إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
عبقرية سيبويه
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عبقرية سيبويه
عبقرية سيبويه
رب يسّر وتمم
لا يعرفُ كثيرون أنَّ سيبويهِ (180هـ) العالمَ اللغويَّ الكبيرَ الذي قام على كتابه النَّحوُ العربيُّ العظيمُ جاء في كثيرٍ من الرِّوايات أنَّه مات شابّاً لم يتجاوزِ الخامسة والثلاثين ، وفي رواية للخطيب البغدادي أنَّه عاش اثنتين وثلاثين سنةً ، وهو عمرٌ قصيرٌ لا يكفي إلّا أمثالَ العبقريّ سيبويه ليهدي للعربية كتابه العجيب في إحاطته ، الغريب في دقّته ، فسمِّي لذلك قرآن النَّحو ، وقيل في القديم :" من أراد أن يؤلِّف كتاباً كبيراً في النَّحو بعد سيبويه فليستحي " ، و هل تعلم أنَّ هذا الكتابَ هو الوحيد في الدُّنيا الذي لا عُنوان له فإذا قيل : ( الكتاب ) انصرفت الأذهانُ إليه ؛ لشهرته وشهرة صاحبه .
ويستنبطُ القاريءُ من سيرة سيبويه أنَّه - رحمه الله- كان مرهفَ الحسِّ ، لطيفَ الشُّعور ، عزيزاً عفيفاً ، مهذّبَ الأخلاق ، يثقُ بنفسه ، ويطمئنُ إلى عقله ، خرج صغيراً يطلب العلم مفارقاً أهله ، ومبتعداً عن وطنه ليدرس لغةً غيرَ لغته ، يعضدُه حبُّ الدِّين ، ويسلِّيه ما قد يصل إليه من مكانة في دولة بني العبَّاس فقد خفَّفت الوطأ على رقاب الفُرس ، وأشركتهم في بعض الشُّؤون .
كان سيبويه لطيفاً وسيماً ، - وللوسامة أثرٌ في اعتداد المرء بنفسه - نبتَ في بدو فارس ، واعتمد على نبوغه وثقافته المتنوّعة فكأنَّ هذه المَيْزَات زادته ثقةً على ثقة ، ومُكْنةً على مكنة فتشهده يلجُ حِلق الدَّرس زمنَ الشُّيوخ الفحول ، لا يمنعُهُ حياءُ الحاضرة ، أو هيبةُ الأستاذ ، ولا جموعُ التَّلاميذ ، فيجلس كاتباً ثم تراه سائلاً ، و يمشي معترضاً كلُّ ذلك في أدبٍ ولطفٍ ، ولعلَّ ما يذكره المؤرِّخون عن حُسْن مظهره ، و نقاء مخبره ، وحلو معشره ، ونبوغه ، وتنوّع معارفه أدخلته قلبَ الرَّجلِ الصَّالحِ الخليل الفراهيدي عالم زمانه ، وعبقري أوانه ليقول كلَّما رآه " : مرحباً بزائرٍ لا يُمَلُّ " . وقد كان لا يقولها لغيره ثمَّ ورَّثه العلمَ والفهمَ ، وقد وصل نقاشُه واستفسارهُ من الخليل عن مسائل النَّحو الدَّقيقة إلى ما لا يعرفه العلماءُ الجالسون معهما من أمثال سعيد الأخفش العالم النَّحوي الجليل ليوحي لنا أنَّه في النَّحوِ عالم العُلماء ، وصفاء الصَّفوة ، ولُبّ اللُباب.
يذكر المؤرِّخون أن سبب مجيء سيبويه إلى درس النَّحو وتركه الحديثَ والتفسير أنّه سُخر منه لخظأ نحويٍّ أو صرفي صدر عنه أمام شيخ الحديث حمّاد بن سلمة ، فصحّحه لهُ حمّاد فأحسَّ سيبويه بالحَرج ، وقال لحمَّاد :" سأطلبُ علماً لا تلحنني فيه، فلزم الخليل، وبرع في العلم." وذهب شاكياً إلى الخليل بن أحمد ، ولزم مجلس الخليل إلى أن مات الخليل لا يفارقه أبداً .
إن هذه الحادثة لا ينبغي أن تمرَّ دون تحليلٍ أو تفتيش ولو على عَجَلٍ فهي :
- تُبين بوضوح أنّ الرّجلَ كان حسَّاساً لا يرضى بإهانةٍ صريحةٍ ، أو حتّى بتعريضٍ بها ، وأنَّهُ كان صاحبَ إصرارٍ على التَّحدِّي ، فقد أعلن وقتها عن نتيجةِ ما سيصلُ إليه نبوغُهُ وتحصيلُه من العربيَّة فقال :"سأطلبُ علماً لا تلحنني فيه" ، وهكذا دأبُ العظماء أرباب العبقريات تؤثِّر فيهم المواقفُ ، وتغيِّر فيهم الأحداثُ ، و تخيَّل لو كان هذا الأمر مع أحدٍ منَّا في أيامنا هذه ، وسُخر منه في درس قواعد الإنجليزية أو الفرنسيَّة فقال لأحد أعظم أساتذتها في وقتنا من الإنجليز مثلاً : سأدرسُ قواعدَ الإنجليزية حتى لا يُخطِّئني فيها أحدٌ ، وتحقَّّق له ذلك في بضع سنين ، وكوَّن مدرسةً لتدريس الإنجليزيَّة بلغ في تدريسها والإحاطة مبلغاً لم تصله العبقرياتُ اللغويّةُ الكُبرى في الغرب ما ترانا سنقول فيه ؟ ، وكيف سنُبهر ؟ ، فشأنُ سيبويه أعظمُ من هذا الرَّجل الذي تعلَّم الإنجليزيَّة ؛ لأنَّ اهتمام العرب بلغتهم في ذلك الزَّمن يفوقُ اهتمامَ الإنجليز أو الفرنسيين بلغتهم أضعافَ المرّات ، ففي العربِ فحولٌ في النَّحو ، وشيوخٌ في اللغة ، ولكن تأتي هذه العبقريَّةُ لتحقِّقَ في غيرِ لعتها الغَرابةَ في الدِّقةِ ، والأمانةَ في النَّقلِ ، والعجبَ في التَّحليل ، والحَسَن في الاختيار .
- تُبرهنُ أنَّ سيبويه مُليءٌ بالإيمان ، قد تَعرَّبَ بحبِّه للعربيِّة وإن كانت دماؤه فارسيّة ، ولم تؤثِّر فيه شُعوبيةُ بعض الفُرس ، وكرههم للعرب ، وإن كان رأى أنَّه أُهينَ من بعض العرب في حلقةِ حمّاد ، فلو كان ضعيفَ الإيمان بدينه لربَّما دفعه ذلك إلى بُغضِ العرب ولغتهم ، لكنَّه كان ذا رأيٍ رصينٍ ، وفكرٍ عميقٍ ، ففرقٌ بين ما قد يتعرَّض له الشَّخص من أمورٍ عارضةٍ ، وأحداثٍ طارئةٍ ، وبين حقيقة إيمانه بهذا الدِّين ، ويؤيِّدُ عمقَ الإيمان فيه أنَّه تجشّم عناء السّفر من بلاده إلى البصرة لطلبِ الحديث والتّفسيرِ ، فميله كان إليهما في بدءِ أمره ، فإنَّهُ علم أنّ تحصيله لهذين العلمين لا بد أن يمرَّ أولاً بحلقة العربيّة فلو كان حماد محدِّثاً فقط لما اعترض على سيبويه في مسألةٍ لغويةٍ ، فأراد أن يكون تمكنه من الحديثِ تمكُّن حمَّاد الذي تشبع العربية قبل الحديث ، لكنَّ سيبويه بعد ذلك انصرف إلى اللغة ووجد فيها نفسه ، ليعلِّمنا أنَّ الإنسان قد يبرع فيما لا يميل إليه أحيانا لجهلِهِ به .
وفاته :
ورهافة حسّ عبقريّ النُّحاة ، ورقَّة طبعه جعلته يخرجُ من العراق كلِّه وقد مليء حزناً ليعود إلى مسقط رأسه ببلاد فارس بعد خسارته في المناظرة مع الإمام الكسائي -رحمه الله- ليلقى أهلَهُ ، ولا يشتهي شيئاً ، فيموت عند أخيه بمدينة شيراز بعيداً عن مدرسته النَّحوية بالبصرة ، والتي انتهت إليه زعامتُها بعد وفاة شيخه الخليل .
وهنا قد يقولُ قائلٌ : هل تكون خسارة سيبويه سبباً في وفاته ؟ أقول : ليس غريباً مستبعداً ، فالعلماء حساسون ، وقد يغلبهم الهم ويقتلهم أحيانا إذا خسروا في مناظرة ، أو هُزموا في محاجَّة ، وإذا كان العالمُ كبيراً مشهوراً ، وهُزم على رؤوس الخلق قد لا يستطيعُ إبراءَ نفسه النازفة من مرارةِ الهزيمة ، و يزيد ذلك من احتمال مرضه وموته ؛ لأنَّه تغلبُ الخسارة على عقله ، وتملأ تفكيرَه فتكدِّر عليه صفو العيش ، وفراغ البال ، فلا يحيا إلا في استذكار مجلسها ، واستحضار وقائعها ، ولا ننسى أنهم كانوا في مجتمعات صغيرة لا يوجد فيها ما يملأ كلَّ الوقت كما في أيامنا فتعمر مجالسهم بمثل هذه الأمور ، وربّما أنشد فيها الش راجل يعجبك ، وظاهرٌ في التَّاريخ أنَّ كثيراً من النَّاس ماتوا كمداً لفقد ولدٍ ، أو زوالِ مُلْكٍ أو ضياع وظيفةٍ ، أو رحيلِ زوجةٍ ، فكيف بخسارَة العالِم أمامَ أقرانه ،و بشهادة خُلَّانه ، وقد صرّح أحد الفقهاء الشُّعراء بأنّ الخسارةَ في المناظرة هي السُّمّ النَّاقعُ فقال يخاطب فقيهاً شاعراً عاند في مسألة :
لعمرُكَ ما نبَّهْتَ منِّـيَ نـائمـاً
فلو سُلِّمتْ تلك العلومُ لأهلـهـا
ولو ضمَّنا عندَ التناظرِ مجلـــسٌ ودونكَ فاسْمَعْها إذا كنتَ سامعا
لما كنتَ فيما تـدَّعيه منـازعـا
سقيناك منها السمَّ لا شكَّ نـاقعا
مات سيبويه في شبابه فأحزنَ كلَّ من قرأ لحظات وفاته ، فهو يؤمِّل أن يعيش ويستفيدَ الناسُ ممَّا حصَّل من شيوخه من علم ، فأنشد في مرضه :
يؤمّل دنيا لـتـبـقـى لـه
يربّي فسيلاً لـيبـقـى لـه فمات المؤمِّل قبل الأمـل
فعاش الفسيل ومات الرجل
توفي سيبويه صغيراً ، لنعرفَ أنَّ جلائل الأمور قد يكون أصحابُها شباباً فليس العطاء مقروناً بطول الأعمار، وفُسحة العيش ، وليبقى كتابه أبد الدَّهر شاهداً على فضل الله وفتوحه على شاب صادق زانه الإخلاص و ميزه الاجتهاد
رحم الله سيبويه وجزاه عن أهل العربية جنة ورضوانا .
رب يسّر وتمم
لا يعرفُ كثيرون أنَّ سيبويهِ (180هـ) العالمَ اللغويَّ الكبيرَ الذي قام على كتابه النَّحوُ العربيُّ العظيمُ جاء في كثيرٍ من الرِّوايات أنَّه مات شابّاً لم يتجاوزِ الخامسة والثلاثين ، وفي رواية للخطيب البغدادي أنَّه عاش اثنتين وثلاثين سنةً ، وهو عمرٌ قصيرٌ لا يكفي إلّا أمثالَ العبقريّ سيبويه ليهدي للعربية كتابه العجيب في إحاطته ، الغريب في دقّته ، فسمِّي لذلك قرآن النَّحو ، وقيل في القديم :" من أراد أن يؤلِّف كتاباً كبيراً في النَّحو بعد سيبويه فليستحي " ، و هل تعلم أنَّ هذا الكتابَ هو الوحيد في الدُّنيا الذي لا عُنوان له فإذا قيل : ( الكتاب ) انصرفت الأذهانُ إليه ؛ لشهرته وشهرة صاحبه .
ويستنبطُ القاريءُ من سيرة سيبويه أنَّه - رحمه الله- كان مرهفَ الحسِّ ، لطيفَ الشُّعور ، عزيزاً عفيفاً ، مهذّبَ الأخلاق ، يثقُ بنفسه ، ويطمئنُ إلى عقله ، خرج صغيراً يطلب العلم مفارقاً أهله ، ومبتعداً عن وطنه ليدرس لغةً غيرَ لغته ، يعضدُه حبُّ الدِّين ، ويسلِّيه ما قد يصل إليه من مكانة في دولة بني العبَّاس فقد خفَّفت الوطأ على رقاب الفُرس ، وأشركتهم في بعض الشُّؤون .
كان سيبويه لطيفاً وسيماً ، - وللوسامة أثرٌ في اعتداد المرء بنفسه - نبتَ في بدو فارس ، واعتمد على نبوغه وثقافته المتنوّعة فكأنَّ هذه المَيْزَات زادته ثقةً على ثقة ، ومُكْنةً على مكنة فتشهده يلجُ حِلق الدَّرس زمنَ الشُّيوخ الفحول ، لا يمنعُهُ حياءُ الحاضرة ، أو هيبةُ الأستاذ ، ولا جموعُ التَّلاميذ ، فيجلس كاتباً ثم تراه سائلاً ، و يمشي معترضاً كلُّ ذلك في أدبٍ ولطفٍ ، ولعلَّ ما يذكره المؤرِّخون عن حُسْن مظهره ، و نقاء مخبره ، وحلو معشره ، ونبوغه ، وتنوّع معارفه أدخلته قلبَ الرَّجلِ الصَّالحِ الخليل الفراهيدي عالم زمانه ، وعبقري أوانه ليقول كلَّما رآه " : مرحباً بزائرٍ لا يُمَلُّ " . وقد كان لا يقولها لغيره ثمَّ ورَّثه العلمَ والفهمَ ، وقد وصل نقاشُه واستفسارهُ من الخليل عن مسائل النَّحو الدَّقيقة إلى ما لا يعرفه العلماءُ الجالسون معهما من أمثال سعيد الأخفش العالم النَّحوي الجليل ليوحي لنا أنَّه في النَّحوِ عالم العُلماء ، وصفاء الصَّفوة ، ولُبّ اللُباب.
يذكر المؤرِّخون أن سبب مجيء سيبويه إلى درس النَّحو وتركه الحديثَ والتفسير أنّه سُخر منه لخظأ نحويٍّ أو صرفي صدر عنه أمام شيخ الحديث حمّاد بن سلمة ، فصحّحه لهُ حمّاد فأحسَّ سيبويه بالحَرج ، وقال لحمَّاد :" سأطلبُ علماً لا تلحنني فيه، فلزم الخليل، وبرع في العلم." وذهب شاكياً إلى الخليل بن أحمد ، ولزم مجلس الخليل إلى أن مات الخليل لا يفارقه أبداً .
إن هذه الحادثة لا ينبغي أن تمرَّ دون تحليلٍ أو تفتيش ولو على عَجَلٍ فهي :
- تُبين بوضوح أنّ الرّجلَ كان حسَّاساً لا يرضى بإهانةٍ صريحةٍ ، أو حتّى بتعريضٍ بها ، وأنَّهُ كان صاحبَ إصرارٍ على التَّحدِّي ، فقد أعلن وقتها عن نتيجةِ ما سيصلُ إليه نبوغُهُ وتحصيلُه من العربيَّة فقال :"سأطلبُ علماً لا تلحنني فيه" ، وهكذا دأبُ العظماء أرباب العبقريات تؤثِّر فيهم المواقفُ ، وتغيِّر فيهم الأحداثُ ، و تخيَّل لو كان هذا الأمر مع أحدٍ منَّا في أيامنا هذه ، وسُخر منه في درس قواعد الإنجليزية أو الفرنسيَّة فقال لأحد أعظم أساتذتها في وقتنا من الإنجليز مثلاً : سأدرسُ قواعدَ الإنجليزية حتى لا يُخطِّئني فيها أحدٌ ، وتحقَّّق له ذلك في بضع سنين ، وكوَّن مدرسةً لتدريس الإنجليزيَّة بلغ في تدريسها والإحاطة مبلغاً لم تصله العبقرياتُ اللغويّةُ الكُبرى في الغرب ما ترانا سنقول فيه ؟ ، وكيف سنُبهر ؟ ، فشأنُ سيبويه أعظمُ من هذا الرَّجل الذي تعلَّم الإنجليزيَّة ؛ لأنَّ اهتمام العرب بلغتهم في ذلك الزَّمن يفوقُ اهتمامَ الإنجليز أو الفرنسيين بلغتهم أضعافَ المرّات ، ففي العربِ فحولٌ في النَّحو ، وشيوخٌ في اللغة ، ولكن تأتي هذه العبقريَّةُ لتحقِّقَ في غيرِ لعتها الغَرابةَ في الدِّقةِ ، والأمانةَ في النَّقلِ ، والعجبَ في التَّحليل ، والحَسَن في الاختيار .
- تُبرهنُ أنَّ سيبويه مُليءٌ بالإيمان ، قد تَعرَّبَ بحبِّه للعربيِّة وإن كانت دماؤه فارسيّة ، ولم تؤثِّر فيه شُعوبيةُ بعض الفُرس ، وكرههم للعرب ، وإن كان رأى أنَّه أُهينَ من بعض العرب في حلقةِ حمّاد ، فلو كان ضعيفَ الإيمان بدينه لربَّما دفعه ذلك إلى بُغضِ العرب ولغتهم ، لكنَّه كان ذا رأيٍ رصينٍ ، وفكرٍ عميقٍ ، ففرقٌ بين ما قد يتعرَّض له الشَّخص من أمورٍ عارضةٍ ، وأحداثٍ طارئةٍ ، وبين حقيقة إيمانه بهذا الدِّين ، ويؤيِّدُ عمقَ الإيمان فيه أنَّه تجشّم عناء السّفر من بلاده إلى البصرة لطلبِ الحديث والتّفسيرِ ، فميله كان إليهما في بدءِ أمره ، فإنَّهُ علم أنّ تحصيله لهذين العلمين لا بد أن يمرَّ أولاً بحلقة العربيّة فلو كان حماد محدِّثاً فقط لما اعترض على سيبويه في مسألةٍ لغويةٍ ، فأراد أن يكون تمكنه من الحديثِ تمكُّن حمَّاد الذي تشبع العربية قبل الحديث ، لكنَّ سيبويه بعد ذلك انصرف إلى اللغة ووجد فيها نفسه ، ليعلِّمنا أنَّ الإنسان قد يبرع فيما لا يميل إليه أحيانا لجهلِهِ به .
وفاته :
ورهافة حسّ عبقريّ النُّحاة ، ورقَّة طبعه جعلته يخرجُ من العراق كلِّه وقد مليء حزناً ليعود إلى مسقط رأسه ببلاد فارس بعد خسارته في المناظرة مع الإمام الكسائي -رحمه الله- ليلقى أهلَهُ ، ولا يشتهي شيئاً ، فيموت عند أخيه بمدينة شيراز بعيداً عن مدرسته النَّحوية بالبصرة ، والتي انتهت إليه زعامتُها بعد وفاة شيخه الخليل .
وهنا قد يقولُ قائلٌ : هل تكون خسارة سيبويه سبباً في وفاته ؟ أقول : ليس غريباً مستبعداً ، فالعلماء حساسون ، وقد يغلبهم الهم ويقتلهم أحيانا إذا خسروا في مناظرة ، أو هُزموا في محاجَّة ، وإذا كان العالمُ كبيراً مشهوراً ، وهُزم على رؤوس الخلق قد لا يستطيعُ إبراءَ نفسه النازفة من مرارةِ الهزيمة ، و يزيد ذلك من احتمال مرضه وموته ؛ لأنَّه تغلبُ الخسارة على عقله ، وتملأ تفكيرَه فتكدِّر عليه صفو العيش ، وفراغ البال ، فلا يحيا إلا في استذكار مجلسها ، واستحضار وقائعها ، ولا ننسى أنهم كانوا في مجتمعات صغيرة لا يوجد فيها ما يملأ كلَّ الوقت كما في أيامنا فتعمر مجالسهم بمثل هذه الأمور ، وربّما أنشد فيها الش راجل يعجبك ، وظاهرٌ في التَّاريخ أنَّ كثيراً من النَّاس ماتوا كمداً لفقد ولدٍ ، أو زوالِ مُلْكٍ أو ضياع وظيفةٍ ، أو رحيلِ زوجةٍ ، فكيف بخسارَة العالِم أمامَ أقرانه ،و بشهادة خُلَّانه ، وقد صرّح أحد الفقهاء الشُّعراء بأنّ الخسارةَ في المناظرة هي السُّمّ النَّاقعُ فقال يخاطب فقيهاً شاعراً عاند في مسألة :
لعمرُكَ ما نبَّهْتَ منِّـيَ نـائمـاً
فلو سُلِّمتْ تلك العلومُ لأهلـهـا
ولو ضمَّنا عندَ التناظرِ مجلـــسٌ ودونكَ فاسْمَعْها إذا كنتَ سامعا
لما كنتَ فيما تـدَّعيه منـازعـا
سقيناك منها السمَّ لا شكَّ نـاقعا
مات سيبويه في شبابه فأحزنَ كلَّ من قرأ لحظات وفاته ، فهو يؤمِّل أن يعيش ويستفيدَ الناسُ ممَّا حصَّل من شيوخه من علم ، فأنشد في مرضه :
يؤمّل دنيا لـتـبـقـى لـه
يربّي فسيلاً لـيبـقـى لـه فمات المؤمِّل قبل الأمـل
فعاش الفسيل ومات الرجل
توفي سيبويه صغيراً ، لنعرفَ أنَّ جلائل الأمور قد يكون أصحابُها شباباً فليس العطاء مقروناً بطول الأعمار، وفُسحة العيش ، وليبقى كتابه أبد الدَّهر شاهداً على فضل الله وفتوحه على شاب صادق زانه الإخلاص و ميزه الاجتهاد
رحم الله سيبويه وجزاه عن أهل العربية جنة ورضوانا .
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: عبقرية سيبويه
مشكوراخي عبد الحفيظ
ادريس بوزويتينة- فريق اول
-
عدد المشاركات : 4426
العمر : 38
رقم العضوية : 102
قوة التقييم : 11
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
مواضيع مماثلة
» آه يا سيبويه
» سيبويه ... عبقري اللغة العربية
» سر عبقرية الرجل!
» عبقرية اللغة العربية
» هل عبقرية موسس أبل... جينات عربية أم بيئة أمريكية؟؟؟؟
» سيبويه ... عبقري اللغة العربية
» سر عبقرية الرجل!
» عبقرية اللغة العربية
» هل عبقرية موسس أبل... جينات عربية أم بيئة أمريكية؟؟؟؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
أمس في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
أمس في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
أمس في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
أمس في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
2024-11-04, 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR