأخذ بغيره أو اجتهد رأيه بقدر ما استطاع، وبقدر ما سمحت له ظروف عصره. وفي الحق أن دعوته أثمرت فعدل بعض المقلدين عن التقليد ..
وإنه الآن ليطرق أبواب الثالثة والثمانين .. لكم مر به من أهوال في قراع الباطل، ومصاولة البغي، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! .. وآن للشيخ أن يستريح.
مرض وغلبه الوهن، فأدرك كل من عرفوه أنه مفارقهم، وحدثهم أنه سيفارقهم إلى جوار الله عندما يبلغ الثالثة والثمانين، كما تنبأ لنفسه من قبل.
وعاده السلطان الظاهر بيبرس في مرضه، ورآه يشرف على التلف، فاستأذنه في أن يعين أبناءه مكانه في مناصبه، فقال له الشيخ: "ما فيهم من يصلح، والمدرسة الصالحية للقاضي تاج الدين".
وكانت أخبار كراماته قد ذاعت، وكان هو يكذب أن له كرامات.
فحين أشرف الشيخ على الموت أذاعوا عنه أنه عندما قدم الصليبيون دمياط بقيادة الملك لوليس التاسع، وهبت الريح لصالح سفائن الفرنج، دعا الشيخ ربه أن يغير اتجاه الريح، فتغيرت لصالح المسلمين وكان هذا هو سبب الانتصار..!!
وحكوا أن صديقا من ريف مصر اسمه البلتاجي تعود أن يهديه هدايا من خيرات الفلاحين، فأهداه حمل جمل من الهدايا وكان فيها إناء جبن، فسقط في الطريق فانكسر ففسد الجبن، وأخذ حامل الهدية يصرخ، فجاءه رجل رومي فسأله فحكى له أن الجبن قد فسد، فقال له الرومي أنا أعطيك خيرا منه، وأعطاه إناء جبن. وعندما وصلت الهدايا إلى الشيخ تقلبها ورد إناء الجبن قائلا أنه عرف فيه ريح الخنزير فقد صنعته امرأة رومية متنجسة.
وكان الشيخ وهو على فراشه يسمع حكايات أخرى عن كرامته، فيغضب وينكر ما يسمع، ويستغفر الله لنفسه وللرواة، ويطالب الناس ألا يبالغوا فيما يحكون عنه فما هو إلا عبد فقير لله عمل جهده ليفيد الناس ويقيم الشريعة ويدافع عن السنة ويميت البدعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. وبلغ الثالثة والثمانين، فطلب إلى أبنائه أن يسندوه إلى المدرسة الصالحية التي تعود أن يدرس فيها .. وكان شديدا الضعف من المرض، فحاولوا أن يثنوه ولكنه صمم..!
وساندوه إلى المدرسة، فألقى الدرس...
وكان درسه الأخير، فقد مات في المدرسة وهو يفسر الآية الكريمة: الله نور السماوات والأرض .. فاضت روحه..
لتعود إلى نور السماوات والأرض، التي نعمت من فيضه طوال الحياة.
وشيعته مصر كلها برجالها وأطفالها ونسائها .. وأمر السلطان الأمراء أن يحملوا نعش الشيخ، واشترك معهم السلطان نفسه في حمل النعش. وأقيمت له في دمشق جنازة ضخمة وصولا عليه صلاة الغائب.
وحين استقر جثمان الشيخ آخر الدهر تحت سفح المقطم، وعاد السلطان الظاهر بيبرس إلى قصر ملكه تنفس الصعداء وقال: "الآن استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: أخرجوا عليه لانتزعوا الملك مني".
لقد صدق الظاهر بيبرس!!
فقد كان الشيخ سلطانا فوق السلاطين!. كان سلطان العلماء
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
مشكور على ما طرحت وفى ميزان حسناتك بأذن الله
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
مرور رائع تشكرعليه
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
لك الشكرعلى المتابعه[b]
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
جزاك الله خيرا بوعوض وشكرا علي التميز
التمساح- فريق
- عدد المشاركات : 3271
العمر : 66
رقم العضوية : 12
قوة التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 01/02/2009
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
جزاك الله خيرا بوعوض وشكرا علي التميز
التمساح- فريق
- عدد المشاركات : 3271
العمر : 66
رقم العضوية : 12
قوة التقييم : 18
تاريخ التسجيل : 01/02/2009
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
بارك الله فيك
فرج احميد- مستشار
-
عدد المشاركات : 17243
العمر : 62
رقم العضوية : 118
قوة التقييم : 348
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
مشكورين على المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
بارك الله فيكم وجعله فى ميزان حسناتكم بعون الله
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
بوفرقه- مراقب
-
عدد المشاركات : 34697
العمر : 58
رقم العضوية : 179
قوة التقييم : 76
تاريخ التسجيل : 30/04/2009
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
مشكورعلى المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
الشكركل الشكرعلى المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
جلنار- مستشار
-
عدد المشاركات : 19334
العمر : 35
رقم العضوية : 349
قوة التقييم : 28
تاريخ التسجيل : 19/07/2009
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
كل الشكرعلى المرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
المرتجع حنتوش- مشرف قسم المنتدي العام
-
عدد المشاركات : 21264
العمر : 32
رقم العضوية : 121
قوة التقييم : 41
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: العزعزالدين عبدالعزيزبن عبد السلام
كل الشكرعلى المتابعه
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
مواضيع مماثلة
» وفاة الأميرة قماش بنت عبدالعزيزبن عبدالرحمن آل سعود
» بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً..لشيخ عبدالعزيزبن
» المسيح الموعود عليه السلام و المهدي المنتظر عليه السلام
» فضل السلام
» حكم السلام على المبتدع
» بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً..لشيخ عبدالعزيزبن
» المسيح الموعود عليه السلام و المهدي المنتظر عليه السلام
» فضل السلام
» حكم السلام على المبتدع
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
أمس في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
أمس في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
أمس في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
أمس في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
2024-11-04, 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR