إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
الفصل التاسع
عندما استدار ستروم نحوها ، رأت نيرن وجهه على ضوء النار المشتعلة وكان مرهقاً مغضناً بينما صوته كان ثابتاً وهو يقول : " نعم انه سيصبح بخير ولا بد انه أوى إلى هنا قبل العاصفة الثلجية ورغم أن حذاءه وجوربه مبللان إلا أن ثيابه جافة انه البرد والإرهاق وهذا كل شيء ولولا أن عثرنا عليه لكان الامر مختلفاً بطبيعة الحال ... "
وداخل نيرن الارتياح ممزوجاً بمشاعر مختلفة ، مشاعر كانت بمثل عنف العاصفة الثلجية التي تولول خارج الكوخ . هل تراها جنت لكي تتعلق عيناها في مثل هذا الوضع بهذا الرجل الذي كان الآن يقف بعد طول جلوسه القرفصاء بجانب الفراش؟ بوجهه الهضيم وعينيه اللتين كانتا كبحيرتين من التعاسة؟ كان هذا ما جذبها إليه وكان هنالك أيضاً شعورها بالعطف نحوه ... العطف لأنها كانت تعلم أنه يتألم لقد كان الألم رفيقه كان رفيقاً لا يريده ولكنه تملك نفسه بكل قسوة .. تملك نفسه منذ خمس عشر عاماً ...
رفيقاً أوجدته فيه هازيل .
ما أعظم ما كان حبه لها ، لكي تترك فيه جرحاً كهذا ... لكي يتسمم بهذا الشكل مهما كان فعلها به ....
اقترب منها ونظر إلى النار وهو يسألها : " هل أحضرت طعاماً؟ "
فأجابت : " أحضرت جبناً وكعكاً ولوحي شكولاته وبعض المكسرات ولكنك لن تحاول إيقاظه أليس كذلك؟ "
فأجاب : " ليس لأجل كيلتي بل لأجلنا نحن . "
ودون أن يرفع عينيه عن النار قال : " لقد مرت ساعات منذ تناولنا الطعام وليلتنا ستكون طويلة ويجب أن نأكل شيئاً يحفظ قوانا ولكننا يجب أن نقتصد في مئونتنا فمن يعلم كم سنبقى محتجزين هنا؟ "
وسكت . وشعرت نيرن بالبرد أكثر مما كانت تشعر به خارج الكوخ ولم تشأ التفكير في إمكان أن تحتجزهما العاصفة أياماً.
وسألها : " هل ثيابك مبللة كلياً؟ "
فأجابت : " إن جوربي مبللان وكذلك بنطلوني من الفخذين فنازلاً أما القسم الأعلى من ثيابي فلا بأس . ماذا عنك أنت؟ "
فأجاب : " لست محظوظاً تماماً . "
فسألته : " هل سندخل إلى أكياس النوم الآن؟ "
فأجاب : " هذا افضل . "
جلست القرفصاء وسحبت كيس النوم من حقيبتها حيث فتحت السحاب وما زالت تتجنب النظر حولها ولكن قبل أن تدخل الكيس قالت : " هل لك أن تدخل كيسك ريثما احضر أنا شيئاً نأكله. "
ولم تعد إلى النظر إليه إلا بعد أن سمعته يجر سحاب الكيس الطويل وكان جالساً في الكيس يدفئ يديه أمام النار وقد وضع القسم الأعلى من الكيس على كتفيه العريضتين .
والتفت إليها قائلاً : " بالنسبة إلى الكلب شادو عندما خرجنا كان نائماً في المطبخ من الذي سيفتح له الباب ليخرج؟ "
فنظرت إليه مستغربة أن يفكر في الكلب في ظروف كهذه وأجابته وهي تناوله كعكة وقطعة جبن : " لقد اتصلت هاتفياً بأمي قبل أن نترك البيت وهي ستهتم به إلى حين عودتنا . "
فقال : " هذا حسن . "
ولم يزد ، واخذ يأكل ثم عاد يقول : " منذ متى اقتنيته؟ "
فأجابت : " شادو؟ منذ ثماني سنوات ، انه هدية العرس من كيفين . "
فسألها : " ابن أختك؟ لا بد أن أختك تزوجت قبلك بعدة سنوات ...... "
فقالت : " كلا ، تزوجنا في يوم واحد . "
وبعد فترة صمت عاد ستروم يقول : " ولكن كيفين .. أظنه في الحادية عشر أو الثانية عشر من عمره . "
فأجابت : " آه آسفة ، كان علي أن اشرح الامر . انه في الثانية عشر .. ولكن آدم ليس أباه فقد كانت كيلا متزوجة قبله من شاب اسمه درو فيرغسن وكانت هاجرت معه إلى كندا حيث ولد كيفين . وقد مات درو حين كان كيفين في الرابعة من عمره فعادت به كيلا إلى هنا حيث تزوجت من آدم بعد فترة قصيرة . "
فقال ستروم : " بشيء من الدهشة : " إذن آدم هو زوجها الثاني ، انهما يبدوان في غاية السعادة . "
فأجابت ببساطة : " انهما يحبان بعضهما . "
فابتسم ساخراً وهو يقول : " يحبان بعضهما؟ هل تثقين بالحب؟ "
فقضمت نيرن قطعة صغيرة من كعكتها وأعادت البقية إلى الكيس ، من يعلم كم سيبقون محتجزين في هذا المكان .... وأجابت : " نعم إنني أثق بذلك . "
فقال : " وإذا وقع شخص في الغرام وتزوج اكثر من مرة .... فهذا يبطل منطقك أم أن بمكان الشخص أن يكون له اكثر من حبيب ..... "
كانت تعرف أنه يغيظها ... ولكنها كانت تعرف أيضاً أنه يريد حقاً جواباً لهذا السؤال ، فهل بإمكانها ان تجيب؟
وأجابت بهدوء وهي تحدق في اللهب : " كلا ، إنني لا أثق بالحب المتعدد ولكنني أثق بان الشخص قد يعثر على رفيق ... رفيق حياة يكمله أو يكملها وعندما يجتمعان يصبحان واحداً مكتملاً . "
فسألها : " وهل تظنين أن كيلا ودرو كانا حبيبين حقاً؟ "
فأجابت : " كلا انهما لم يكونا حبيبين بكل معنى الكلمة ، لقد كان درو مجنوناً بكيلا وقد أحبته كيلا ، إنما ليس بنفس القدر ، لقد كانا دوماً صديقين حميمين وكان حبها له كحب أي شخص لصديق حميم . ولكن الامر مع آدم اختلف فقد تعلمت معه الحب الحقيقي الذي يكون بين رجل وامرأة فهو إذن حبها الحقيقي . "
فقال : " إذن ، جزآن متماثلان يتحدان معاً ليصبحا فرداً متكاملاً مثلكما أنتِ و روري؟ "
لم تحول عينيها عن النار ، كانت تعلم أنه ينظر إليها ، ولم تشأ أن يرى التعبير الذي بدا في عينيها لم تشأ أن يرى الدموع فيهما .. الدموع التي تفجرت منهما وكأن يداً خفية اعتصرت قلبها فلم تكد تحتمل الألم .
هذا الألم الناتج عن كلماته الرقيقة ... كلماته التي نطق بها بكل براءة . الألم الذي كان يدفعها آلي أن تصرخ وهي تواجه الحقيقة القاسية ، الحقيقة المرة ، الحقيقة التي اخترقت من الأعماق ... فهي مع أنها أحبت روري كما احبها هو أيضاً وكان حبهما رقيقاً متشاركاً بعيداً عن الأنانية .. ولكن كان هنالك شيء مفقود...
إنها لم تدرك هذا في ذلك الحين .. ولو لم تقابل ستروم غالبريث لما أدركته طيلة حياتها .
أما ما كان مفقوداً من علاقتهما فهي العاطفة.
العاطفة المحمومة والرغبة العميقة .....
وشعرت بنفسها ترتجف عندما قال لها بصوت يتملكه الذهول : " هل تبكين؟ آه يا نيرن .... "
رتب على يدها وتمتم : " إنني آسف ، إذ جعلتك تفكرين في روري فجلبت إلى نفسك الحزن .... إنني حقاً متوحش ... "
فهمست وهى ترى الندم في صوته : " كلا ، انك مخطئ ليس هذا هو سبب بكائي ."
فقال وهو يتخلل شعره بأصابعه : " ما هو السبب إذن؟ اخبريني . "
وماذا تخبره؟ وكيف تقول له أنها اكتشفت الآن ذلك الفراغ الذي كان يسود حياتها الزوجية؟
وعاد يقول : " من المفيد أحياناً أن تكشفي عما بنفسك .... "
وسكت فجأة وهو يراها تغمض عينيها وهي تجذب نفساً مرتجفاً فسألها بصوت متوتر : " ما هذا؟ ما هو سبب بكائك؟ "
وأرادت أن تصرخ ...... أن تقول له انه هو سبب بكاءها ... إنها تبكي لأنها تشعر وكأنها كانت تعرفه طيلة حياتها .... ولأنها تشعر أنها تريد أن تمضي بقية حياتها هنا ولكنها لم تنطق بكلمة.... وإنما قالت بصوت خافت : " إنني آسفة لا ادري ما سبب بكائي هذا ... ربما ما مر بي هذا النهار من أحداث قد أوهن أعصابي ، واظن ان علينا أن ننام . "
وقفت لتسوي كيس نومها ثم تستلقي . ومضت لحظة لا نهاية لها لم تسمع فيها صوت ستروم وتمتمت : " سأراك في الصباح . "
ولكن لم يكن هناك جواب فاستدارت تنظر إليه لترى انه يجلس القرفصاء قرب كيلتي واضعاً يده على جبينه وقد استحال إلى كتلة من الاهتمام والتركيز .
وشعرت وكأنها موشكة على البكاء ياله من رجل غامض معقد غير مفهوم ولكن هنالك شيء مؤكد هو انه رغم ما يبدو عليه من عنف وتصميم على ألا يختلط بابنه فقد كان قلبه يحتوي على مقدار كبير من الحنان . كانت متأكدة من انه رغم قوله انه لا يريد كيلتي ، فثمة صراع يدور في أعماقه في كل مرة ينظر فيها إلى ابنه الذي هو نسخة ثانية عنه ومن لحمه ودمه .
وبعد ذلك بلحظة سمعته يسوي من كيس نومه وهو يقول لها : " ليلة سعيدة يا ينرن ."
أجابته وهي تبتسم رغم الدموع التي كانت تنساب منها على وجنتيها : " ليلة سعيدة يا ستروم . "
ومن الغريب أنها استطاعت أن تنام وعندما استيقظت ونظرت إلى ساعتها رأت أنها الثامنة صباحاً وسرعان ما انتبهت إلى ستروم واقفاً أمام المدفأة يغذيها بالوقود . لابد انه أبقى النار مشتعلة طيلة الليل لأن الكوخ كان دافئاً .
وكيلتي؟
أدارت رأسها نحو ذلك الجسم المستلقي على الفراش . لم يعد الآن متكوماً على نفسه التماساً للدفء كان مستلقياً على ظهره يغط في نوم هادئ .
وشعرت نيرن بالطمأنينة والسلام ، كان ستروم مصيباً حين قال أن كيلتي سيصبح بخير ولكن لو أن كيفين لم يلحق به ليرى إلى أين يتجه إذن ....
وفجأة لاحظت نيرن أنها لم تعد تسمع صوت العاصفة فقد هدأت العاصفة وسيكون بإمكانها العودة في اقرب وقت ..
قال لها وهو يجلس بجانبها : " هل أنتِ مستيقظة؟ هل رقدت جيداً؟ "
فأجابت : " نعم ، وأنني اشعر بالذنب لعدم معاونتك في السهر . "
فقال : " معاونتي في السهر؟ "
فنظرت إلى النار المضطرمة وهي تقول : " اعني في المحافظة على اشتعال النار وإلا لكنا ارتجفنا من البرد طوال الليل . "
فقال : " لقد كنت مرهقة جسمانياً ونفسانياً . وما كنت لأوقظك مهما كان الامر وفي الحقيقة كنت مسروراً أن سمعت غطيطكِ . "
فقالت : " غطيطي؟ ولكنني لا أغط في نومي مطلقاً . "
والتفتت إلى كيلتي الذي كان ينقلب إلى جانبه وهو يتأوه مغمض العينين بينما ابتسم ستروم قائلاً : " إنني أقول ذلك لأعرف فقط وهذه عادتي كلما اضطررت لمشاركة الغرفة مع أحد . "
وكان الآن متكئاً أمامها ينظر إليها ليرى ردة الفعل عندها لما قاله .
شكرت نيرن حظها على أن ليس لديه فكرة من ردة الفعل في قلبها ، في نفسها وذلك عندما كان ينظر إليها بهذا الشكل . هل هذا كان شعور هازيل نحوه عندما كان ينظر إليها؟ شعرت لهذه الفكرة بمثل طعنة السكين في قلبها ، لماذا آلمها بهذا الشكل مجرد التفكير به مع هازيل؟
وهمست قائلة : " هل كنت مغرماً بهازيل؟ "
فاستدار يستلقي على ظهره ، واضعاً يديه تحت رأسه وقد سادت الرزانة ملامحه ثم قال بعد سكوت طويل : " نعم لقد كنت مغرماً بها ، كان حلماً جميلاً ... كان حلماً استحال إلى كابوس . "
فقالت برقة : " حدثني عن كل هذا ، عنك وعن هازيل . "
فقال : " بصوت خافت : " لقد كنت جئت ذلك الصيف إلى اسكتلندا في الصيف مبكراً ابحث عن قطعة ارض وكنت قد أوجدت لتوي مشروعاً في الخارج وحيث أن مشاريع السياحة والتزلج في الشمال كانت مزدهرة فقد وجدت أن الوقت قد اصبح مناسباً للاستثمار في المنطقة وبسبب اصلي الاسكتلندي كما أظن وجدت أن اسكتلندا تجذبني كالمغناطيس . "
فسألته : " وما الذي جعلك تختار قرية غلينكريغ؟ "
فأجاب : " كان المكان مثالياً فهو قريب جداً من الجبال ولكنه بعيد عن الطراز الأمريكي ، إذ انه كان يمثل اسكتلندا الحقيقة ، اسكتلندا القديمة التي كانت قبل أن يصبح كل شيء تجارياً وكانت غلينكريغ ..... كانت صورة كاملة لما أريد. "
فهزت رأسها قائلة : " ولكنك لم تطور شيئاً .... لماذا؟ "
ولكن توتر ملامحه أنبأها بالجواب . وكان طبعاً يتعلق بهازيل .
أجاب وقد بان التجهم في ملامحه : " لقد قابلتها مصادفة في نفس اليوم الذي عثرت فيه على قرية غلينكريغ وكنت هابطاً الوادي لأرى بعض الأراضي فيه والتي لم تعجبني وكنت شاعراً بخيبة الأمل لذلك لأنني كنت أحببت هذه المنطقة كثيراً وعندما رأيت خرائب البيت الريفي في كريجند والأراضي المهملة المحيطة به تساءلت عما إذا كانت معروضة للبيع وأوقفت سيارتي إلى جانب الطريق ثم أخذت أسير بين الحقول وملأتني الإثارة فقد كان المكان مناسباً تماماً وكنت واقفاً هناك أحلم بما سيكون عليه بعد إصلاحه عندما برزت أمامي صورة فاتنة لفتاة جبلية جميلة ذات شعر اسود ثائر وعينين خضراوين وضحكة جذابة أسرت حواسي ... "
وسكت فجأة وكأنه نسي نفسه ، ثم أطلق ضحكة مرة وهو يتابع : " وبالطبع لم تكن تلك صورة وإنما مجرد مخلوقة من لحم ودم . ولكنها فتنتني على كل حال . لقد سألتني : ماذا تريد من هنا يا ابن المدينة؟ فأجابتها : إنني أريدك . وكان حباً من أول نظرة . كان هذا أمراً سخيفاً أليس كذلك؟ ولكنه لم يبد سخيفاً في ذلك الحين لقد سرقت قلبي . "
فسألته نيرن : " وهل أحبتك هي أيضاً؟ "
فلوى شفتيه : " لقد قالت ذلك وكنت أظنها فتاة حرة عاطفية ، رغم أنها كانت دوماً ترغب في مقابلتي في أماكن هادئة ... وبعد أن مر على تعارفنا قرابة أسبوعين أخبرتني عن هوغ ... وعن تفاهمهما ، أخبرتني انه يصطاد السمك في الساحل الغربي ولكنها وعدتني أن تفصم خطبتها معه عندما يعود في أواخر حزيران وتخبره بأننا سنتزوج . "
وتنهد بصوت مرتجف وهو يتابع : " وفي آخر ليلة من رحلتي تلك ، كانت الغلطة التي اقترفتها وهكذا عدت إلى لندن وفي جيبي عقد شراء ارض كريجند وفي قلبي .... هازيل لندساي . "
وظنت نيرن أن حديثه انتهى ، فأرادت أن تعرف ما حدث بعد ذلك ولكنه عاد يتابع حديثه بصوت خشن : " لقد كتبت ألي رسالة بعد عودة هوغ من صيد السمك تقول فيها أنها منذ اللحظة التي رأته فيها مرة أخرى علمت انه الرجل الذي يحبه قلبها .. وان علاقتنا ، أنا وهي لم تكن سوى غلطة لم تعد تعني لها شيئاً وقالت أنها لا تريد أن اتصل بها بعد ذلك لأنهما هي وهوغ سيتزوجان بأقرب وقت بعد ان اعترفت له بالحقيقة . "
ترقرقت الدموع في عيني نيرن عطفاً على هذا الرجل . كان يقول الحقيقة دون شك . الحقيقة التي كانت تبدو من صوته الخافت المتألم .
وعاد يقول بصوت معذب : " ربما كنت سامحتها على كذبها ذاك ولكنني لن أسامحها أبداً على عدم اطلاعي على حملها مني . كان عليها أن تخبرني ، كان لي الحق في أن أعلم .... كيف أمكنها أن تكون بكل تلك الأنانية ... "
وكانت الشهقة المفعمة بالذهول والتي ملأت جو الكوخ ، كانت من الألم الذي ينضح منها ما ظنت نيرن معه أنها صدرت عنها هي ... فهي لم تصدر عن ستروم لأنه أبدى مثلها دهشة وعجباً وقد بدت عيناه حادتين متسائلتين . ذلك أن الشهقة كانت صدرت عن كيلتي .
كان منبطحاًَ على بطنه وقد أخفى وجهه بين ذراعيه وسرى في نفس نيرن الهلع . انه لم يكن نائماً ، فلا بد انه سمع كل شيء إذن ، ولم تستطع أن ترى وجهه ولكنها استطاعت أن تتصوره . لقد كان يحب أمه كثيراً وكان يرى العالم كله ممثلاً في هوغ .. الرجل الذي كان يظنه آباه .
وها هو ذا الآن يعلم انه كان يحيا حياة الكذب وان هذا الرجل الغريب الذي اقتحم حياته هو أبوه . انه يعلم الآن حقيقة ما حدث في الماضي وربما يمزق علمه هذا نفسه أشتاتاً .. تماماً كما تمزقت نفس ستروم وما زالت .
وهمست من خلال دموعها : " آه يا للهول ..... "
ووقف ستروم وهو يقول بصوت معذب : " لم اكن أريده أبداً أن يعرف .... "
وجاء صوت كيلتي خشناً وهو يقول بألم : " ولكنني كنت اعلم مسبقاً انك أبي . لقد سبق وعلمت ذلك، لقد كنت أنا من ... "
ولم يستطع أن يتابع كلامه .
وساد الصمت لحظة ، ثم همس ستروم ببطء وذهول : " هل كنت أنت من استأجر المحامي لكي يقتفي اثري؟ لقد ظننت أن أمك هي التي فعلت ذلك قبل موتها وإنها هي التي حركت الأمور لغاية في نفسها .. وكنت افترضت أيضاً أنها اخفت عنك الحقيقة لكي لا يعلم أحد بان هوغ لم يكن أباك الحقيقي .... "
وسألته نيرن : " ولكن من أين حصلت على النقود آجرا للمحامي يا كيلتي؟ إن القليل الذي تركه والداك لم يكد يكفي تغطية تكاليف الجنازة؟ "
فأجاب : " من بيع آلة التصوير . "
فهتفت : " آلة التصوير . "
لقد اتضح الآن كل شيء وشعرت بغصة في حلقها وهي تتابع : " لقد بعت آلة التصوير إذن لكي تدفع أجرة المحامي ... "
وهتف ستروم وقد بان الندم في ملامحه : " آه ، هذا هو السبب إذن في قولك انك كنت بحاجة إلى ثمنها ... "
فأجاب كيلتي بهدوء : " نعم ، وليس لأشتري المخدرات . "
فقال ستروم : " إنني آسف لقولي ذاك ، وان كنت أعلم أن أسفي هذا لا يكفي .. فهل بإمكاني أن اسحب كلامي؟ كل ما بإمكاني الاعتذار به هو انه كان صادراً عن اهتمامي بك . "
فأجاب الغلام وقد بدا الإرهاق في صوته : " نعم لا بأس إنني متفهم ذلك . "
فقال ستروم : " إن ما لم افهمه هو لماذا قررت أمك في النهاية أن تخبرك بالحقيقة؟ "
فانقلب كيلتي على جانبه متكئاً على مرفقه يحدق في ستروم بعينين مغرورقتين وهو يقول : " إن أمي لم تخبرني بذلك قط ، إن أبي هو الذي اخبرني لقد اخبرني عنك في المستشفى قبل أن يموت ، اخبرني انه ليس أبي الحقيقي ... اعترف بأنه كان يعلم ذلك طيلة الوقت . قال أن أمي لم تعلم مطلقاً بأنه كان يعرف بالأمر ، لم تعلم قط بأنه أحس باختلاف في مشاعرها نحوه ، عند عودته من صيد السمك في ذلك الصيف وعندما اكتشفت بعد زواجهما بقليل أنها حاملاً لم تعلم قط بأن أبي اكتشف سرها وانه تكهن بأنها لا بد تعرفت إلى رجل آخر أثناء غيابه وكان من حبه لها انه سكت طوال تلك السنين وكان الشيء الوحيد الذي استطاع أبي أن يعرفه عن ذلك الرجل وكان مجرد تخمين كما قال هو أن اسمه كان سومرليد ....... "
سألته نيرن : " سومرليد؟ ولكن .... "
فأشار كيلتي نحو ستروم وهو يقول : " إن اسمه الأوسط هو سومرليد .. وكانت أمي دوماً تقول أنها تحب هذا الاسم . "
ولم تستطع نيرن الكلام وقد أحست بأنها تكاد تختنق وكل ما استطاعت عمله هو أن تعض شفتها المرتجفة مغالبة دموعها . لقد فاضت بها المشاعر حتى لم تعد تستطع احتمالاً ...
وعلا صوت الطرق على باب الكوخ ، وبشكل غير متوقع ، جعلها تقفز من مكانها وهي تشهق لترى الباب يفتح فجأة فيهب منه الهواء المثلج يصفع وجهها ، و أغمضت عينيها إزاء النور الساطع ، لتعود فتحهما على خيال طويل يقف في الباب وانطلق صوت مألوف لديها يقول : " من حسن الحظ أنكم هنا جميعاً وليس بكم ضرر كما أرى . "
فقفزت واقفة وهي تهتف : " آدم كنت أظنك في ادنبره؟ "
واندفعت تحيط صهرها بذراعيها .
واحتضنها هو بشدة وهو يبتسم لها قائلاً : " لقد تصادف أنني اتصلت بالبيت هاتفياً بعد المكالمة بينك وبين كيلا فأخبرتني بما حدث فقطعت رحلتي وعدت إلى البيت حيث شكلت فرقة إنقاذ وإذ بالعاصفة الثلجية تهب وكان علينا أن ننتظر هدوءها . لا يمكنني أن أصف لك مقدار الراحة التي شعرنا بها عندما رأينا الدخان يتصاعد من مدخنة الكوخ هذا ، آه ، يا ستروم لقد أحسنت بعنايتك بهذين وتهاني لك فهذا شيء حسن جداً بالنسبة إلى ...... "
فقاطعه ستروم ضاحكاً : " بالنسبة إلى ابن المدينة . انك لست الوحيد الذي ظن بي الضعف والخرع ... "
وانطلق صوت كيلتي من الخلف قائلاً : " انه ليس خرعاً . فهو أول رجل استطاع الوصول إلى قمة افرست في رحلة كارينغتون الاستكشافية وذلك عندما كان في الرابعة والعشرين فقط من عمره . "
واستدار ستروم و نيرن ينظران إليه وكان جالساً في كيس النوم وقد بدا عليه وكأنه لم يذق النوم منذ اشهر .
وهتفت نيرن : " قمة افرست؟ متسلق جبال؟ "
وشعرت برأسها يدور .
وتابع كيلتي بصوت مرتجف : " متسلق جبال ومصور فوتوغرافي وقد اضطر إلى ترك التسلق لأنه أثناء هبوطه في أخدود عميق أثناء تلك الرحلة ، وذلك لينقذ قائد الرحلة نيكولا كارينغتون ، أثناء ذلك كسر ركبته ... "
فاستدارت نيرن نحو ستروم وهتفت بذعر : " ستروم ما كان لك أن تصعد إلى هنا .. وركبتك هذه .. إن المجازفة ... "
كان هو ينظر إلى ابنه وقد بدا على ملامحه تعبير لم تره من قبل . ذلك أن الكآبة القاسية التي كانت تعلو وجهه قد تلاشت ليبدو في مكانها رقة هزتها ... وكانت تلك الرقة ممزوجة بالارتباك ، هل ذلك لأن كيلتي كان يعرف من هو طوال الوقت وكان يحتفظ بذلك سراً؟ أم أن الارتباك هو سبب المشاعر التي ابتدأت تتكون في أعماقه نحو ابنه؟ أم ربما لسببين معاً؟
ولكنها ما أن نظرت إليه ، حتى تمالك مشاعره بسرعة وعاد الجمود إلى عينيه لا تنبئان عن شيء .
وقال هو : " لقد كانت مغامرة كنت متأهباً لها . وحتى الآن ركبتي صامدة .. والآن هيا بنا ، فأمامنا طريق طويل شديد البرد . "
الفصل العاشر
وقفت نيرن تحت الدوش وهي تتنهد مغتبطة بالماء الدافئ الذي ينهمر عليها وأغمضت عينيها ثم أخذت تفكر .....
من حسن حظهم انهم عادوا جميعاً سالمين وكذلك صمود ركبة ستروم أثناء هبوطه الجبل ، لقد أذهلها حقاً أن تعلم انه كان يوماً متسلقاً مشهوراً وكان أحد أعضاء رحلة كارينغتون الاستكشافية . لقد كانت يومها تلميذة في المدرسة ولكنها ما زالت تتذكر كيف كانت تتابع على شاشة التلفزيون أخبار محاولته البطولية الناجحة في إنقاذ كارينغتون والإثارة التي أحدثتها تلك البطولة في نفسها الغضة . لا بد أنها كانت حينذاك في سن كيلتي الآن .
آه ، كيلتي ....
وعادت نيرن بأفكارها إلى الحاضر وهي تتنهد . أخذت تفكر في الوضع التعس بين ستروم وابنه . ومهما حاولت إقناع نفسها بأن لا دخل لها هي في هذا الأمر وأن ستروم هو والد كيلتي ولا يمكن أبداً أن يبعده عن حياته ، فقد كانت دوماً تعود إلى نفس النقطة وهي أنها المسؤولة عن كيلتي حالياً ، فإذا أراد ستروم أن يهجر ابنه فستبقيه عندها . ولكن حتى ولو أن هذا سيسعدها ، فقد كانت تعلم في أعماقها أنه ليس في مصلحة كيلتي ، فهو بحاجة إلى رجل يتمثل به . بحاجة إلى أب .
فقط ، لو كان بإمكان ستروم أن يتغلب على هذا الأسى الذي يعانيه ولكن بقاء هذا الأسى خمسة عشر عاماً ، ليزيده الآن علمه بان هازيل اخفت عنه سر حملها منه كل هذا جعل أملها في استئصال الحزن والأسى من نفسه ضعيفاً جداً .
وكانت تركت ستروم و كيلتي في المطبخ يتناولان غداءهما الذي كانت أحضرته كيلا بسرعة من منزلها عقب وصولهم .
وكان ستروم قد نزل من غرفته بعد خروج كيلا أنيقاً حليقاً وشعرت لدى رؤية كيلتي يدخل من المطبخ بعد ذلك بقلبها يخفق ... لقد كان مرتدياً زيه الخاص والذي هو عبارة عن التنورة الجبلية السوداء والقميص المقفل وكان وجهه الهضيم جاداً وأدركت وهي تنظر إليه السبب الذي جعل قلبها يخفق . ذلك لأنه كان نسخة طبق الأصل عن أبيه وأيضاً كان يماثله في التعبير الذي ساد ملامحه . لقد كان الغلام تعيساً كالرجل ....
وكانت قد خرجت من الحمام وقد ابتدأت بتجفيف شعرها ، عندما سمعت شخصاً يهتف باسمها من خلف الباب ، ثم طرقاً متواصلاً .
كان ستروم وأجابت : " نعم؟ "
فسألها : " هل أستطيع الدخول؟ "
فأجابت : " نعم ، لماذا؟ "
فأجاب : " أريد أن أتحدث إليك . "
ففتحت الباب قائلة : " ادخل ماذا جرى؟ "
فأجاب : " إنني راحل . "
فسألته مذهولة : " راحل؟ ولكن .... "
قاطع كلامها وقد تغضن وجهه : " انه يتخذني مثله الأعلى . انه كيلتي . لقد أخذ يتحدث أثناء الطعام . لقد أخبرني أنه يحتفظ بكل أعمالي ، الصور التي كنت التقطتها على مدى السنين للصحف أثناء تسلقي الجبال . لقد أخبرني .... "
وأغمض عينيه ورأته نيرن يزدرد ريقه بصعوبة ولكنه عندما تابع كلامه كان قد استرد هدوءه وهو يضيف : " لقد اخبرني أن أعمالي كانت ملهمته ... "
فقالت : " آه ، وكان هذا قبل أن يعرف انك أبوه .... "
فأجاب : " نعم وعندما علم من المحامي أن ذلك الرجل الذي كان معجباً به إلى ذلك الحد هو أبوه ... وظن انه خان أمه شعر بأنه أيضاً قد خانها .. ما أشعره بالذنب ."
فقالت : " ولكن ، إذا كان شاعراً بالذنب إلى هذا الحد فلماذا طلب من المحامي الاتصال بك؟ أليس هذا ما حدث؟ والذي جعلك تعرف ان لك ولداً؟ "
فأجاب : " كلا يا نيرن ليس هذا ما حدث . إن كل ما أراد كيلتي معرفته هو هوية والده الحقيقية لا اكثر ، لأنه كان يفترض أنني أعلم بوجوده وأنني أنا الذي كنت هجرت أمه وقد كرهني قبل أن يعلم من أنا ولكنه بعد ان علم ذلك تملك مشاعره الاضطراب والتشوش ، إذ ان نفسه توزعت بين كراهيته لي وبين عدم الرغبة في التخلي عن صورة ذلك الذي كان مثله الأعلى سنين طويلة . "
فقالت : " آه يا ستروم كم هذا مخيف بالنسبة له . "
فقال : " نعم وقد استأجر المحامي وهو من انفرنيس ، مخبراً بناء على تعليمات كيلتي وهذا المخبر أخذ يتحرى عن ماضي هازيل ، مبتدئاً طبعاً من الوقت الذي أشار به كيلتي مستعلماً عن كل رجل ربما زار قرية غلينكريغ ح والى ذلك الوقت وفي النهاية كان اسمي في قائمته وقد اقتفى اثري إلى أن وصل إلى شقتي في لندن ولكن عندما أبتدأ يلقي بالأسئلة عني في محيطي ذاك ، ساور الساقي في مقهى هناك وكان من معارفي ، ساوره الفضول ، فأخذ يلقي عليه من تلقاء ذاته بعض الأسئلة جعلته يعلم أنني قد أكون أباً لولد في غلينكريغ . "
فسألته : " ومنذ متى أبتدأ كيلتي البحث عنك؟ "
فأجاب : " بعد وفاة هوغ مباشرة ولكنني لم أعرف بما يحدث إلا منذ حوالي ثلاثة أسابيع . فاستأجرت مخبراً ليتحرى عمن كان يبحث عني ، فقادته تحرياته إلى محامي في انفرنيس ، ولكن هذا لم يؤكد قصة ذلك المخبر الذي كان استأجره وكل ما اخبرني به هو أنه كان يعمل لحساب أحد عملائه ... "
فسألته : " وطبعاً ، اتصل المحامي بكيلتي ليخبره عن اتصالك به . "
فقال : " نعم وهذا هو السبب في أن الغلام تهرب من تلك الرحلة البحرية مع الفتيان ذلك ان المحامي أخبره انه استنتج من شيء قلته أنا ، أنني مصمم على العودة إلى غلينكريغ . "
فقالت : " وهذا ما قمت به فعلاً . "
فأجاب : " نعم ، قمت به بهذا لكي أتحقق من هذه القصة والآن ، إنني راحل بعد أن نلت الغرض من رحلتي ... "
فصرخت نيرن قائلة : " كلا ، لا يمكنك الذهاب ليس الآن . "
فارتسمت على شفتي ستروم ابتسامة حزينة ، حدق فيها طويلاً وقد بانت التعاسة على وجهه ثم قال بهدوء : " الماضي لا يمكن محوه يا نيرن ولا أقوى إرادة في العالم تستطيع ذلك . "
نظرت نيرن إليه وهو يسير نحو الباب ، وما أن خرج مغلقاً الباب وراءه بحزم حتى انطلقت من بين شفتيها آهة حزينة .
استندت إلى الجدار تحدق في فضاء الغرفة بعينين لا تريان . كلا ، الماضي لا يمكن محوه .. ولكن المرء يتعلم كيف يرضى به ، يضعه وراء ظهره ثم يتطلع إلى المستقبل فإذا لم يكن ستروم مهتماً بمستقبله هو ، فعليه أن يهتم بمستقبل ولده وفكرت باستماتة بأنه لا ينبغي له ان يرحل .. هذا غير ممكن ليس من دون ولده على كل حال ، إنها لن تدعه يفعل ذلك .
ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل؟
ومشت عائدة إلى منضدة الزينة حيث رأت في المرآة وجنتيها متوهجتين وعينيها لامعتين كمن به حمى . فأصلحت من مظهرها . عليها أن تسرع ، ليس لديها وقت تضيعه .
ذلك أن ستروم غالبريث قد صمم تماماً على ما يريد وكانت هي على استعداد لأن تفعل أي شيء في سبيل أن يغير من تصميمه ذاك .
كان كيلتي غلاماً رائعاًَ فهو موهوب ويشعر بالمسؤولية وذا شخصية متفردة وواثقة وهو قد أبتدأ يرتبط عاطفياً بستروم وتذكرت نيرن شيئاً سبق و قالته أمها لكيلا وآدم عندما ولدت لهما كاتريونا ، قالت : " إن الطفل لن يأخذ وقتاً طويلاً في الوصول إلى قلبكما . " وكيلتي لم يعد طفلاً ولكنه ما زال غلاماً ... ابن ستروم . كانت نيرن متأكدة من أنه إذا وجد الفرصة فلن يأخذ وصوله إلى قلب أبيه وقتاً طويلاً . إن عليه أن يفعل ذلك .
وان اعتمادها الآن على هذا .
هبطت نيرن الدرجات الأخيرة من السلم بسرعة عندما رأت كيلتي عند الباب الخارجي لتسأله : " هل أنت خارج؟ "
وأدركتها الدهشة والارتياح وهي تراه متردياً سترة وكانت سترة عسكرية ذات لون كاكي ، وربما كانت سترة قديمة لهوغ .. وكان لها ماض مجيد ولكنها سميكة دافئة أجابها قائلاً : " نعم فالساعة الثانية فقط ويمكنني ان الحق ببقية دروس بعد الظهر . "
فسألته : " وهل ستعود بعد ذلك إلى البيت مباشرة؟ "
أجاب : " نعم . "
وأشار برأسه إلى الطابق الأعلى حيث غرفة أبيه متابعاً بعينين كئيبين : " ولو أنه سيكون في ذلك الوقت قد رحل لقد سبق وودعني . "
فاقتربت منه تضع يدها على كتفه وهي تقول : " وأنت لا تريده أن يرحل أليس كذلك؟ "
ازدرد ريقه بصعوبة ثم أجاب قائلاً : " لا يمكنني منعه . "
وأشاح بوجهه ولكن ليس قبل أن ترى عينيه مغرورقتين بالدموع وتابع قائلاً : " لقد جعلني أقبل منه آلة التصوير هدية منه كما قال . "
تخيلت نيرن المشهد الذي جمعهما وغالبت دموعها وهي تقول : " سأحاول إثناءه عن عزمه . إنني أعلم أنه سيحبك إذا أمكنه فقط أن يفتح قلبه .... "
فقاطعها : " انه لن يحبني .... "
ومسح عينيه بكمه وهو يفتح الباب ليحدق بذهن شارد في الثلج الذي يغطي الأشجار أمام البيت ، ثم يتابع قائلاً : " انه لن يسمح لنفسه بذلك . انه مليء بالكراهية تماماً كما كنت أنا . "
فهتفت : " كيلتي . "
ولكنه كان قد اغلق الباب خلفه وذهب .
ولم يكن ثمة فائدة من الركض خلفه . إذ ما الذي بإمكانها قوله لتطمئنه؟ ولكنها ستحاول أن تؤخر ستروم عن السفر ، إنها لا تعرف كيف ولكنها ستحاول ولن تتأخر فهو لا بد يحزم أمتعته الآن .
واتجهت نحو السلم وقلبها يخفق وقد تبللت راحتاها بالعرق . عليها أن تثنيه عن السفر ......
قرعت الباب ففتحه لها وقبل أن يسألها عما تريد مرت بجانبه داخلة إلى الغرفة والتفتت إليه قائلة بابتسامة متألقة : " فكرت في أن أساعدك في حزم أمتعتك . "
ونظرت إلى حقيبته المقفلة وإلى الغرفة المنظمة والتي لولا أغطية الفراش المبعثرة لما بدا ان ستروم غالبريث قد سكنها أياماً وعندما يصبح في سيارته المرسيدس عائداً إلى المدينة لن يبقى أي شيء منه يشير إلى انه عاد إلى غلينكريغ . لا شيء سوى ألم القلب الذي سيخلفه وراءه .
قالت له : " يبدو عليك أنك مستعجل جداً لترك هذا المكان أليس كذلك؟ "
فبدا الجمود في عينيه وهو يقول : " ليس بالضبط ... "
فقاطعته بجرأة لم تعرف كيف واتتها : " بل الأمر كذلك وأقولها مرة أخرى .. انك مستعجل جداً لترك هذا المكان وأنا أعرف سبب ذلك . "
فقال ببرود رافعاً حاجبه : " أحقاً؟ ربما بإمكانك ان تطلعيني على السبب . "
فأجابت : " لا أظنني بحاجة إلى ذلك ولكن ما دمت مصراً على زعمك هذا فسأجاريك وأقول انك مستعجل على الرحيل لأنك .... خائف . "
فضحك برقة إنما بحذر وهو يسألها : " وهل لي أن أعرف ذلك الشيء الذي أخاف منه؟ "
فأجابت : " انك خائف من البقاء لكي ...... "
فضاقت عيناه وقال : " تابعي كلامك . "
فقالت بلطف : " انك خائف من البقاء لأنك تخاف من عواطفك .... ذلك أنك ابتدأت تشعر بالرغبة في ان تتعرف إلى ابنك لأنك ابتدأت تفكر في كيفية تغذية موهبته فأنت خائف من أن لا تستطيع نفيه من ذهنك إذا أنت لم ترحل على الفور ذلك لأنك تشعر بجدار الجليد بينك وبينه يذوب ، فالرعب يتملكك ... "
فقاطعها بصوت خشن : " هذا ليس صحيحاً يا نيرن فذلك لا يخيفني ولكنه يذكرني .. يذكرني بتقلب قلوب البشر . انه يذكرني بالألم الذي يولده الحب ثم انه يذكرني بما سبق وعاهدت نفسي عليه وهو أن لا أسمح للمشاعر بأن تتملكني مرة أخرى ."
فقالت بصوت ينضح بالألم : " ولكنك عدت للشعور مرة أخرى . "
ودون أن تعي ما تفعل ، اقتربت منه تمسك بيديه وهي تحدق فيه ثائرة : " انك عدت للشعور مرة أخرى ، لقد أدركت من الطريقة التي تنظر فيها إلى ابنك ، ان في أعماقك حنيناً ولهفة إليه تمزق نفسك .... "
قال بخشونة : " إذا كان بإمكانك أن تري كل هذا فلا بد أنكِ ترين الشوق الذي يتملكني من ناحيتك ، هذا الشوق الذي لم أعد أستطيع مقاومته . "
منذ دخول نيرن غرفته ، حاولت أن تتجاهل جاذبيته ، ذلك لأنها جاءت لأجل كيلتي ولكن عندما سمعت كلامه وجدت نفسها تنسى كيلتي وكل شيء ما عدا هذا الرجل الأسمر الجذاب الذي أدار رأسها .
وتمتم برقة : " يا لكِ من فاتنة ، فتاة جبلية حقيقية ، لقد أعجبت بك ولا أدري كيف سأتمكن من الهرب منك . "
فهمست : " وهل تريد أن تهرب؟ "
فتمتم : " أن ما أريده هو ....... "
لم تستطع أن تتجاهل ما قرأته في نظراته ... وبغريزة المرأة أدركت أنها مهما طلبت منه الآن فهو سيلبيها ولن يرفض لها طلباً .
فهمست : " هل ستبقى؟ إلى الغد فقط؟ وتمضي بعض الوقت مع كيلتي؟ "
فسألها : " هل تريدين مني ذلك؟ "
فأومأت برأسها : " نعم هذا ما أريده . "
ولم تكن متأكدة وهي تنطق بهذه الكلمات ما إذا كانت تتكلم عن كيلتي أم عن نفسها.
فقال : " إذن فسأبقى . "
فقالت : " هل هذا وعد؟ "
فأجاب : " نعم انه وعد . "
وأمسك بيدها ليؤكد وعده وانحدرت نظراتها إلى يديهما معاً ...... كانت تتأمل يد الرجل الخشنة السمراء إلى جانب يد المرأة العاجية التي كان يتناثر فوقها بقع نمش ... كانت تتأمل كل ذلك عندما التمع في أحد أصابعها شيء ما في نور الشمس المسترسل من النافذة .
انه خاتمها ، خاتم زواجها . الخاتم الذي وضعه روري في إصبعها بعد ان اقسما يمين الزواج .
وأغمضت عينيها وقد سرى في كيانها الألم والشعور بالذنب ...
لا فائدة ... ودب اليأس في نفسها وقد أدركت أنها لن تتمكن من متابعة هذه العلاقة التي ابتدأتها . ما زال الماضي قوياً في نفسها . إنها الأفكار ، ليس في إمكانها السيطرة على أفكارها ذلك إنها منذ لحظات ، كانت مع ستروم بمفردهما أما الآن فقد دخل بينهما شخص ثالث .
سحبت يدها من يده ثم وضعت ذراعها على عينيها بعد إذ شعرت بالدمع يتفجر منهما وهي تهمس قائلة : " آسفة أنني أشعر وكأنني ...... "
فقاطعها : " تشعرين وكأنك تخونين روري؟ "
وكان في صوته ملل عميق وكآبة وتفهم وشعرت بقلبها يصرخ ولكنها لم تستطع أن تغير مشاعرها .
وعادت تهمس بصوت مغلف بالألم ، والندم والعذاب : " أشعر وكأنه ... "
قال لها بصوت رقيق وكأنه يتكلم إلى طفلة : " لا بأس يا نيرن إنني افهم شعورك ... "
رفعت بصرها تنظر إليه وقد انحبست أنفاسها .
وقال يخاطبها برقة : " لو كنتِ امرأة أخرى لظننت انك استغللتِ حنانك ورقتك لكي تأخذي مني وعداً بالبقاء ولكن أنتِ ..... بتلك العينين البنفسجيتين الشفافتين البريئتين لا يمكن أن تعرفي الخداع . "
هل تراها حقاً استغلت حنانها ورقتها لكي تحمله على البقاء؟ وساورها الاضطراب من المؤكد أنها لم تكن تنوي خداعه أو التحايل عليه .. ولكن ربما كان هذا ما فعلت وفكرت بيأس .. من تراها حاولت أن تخدع ، ستروم أم نفسها؟ نعم لقد أرادته أن يبقى لكي تعطي كيلتي فرصة لاستمالته ولكنها إذا شاءت أن تكون صادقة تماماً فان عليها أن تعترف بأنها شعرت بهزة عنيفة في مشاعرها حين وعدها بالبقاء إن عليها أن تكون صادقه معه .
ولكن ما أن فتحت فاها لتتكلم شارحه له كل هذا حتى أسكتها قائلاً : " كلا ليس عليك أن توضحي ما بنفسك لي أنني فاهم . "
ونظرت إليه والحنين والشوق يتملكانها ... وأخيراً ، نهضت متجهة إلى الباب دون أن يحاول منعها .
وفكرت نيرن وهي تهبط السلم شاعرة بالتعاسة في مشاعرها المضطربة هذه .. إنها معجبة به ولكن شعورها بالذنب هو أقوى من إعجابها به.
هل سيتلاشى شعورها بالذنب هذا يوماً ما؟ وهل سيكون بإمكانها يوماً أن ترضى برجل آخر فتدخله حياتها دون أن يقف بينهما روري وذكرياته؟
وانحنت تربت على رأس الكلب شادو الذي هرول لاستقبالها وهي تهمس له : " لقد أصبحت الحياة مشوشة يا صديقي فهل تراها ستصفو مرة أخري عندما يرحل ذلك المقيم عندنا؟ "
وهز شادو ذيله بابتهاج وكأنه يرد عليها قائلاً نعم إنها ستصفو بالتأكيد عندما يرحل ستروم .
وتنهدت نيرن وتمنت لو كانت تصدق ولو جزءاً من هذا .
الفصل الحادي عشر
" ليلة سعيدة يا نيرن إنني ذاهب إلى الفراش . "
وما أن سمعت نيرن صوت كيلتي هذا الآتي من عند الباب خلفها حتى التفتت إليه من حيث تجلس أمام المدفأة في غرفة الجلوس وقالت تجيبه : " هل انتهيتما من تجهيز الغرفة المظلمة؟ "
فأجاب : " نعم وأشكر لك سماحك لي باستعمال ذلك المكان . "
فقالت : " ان تلك الغرفة الصغيرة الملاصقة للمطبخ خالية منذ سنوات .. ولكونها تحتوي على حوض للغسيل فهي ستناسب عملك تماماً . هل أنت مسرور بالمعدات التي اشتراها لك ستروم في انفرنيس؟ "
فأجاب : " ولماذا لا أكون مسروراً وكل شيء اشتراه لي هو من أجود الأنواع؟ "
وحاول كيلتي أن يضفي على كلامه صبغة مرحة ولكن نيرن شعرت بزيف محاولته تلك . ذلك انها ، عندما عاد من المدرسة وعلم أن والده ما زال في برواش ولم يغادر رأت لمعان السرور في عينيه ...
ولكن ذاك المعان سرعان ما أطفأه ستروم بقوله انه فقط أرجأ رحيله إلى اليوم التالي ذلك أن الشروع في الرحيل باكراً في الصباح كما قال سيكون أفضل من ناحية هدوء الطرقات وخلوها من زحمة السير ولكنه على كل حال أخبر كيلتي أنه سيأخذه إلى مدينة انفرنيس للتسوق ومن ثم ذهب الاثنان بعد ذلك بعشر دقائق وقد تناولا طعامهما في الخارج وعادا في الساعة التاسعة والنصف حيث شرعا في الحال في تجهيز الغرفة المظلمة لكي يخرج فيها كيلتي أفلامه ولم تشأ هي ان تقف معهما مفضلة تركهما وشأنهما وفي الساعة العاشرة ذهبت إلى المطبخ تصنع لنفسها كوباً من الشاي ووصل صوتهما إلى أذنيها أثناء اجتيازها باب غرفة الحديقة المفتوح وكان كيلتي يلقي الأسئلة بصوت حاد خشن النبرات وكأنه يريد به ان يخفي مشاعره بينما كان ستروم يجيب بصوته العميق الواثق بسهولة نابعة عن معرفته الكاملة بالتصوير الفوتوغرافي وكانت العلاقة بين الاثنين واضحة لا تخطئها الأذن زادتها هوايتهما المشتركة في التصوير وشعرت نيرن بالألم وهي تسمع إلى انسجام صوتيهما . الألم لأجل كيلتي الذي كان متلهفاً إلى منح حبه لأبيه ... والألم لأجل ستروم الذي كان يحاول جاهداً عدم تقبل ذلك .
وانتبهت من ذكرياتها هذه لترد على كيلتي : " نعم . معك حق إن ستروم لا يشتري سوى الأجود دوماً . "
ونهضت تسأله : " أين هو الآن؟ "
فأجاب : " أظنه ذهب إلى غرفته . "
وشعرت نيرن بفيض من خيبة الأمل . لقد أمضى طيلة الوقت مع كيلتي ... في ذهابهما إلى انفرنيس ثم أثناء انشغالهما في الغرفة المظلمة ... وأخذت تحدق في نار المدفأة وهي تفكر فيه وفي حنينها إليه .
وعاد كيلتي يقول : " إنني صاعد إلى غرفتي إذن . "
فحملت نيرن كوب الشاي الفارغ ومشت نحوه لتضع يدها على كتفه قائلة : " ليلة سعيدة . "
وبعد ذلك بلحظات ، فكرت وهي تغسل الصحون في المطبخ في ما عسى أن تبدو عليه الغرفة المظلمة ... ومن ثم قررت ان لا ضرر من إلقاء نظرة عليها .
كان الباب مغلقاً ولكن ما أن دفعته حتى شعرت بقلبها يكف عن الخفقان ذلك ان ستروم كان ما يزال هناك يقوم بتسوية بعض الأمور المتعلقة بأحكام إظلام الغرفة .
وأدار وجهه إليها وقد بدا التساؤل على ملامحه ثم قال بهدوء : " آه أهو أنتِ ظننتت ان كيلتي ربما نسي شيئاً . "
وحدقت نيرن فيه شاعرة وكأنها تغرق وتساءلت عما يجعل الأشياء تختفي من حولها كلما كانت معه في الغرفة ولا يبقى سوى تأثيره عليها وشعورها هذا بالدوار والوهن ...
قال أخيراً وهو ينفض يديه : " ها قد انتهى كل شيء واستقر الأمر لكيلتي الآن . "
فقالت تغير مجرى أفكارها : " اخبرني عن السبب الذي جعلك تتخلى عن هواية التصوير مادمت تملك تلك الموهبة؟ لقد سبق وغضبت عندما علمت أن كيلتي تخلى عن التصوير وأنا اذكر قولك حينذاك ، إذا كان لدى الإنسان موهبة ما فواجب ذلك الشخص ان ... "
فقاطعها : " أنني لم امتنع عن التصوير باختياري يا نيرن . "
فسألته : " وكيف؟ بإمكاني ان افهم سبب تخليك عن تسلق الجبال والذي هو إصابة ركبتك أما التصوير .... "
فقاطعها : " لقد اقترن عندي تسلق الجبال والتصوير معاً . في البداية ، كان تسلق الجبال وبعد ذلك أردت أن أسجل العلاقة بين الإنسان والجبال من خلال عدسة التصوير نعم معك حق لقد انتهت هواية تسلق الجبال عندي بإصابة ركبتي ولكن ذلك الانزلاق على الصخور الذي أصابني أثناء هبوطي لإنقاذ نيكولا أصبت أيضاً في رأسي ... ما سبب دماراً لعصب الرؤية في عيني اليمنى وأنا الآن لا أرى بها كلياً . "
وانتاب نيرن الذهول لما سمعت وقالت : " ولكن .... "
وسكتت وقد تلاشى من ذهنها ما تريد قوله .....
وضحك هو قائلاً : " ولكن العين تبدو بحالة حسنة تماماً . آه يا نيرن لا تكوني حساسة من قولك أشياء قد تسبب لي الألم ، فأنا لست حساساً أبداً من كوني أرى بعين واحدة فقط ، وان يكن التعود على فكرة انتهاء أيامي في التسلق والتصوير معاً ، أخذ مني وقتاً طويلاً في الواقع ولكنني كنت محظوظاً لبقائي حياً وعندما شفيت أخذت أتطلع حولي عن عمل أقوم به وكنت قد سبق وفكرت قبل أن يحدث لي ما حدث في ان أقوم ببناء أكواخ لمتسلقي الجبال ، وذلك بعد تقاعدي عن التسلق وهكذا عندما حدث ذلك التقاعد مبكراً ، عادت إلى ذهني تلك الفكرة وباشرت بها حالاً فاتفقت مع ممول ومن ثم قمت ببناء أكواخ قمم الجبال وكان النجاح باهراً ... ومنذ ذلك اليوم سرت في طريقي دون النظر إلى الوراء ."
فقالت بهدوء : " أليس غريباً أن يرث عنك ابنك ليس هواية تسلق الجبال وإنما موهبة التصوير الفوتوغرافي أيضاً؟ "
فأجاب بلهجة متوترة : " نعم هذا صحيح ان بإمكاني التأكد بأنه يوماً ما سيجعل من ذلك مهنة حسنة . "
فسألته قائلة : " ستروم .... هل علمت السبب في أنه أخذ محفظتك في أول صباح أمضيته هنا؟ "
فأجاب : " لقد اخبرني بذلك هذه الليلة . لقد أراد فقط أن يعرف هويتي الكاملة أراد ان يتأكد من أنني حقاً ستروم سومرليد غالبريث أبوه . "
وضحك بصوت أجوف متابعاً : " ويظهر أنه ورث أيضاً طبيعتي المتشككة . "
وأشاح بوجهه وكأنه يريد منها أن تعلم أنه لا يريد ان يتحدث عن ابنه أكثر من ذلك وتابع قائلاً : " إن القمر متألق تماماً هذه الليلة . وهذه فرصة حسنة للتأكد من أنه لا يوجد منافذ للضوء في ظلام الغرفة هذه . "
وقبل أن تدرك هي ما سيفعل ، كان قد مشى نحو الباب يغلقه بهدوء ثم يطفئ النور .
هذه العتمة المفاجئة جعلت نيرن تشعر بالدوار وبما يشبه الاختناق .... فتحسست طريقها نحو الباب ولكنها قبل أن تصل إليه وجدت نفسها تصطدم بالجدار .
وهتف ستروم : " آه ، حذار لقد كدت تتسببين الضرر لنفسك في سيرك هذا في الظلام . "
وجعلها الظلام الدامس هذا تشعر وكأنها انتقلت إلى عالم آخر عالم منفصل تماماً عن واقعها ، لا يوجد فيه سوى ستروم ولا صوت سوى صدى صوته في أذنيها .
وتنحنحت قائلة : " يبدو أنها ستكون غرفة حسنة . "
فأجاب : " آه نعم إنها رائعة لتظهير الأفلام ولن يحصل كيلتي على غرفة افضل منها . "
ثم مد يده إلى خلفها وأشعل النور .
فقالت بصوت متهافت : " إنني ذاهبة إلى غرفتي الآن . هل ما زالت ... مصمماً على الرحيل غداً صباحاً؟ "
فأجاب : " علي ان أرحل يا نيرن إن بقائي .... "
وأبدى بيده إشارة وكأنه يتوسل إليها ان تشعر معه ثم قال : " لقد أوضحت للغلام كل شيء وهو متفهم تماماً الآن . "
فقالت : " أنه بحاجة إليك يا ستروم . "
ورأته يجفل وكأنما صفعته ورأت كتفيه تهبطان وكأنما سلبت منه الحياة وهمست من خلال دموعها : " وأنا أيضاً بحاجة إليك . "
ولكنه استدار مبتعداً عنها . وأغمضت عينيها لحظة وكأنها بعدم رؤيته تنهي عذابه وعذابها . ثم عادت ففتحت عينيها وسألته : " في أي وقت ستشرع في المسير صباحاً؟ "
فأجاب : " أحب أن يكون ذلك في السادسة . "
فقالت : " سأراك في الصباح وسأجهز لك الفطور قبل رحيلك . "
ولم تنتظر جوابه كانت تعلم أن عليها أن تخرج من الغرفة وتغلق الباب خلفها قبل أن تنطلق من بين شفتيها تنهدات الأسى والحزن اللذين كانا يعتملان في أعماقها .
الفصل الثاني عشر
" هل رحل؟ "
فمسحت نيرن العرق عن جبينها بعد أن سمعت صوت كيلتي الذي كان واقفاً بباب المطبخ ، ثم استدارت تنظر إليه والتوى قلبها ألماً وهي ترى النظرة التي بدت في عينيه وقالت بهدوء : " نعم لقد رحل . "
فازدرد ريقه بصعوبة ثم أشاح بوجهه ومضى ينظر من النافذة ثم قال : " كنت آمل أن .... "
واختنق صوته بالانفعال فلم يستطع متابعة الكلام .
فقالت وهي تتقدم لتقف بجانبه : " نعم ... نعم وأنا أيضاً كنت آمل ذلك . "
فقال : " انكِ ... معجبة به أليس كذلك؟ "
فأجابت : " وأكثر من ذلك يا كيلتي أكثر من ذلك بكثير وقد أردت منه أن يبقى من أجلي أنا أيضاً ولكن هازيل سببت له الكثير من الأذى فلا تكرهه أنت . "
فأدار رأسه إليها . وكانت وجنتاه مبللتين بالدموع ، وهو يقول : " إنني لا أكرهه يا نيرن أما ما لا أستطيع أن أفهمه فهو كيف أمكن لأمي أن تؤذيه بهذا الشكل؟ فهذا ليس من طبيعتها . "
فهمست : " كلا ، ليست هذه طبيعة هازيل ولكننا لن نعرف قط ماذا كان يجول في ذهنها .. أو في قلبها ... في ذلك الوقت . "
ووقفا معاً لحظة طويلة صامتين ، وقد ربط بينهما الأسى وأخيراً تنهدت نيرن واستدارت لتبتعد عندما وقعت نظراتها على مغلف مقفل موضوع على عتبة النافذة فتقدمت تتناوله وهي تقول : " آه لقد كدت أنسى إنها رسالة تركها لك ستروم ... "
فتناولها وقد بدا الاضطراب على ملامحه وهو يسألها : " رسالة لي؟ وماذا في داخلها؟ "
فقالت : " لا أدري ... لماذا لا تذهب إلى غرفة الجلوس وتفتحها وسأبقى هنا اغسل الأرض وإذا أردت مني شيئاً فاصرخ لي . "
كان كل ما تعرفه أنه لم يكن بداخل المغلف نقود لأن ستروم كان أخبرها أنه فتح في البنك في غلينكريغ حساب توفير باسم كيلتي وأن على كيلتي أن يذهب إلى هناك بأقرب وقت ليوقع على الأوراق اللازمة كما أنه أعطى نيرن عنوانه في لندن وأخبرها ان عليها ان تبدأ الإجراءات اللازمة لحضانة كيلتي ، وسيقدم إليها ما تطلبه من عون ولم تشأ أن تتذكر النظرة التي كانت في عينيه ، باردة نائية مقفلة وكأنه كان يبعد عنه ، ليس هي فقط وإنما الحياة نفسها ولم تستطع الاحتمال .
" نيرن! "
واستدارت بعنف وهي تسمع ن
عندما استدار ستروم نحوها ، رأت نيرن وجهه على ضوء النار المشتعلة وكان مرهقاً مغضناً بينما صوته كان ثابتاً وهو يقول : " نعم انه سيصبح بخير ولا بد انه أوى إلى هنا قبل العاصفة الثلجية ورغم أن حذاءه وجوربه مبللان إلا أن ثيابه جافة انه البرد والإرهاق وهذا كل شيء ولولا أن عثرنا عليه لكان الامر مختلفاً بطبيعة الحال ... "
وداخل نيرن الارتياح ممزوجاً بمشاعر مختلفة ، مشاعر كانت بمثل عنف العاصفة الثلجية التي تولول خارج الكوخ . هل تراها جنت لكي تتعلق عيناها في مثل هذا الوضع بهذا الرجل الذي كان الآن يقف بعد طول جلوسه القرفصاء بجانب الفراش؟ بوجهه الهضيم وعينيه اللتين كانتا كبحيرتين من التعاسة؟ كان هذا ما جذبها إليه وكان هنالك أيضاً شعورها بالعطف نحوه ... العطف لأنها كانت تعلم أنه يتألم لقد كان الألم رفيقه كان رفيقاً لا يريده ولكنه تملك نفسه بكل قسوة .. تملك نفسه منذ خمس عشر عاماً ...
رفيقاً أوجدته فيه هازيل .
ما أعظم ما كان حبه لها ، لكي تترك فيه جرحاً كهذا ... لكي يتسمم بهذا الشكل مهما كان فعلها به ....
اقترب منها ونظر إلى النار وهو يسألها : " هل أحضرت طعاماً؟ "
فأجابت : " أحضرت جبناً وكعكاً ولوحي شكولاته وبعض المكسرات ولكنك لن تحاول إيقاظه أليس كذلك؟ "
فأجاب : " ليس لأجل كيلتي بل لأجلنا نحن . "
ودون أن يرفع عينيه عن النار قال : " لقد مرت ساعات منذ تناولنا الطعام وليلتنا ستكون طويلة ويجب أن نأكل شيئاً يحفظ قوانا ولكننا يجب أن نقتصد في مئونتنا فمن يعلم كم سنبقى محتجزين هنا؟ "
وسكت . وشعرت نيرن بالبرد أكثر مما كانت تشعر به خارج الكوخ ولم تشأ التفكير في إمكان أن تحتجزهما العاصفة أياماً.
وسألها : " هل ثيابك مبللة كلياً؟ "
فأجابت : " إن جوربي مبللان وكذلك بنطلوني من الفخذين فنازلاً أما القسم الأعلى من ثيابي فلا بأس . ماذا عنك أنت؟ "
فأجاب : " لست محظوظاً تماماً . "
فسألته : " هل سندخل إلى أكياس النوم الآن؟ "
فأجاب : " هذا افضل . "
جلست القرفصاء وسحبت كيس النوم من حقيبتها حيث فتحت السحاب وما زالت تتجنب النظر حولها ولكن قبل أن تدخل الكيس قالت : " هل لك أن تدخل كيسك ريثما احضر أنا شيئاً نأكله. "
ولم تعد إلى النظر إليه إلا بعد أن سمعته يجر سحاب الكيس الطويل وكان جالساً في الكيس يدفئ يديه أمام النار وقد وضع القسم الأعلى من الكيس على كتفيه العريضتين .
والتفت إليها قائلاً : " بالنسبة إلى الكلب شادو عندما خرجنا كان نائماً في المطبخ من الذي سيفتح له الباب ليخرج؟ "
فنظرت إليه مستغربة أن يفكر في الكلب في ظروف كهذه وأجابته وهي تناوله كعكة وقطعة جبن : " لقد اتصلت هاتفياً بأمي قبل أن نترك البيت وهي ستهتم به إلى حين عودتنا . "
فقال : " هذا حسن . "
ولم يزد ، واخذ يأكل ثم عاد يقول : " منذ متى اقتنيته؟ "
فأجابت : " شادو؟ منذ ثماني سنوات ، انه هدية العرس من كيفين . "
فسألها : " ابن أختك؟ لا بد أن أختك تزوجت قبلك بعدة سنوات ...... "
فقالت : " كلا ، تزوجنا في يوم واحد . "
وبعد فترة صمت عاد ستروم يقول : " ولكن كيفين .. أظنه في الحادية عشر أو الثانية عشر من عمره . "
فأجابت : " آه آسفة ، كان علي أن اشرح الامر . انه في الثانية عشر .. ولكن آدم ليس أباه فقد كانت كيلا متزوجة قبله من شاب اسمه درو فيرغسن وكانت هاجرت معه إلى كندا حيث ولد كيفين . وقد مات درو حين كان كيفين في الرابعة من عمره فعادت به كيلا إلى هنا حيث تزوجت من آدم بعد فترة قصيرة . "
فقال ستروم : " بشيء من الدهشة : " إذن آدم هو زوجها الثاني ، انهما يبدوان في غاية السعادة . "
فأجابت ببساطة : " انهما يحبان بعضهما . "
فابتسم ساخراً وهو يقول : " يحبان بعضهما؟ هل تثقين بالحب؟ "
فقضمت نيرن قطعة صغيرة من كعكتها وأعادت البقية إلى الكيس ، من يعلم كم سيبقون محتجزين في هذا المكان .... وأجابت : " نعم إنني أثق بذلك . "
فقال : " وإذا وقع شخص في الغرام وتزوج اكثر من مرة .... فهذا يبطل منطقك أم أن بمكان الشخص أن يكون له اكثر من حبيب ..... "
كانت تعرف أنه يغيظها ... ولكنها كانت تعرف أيضاً أنه يريد حقاً جواباً لهذا السؤال ، فهل بإمكانها ان تجيب؟
وأجابت بهدوء وهي تحدق في اللهب : " كلا ، إنني لا أثق بالحب المتعدد ولكنني أثق بان الشخص قد يعثر على رفيق ... رفيق حياة يكمله أو يكملها وعندما يجتمعان يصبحان واحداً مكتملاً . "
فسألها : " وهل تظنين أن كيلا ودرو كانا حبيبين حقاً؟ "
فأجابت : " كلا انهما لم يكونا حبيبين بكل معنى الكلمة ، لقد كان درو مجنوناً بكيلا وقد أحبته كيلا ، إنما ليس بنفس القدر ، لقد كانا دوماً صديقين حميمين وكان حبها له كحب أي شخص لصديق حميم . ولكن الامر مع آدم اختلف فقد تعلمت معه الحب الحقيقي الذي يكون بين رجل وامرأة فهو إذن حبها الحقيقي . "
فقال : " إذن ، جزآن متماثلان يتحدان معاً ليصبحا فرداً متكاملاً مثلكما أنتِ و روري؟ "
لم تحول عينيها عن النار ، كانت تعلم أنه ينظر إليها ، ولم تشأ أن يرى التعبير الذي بدا في عينيها لم تشأ أن يرى الدموع فيهما .. الدموع التي تفجرت منهما وكأن يداً خفية اعتصرت قلبها فلم تكد تحتمل الألم .
هذا الألم الناتج عن كلماته الرقيقة ... كلماته التي نطق بها بكل براءة . الألم الذي كان يدفعها آلي أن تصرخ وهي تواجه الحقيقة القاسية ، الحقيقة المرة ، الحقيقة التي اخترقت من الأعماق ... فهي مع أنها أحبت روري كما احبها هو أيضاً وكان حبهما رقيقاً متشاركاً بعيداً عن الأنانية .. ولكن كان هنالك شيء مفقود...
إنها لم تدرك هذا في ذلك الحين .. ولو لم تقابل ستروم غالبريث لما أدركته طيلة حياتها .
أما ما كان مفقوداً من علاقتهما فهي العاطفة.
العاطفة المحمومة والرغبة العميقة .....
وشعرت بنفسها ترتجف عندما قال لها بصوت يتملكه الذهول : " هل تبكين؟ آه يا نيرن .... "
رتب على يدها وتمتم : " إنني آسف ، إذ جعلتك تفكرين في روري فجلبت إلى نفسك الحزن .... إنني حقاً متوحش ... "
فهمست وهى ترى الندم في صوته : " كلا ، انك مخطئ ليس هذا هو سبب بكائي ."
فقال وهو يتخلل شعره بأصابعه : " ما هو السبب إذن؟ اخبريني . "
وماذا تخبره؟ وكيف تقول له أنها اكتشفت الآن ذلك الفراغ الذي كان يسود حياتها الزوجية؟
وعاد يقول : " من المفيد أحياناً أن تكشفي عما بنفسك .... "
وسكت فجأة وهو يراها تغمض عينيها وهي تجذب نفساً مرتجفاً فسألها بصوت متوتر : " ما هذا؟ ما هو سبب بكائك؟ "
وأرادت أن تصرخ ...... أن تقول له انه هو سبب بكاءها ... إنها تبكي لأنها تشعر وكأنها كانت تعرفه طيلة حياتها .... ولأنها تشعر أنها تريد أن تمضي بقية حياتها هنا ولكنها لم تنطق بكلمة.... وإنما قالت بصوت خافت : " إنني آسفة لا ادري ما سبب بكائي هذا ... ربما ما مر بي هذا النهار من أحداث قد أوهن أعصابي ، واظن ان علينا أن ننام . "
وقفت لتسوي كيس نومها ثم تستلقي . ومضت لحظة لا نهاية لها لم تسمع فيها صوت ستروم وتمتمت : " سأراك في الصباح . "
ولكن لم يكن هناك جواب فاستدارت تنظر إليه لترى انه يجلس القرفصاء قرب كيلتي واضعاً يده على جبينه وقد استحال إلى كتلة من الاهتمام والتركيز .
وشعرت وكأنها موشكة على البكاء ياله من رجل غامض معقد غير مفهوم ولكن هنالك شيء مؤكد هو انه رغم ما يبدو عليه من عنف وتصميم على ألا يختلط بابنه فقد كان قلبه يحتوي على مقدار كبير من الحنان . كانت متأكدة من انه رغم قوله انه لا يريد كيلتي ، فثمة صراع يدور في أعماقه في كل مرة ينظر فيها إلى ابنه الذي هو نسخة ثانية عنه ومن لحمه ودمه .
وبعد ذلك بلحظة سمعته يسوي من كيس نومه وهو يقول لها : " ليلة سعيدة يا ينرن ."
أجابته وهي تبتسم رغم الدموع التي كانت تنساب منها على وجنتيها : " ليلة سعيدة يا ستروم . "
ومن الغريب أنها استطاعت أن تنام وعندما استيقظت ونظرت إلى ساعتها رأت أنها الثامنة صباحاً وسرعان ما انتبهت إلى ستروم واقفاً أمام المدفأة يغذيها بالوقود . لابد انه أبقى النار مشتعلة طيلة الليل لأن الكوخ كان دافئاً .
وكيلتي؟
أدارت رأسها نحو ذلك الجسم المستلقي على الفراش . لم يعد الآن متكوماً على نفسه التماساً للدفء كان مستلقياً على ظهره يغط في نوم هادئ .
وشعرت نيرن بالطمأنينة والسلام ، كان ستروم مصيباً حين قال أن كيلتي سيصبح بخير ولكن لو أن كيفين لم يلحق به ليرى إلى أين يتجه إذن ....
وفجأة لاحظت نيرن أنها لم تعد تسمع صوت العاصفة فقد هدأت العاصفة وسيكون بإمكانها العودة في اقرب وقت ..
قال لها وهو يجلس بجانبها : " هل أنتِ مستيقظة؟ هل رقدت جيداً؟ "
فأجابت : " نعم ، وأنني اشعر بالذنب لعدم معاونتك في السهر . "
فقال : " معاونتي في السهر؟ "
فنظرت إلى النار المضطرمة وهي تقول : " اعني في المحافظة على اشتعال النار وإلا لكنا ارتجفنا من البرد طوال الليل . "
فقال : " لقد كنت مرهقة جسمانياً ونفسانياً . وما كنت لأوقظك مهما كان الامر وفي الحقيقة كنت مسروراً أن سمعت غطيطكِ . "
فقالت : " غطيطي؟ ولكنني لا أغط في نومي مطلقاً . "
والتفتت إلى كيلتي الذي كان ينقلب إلى جانبه وهو يتأوه مغمض العينين بينما ابتسم ستروم قائلاً : " إنني أقول ذلك لأعرف فقط وهذه عادتي كلما اضطررت لمشاركة الغرفة مع أحد . "
وكان الآن متكئاً أمامها ينظر إليها ليرى ردة الفعل عندها لما قاله .
شكرت نيرن حظها على أن ليس لديه فكرة من ردة الفعل في قلبها ، في نفسها وذلك عندما كان ينظر إليها بهذا الشكل . هل هذا كان شعور هازيل نحوه عندما كان ينظر إليها؟ شعرت لهذه الفكرة بمثل طعنة السكين في قلبها ، لماذا آلمها بهذا الشكل مجرد التفكير به مع هازيل؟
وهمست قائلة : " هل كنت مغرماً بهازيل؟ "
فاستدار يستلقي على ظهره ، واضعاً يديه تحت رأسه وقد سادت الرزانة ملامحه ثم قال بعد سكوت طويل : " نعم لقد كنت مغرماً بها ، كان حلماً جميلاً ... كان حلماً استحال إلى كابوس . "
فقالت برقة : " حدثني عن كل هذا ، عنك وعن هازيل . "
فقال : " بصوت خافت : " لقد كنت جئت ذلك الصيف إلى اسكتلندا في الصيف مبكراً ابحث عن قطعة ارض وكنت قد أوجدت لتوي مشروعاً في الخارج وحيث أن مشاريع السياحة والتزلج في الشمال كانت مزدهرة فقد وجدت أن الوقت قد اصبح مناسباً للاستثمار في المنطقة وبسبب اصلي الاسكتلندي كما أظن وجدت أن اسكتلندا تجذبني كالمغناطيس . "
فسألته : " وما الذي جعلك تختار قرية غلينكريغ؟ "
فأجاب : " كان المكان مثالياً فهو قريب جداً من الجبال ولكنه بعيد عن الطراز الأمريكي ، إذ انه كان يمثل اسكتلندا الحقيقة ، اسكتلندا القديمة التي كانت قبل أن يصبح كل شيء تجارياً وكانت غلينكريغ ..... كانت صورة كاملة لما أريد. "
فهزت رأسها قائلة : " ولكنك لم تطور شيئاً .... لماذا؟ "
ولكن توتر ملامحه أنبأها بالجواب . وكان طبعاً يتعلق بهازيل .
أجاب وقد بان التجهم في ملامحه : " لقد قابلتها مصادفة في نفس اليوم الذي عثرت فيه على قرية غلينكريغ وكنت هابطاً الوادي لأرى بعض الأراضي فيه والتي لم تعجبني وكنت شاعراً بخيبة الأمل لذلك لأنني كنت أحببت هذه المنطقة كثيراً وعندما رأيت خرائب البيت الريفي في كريجند والأراضي المهملة المحيطة به تساءلت عما إذا كانت معروضة للبيع وأوقفت سيارتي إلى جانب الطريق ثم أخذت أسير بين الحقول وملأتني الإثارة فقد كان المكان مناسباً تماماً وكنت واقفاً هناك أحلم بما سيكون عليه بعد إصلاحه عندما برزت أمامي صورة فاتنة لفتاة جبلية جميلة ذات شعر اسود ثائر وعينين خضراوين وضحكة جذابة أسرت حواسي ... "
وسكت فجأة وكأنه نسي نفسه ، ثم أطلق ضحكة مرة وهو يتابع : " وبالطبع لم تكن تلك صورة وإنما مجرد مخلوقة من لحم ودم . ولكنها فتنتني على كل حال . لقد سألتني : ماذا تريد من هنا يا ابن المدينة؟ فأجابتها : إنني أريدك . وكان حباً من أول نظرة . كان هذا أمراً سخيفاً أليس كذلك؟ ولكنه لم يبد سخيفاً في ذلك الحين لقد سرقت قلبي . "
فسألته نيرن : " وهل أحبتك هي أيضاً؟ "
فلوى شفتيه : " لقد قالت ذلك وكنت أظنها فتاة حرة عاطفية ، رغم أنها كانت دوماً ترغب في مقابلتي في أماكن هادئة ... وبعد أن مر على تعارفنا قرابة أسبوعين أخبرتني عن هوغ ... وعن تفاهمهما ، أخبرتني انه يصطاد السمك في الساحل الغربي ولكنها وعدتني أن تفصم خطبتها معه عندما يعود في أواخر حزيران وتخبره بأننا سنتزوج . "
وتنهد بصوت مرتجف وهو يتابع : " وفي آخر ليلة من رحلتي تلك ، كانت الغلطة التي اقترفتها وهكذا عدت إلى لندن وفي جيبي عقد شراء ارض كريجند وفي قلبي .... هازيل لندساي . "
وظنت نيرن أن حديثه انتهى ، فأرادت أن تعرف ما حدث بعد ذلك ولكنه عاد يتابع حديثه بصوت خشن : " لقد كتبت ألي رسالة بعد عودة هوغ من صيد السمك تقول فيها أنها منذ اللحظة التي رأته فيها مرة أخرى علمت انه الرجل الذي يحبه قلبها .. وان علاقتنا ، أنا وهي لم تكن سوى غلطة لم تعد تعني لها شيئاً وقالت أنها لا تريد أن اتصل بها بعد ذلك لأنهما هي وهوغ سيتزوجان بأقرب وقت بعد ان اعترفت له بالحقيقة . "
ترقرقت الدموع في عيني نيرن عطفاً على هذا الرجل . كان يقول الحقيقة دون شك . الحقيقة التي كانت تبدو من صوته الخافت المتألم .
وعاد يقول بصوت معذب : " ربما كنت سامحتها على كذبها ذاك ولكنني لن أسامحها أبداً على عدم اطلاعي على حملها مني . كان عليها أن تخبرني ، كان لي الحق في أن أعلم .... كيف أمكنها أن تكون بكل تلك الأنانية ... "
وكانت الشهقة المفعمة بالذهول والتي ملأت جو الكوخ ، كانت من الألم الذي ينضح منها ما ظنت نيرن معه أنها صدرت عنها هي ... فهي لم تصدر عن ستروم لأنه أبدى مثلها دهشة وعجباً وقد بدت عيناه حادتين متسائلتين . ذلك أن الشهقة كانت صدرت عن كيلتي .
كان منبطحاًَ على بطنه وقد أخفى وجهه بين ذراعيه وسرى في نفس نيرن الهلع . انه لم يكن نائماً ، فلا بد انه سمع كل شيء إذن ، ولم تستطع أن ترى وجهه ولكنها استطاعت أن تتصوره . لقد كان يحب أمه كثيراً وكان يرى العالم كله ممثلاً في هوغ .. الرجل الذي كان يظنه آباه .
وها هو ذا الآن يعلم انه كان يحيا حياة الكذب وان هذا الرجل الغريب الذي اقتحم حياته هو أبوه . انه يعلم الآن حقيقة ما حدث في الماضي وربما يمزق علمه هذا نفسه أشتاتاً .. تماماً كما تمزقت نفس ستروم وما زالت .
وهمست من خلال دموعها : " آه يا للهول ..... "
ووقف ستروم وهو يقول بصوت معذب : " لم اكن أريده أبداً أن يعرف .... "
وجاء صوت كيلتي خشناً وهو يقول بألم : " ولكنني كنت اعلم مسبقاً انك أبي . لقد سبق وعلمت ذلك، لقد كنت أنا من ... "
ولم يستطع أن يتابع كلامه .
وساد الصمت لحظة ، ثم همس ستروم ببطء وذهول : " هل كنت أنت من استأجر المحامي لكي يقتفي اثري؟ لقد ظننت أن أمك هي التي فعلت ذلك قبل موتها وإنها هي التي حركت الأمور لغاية في نفسها .. وكنت افترضت أيضاً أنها اخفت عنك الحقيقة لكي لا يعلم أحد بان هوغ لم يكن أباك الحقيقي .... "
وسألته نيرن : " ولكن من أين حصلت على النقود آجرا للمحامي يا كيلتي؟ إن القليل الذي تركه والداك لم يكد يكفي تغطية تكاليف الجنازة؟ "
فأجاب : " من بيع آلة التصوير . "
فهتفت : " آلة التصوير . "
لقد اتضح الآن كل شيء وشعرت بغصة في حلقها وهي تتابع : " لقد بعت آلة التصوير إذن لكي تدفع أجرة المحامي ... "
وهتف ستروم وقد بان الندم في ملامحه : " آه ، هذا هو السبب إذن في قولك انك كنت بحاجة إلى ثمنها ... "
فأجاب كيلتي بهدوء : " نعم ، وليس لأشتري المخدرات . "
فقال ستروم : " إنني آسف لقولي ذاك ، وان كنت أعلم أن أسفي هذا لا يكفي .. فهل بإمكاني أن اسحب كلامي؟ كل ما بإمكاني الاعتذار به هو انه كان صادراً عن اهتمامي بك . "
فأجاب الغلام وقد بدا الإرهاق في صوته : " نعم لا بأس إنني متفهم ذلك . "
فقال ستروم : " إن ما لم افهمه هو لماذا قررت أمك في النهاية أن تخبرك بالحقيقة؟ "
فانقلب كيلتي على جانبه متكئاً على مرفقه يحدق في ستروم بعينين مغرورقتين وهو يقول : " إن أمي لم تخبرني بذلك قط ، إن أبي هو الذي اخبرني لقد اخبرني عنك في المستشفى قبل أن يموت ، اخبرني انه ليس أبي الحقيقي ... اعترف بأنه كان يعلم ذلك طيلة الوقت . قال أن أمي لم تعلم مطلقاً بأنه كان يعرف بالأمر ، لم تعلم قط بأنه أحس باختلاف في مشاعرها نحوه ، عند عودته من صيد السمك في ذلك الصيف وعندما اكتشفت بعد زواجهما بقليل أنها حاملاً لم تعلم قط بأن أبي اكتشف سرها وانه تكهن بأنها لا بد تعرفت إلى رجل آخر أثناء غيابه وكان من حبه لها انه سكت طوال تلك السنين وكان الشيء الوحيد الذي استطاع أبي أن يعرفه عن ذلك الرجل وكان مجرد تخمين كما قال هو أن اسمه كان سومرليد ....... "
سألته نيرن : " سومرليد؟ ولكن .... "
فأشار كيلتي نحو ستروم وهو يقول : " إن اسمه الأوسط هو سومرليد .. وكانت أمي دوماً تقول أنها تحب هذا الاسم . "
ولم تستطع نيرن الكلام وقد أحست بأنها تكاد تختنق وكل ما استطاعت عمله هو أن تعض شفتها المرتجفة مغالبة دموعها . لقد فاضت بها المشاعر حتى لم تعد تستطع احتمالاً ...
وعلا صوت الطرق على باب الكوخ ، وبشكل غير متوقع ، جعلها تقفز من مكانها وهي تشهق لترى الباب يفتح فجأة فيهب منه الهواء المثلج يصفع وجهها ، و أغمضت عينيها إزاء النور الساطع ، لتعود فتحهما على خيال طويل يقف في الباب وانطلق صوت مألوف لديها يقول : " من حسن الحظ أنكم هنا جميعاً وليس بكم ضرر كما أرى . "
فقفزت واقفة وهي تهتف : " آدم كنت أظنك في ادنبره؟ "
واندفعت تحيط صهرها بذراعيها .
واحتضنها هو بشدة وهو يبتسم لها قائلاً : " لقد تصادف أنني اتصلت بالبيت هاتفياً بعد المكالمة بينك وبين كيلا فأخبرتني بما حدث فقطعت رحلتي وعدت إلى البيت حيث شكلت فرقة إنقاذ وإذ بالعاصفة الثلجية تهب وكان علينا أن ننتظر هدوءها . لا يمكنني أن أصف لك مقدار الراحة التي شعرنا بها عندما رأينا الدخان يتصاعد من مدخنة الكوخ هذا ، آه ، يا ستروم لقد أحسنت بعنايتك بهذين وتهاني لك فهذا شيء حسن جداً بالنسبة إلى ...... "
فقاطعه ستروم ضاحكاً : " بالنسبة إلى ابن المدينة . انك لست الوحيد الذي ظن بي الضعف والخرع ... "
وانطلق صوت كيلتي من الخلف قائلاً : " انه ليس خرعاً . فهو أول رجل استطاع الوصول إلى قمة افرست في رحلة كارينغتون الاستكشافية وذلك عندما كان في الرابعة والعشرين فقط من عمره . "
واستدار ستروم و نيرن ينظران إليه وكان جالساً في كيس النوم وقد بدا عليه وكأنه لم يذق النوم منذ اشهر .
وهتفت نيرن : " قمة افرست؟ متسلق جبال؟ "
وشعرت برأسها يدور .
وتابع كيلتي بصوت مرتجف : " متسلق جبال ومصور فوتوغرافي وقد اضطر إلى ترك التسلق لأنه أثناء هبوطه في أخدود عميق أثناء تلك الرحلة ، وذلك لينقذ قائد الرحلة نيكولا كارينغتون ، أثناء ذلك كسر ركبته ... "
فاستدارت نيرن نحو ستروم وهتفت بذعر : " ستروم ما كان لك أن تصعد إلى هنا .. وركبتك هذه .. إن المجازفة ... "
كان هو ينظر إلى ابنه وقد بدا على ملامحه تعبير لم تره من قبل . ذلك أن الكآبة القاسية التي كانت تعلو وجهه قد تلاشت ليبدو في مكانها رقة هزتها ... وكانت تلك الرقة ممزوجة بالارتباك ، هل ذلك لأن كيلتي كان يعرف من هو طوال الوقت وكان يحتفظ بذلك سراً؟ أم أن الارتباك هو سبب المشاعر التي ابتدأت تتكون في أعماقه نحو ابنه؟ أم ربما لسببين معاً؟
ولكنها ما أن نظرت إليه ، حتى تمالك مشاعره بسرعة وعاد الجمود إلى عينيه لا تنبئان عن شيء .
وقال هو : " لقد كانت مغامرة كنت متأهباً لها . وحتى الآن ركبتي صامدة .. والآن هيا بنا ، فأمامنا طريق طويل شديد البرد . "
الفصل العاشر
وقفت نيرن تحت الدوش وهي تتنهد مغتبطة بالماء الدافئ الذي ينهمر عليها وأغمضت عينيها ثم أخذت تفكر .....
من حسن حظهم انهم عادوا جميعاً سالمين وكذلك صمود ركبة ستروم أثناء هبوطه الجبل ، لقد أذهلها حقاً أن تعلم انه كان يوماً متسلقاً مشهوراً وكان أحد أعضاء رحلة كارينغتون الاستكشافية . لقد كانت يومها تلميذة في المدرسة ولكنها ما زالت تتذكر كيف كانت تتابع على شاشة التلفزيون أخبار محاولته البطولية الناجحة في إنقاذ كارينغتون والإثارة التي أحدثتها تلك البطولة في نفسها الغضة . لا بد أنها كانت حينذاك في سن كيلتي الآن .
آه ، كيلتي ....
وعادت نيرن بأفكارها إلى الحاضر وهي تتنهد . أخذت تفكر في الوضع التعس بين ستروم وابنه . ومهما حاولت إقناع نفسها بأن لا دخل لها هي في هذا الأمر وأن ستروم هو والد كيلتي ولا يمكن أبداً أن يبعده عن حياته ، فقد كانت دوماً تعود إلى نفس النقطة وهي أنها المسؤولة عن كيلتي حالياً ، فإذا أراد ستروم أن يهجر ابنه فستبقيه عندها . ولكن حتى ولو أن هذا سيسعدها ، فقد كانت تعلم في أعماقها أنه ليس في مصلحة كيلتي ، فهو بحاجة إلى رجل يتمثل به . بحاجة إلى أب .
فقط ، لو كان بإمكان ستروم أن يتغلب على هذا الأسى الذي يعانيه ولكن بقاء هذا الأسى خمسة عشر عاماً ، ليزيده الآن علمه بان هازيل اخفت عنه سر حملها منه كل هذا جعل أملها في استئصال الحزن والأسى من نفسه ضعيفاً جداً .
وكانت تركت ستروم و كيلتي في المطبخ يتناولان غداءهما الذي كانت أحضرته كيلا بسرعة من منزلها عقب وصولهم .
وكان ستروم قد نزل من غرفته بعد خروج كيلا أنيقاً حليقاً وشعرت لدى رؤية كيلتي يدخل من المطبخ بعد ذلك بقلبها يخفق ... لقد كان مرتدياً زيه الخاص والذي هو عبارة عن التنورة الجبلية السوداء والقميص المقفل وكان وجهه الهضيم جاداً وأدركت وهي تنظر إليه السبب الذي جعل قلبها يخفق . ذلك لأنه كان نسخة طبق الأصل عن أبيه وأيضاً كان يماثله في التعبير الذي ساد ملامحه . لقد كان الغلام تعيساً كالرجل ....
وكانت قد خرجت من الحمام وقد ابتدأت بتجفيف شعرها ، عندما سمعت شخصاً يهتف باسمها من خلف الباب ، ثم طرقاً متواصلاً .
كان ستروم وأجابت : " نعم؟ "
فسألها : " هل أستطيع الدخول؟ "
فأجابت : " نعم ، لماذا؟ "
فأجاب : " أريد أن أتحدث إليك . "
ففتحت الباب قائلة : " ادخل ماذا جرى؟ "
فأجاب : " إنني راحل . "
فسألته مذهولة : " راحل؟ ولكن .... "
قاطع كلامها وقد تغضن وجهه : " انه يتخذني مثله الأعلى . انه كيلتي . لقد أخذ يتحدث أثناء الطعام . لقد أخبرني أنه يحتفظ بكل أعمالي ، الصور التي كنت التقطتها على مدى السنين للصحف أثناء تسلقي الجبال . لقد أخبرني .... "
وأغمض عينيه ورأته نيرن يزدرد ريقه بصعوبة ولكنه عندما تابع كلامه كان قد استرد هدوءه وهو يضيف : " لقد اخبرني أن أعمالي كانت ملهمته ... "
فقالت : " آه ، وكان هذا قبل أن يعرف انك أبوه .... "
فأجاب : " نعم وعندما علم من المحامي أن ذلك الرجل الذي كان معجباً به إلى ذلك الحد هو أبوه ... وظن انه خان أمه شعر بأنه أيضاً قد خانها .. ما أشعره بالذنب ."
فقالت : " ولكن ، إذا كان شاعراً بالذنب إلى هذا الحد فلماذا طلب من المحامي الاتصال بك؟ أليس هذا ما حدث؟ والذي جعلك تعرف ان لك ولداً؟ "
فأجاب : " كلا يا نيرن ليس هذا ما حدث . إن كل ما أراد كيلتي معرفته هو هوية والده الحقيقية لا اكثر ، لأنه كان يفترض أنني أعلم بوجوده وأنني أنا الذي كنت هجرت أمه وقد كرهني قبل أن يعلم من أنا ولكنه بعد ان علم ذلك تملك مشاعره الاضطراب والتشوش ، إذ ان نفسه توزعت بين كراهيته لي وبين عدم الرغبة في التخلي عن صورة ذلك الذي كان مثله الأعلى سنين طويلة . "
فقالت : " آه يا ستروم كم هذا مخيف بالنسبة له . "
فقال : " نعم وقد استأجر المحامي وهو من انفرنيس ، مخبراً بناء على تعليمات كيلتي وهذا المخبر أخذ يتحرى عن ماضي هازيل ، مبتدئاً طبعاً من الوقت الذي أشار به كيلتي مستعلماً عن كل رجل ربما زار قرية غلينكريغ ح والى ذلك الوقت وفي النهاية كان اسمي في قائمته وقد اقتفى اثري إلى أن وصل إلى شقتي في لندن ولكن عندما أبتدأ يلقي بالأسئلة عني في محيطي ذاك ، ساور الساقي في مقهى هناك وكان من معارفي ، ساوره الفضول ، فأخذ يلقي عليه من تلقاء ذاته بعض الأسئلة جعلته يعلم أنني قد أكون أباً لولد في غلينكريغ . "
فسألته : " ومنذ متى أبتدأ كيلتي البحث عنك؟ "
فأجاب : " بعد وفاة هوغ مباشرة ولكنني لم أعرف بما يحدث إلا منذ حوالي ثلاثة أسابيع . فاستأجرت مخبراً ليتحرى عمن كان يبحث عني ، فقادته تحرياته إلى محامي في انفرنيس ، ولكن هذا لم يؤكد قصة ذلك المخبر الذي كان استأجره وكل ما اخبرني به هو أنه كان يعمل لحساب أحد عملائه ... "
فسألته : " وطبعاً ، اتصل المحامي بكيلتي ليخبره عن اتصالك به . "
فقال : " نعم وهذا هو السبب في أن الغلام تهرب من تلك الرحلة البحرية مع الفتيان ذلك ان المحامي أخبره انه استنتج من شيء قلته أنا ، أنني مصمم على العودة إلى غلينكريغ . "
فقالت : " وهذا ما قمت به فعلاً . "
فأجاب : " نعم ، قمت به بهذا لكي أتحقق من هذه القصة والآن ، إنني راحل بعد أن نلت الغرض من رحلتي ... "
فصرخت نيرن قائلة : " كلا ، لا يمكنك الذهاب ليس الآن . "
فارتسمت على شفتي ستروم ابتسامة حزينة ، حدق فيها طويلاً وقد بانت التعاسة على وجهه ثم قال بهدوء : " الماضي لا يمكن محوه يا نيرن ولا أقوى إرادة في العالم تستطيع ذلك . "
نظرت نيرن إليه وهو يسير نحو الباب ، وما أن خرج مغلقاً الباب وراءه بحزم حتى انطلقت من بين شفتيها آهة حزينة .
استندت إلى الجدار تحدق في فضاء الغرفة بعينين لا تريان . كلا ، الماضي لا يمكن محوه .. ولكن المرء يتعلم كيف يرضى به ، يضعه وراء ظهره ثم يتطلع إلى المستقبل فإذا لم يكن ستروم مهتماً بمستقبله هو ، فعليه أن يهتم بمستقبل ولده وفكرت باستماتة بأنه لا ينبغي له ان يرحل .. هذا غير ممكن ليس من دون ولده على كل حال ، إنها لن تدعه يفعل ذلك .
ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل؟
ومشت عائدة إلى منضدة الزينة حيث رأت في المرآة وجنتيها متوهجتين وعينيها لامعتين كمن به حمى . فأصلحت من مظهرها . عليها أن تسرع ، ليس لديها وقت تضيعه .
ذلك أن ستروم غالبريث قد صمم تماماً على ما يريد وكانت هي على استعداد لأن تفعل أي شيء في سبيل أن يغير من تصميمه ذاك .
كان كيلتي غلاماً رائعاًَ فهو موهوب ويشعر بالمسؤولية وذا شخصية متفردة وواثقة وهو قد أبتدأ يرتبط عاطفياً بستروم وتذكرت نيرن شيئاً سبق و قالته أمها لكيلا وآدم عندما ولدت لهما كاتريونا ، قالت : " إن الطفل لن يأخذ وقتاً طويلاً في الوصول إلى قلبكما . " وكيلتي لم يعد طفلاً ولكنه ما زال غلاماً ... ابن ستروم . كانت نيرن متأكدة من أنه إذا وجد الفرصة فلن يأخذ وصوله إلى قلب أبيه وقتاً طويلاً . إن عليه أن يفعل ذلك .
وان اعتمادها الآن على هذا .
هبطت نيرن الدرجات الأخيرة من السلم بسرعة عندما رأت كيلتي عند الباب الخارجي لتسأله : " هل أنت خارج؟ "
وأدركتها الدهشة والارتياح وهي تراه متردياً سترة وكانت سترة عسكرية ذات لون كاكي ، وربما كانت سترة قديمة لهوغ .. وكان لها ماض مجيد ولكنها سميكة دافئة أجابها قائلاً : " نعم فالساعة الثانية فقط ويمكنني ان الحق ببقية دروس بعد الظهر . "
فسألته : " وهل ستعود بعد ذلك إلى البيت مباشرة؟ "
أجاب : " نعم . "
وأشار برأسه إلى الطابق الأعلى حيث غرفة أبيه متابعاً بعينين كئيبين : " ولو أنه سيكون في ذلك الوقت قد رحل لقد سبق وودعني . "
فاقتربت منه تضع يدها على كتفه وهي تقول : " وأنت لا تريده أن يرحل أليس كذلك؟ "
ازدرد ريقه بصعوبة ثم أجاب قائلاً : " لا يمكنني منعه . "
وأشاح بوجهه ولكن ليس قبل أن ترى عينيه مغرورقتين بالدموع وتابع قائلاً : " لقد جعلني أقبل منه آلة التصوير هدية منه كما قال . "
تخيلت نيرن المشهد الذي جمعهما وغالبت دموعها وهي تقول : " سأحاول إثناءه عن عزمه . إنني أعلم أنه سيحبك إذا أمكنه فقط أن يفتح قلبه .... "
فقاطعها : " انه لن يحبني .... "
ومسح عينيه بكمه وهو يفتح الباب ليحدق بذهن شارد في الثلج الذي يغطي الأشجار أمام البيت ، ثم يتابع قائلاً : " انه لن يسمح لنفسه بذلك . انه مليء بالكراهية تماماً كما كنت أنا . "
فهتفت : " كيلتي . "
ولكنه كان قد اغلق الباب خلفه وذهب .
ولم يكن ثمة فائدة من الركض خلفه . إذ ما الذي بإمكانها قوله لتطمئنه؟ ولكنها ستحاول أن تؤخر ستروم عن السفر ، إنها لا تعرف كيف ولكنها ستحاول ولن تتأخر فهو لا بد يحزم أمتعته الآن .
واتجهت نحو السلم وقلبها يخفق وقد تبللت راحتاها بالعرق . عليها أن تثنيه عن السفر ......
قرعت الباب ففتحه لها وقبل أن يسألها عما تريد مرت بجانبه داخلة إلى الغرفة والتفتت إليه قائلة بابتسامة متألقة : " فكرت في أن أساعدك في حزم أمتعتك . "
ونظرت إلى حقيبته المقفلة وإلى الغرفة المنظمة والتي لولا أغطية الفراش المبعثرة لما بدا ان ستروم غالبريث قد سكنها أياماً وعندما يصبح في سيارته المرسيدس عائداً إلى المدينة لن يبقى أي شيء منه يشير إلى انه عاد إلى غلينكريغ . لا شيء سوى ألم القلب الذي سيخلفه وراءه .
قالت له : " يبدو عليك أنك مستعجل جداً لترك هذا المكان أليس كذلك؟ "
فبدا الجمود في عينيه وهو يقول : " ليس بالضبط ... "
فقاطعته بجرأة لم تعرف كيف واتتها : " بل الأمر كذلك وأقولها مرة أخرى .. انك مستعجل جداً لترك هذا المكان وأنا أعرف سبب ذلك . "
فقال ببرود رافعاً حاجبه : " أحقاً؟ ربما بإمكانك ان تطلعيني على السبب . "
فأجابت : " لا أظنني بحاجة إلى ذلك ولكن ما دمت مصراً على زعمك هذا فسأجاريك وأقول انك مستعجل على الرحيل لأنك .... خائف . "
فضحك برقة إنما بحذر وهو يسألها : " وهل لي أن أعرف ذلك الشيء الذي أخاف منه؟ "
فأجابت : " انك خائف من البقاء لكي ...... "
فضاقت عيناه وقال : " تابعي كلامك . "
فقالت بلطف : " انك خائف من البقاء لأنك تخاف من عواطفك .... ذلك أنك ابتدأت تشعر بالرغبة في ان تتعرف إلى ابنك لأنك ابتدأت تفكر في كيفية تغذية موهبته فأنت خائف من أن لا تستطيع نفيه من ذهنك إذا أنت لم ترحل على الفور ذلك لأنك تشعر بجدار الجليد بينك وبينه يذوب ، فالرعب يتملكك ... "
فقاطعها بصوت خشن : " هذا ليس صحيحاً يا نيرن فذلك لا يخيفني ولكنه يذكرني .. يذكرني بتقلب قلوب البشر . انه يذكرني بالألم الذي يولده الحب ثم انه يذكرني بما سبق وعاهدت نفسي عليه وهو أن لا أسمح للمشاعر بأن تتملكني مرة أخرى ."
فقالت بصوت ينضح بالألم : " ولكنك عدت للشعور مرة أخرى . "
ودون أن تعي ما تفعل ، اقتربت منه تمسك بيديه وهي تحدق فيه ثائرة : " انك عدت للشعور مرة أخرى ، لقد أدركت من الطريقة التي تنظر فيها إلى ابنك ، ان في أعماقك حنيناً ولهفة إليه تمزق نفسك .... "
قال بخشونة : " إذا كان بإمكانك أن تري كل هذا فلا بد أنكِ ترين الشوق الذي يتملكني من ناحيتك ، هذا الشوق الذي لم أعد أستطيع مقاومته . "
منذ دخول نيرن غرفته ، حاولت أن تتجاهل جاذبيته ، ذلك لأنها جاءت لأجل كيلتي ولكن عندما سمعت كلامه وجدت نفسها تنسى كيلتي وكل شيء ما عدا هذا الرجل الأسمر الجذاب الذي أدار رأسها .
وتمتم برقة : " يا لكِ من فاتنة ، فتاة جبلية حقيقية ، لقد أعجبت بك ولا أدري كيف سأتمكن من الهرب منك . "
فهمست : " وهل تريد أن تهرب؟ "
فتمتم : " أن ما أريده هو ....... "
لم تستطع أن تتجاهل ما قرأته في نظراته ... وبغريزة المرأة أدركت أنها مهما طلبت منه الآن فهو سيلبيها ولن يرفض لها طلباً .
فهمست : " هل ستبقى؟ إلى الغد فقط؟ وتمضي بعض الوقت مع كيلتي؟ "
فسألها : " هل تريدين مني ذلك؟ "
فأومأت برأسها : " نعم هذا ما أريده . "
ولم تكن متأكدة وهي تنطق بهذه الكلمات ما إذا كانت تتكلم عن كيلتي أم عن نفسها.
فقال : " إذن فسأبقى . "
فقالت : " هل هذا وعد؟ "
فأجاب : " نعم انه وعد . "
وأمسك بيدها ليؤكد وعده وانحدرت نظراتها إلى يديهما معاً ...... كانت تتأمل يد الرجل الخشنة السمراء إلى جانب يد المرأة العاجية التي كان يتناثر فوقها بقع نمش ... كانت تتأمل كل ذلك عندما التمع في أحد أصابعها شيء ما في نور الشمس المسترسل من النافذة .
انه خاتمها ، خاتم زواجها . الخاتم الذي وضعه روري في إصبعها بعد ان اقسما يمين الزواج .
وأغمضت عينيها وقد سرى في كيانها الألم والشعور بالذنب ...
لا فائدة ... ودب اليأس في نفسها وقد أدركت أنها لن تتمكن من متابعة هذه العلاقة التي ابتدأتها . ما زال الماضي قوياً في نفسها . إنها الأفكار ، ليس في إمكانها السيطرة على أفكارها ذلك إنها منذ لحظات ، كانت مع ستروم بمفردهما أما الآن فقد دخل بينهما شخص ثالث .
سحبت يدها من يده ثم وضعت ذراعها على عينيها بعد إذ شعرت بالدمع يتفجر منهما وهي تهمس قائلة : " آسفة أنني أشعر وكأنني ...... "
فقاطعها : " تشعرين وكأنك تخونين روري؟ "
وكان في صوته ملل عميق وكآبة وتفهم وشعرت بقلبها يصرخ ولكنها لم تستطع أن تغير مشاعرها .
وعادت تهمس بصوت مغلف بالألم ، والندم والعذاب : " أشعر وكأنه ... "
قال لها بصوت رقيق وكأنه يتكلم إلى طفلة : " لا بأس يا نيرن إنني افهم شعورك ... "
رفعت بصرها تنظر إليه وقد انحبست أنفاسها .
وقال يخاطبها برقة : " لو كنتِ امرأة أخرى لظننت انك استغللتِ حنانك ورقتك لكي تأخذي مني وعداً بالبقاء ولكن أنتِ ..... بتلك العينين البنفسجيتين الشفافتين البريئتين لا يمكن أن تعرفي الخداع . "
هل تراها حقاً استغلت حنانها ورقتها لكي تحمله على البقاء؟ وساورها الاضطراب من المؤكد أنها لم تكن تنوي خداعه أو التحايل عليه .. ولكن ربما كان هذا ما فعلت وفكرت بيأس .. من تراها حاولت أن تخدع ، ستروم أم نفسها؟ نعم لقد أرادته أن يبقى لكي تعطي كيلتي فرصة لاستمالته ولكنها إذا شاءت أن تكون صادقة تماماً فان عليها أن تعترف بأنها شعرت بهزة عنيفة في مشاعرها حين وعدها بالبقاء إن عليها أن تكون صادقه معه .
ولكن ما أن فتحت فاها لتتكلم شارحه له كل هذا حتى أسكتها قائلاً : " كلا ليس عليك أن توضحي ما بنفسك لي أنني فاهم . "
ونظرت إليه والحنين والشوق يتملكانها ... وأخيراً ، نهضت متجهة إلى الباب دون أن يحاول منعها .
وفكرت نيرن وهي تهبط السلم شاعرة بالتعاسة في مشاعرها المضطربة هذه .. إنها معجبة به ولكن شعورها بالذنب هو أقوى من إعجابها به.
هل سيتلاشى شعورها بالذنب هذا يوماً ما؟ وهل سيكون بإمكانها يوماً أن ترضى برجل آخر فتدخله حياتها دون أن يقف بينهما روري وذكرياته؟
وانحنت تربت على رأس الكلب شادو الذي هرول لاستقبالها وهي تهمس له : " لقد أصبحت الحياة مشوشة يا صديقي فهل تراها ستصفو مرة أخري عندما يرحل ذلك المقيم عندنا؟ "
وهز شادو ذيله بابتهاج وكأنه يرد عليها قائلاً نعم إنها ستصفو بالتأكيد عندما يرحل ستروم .
وتنهدت نيرن وتمنت لو كانت تصدق ولو جزءاً من هذا .
الفصل الحادي عشر
" ليلة سعيدة يا نيرن إنني ذاهب إلى الفراش . "
وما أن سمعت نيرن صوت كيلتي هذا الآتي من عند الباب خلفها حتى التفتت إليه من حيث تجلس أمام المدفأة في غرفة الجلوس وقالت تجيبه : " هل انتهيتما من تجهيز الغرفة المظلمة؟ "
فأجاب : " نعم وأشكر لك سماحك لي باستعمال ذلك المكان . "
فقالت : " ان تلك الغرفة الصغيرة الملاصقة للمطبخ خالية منذ سنوات .. ولكونها تحتوي على حوض للغسيل فهي ستناسب عملك تماماً . هل أنت مسرور بالمعدات التي اشتراها لك ستروم في انفرنيس؟ "
فأجاب : " ولماذا لا أكون مسروراً وكل شيء اشتراه لي هو من أجود الأنواع؟ "
وحاول كيلتي أن يضفي على كلامه صبغة مرحة ولكن نيرن شعرت بزيف محاولته تلك . ذلك انها ، عندما عاد من المدرسة وعلم أن والده ما زال في برواش ولم يغادر رأت لمعان السرور في عينيه ...
ولكن ذاك المعان سرعان ما أطفأه ستروم بقوله انه فقط أرجأ رحيله إلى اليوم التالي ذلك أن الشروع في الرحيل باكراً في الصباح كما قال سيكون أفضل من ناحية هدوء الطرقات وخلوها من زحمة السير ولكنه على كل حال أخبر كيلتي أنه سيأخذه إلى مدينة انفرنيس للتسوق ومن ثم ذهب الاثنان بعد ذلك بعشر دقائق وقد تناولا طعامهما في الخارج وعادا في الساعة التاسعة والنصف حيث شرعا في الحال في تجهيز الغرفة المظلمة لكي يخرج فيها كيلتي أفلامه ولم تشأ هي ان تقف معهما مفضلة تركهما وشأنهما وفي الساعة العاشرة ذهبت إلى المطبخ تصنع لنفسها كوباً من الشاي ووصل صوتهما إلى أذنيها أثناء اجتيازها باب غرفة الحديقة المفتوح وكان كيلتي يلقي الأسئلة بصوت حاد خشن النبرات وكأنه يريد به ان يخفي مشاعره بينما كان ستروم يجيب بصوته العميق الواثق بسهولة نابعة عن معرفته الكاملة بالتصوير الفوتوغرافي وكانت العلاقة بين الاثنين واضحة لا تخطئها الأذن زادتها هوايتهما المشتركة في التصوير وشعرت نيرن بالألم وهي تسمع إلى انسجام صوتيهما . الألم لأجل كيلتي الذي كان متلهفاً إلى منح حبه لأبيه ... والألم لأجل ستروم الذي كان يحاول جاهداً عدم تقبل ذلك .
وانتبهت من ذكرياتها هذه لترد على كيلتي : " نعم . معك حق إن ستروم لا يشتري سوى الأجود دوماً . "
ونهضت تسأله : " أين هو الآن؟ "
فأجاب : " أظنه ذهب إلى غرفته . "
وشعرت نيرن بفيض من خيبة الأمل . لقد أمضى طيلة الوقت مع كيلتي ... في ذهابهما إلى انفرنيس ثم أثناء انشغالهما في الغرفة المظلمة ... وأخذت تحدق في نار المدفأة وهي تفكر فيه وفي حنينها إليه .
وعاد كيلتي يقول : " إنني صاعد إلى غرفتي إذن . "
فحملت نيرن كوب الشاي الفارغ ومشت نحوه لتضع يدها على كتفه قائلة : " ليلة سعيدة . "
وبعد ذلك بلحظات ، فكرت وهي تغسل الصحون في المطبخ في ما عسى أن تبدو عليه الغرفة المظلمة ... ومن ثم قررت ان لا ضرر من إلقاء نظرة عليها .
كان الباب مغلقاً ولكن ما أن دفعته حتى شعرت بقلبها يكف عن الخفقان ذلك ان ستروم كان ما يزال هناك يقوم بتسوية بعض الأمور المتعلقة بأحكام إظلام الغرفة .
وأدار وجهه إليها وقد بدا التساؤل على ملامحه ثم قال بهدوء : " آه أهو أنتِ ظننتت ان كيلتي ربما نسي شيئاً . "
وحدقت نيرن فيه شاعرة وكأنها تغرق وتساءلت عما يجعل الأشياء تختفي من حولها كلما كانت معه في الغرفة ولا يبقى سوى تأثيره عليها وشعورها هذا بالدوار والوهن ...
قال أخيراً وهو ينفض يديه : " ها قد انتهى كل شيء واستقر الأمر لكيلتي الآن . "
فقالت تغير مجرى أفكارها : " اخبرني عن السبب الذي جعلك تتخلى عن هواية التصوير مادمت تملك تلك الموهبة؟ لقد سبق وغضبت عندما علمت أن كيلتي تخلى عن التصوير وأنا اذكر قولك حينذاك ، إذا كان لدى الإنسان موهبة ما فواجب ذلك الشخص ان ... "
فقاطعها : " أنني لم امتنع عن التصوير باختياري يا نيرن . "
فسألته : " وكيف؟ بإمكاني ان افهم سبب تخليك عن تسلق الجبال والذي هو إصابة ركبتك أما التصوير .... "
فقاطعها : " لقد اقترن عندي تسلق الجبال والتصوير معاً . في البداية ، كان تسلق الجبال وبعد ذلك أردت أن أسجل العلاقة بين الإنسان والجبال من خلال عدسة التصوير نعم معك حق لقد انتهت هواية تسلق الجبال عندي بإصابة ركبتي ولكن ذلك الانزلاق على الصخور الذي أصابني أثناء هبوطي لإنقاذ نيكولا أصبت أيضاً في رأسي ... ما سبب دماراً لعصب الرؤية في عيني اليمنى وأنا الآن لا أرى بها كلياً . "
وانتاب نيرن الذهول لما سمعت وقالت : " ولكن .... "
وسكتت وقد تلاشى من ذهنها ما تريد قوله .....
وضحك هو قائلاً : " ولكن العين تبدو بحالة حسنة تماماً . آه يا نيرن لا تكوني حساسة من قولك أشياء قد تسبب لي الألم ، فأنا لست حساساً أبداً من كوني أرى بعين واحدة فقط ، وان يكن التعود على فكرة انتهاء أيامي في التسلق والتصوير معاً ، أخذ مني وقتاً طويلاً في الواقع ولكنني كنت محظوظاً لبقائي حياً وعندما شفيت أخذت أتطلع حولي عن عمل أقوم به وكنت قد سبق وفكرت قبل أن يحدث لي ما حدث في ان أقوم ببناء أكواخ لمتسلقي الجبال ، وذلك بعد تقاعدي عن التسلق وهكذا عندما حدث ذلك التقاعد مبكراً ، عادت إلى ذهني تلك الفكرة وباشرت بها حالاً فاتفقت مع ممول ومن ثم قمت ببناء أكواخ قمم الجبال وكان النجاح باهراً ... ومنذ ذلك اليوم سرت في طريقي دون النظر إلى الوراء ."
فقالت بهدوء : " أليس غريباً أن يرث عنك ابنك ليس هواية تسلق الجبال وإنما موهبة التصوير الفوتوغرافي أيضاً؟ "
فأجاب بلهجة متوترة : " نعم هذا صحيح ان بإمكاني التأكد بأنه يوماً ما سيجعل من ذلك مهنة حسنة . "
فسألته قائلة : " ستروم .... هل علمت السبب في أنه أخذ محفظتك في أول صباح أمضيته هنا؟ "
فأجاب : " لقد اخبرني بذلك هذه الليلة . لقد أراد فقط أن يعرف هويتي الكاملة أراد ان يتأكد من أنني حقاً ستروم سومرليد غالبريث أبوه . "
وضحك بصوت أجوف متابعاً : " ويظهر أنه ورث أيضاً طبيعتي المتشككة . "
وأشاح بوجهه وكأنه يريد منها أن تعلم أنه لا يريد ان يتحدث عن ابنه أكثر من ذلك وتابع قائلاً : " إن القمر متألق تماماً هذه الليلة . وهذه فرصة حسنة للتأكد من أنه لا يوجد منافذ للضوء في ظلام الغرفة هذه . "
وقبل أن تدرك هي ما سيفعل ، كان قد مشى نحو الباب يغلقه بهدوء ثم يطفئ النور .
هذه العتمة المفاجئة جعلت نيرن تشعر بالدوار وبما يشبه الاختناق .... فتحسست طريقها نحو الباب ولكنها قبل أن تصل إليه وجدت نفسها تصطدم بالجدار .
وهتف ستروم : " آه ، حذار لقد كدت تتسببين الضرر لنفسك في سيرك هذا في الظلام . "
وجعلها الظلام الدامس هذا تشعر وكأنها انتقلت إلى عالم آخر عالم منفصل تماماً عن واقعها ، لا يوجد فيه سوى ستروم ولا صوت سوى صدى صوته في أذنيها .
وتنحنحت قائلة : " يبدو أنها ستكون غرفة حسنة . "
فأجاب : " آه نعم إنها رائعة لتظهير الأفلام ولن يحصل كيلتي على غرفة افضل منها . "
ثم مد يده إلى خلفها وأشعل النور .
فقالت بصوت متهافت : " إنني ذاهبة إلى غرفتي الآن . هل ما زالت ... مصمماً على الرحيل غداً صباحاً؟ "
فأجاب : " علي ان أرحل يا نيرن إن بقائي .... "
وأبدى بيده إشارة وكأنه يتوسل إليها ان تشعر معه ثم قال : " لقد أوضحت للغلام كل شيء وهو متفهم تماماً الآن . "
فقالت : " أنه بحاجة إليك يا ستروم . "
ورأته يجفل وكأنما صفعته ورأت كتفيه تهبطان وكأنما سلبت منه الحياة وهمست من خلال دموعها : " وأنا أيضاً بحاجة إليك . "
ولكنه استدار مبتعداً عنها . وأغمضت عينيها لحظة وكأنها بعدم رؤيته تنهي عذابه وعذابها . ثم عادت ففتحت عينيها وسألته : " في أي وقت ستشرع في المسير صباحاً؟ "
فأجاب : " أحب أن يكون ذلك في السادسة . "
فقالت : " سأراك في الصباح وسأجهز لك الفطور قبل رحيلك . "
ولم تنتظر جوابه كانت تعلم أن عليها أن تخرج من الغرفة وتغلق الباب خلفها قبل أن تنطلق من بين شفتيها تنهدات الأسى والحزن اللذين كانا يعتملان في أعماقها .
الفصل الثاني عشر
" هل رحل؟ "
فمسحت نيرن العرق عن جبينها بعد أن سمعت صوت كيلتي الذي كان واقفاً بباب المطبخ ، ثم استدارت تنظر إليه والتوى قلبها ألماً وهي ترى النظرة التي بدت في عينيه وقالت بهدوء : " نعم لقد رحل . "
فازدرد ريقه بصعوبة ثم أشاح بوجهه ومضى ينظر من النافذة ثم قال : " كنت آمل أن .... "
واختنق صوته بالانفعال فلم يستطع متابعة الكلام .
فقالت وهي تتقدم لتقف بجانبه : " نعم ... نعم وأنا أيضاً كنت آمل ذلك . "
فقال : " انكِ ... معجبة به أليس كذلك؟ "
فأجابت : " وأكثر من ذلك يا كيلتي أكثر من ذلك بكثير وقد أردت منه أن يبقى من أجلي أنا أيضاً ولكن هازيل سببت له الكثير من الأذى فلا تكرهه أنت . "
فأدار رأسه إليها . وكانت وجنتاه مبللتين بالدموع ، وهو يقول : " إنني لا أكرهه يا نيرن أما ما لا أستطيع أن أفهمه فهو كيف أمكن لأمي أن تؤذيه بهذا الشكل؟ فهذا ليس من طبيعتها . "
فهمست : " كلا ، ليست هذه طبيعة هازيل ولكننا لن نعرف قط ماذا كان يجول في ذهنها .. أو في قلبها ... في ذلك الوقت . "
ووقفا معاً لحظة طويلة صامتين ، وقد ربط بينهما الأسى وأخيراً تنهدت نيرن واستدارت لتبتعد عندما وقعت نظراتها على مغلف مقفل موضوع على عتبة النافذة فتقدمت تتناوله وهي تقول : " آه لقد كدت أنسى إنها رسالة تركها لك ستروم ... "
فتناولها وقد بدا الاضطراب على ملامحه وهو يسألها : " رسالة لي؟ وماذا في داخلها؟ "
فقالت : " لا أدري ... لماذا لا تذهب إلى غرفة الجلوس وتفتحها وسأبقى هنا اغسل الأرض وإذا أردت مني شيئاً فاصرخ لي . "
كان كل ما تعرفه أنه لم يكن بداخل المغلف نقود لأن ستروم كان أخبرها أنه فتح في البنك في غلينكريغ حساب توفير باسم كيلتي وأن على كيلتي أن يذهب إلى هناك بأقرب وقت ليوقع على الأوراق اللازمة كما أنه أعطى نيرن عنوانه في لندن وأخبرها ان عليها ان تبدأ الإجراءات اللازمة لحضانة كيلتي ، وسيقدم إليها ما تطلبه من عون ولم تشأ أن تتذكر النظرة التي كانت في عينيه ، باردة نائية مقفلة وكأنه كان يبعد عنه ، ليس هي فقط وإنما الحياة نفسها ولم تستطع الاحتمال .
" نيرن! "
واستدارت بعنف وهي تسمع ن
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
مشكور علي الطرح
جلنار- مستشار
-
عدد المشاركات : 19334
العمر : 35
رقم العضوية : 349
قوة التقييم : 28
تاريخ التسجيل : 19/07/2009
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
شكرا للمتابعة
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
مشــــاركه خبـــرهـا مــو هنـــا بلكــل.:.بــــــــــــــــــــــارك الله فيك...
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
شكراً للمروركم الرائع نورت الموضوع
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
لك الشكراخى الكريم على هذا الجهد
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
شكرا للمرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
amol- مستشار
-
عدد المشاركات : 36762
العمر : 43
رقم العضوية : 2742
قوة التقييم : 9
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
شكرا للمرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
مواضيع مماثلة
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 1
» سامحني فانا الآن احبك احبك
» دعني اثق بك..
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 1
» سامحني فانا الآن احبك احبك
» دعني اثق بك..
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
اليوم في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
اليوم في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
اليوم في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
أمس في 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR