صلة الليبيين بحجة الإسلام الغزَّالي ( 505 هـ )

من طرف **عبدالحفيظ عوض ربيع** 2010-03-31, 6:51 pm

صلة الليبيين بحجة الإسلام الغزَّالي ( 505 هـ )

ربِّ يسِّر وتَمِّم
قبل أن أشيرَ إلى علاقة الليبيين بهذا الإمام الكبير لا بدّ من أن أشير إلى شي من ترجمته لمن لا يعرفُ ذلك فأقول مختصِراً : هو زين الدين أبو حامد محمّد بن محمّد بن أحمد الغزّالي.بتشديد الزاي وقيل بتخفيفها نسبة لغزل الصوف ، ولد بطُوس من أرض خراسان سنة خمسين وأربعمائة للهجرة في بيت فقير متواضع حيث كان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له بطوس فدرجت عليهم تسمية الغزالي. وقد أثنى عليه العلماء فشهدوا له بأنه من أكابر علماء المسلمين ، وأنه حجة الإسلام ، وأغزرهم كتابة وتحريرًا في نصرة المذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال له شيخه الجويني : « لقد دفنتني وأنا حي » ، و« الغزالي بحر مغرق » ، وتصدى للرد على الفلاسفة وإبطال دعاويهم الفاسدة في كتابه تهافت الفلاسفة ، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ، وكانت أعظم جامعات عصره ، لا يجلس على كرسيِّها إلا فحولُ العلماء الأذكياء ، ورغِبَ فيه طلبةُ العلم فشدُّوا إليه الرِّحال من أصقاع الدُّنيا ينهلون من علمه ، ويقتدون بفعله ، ثم زهد في الدنيا ، وعكف على العبادات وقيام الليل ويبالغ في الطاعات والقُرب ، وتفرَّغ لتصنيف كتابه المشهور « إحياء علوم الدين » حتى أتّمه ، ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجالس علمٍ ووعظٍ ، وأخذ يدرِّس ويحدِّث بكتابه الإحياء . توفي وهو يشتغل بالصَّحيحين ، نقل الذَّهبي : " وكانت خاتمةُ أمره إقباله على طلب حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومجالسة أهله ، ومطالعة الصَّحيحين . ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام " .
ثناء العلماء :
أثنى عليه أكثرُ العلماء والمؤرّخين ، قال الذهبي : " وكان على رأس الأربعمائة أبو حامد الإسفراييني ، وعلى رأس الخمسمائة الغزالي ، وعلى رأس الستمائة الحافظ عبد الغني ، وعلى رأس السبعمائة شيخنا ابن دقيق العيد . على أن بعض هؤلاء يخالفني فيهم خلق من العلماء " ، ونقل عن ابن النجار في تاريخه : " الغزالي إمام الفقهاء على الإطلاق ، ورباني الأمة بالاتفاق ، ومجتهد زمانه ، وعين أوانه . برع في المذهب ، والأصول ، والخلاف ، والجدل ، والمنطق ، وقرأ الحكمة ، والفلسفة ، وفهم كلامهم ، وتصدى للرد عليهم . وكان شديد الذكاء ، قوي الإدراك ذا فطنة ثاقبة ، وغوص على المعاني" ، وقال الذهبي أيضا : " الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان .... صاحب التصانيف ، والذكاء المفرط " سير أعلام النبلاء .
علاقة الليبيين بالغزالي :
1. ليست علاقة الليبيين بالإمام الغزالي علاقة عادية نشأت متأخرة بل هي علاقةٌ قديمةٌ تعود إلى زمن الغزالي نفسه ، فقد ذكر ابنُ خلِّكان في كتابه وفيَّات الأعيان أنّ الإمام الغزالي نزل بالإسكندرية ؛ ليرحل ليوسف بن تاشفين فبلغته وفاته فرجع .
والإسكندريةُ كانت حافلةً بأبناء طرابلس وبرقة جاؤوا إليها ينهلون من علم الحديث فلا يستغرب أنَّ الليبيين قد قويت صلتهم بالغزالي بالإسكندرية ونشأت بينهم مودَّة ، وعرفوا قدر الرَّجل ونهلوا من علمه .
2. وممَّا يؤيِّد هذا التحليل أنَّ الطرابلسيين عرفوا مؤلفات الغزالي مبكِّرا فيذكر الإمام السلفي ( معجم السفر دار الفكر ص: 239 ) أنَّ المحدث والفقيه واللغوي الليبي أبا حفص عمر بن عبد العزيز بن عبيد الطَّرابُلسي ( 519هـ ) أنشد في أبي حامد الغزالي وتواليفه :
هذَّب المذهبَ حبْرٌ ** أحسنَ اللهُ خلاصَه
ببسـيطٍ ووسـيطٍ ** ووجيزٍ وخُـلاصه
وهذان البيتان من أوائل ما أُنشد في مؤلَّفات الغزالي إذ إنَّ أبا حفصٍ توفِّي سنة ( 519 هـ ) فهو معاصرٌ للغزالي ( 505 هـ ) ، ولا يُستبعد أنَّه تلقَّى عنه العلم فقد نقل السِّلفي أنَّه توفي ببغداد ، وهناك كان الغزالي .
3. معلومٌ أن الأمثال الشعبية كتابٌ يحمل بين دفَّتيه ثقافةَ المجتمع وتفكيره ، وفي الأمثلة الشعبية الليبية المتصلة بالعلم مثلٌ يتّصلُ بالإمام حجَّة الإسلام الغزالي - رحمه الله - وهو قول الليبيين : ( من ليس في بيته الإحياء فليس من الأحياء ) ، وهو مثل قد تشاركنا فيه بعض الأقطار ، و يُقصد بالإحياء في هذا المثل كتابُ إحياء علوم الدِّين للغزالي ، وهو من أشهر كتبه ، بل هو أذيع كتب الرّقائق والمواعظ في الدُّنيا ، وقد اختصره العلماء ، وشرحوه ، وخرَّجوا أحاديثه ، وعكفوا على دراسته ، وأجمعوا على عظمته ، بل إنّ من نقده كالإمام ابنِ تيميّة رحمه الله أشار إلى صلاحه وفوائده ، وفيه قال التقي السُّبكي :

لمحمَّد بن محمّد بن محمّـد ** فضلٌ على العلماء بالتَّمكين
أحيا علومَ الدِّين بعد مماتهـا ** بكتابه إحيا علـوم الــدِّين
4 . وكانت لليبيين عنايةٌ ظاهرةٌ بالكتب نسخاً وشراءً ، ويعرفون النادر منها ، وما يقدَّم في التَّدريس وما يؤخّر ، ومن ذلك قولهم : "يقرا في السبكي ، وخلّى الآجرومية تبكي" ، وقولهم في الحرص على أحد كتب الإمام النووي ، وهو كتاب الأذكار : "بيع الدار واشري الأذكار" ، وقولهم : " اللي ما عنده الصفتي ما يعرف يفتي " ، والمعروف تاريخيا أن الطرابلسيين كانوا قبلة للزهاد ، وفيهم ظهر الزهد ، واشتهر منهم صالحون ، ولهذا السبب هاجر إليها المحدث العجلي شيخ الإمام أحمد بن حنبل ، وفيهم قيل : "رأيت بطرابلس رجالا ما الفضيل بن عياض بأفضل منهم "، لذلك فإنَّ هذه البيئة التى تحب الصالحين ، ويؤمُّها الزهّاد ، ولها معرفةٌ بكتب العُلماء - لا يُستبعدُ عنها عنايتها بكتاب الإحياء حتَّى قالوا بلسان الاتفاق : ( من ليس في بيته الإحياء فليس من الأحياء ) أي : أنَّهُ ميِّتُ القلب ، فاقدُ الحسِّ ، لا تَرِدُ عليه الرَّقائقُ ، ولا تستهويه الدَّقائقُ .
ومن أفضل شروح الإحياء وأطولها شرحُ الإمام المحدِّث اللغوي الزُّبيدي ( 1205هـ ) ، ولقد اطَّلع الليبيون على هذا الشرح واتَّصلوا بالشارح نفسه وعلَّقوا على مواطنَ منه يقول الزُّبيدي في كتابه المعجم المختص ص240 : إن الشَّيخ سالم بن راشد البَلْعزي الطَّرابلسي سمع " شرحي على الإحياء واستحسنَهُ جدّاً ، وكتب على مسألة : ( ليس في الإمكان ) في كتاب التوكل تنبيهاتٍ حسنةً " ، ويقول في ترجمة إدريس بن عمر التُّواتي الفزَّاني ص157 - وقد وصفه بالشيخ الصالح - : " واغتبط بشرح الإحياء كثيراً ، وتأسَّف على عدم التمكُّن من تحصيله ليذهب به إلى بلاده ".
5. ولقد عُرف علماءُ ليبيّون بالزهد وتربية النفس وتزكيتها كالإمام أحمد زرُّوق الملقَّب بمحتسب العلماء ، و الفقيه المفسِّر الحَطَّابي ، و الشيخ الصَّالح عبد السلام الأسمر الفيتوريّ ، وهؤلاء وكذا غيرهم كانت لهم عنايةٌ خاصَّةٌ بكتب الغزالي إذ إنَّه كان من كبار متصوِّفة عصره ، ومن عناية هؤلاء الكبار بكتبه اهتمَّ تلاميذُهم من بعدهم بكتب الغزالي ولولا ضيق المقام لسردتُ كثيراً من النّصوص وسأكتفي بكلام زرُّوق ، يقول الإمام زرُّوق في كتابه النصيحة الكافية عند بيان آداب الأكل مستشهدا بالإحياء ، مبيناً أنُّه غنيٌّ في بابه : " وآداب الأكل كثيرة، فمن أرادها فليطالع كتاب الأكل من الإحياء، ففيه ملحٌ ، وطرفٌ، وآداب ٌلا تكاد توجد في غيره ، والله أعلم. ، وهذا الاهتمام والعناية لا يعني فقد نقده عندهم فيقول زروق في قواعد التصوف في القاعدة 207 ) إنَّ في الإحياء مواطنَ في كتاب المهلكات لا تسلَّم لصاحبها ثم قال : " فلزمَ الحذرُ من شوارد الغلط لا تجنُّب الجملة ، ومعاداة العلم " .
6. تتسمَّي كثيرٌ من الأسر الليبية الطرابلسية بل حتى بعض البرقيين باسم الغزالي ، وهذه التسمية لا يقصد بها أنها انتساب شجري للإمام الغزالي ، فالغزالي مات على بناتٍ ، ولم يرزق الذكور ، وإنما جاءت من باب محبته وتعظيمه .
7. الاعتناء بتدريس كتب الغزالي قديمٌ في طرابلس فقد شرح زروق كتاب العقيدة للغزالي ، وهو مطبوعٌ محقَّقٌ حقَّقه الشيخ محمّد سيد نصَّار .
8. قراءة و تدريس كتب الغزالي ، وكان هذا الأمر إلى زمن قريب فيذكر الشيخ القاريء المصري الشهير عبد الفتَّاح السيد عجمي المَرْصَفي ( 1989م ) أنَّه كان ممَّا يدرسه على يد شيخه في طرابلس الشيخ الفقيه محمد بن علي الغرياني كتاب الاقتصاد في أصول الاعتقاد للغزالي وقد كان ذلك في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم .
رحم الله الإمام الغزالي ، وجزاه عن خدمة الإسلام وأهله خير الجزاء ، وما أحوجنا في زمان المادّة ، وتخلِّي النَّاس عن الجادة إلى قراءة كتابه الإحياء لتحيا به أفئدةٌ تدفقُ بطول الأمل ، وتنبضُ بالطَّمع ونسيان الأجل .