إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
الفصل الخامس
إذا كانت نيرن قد ظنت أن هجومها المباشر هذا على ستروم سيسبب له الارتباك فهي إذن مخطئة وربما كانت توقعت منه أن ينسحب أو أن يرد مهاجماً ... ولكنه لم يقم بأي من هذين الأمرين ، لقد ضحك عليها وكانت ضحكة مشوبة بالسخرية ولكنها كانت ضحكة على كل حال ، كما كان في عينيه الزرقاوين شيء من الهزل .
وقال : " آه ، إن لي احتياجاتي أنا أيضاً يا نيرن تماماً كأي رجل آخر إنها الاحتياجات الأساسية في الحياة ... الجوع ، العطش والمحافظة على الذات ..."
فقاطعته : " وأنا متأكدة أيضاً من أنك بحاجة إلى الانتماء وإلى الحب ولو أنه يبدو أنك تنكر هذه الحاجات بالذات ."
واتجهت نحو المطبخ وفتحت البراد حيث وضعت عدة أنواع من العصير ، اختارت واحداً منها وأحضرت كوبين . مشى نحوها ثم أخذ كوباً وعاد إلى قرب النار في الصالة حيث وضعه على رف المدفأة ثم اتكأ على الجدار بجانبه وهو يقول : " هكذا إذن . الانتماء والحب . فلنتحدث عن الانتماء إلى مكان معين أم الانتماء إلى شخص؟ "
أغلقت نيرن باب البراد وتبعته إلى الصالة ثم أجابته قائلة : " أظن الاثنين معاً . عندما أقول ، أنا أنتمي إلى غلينكريغ فأنا أعي أنني أعيش هنا وأنني دوماً عشت هنا ، فأنا إذن جزء من المكان وهو جزء مني . "
وعادت إلى الأريكة حيث غاصت على الوسادة في وسطها وهي ترفع بصرها إلى ستروم متابعة قولها : " وأنت .... هل أنت تنتمي إلى لندن بنفس هذه الطريقة؟ "
فهز كتفيه بعدم اهتمام وهو يقول : " كلا ، أنا لا انتمي إلى لندن بالشكل الذي ذكرته فقد ولدت في مانشستر وقد سافرت إلى جميع أنحاء العالم وأنا أعيش في لندن لأن مكتبي في لندن .... ولكن موطني بالنسبة إلي هو المكان الذي أعيش فيه حالياً ."
فقالت : " ولكن هذا ليس موطناً أنك ستمكث هنا عدة أيام فهو إذن ليس موطنك فكيف تقول انه كذلك. "
أجاب : " إن ما أريد قوله هو أن ليس لي موطناً ، فأنا لا أنتمي إلى أي مكان وهذا لا يشكل ( حاجة ) بالنسبة إلي . "
فقالت : " ولكن مكانك في لندن ...."
فقال : " انه الأساس انه المكان الذي أعلق عليه قبعتي ."
فقالت : " حدثتني عنه . "
فقال : " ماذا تريدين أن تعرفي؟ انه شقة مائلة السقف تشرف على المدينة ... تحتوي على ثلاث غرف نوم وغرفة جلوس وغرفة طعام ومطبخ إلكتروني يبدو وكأنه سفينة فضاء وهناك أيضاً حمامان وغرفة مظلمة لتحضير الأفلام . "
فقالت : " غرفة مظلمة؟ هل أنت مغرم بالتصوير الفوتوغرافي؟ "
أجاب : " فلنقل انه كان أفضل هواياتي . "
سألته : " وهل كنت ناجحاً فيه؟ "
فأجاب : " كنت ناجحاً إلى حد أنني أستطيع أن أصنع منه مهنة . "
فقالت : " آه إن هذا ممتع جداً إنني اعجب كثيراً بالأشخاص الذين يملكون موهبة النظر خلال عدسة التصوير ويرون أكثر مما يستطيع الشخص العادي أن يرى. "
وتابعت وهي تضحك بأسى : " إن مهارتي في التصوير لا تعدو أن تكون جيدة على أن لا تقطع أرجل الأشخاص في الصورة وفي اكثر الأوقات ..."
فقاطعها قائلاً : " إنني متأكد من أن لكِ مواهب أخرى ."
فابتسمت له قائلة : " كلا ليس لدي شيء من ذلك إنني امرأة عادية تماماً مع أن أسرتي موهوبة جداً فأمي كيت هي رسامة وأبي ماك مخترع وأختي كيلا التي قابلتها أنت ، أليست هي جميلة؟ لقد ورثت موهبة والدتنا الفنية وهي التي رسمت تلك الألوان المائية المعلقة على جدران غرفتك هل لاحظتها؟ "
فأجاب بذهن شارد : " نعم وهي حسنة جداً . "
بدا وكأن أفكاره تهيم في مجال آخر وما لبث أن قال : " عادية . " وهز رأسه وهو يرمقها بنظرة غريبة ، ثم تابع قائلاً : " ما الذي يجعلك تعتبرين نفسك عادية؟ إنني لم أر امرأة مثلك قط . "
فنظرت إليه بعينين ضاحكتين وهي تقول : " آه إنني لا أتحدث عن المظهر إنني اعرف أن مظهري غير عادي . "
و أمسكت بخصلة كثيفة من شعرها اللامع الكث الذي ينسدل على كتفيها وهي تقول : " كيف يمكن أن يوصف شخص له شعر بهذا اللون المفزع ، انه عادي؟ إياك أن تخبرني أن من المستطاع تميزي به بين الجموع فهذا شيء اعرفه منذ ابتدأت انظر إلى نفسي في المرآة . من حسن حظي أن أحداً لم يطلق علي لقباً بهذا الشأن لقد أمضيت سنوات المدرسة يتملكني رعب من أن يخطر لشخص ما أن يطلق علي لقباً ساخراً يلتصق بي على الدوام مثل الحمراء أو الجزرة . "
فقال : " إنني لا أستطيع تصديق ذلك . " وترك مكانه متقدماً نحوها قائلاً : " انهضي أريد أن أريك شيئاً . "
فترددت نيرن وهي تحدق في أصابعه ثم تسأله : " ماذا؟ "
فقال بلهجة آمرة : " انهضي . "
ولسبب لم تفهمه ، لم تستطع عصيانه .
فوقفت وهي تهتز قليلاً شاعرة بالوهن ولكنه شدد من لهجته وهو يقول : " تعالي هنا ."
سألته بضعف : " إلى أين؟ ." ولكنه لم يجب بل قادها بثبات إلى المرآة وعندما رأت انعكاس صورته في المرآة أدركت قصده وهو يقف خلفها يدير كتفيها بيديه القويتين لتواجه المرآة مباشرة وهو يقول : " انظري إلى هذا الشعر . تقولين انه مفزع! هل أنتِ عمياء يا امرأة؟ هل عندك عمى الألوان؟ إن نساء لندن يدفعن الغالي والنفيس لكي يجدن مزيناً يمكنه أن يصبغ شعرهن بلون شعرك هذا ....."
فقاطعته بحدة : " ولكن لون شعري ليس صناعياً . "
فهي ربما لم تكن تحب لون شعرها ولكنه لون شعرها على كل حال .
فقال يعاتبها برقة : " انه ليس صناعياً طبعاً ، انكِ غبية حقاً إذ تعترفين بأن مظهرك غير عادي ولكنك لا تتصورين إلى أي مدى هو غير عادي أليس كذلك؟ "
وهز كتفيها قليلاً وهو يتابع قائلاً : " هل لكِ أن تنظري إلى نفسك ثم تخبريني ماذا ترين؟ "
وما الذي رأته هي؟ لقد رأت امرأة لم تكن تعرفها فمنذ وقت طويل لم تر عينيها بهذا التألق و وجنتيها الشاحبتين بهذا التوهج.
تنفست بعمق وهي تقول : " ماذا أرى؟ إنني أرى امرأة تكبر في السن يوماً بعد يوم امرأة ذات شعر أحمر وبشرة شاحبة وعينين زرقاوين . "
وحركت كتفيها محاولة تخليصها من قبضتيه ففعل .
وتمتم قائلاً : " هذا غريب . يبدو أننا نحن الاثنين نرى امرأتين مختلفتين في وقت واحد فأنا أرى امرأة ذات وجه بيضاوي مكتمل وبشرة كالقشدة وأنفاً حلواً تنتشر عليه ... دعيني أعدها ... خمس نمشات بالضبط ، وعينين بنعومة المخمل ولون البنفسج وشعراً يبدو وكأنه ليرات ذهبية تتساقط في شلال من أشعة الشمس ، شعراً له عبير الأزهار البرية التي تتمايل مع نسائم الصيف . "
وحاولت نيرن أن تبتعد عنه ولكنها لم تجد لها طاقة على ذلك .
وتمتمت بضعف : " من كان يظن أن خلف هاتين العينين الساخرتين يكمن شاعر؟ أنك الآن ستجد صعوبة كبرى في إقناعي بأنك رجل قد من الصخر ...."
هل من الممكن أنه إنما كان ينومها مغناطيسياً حين كان يشيد بما يدعوه جمالها الرائع؟ أتراه سرق عقلها وأسر قلبها بهذه السهولة؟
وفجأة شعرت بما يشبه طعنة السكين في فؤادها كان شعوراً بالذنب مزقها تمزيقاً ما الذي حدث لها؟
وتحولت مبتعدة عنه لتستدير حول منضدة القهوة وكأنها تحتمي بها منه ليصبح ظهرها إلى نار المدفأة حيث لفحتها الحرارة ، بينما كانت عاقدة ذراعيها فوق صدرها وقد انحدرت نظراتها إلى الأرض .
كانت تنتظر منه أن يقول شيئاً يبدد الصمت ...... ولكن عندما لم يتكلم رفعت بصرها تنظر إليه .
وذهلت عندما رأته جالساً على كرسيه واضعاً ساقاً على أخرى بكل راحة وقد بدا عليه من الهدوء والبرود .
وعاودها الشعور بالذنب ما جعلها تشعر وكأن قلبها قد أصبح كتلة من رصاص داخل صدرها كل هذا بسبب هذا الرجل وأحست من الطريقة التي كان ينظر بها إليها رافعاً حاجبه بأنه يتوقع أن تكون هي البادئة بالحديث .
وتنحنحت قائلة : " حسناً ..."
كان صوتها منخفضاً وتنحنحت مرة أخرى بصوت أقوى هذه المرة قبل أن تقول بصوت أعلى قليلاً من الهمس : " حسناً لقد كان هذا شيئاً غير متوقع . "
فارتفع حاجب ستروم الثاني وهو يقهقه ضاحكاً ويقول : " غير متوقع؟ آه يا نيرن من تراك تحاولين استغفاله؟ نفسك؟ قد يكون هناك أشياء كثيرة لكن ليس بينها كلمة غير متوقع هذه . "
فقالت رافعة ذقنها بعناد : " حسناً أنا أقول انه كان كذلك . "
فعاد يضحك وكأنه وجد في إنكارها هذا تسلية بالغة وهو يقول : " يمكنك أن تقولي ما تشائين ولكن هذا لا يعني أن الأمر كما تقولين حقاً انكِ تعرفين كما أعرف أنا ، أن الوصول إلى بعضنا البعض هو مجرد وقت . "
وكانت تعرف في أعماقها بأن ما يقوله صحيح ، إنها لم تسمح قط لنفسها بأن تفكر في هذا فقد أثار فزعها ......
وشعرت للمرة الثالثة بالشعور بالذنب يجتاحها وكان من القوة بحيث جعلها تقابل صراحة ستروم بصراحة منها هي أيضاً فتقول : " انك في غاية الوقاحة . "
وردت شعرها إلى الخلف ولكنه كان يرتد لكثافته تحت راحتيها فتمتمت بضيق ومن ثم أخذت تعبث بعصبية ، بخاتم زواجها الذهبي .
هز رأسه قائلاً : " كلا لا أظن ذلك مع أنني اعترف بأنني أخطأت في أمر واحد.."
فسألته ببرود : " أحقاً؟ وما هو هذا الأمر؟ "
فأجاب : " في أول ليلة لي هنا عندما صعدت إلى غرفتي . "
فعادت نيرن ترد شعرها إلى الخلف قائلة : " لقد اتهمتني عند ذاك بأنني كنت أحاول التحرش بك وهذا لم يكن صحيحاً . "
فقال وقد بدت في عينيه هزل : " كلا لم تكوني تريدين ذلك ليس في ذلك الحين .."
وشعرت بأنفاسها تتوقف . ما الذي كان يحدث لها؟ وجاهدت لكي تهدئ من الذعر الذي كان يسرع بضربات قلبها . عليها أن تضع حداً لتصرفات هذا الرجل معها عليها أن تضع حداً لتصرفاته الآن ، في هذه اللحظة وقالت : " إنني لست كما تعتقد ... إنني لا أنكر أن هناك .... شيئاً معيناً بيني وبينك ...."
فقاطعها قائلاً : " وهو أنكِ ترينني جذاباً ، بقدر ما أراك . واجهي هذا يا نيرن ..."
ولم تكن هي قد اعتادت مثل هذا الكلام المكشوف ... ولكنها لم تشأ أن تدعه يعلم بذلك ... وبأن كلامه هذا قد سبب لها الضيق ....
فقالت : " نعم أظن ذلك . لا بد أنه ..... ماذا قلت ."
فسألها قائلاً : " هل أنتِ خائفة مني؟ ."
فضغطت شفتيها وهي تنظر إليه ، كان مستنداً إلى الخلف على الوسادة ، مشبكاً يديه خلف رأسه ما بدا معه وكأنه يشعر أنه في بيته تماماً وليس في بيتها هي وأن الأوضاع كلها في يده وجعلها هذا لسبب ما تشعر بالغضب فردت عليه بحدة : " إنني لست خائفة منك . أما هذا الحديث الذي يدور بيننا فقد أصبح غاية في السخافة وإذا أردت الحقيقة فأنا أشعر بالخجل من هذا الكلام . "
فقاطعها : " انكِ لم تقولي ما تخجلين منه! ."
كانت تعلم أن غضبها هذا ليس منه وإنما من نفسها وأجابته قائلة : " إنني أنا التي تقرر ذلك . إن علي أن أعيش في هذه الحياة بمفردي وإذا حدث بيننا شيء فهذا يعتبر بالنسبة لي خيانة! .."
فحدق فيها لحظة طويلة ثم قال بهدوء دون أن يبدو في صوته أثر للسخرية : " وكيف تكون الخيانة لرجل ميت؟ "
فأجفلت لصراحته هذه ولكنها أجابت وهي تغالب الغصة التي شعرت بها في حلقها : " إن روري ما زال حياً ...... وهو سيبقى كذلك في قلبي على الدوام . "
في البداية لم يظهر أي تجاوب نحو ما قالت وبدا أن السكون الذي لفه أوجد لديها سكوناً نفسياً مماثلاً فشعرت بالهدوء والثبات .
وأخيراً قال : " آه القلب . "
وتنفس بعمق ثم ابتسم كانت ابتسامة بطيئة كسولة ارتسمت على شفتيه دون أن تصل إلى عينيه ... عينيه اللتين كانتا تحدقان في عينيها بسخرية وهو يقول : " لقد ابتدأنا بالحديث عن الانتماء والحاجة .. ولكنك تنهينه بالحديث عن الحب . إن هذه عادة النساء ، أليس كذلك؟ "
كان في صوته من السخرية ما ذكر نيرن باجتماعهما الأول في المقبرة عندما رأت في عينيه الفراغ والكآبة ، فأرادت أن تتقدم لترفه عنه و ها هي ذي الآن يتملكها نفس الشعور نحوه فأجابته قائلة : " إن هذا يدفع الكون إلى الاستمرار . "
ما أسخف جوابها هذا ، هل هذا كل ما أمكنها قوله؟ إن أمامها رجلاً يتألم ... رجلاً يبدو أنه قد عانى طويلاً ولكن كل ما استطاعت قوله له هو ( إن هذا يدفع الكون إلى الاستمرار .....)
أجابها : " آه كلا يا عزيزتي نيرن في هذا أنتِ مخطئة ليس الحب الذي يدفع الكون إلى الاستمرار وإنما العلاقة والمعاملة التي تقوم بين الناس حتى لو لم يعد الإنسان يشعر بالحب فان الكون سيستمر سائراً في طريقه ...."
فقاطعته قائلة : " من الواضح تماماً أن ليس في نفسك ذرة من الشاعرية . "
فقهقه ستروم ضاحكاً وهو يقول : " شاعرية؟ هل تريدين شاعرية؟ صدقيني انه حتى من دون هذه المقومات ، النتيجة هي واحدة ، توالد الأجناس سيبقى مضموناً وستضل الأرض تدور ...."
فسألته بهدوء : " هل هذا هو عالمك يا ستروم؟ هل هذا هو نوع العالم الذي تريد أن تعيش فيه؟ عالم من دون عهود ولا التزامات ....."
سألها : " هل تؤمنين بالحرية يا نيرن؟ "
فأجابت : " طبعاً أؤمن بالحرية ولكن ...."
فقال : " عندما تتحدثين عن الالتزام فان ما تتحدثين عنه هو تقيد للحرية في الواقع ألا يمكن لأثنين أن يستمتعا معاً دون الحاجة إلى نوع من التعهدات؟ "
وبينما كانت تقف تحدق فيه ، شاعرة بالدوار سمعت الكلب شادو ينبح . كانت تعلم أنه كان غافياً في مكانه الدافئ تحت الموقد ولكنها لاحظت في نباحه القصير ذاك حاجته إلى الخروج .
وبحركة مفاجئة ، وقالت وهي تتراجع إلى الخلف : " أرجو المعذرة فان علي أن أخرج الكلب لأتمشى معه قليلاً قبل أن آوي إلى فراشي . "
ودون أن تلقي عليه نظرة تحولت متجهة إلى الباب رافعة الرأس بشموخ .
كان عليها أن تهرب منه ، لكي تتخلص من هذه المشاعر المضطربة التي تعتريها المشاعر التي كانت تدفعها في اتجاهات لا ترضاها وسمعته يقول لها : " إذن فأنا أتمنى لك ليلة سعيدة يا سيدة كامبل ...."
وعندما استدارت مجفلة رأته وراءها مباشرة وكان قريباً منها إلى حد استطاعت معه أن ترى الخطوط التي كانت تحيط بفمه الساخر وأجابت متوترة : " ليلة سعيدة ." ومن ثم فتحت الباب ، شاعرة بالسرور لابتعادها عنه . ولم يتبعها هو ولكنها ما أن اجتازت الصالة بخطوات نافرة متعجرفة حتى سمعته يقول من حيث كان واقفاً عند الباب ، سمعته يقول كلمة واحدة ولكنها كلمة نفذت مباشرة إلى أعماق قلبها .
تلك الكلمة كانت ( جبانة )
الفصل السادس
وعادت نيرن تهبط جالسة على مقعدها في سيارتها الفان لحظة طويلة دون أن تهتم بدفء أشعة الشمس وهي تحاول التفكير في وضعها هذا ثم سحبت المفتاح من المحرك وهي تتأوه بخيبة أمل ، لتعيده إلى جيبها ثم جذبت الباب بعنف تفتحه وكانت قد قفزت لتوها إلى الأرض المغطاة بالحصى مغلقة باب السيارة بعنف لا ضرورة له إذ لم ينفع في تهدئة انفعالها ، عندما رأت ستروم غالبريث يخرج من المنزل بقامته الفارعة وسترته الجلدية السوداء وبنطلونه القاتم .
قال يخاطبها وهو يعيد بيده إلى الخلف شعره الأسود الذي كان يتلاعب به النسيم : " ظننتك خارجة بسيارتك هل غيرت رأيك؟ أم أنكِ نسيتِ شيئاً في المنزل؟ "
فأجابت وقد تجهم وجهها : " بالضبط لقد نسيت أن أملاً الخزان بالوقود ولا أدري كيف حدث هذا الإهمال مني . كما أن محطة البنزين لن تفتح قبل نصف ساعة ."
فقال : " لا بأس سأوصلك أنا إلى المكان الذي تبغين. "
ترددت وهي تنظر إليه مفكرة وقد ظللت عينيها بيدها تحميها من أشعة الشمس لقد شعرت بالسرور حين جاءها الدكتور كوغيل بمفتاح منزل آني يسألها إن كان بإمكانها أن تحزم بعض حاجات آني وتأخذها لها إلى دار المسنين ذلك أن هذا منحها فرصة رائعة لكي تتجنب البقاء في المنزل بصحبة ستروم . أما الآن فعليها إما أن تضيع نصف ساعة من وقتها في هذا الصباح الذي يتراكم فيه شغلها أو أن تجلس بجانبه عدة دقائق فقط في السيارة .....
وأخيراً قالت : " أشكرك لعرضك هذا . " ومشت إلى سيارتها تفتحها من الخلف .
فسألها قائلاً : " إلى أين نحن ذاهبان؟ إلى انفرنيس؟ أم إلى الجين؟ أم ترانا ذاهبين إلى سكاي؟ إنني لم أذهب مطلقاً إلى سكاي . "
فقهقهت نيرن ضاحكة بالرغم منها وهي تجيبه قائلة : " كلا إننا لسنا ذاهبين إلى سكاي وإنما إلى شارع ساوث ستريت الذي لا يبعد عنا أكثر من نصف ميل والسبب الوحيد الذي يجعلني أقبل بمرافقتك لي ، هو أنني أريد أخذ هذه إلى منزل آني ."
وأشارت إلى كومة من صناديق الكرتون الفارغة . فساعدها في نقل الصناديق إلى صندوق سيارته المرسيدس ، قبل أن يشير إليها بالصعود إلى سيارته الفارهة ولم ينطق بشيء إلا بعد أن تحركت بهما السيارة فقال يسألها : " هل تحزمين أمتعة عمة كيلتي؟ "
فأجابت : " نعم ويظهر أنها قلقة على أشيائها ، فقد سألني الدكتور كوغيل إذا كان بإمكاني أخذ ملابسها وأشيائها الخاصة إلى الدار لتجدها في انتظارها عندما تنقلها سيارة الإسعاف من المستشفى إلى هناك آخر هذا الأسبوع . "
وبينما كانت نيرن تتحدث ، نفذت إلى خياشيمها الرائحة العطرية الرجالية التي كانت اشتمتها ليلة وصول ستروم إلى منزلها وكانت ظنت ذلك الحين أن هذه الرائحة الغالية هي رائحة ماء الكولونيا ولكنها أدركت الآن أنها ليست كذلك و إنما هي محلول بعد الحلاقة فقد كانت في ذلك الصباح تنظف حمام غرفته أثناء تناوله الفطور عندما لاحظت الزجاجة الثمينة ببطاقتها السوداء والبيضاء ورأت نفسها ترفعها إلى انفها وأغمضت عينيها حينذاك وقد أعادت هذه الرائحة إلى ذهنها صورة الرجل الأنيق في هذه الغرفة الصغيرة وأعادت الزجاجة إلى مكانها بسرعة ولكنها لمحت وجهها في المرآة وهي تغادر الغرفة لترى شعور الذنب في عينيها واللون الذي صعد إلى وجنتيها ....
وأجفلت وهي تسمع الرجل الذي تفكر فيه يحدثها ، فقالت : " عفواً . "
فقال هازلاً : " إنني فقط أسألك عن الطريق ، فأنا لست قارئ أفكار . "
" من حسن حظي! "
فقال لها ضاحكاً : " ولماذا هذا التمني؟ هل كنتِ تفكرين في شيء لا تريدينني أن أعرفه ؟ "
قالت : " عليك أن تتحول من هنا ، نعم ، إلى اليمين ثم إلى شارع ساوث ستريت هنا تسكن العمة آني . ذلك المنزل الصغير ذو الباب البني اللامع بجانب عمود النور . "
و أمسكت بحقيبة يدها وما أن أوقف السيارة حتى أمسكت بمقبض الباب قائلة : " شكراً . "
لتسرع بعد ذلك نازلة إلى الرصيف وقبل أن تغلق الباب تابعت تقول : " إنني شاكرة لك حقاُ إحضاري إلى هنا وإذا كنت تريد العودة إلى المنزل لتناول الغداء سأراك هناك حوالي الساعة الواحدة ."
وما أن أغلقت الباب واستدارت لتبتعد حتى قال لها : " ألم تنسي شيء؟ "
وكان قد نزل بدوره واتجه إلى صندوق السيارة . فقد نسيت الصناديق الكرتونية وذلك في إسراعها للابتعاد عنه ولكن يبدو أن هذا لن يكون ممكناً وانتظرت حتى أخرج الصناديق ووضعها على الرصيف .
فقالت : " أشكرك مرة أخرى ، إن بإمكاني تدبيرها الآن . "
ولكنها عندما استدارت نحو باب البيت تفتحه لاحظت أن ستروم لم يذهب فقد كان واقفاً خلفهاً مباشرة .
ورفعت رأسها تنظر إليه عندما أمسك بمعصمها بأصابعه الباردة الحازمة وهو يقول : " كلا ، أنكِ لن تفعلي هذا . "
فسألته : " أفعل ماذا؟ "
فأجاب : " لن تبتعدي هكذا بسهولة ، إن الفضول يضغط علي لكي أعرف لماذا قلتِ من حسن حظي. "
وخاطبت نيرن نفسها آه انه ملحاح يا له من مأزق .
وقالت تجيبه : " قلت من حسن حظي لأنك قلت انك لست قارئ أفكار لأنني في تلك اللحظة كنت أفكر فيك هل رضيت الآن؟ . "
فأجاب : " آه يا سيدة كامبل إنني أحتاج إلى أكثر بكثير من مجرد كلمات لكي أرضى . "
وارتسمت على فمه ابتسامة عريضة جذابة تورد لرؤيتها وجه نيرن وهو يتابع قائلاً : " ولكنني أريدك أن تخبريني ما الذي كنتِ تفكرين فيه بشأني؟ "
فقالت كاذبة بلباقة : " إذا كنت تريد حقاً أن تعرف ، فقد كنت أتساءل من أين اشتريت محلول بعد الحلاقة الغالي الثمن هذا الذي تضعه. "
فعاد يبتسم لها ببطء : " آه ، محلول بعد الحلاقة إن اسمه ابن المدينة ولكنني لم اشتره انه هدية من شخص ما . "
وعرفت أن هذا الشخص ما هو إلا امرأة ما . لقد تضمنت لهجته هذه الحقيقة وشعرت بالحيرة والغضب من ردة الفعل عندها لما قاله ، إذ شعرت بقلبها يهبط بسرعة وهي تتصور امرأة شقراء ناعسة العينين تبتسم له وهي تقدم إليه هذه الهدية .
كان ستروم يراقبها بعينين يلمع فيهما الهزل . لقد قال لها انه ليس قارئ أفكار ولكنها الآن تتساءل عما إذا كان فعلاً كذلك .... يا للسخافة .
ولكنها قالت بمرح : " حسناً ، ألست رجلاً محظوظاً؟ والآن هل لك أن تترك يدي؟ إن ورائي أعمالاً كثيرة . "
ذلك أنها لاحظت لتوها أنه ما زال ممسكاً بمعصمها.
" صباح الخير يا نيرن "
نادها شخص ما من الرصيف المقابل ، فالتفتت فجأة بسرعة إذا كان الصوت مألوفاً لديها وعندما رأت شخصية المنادي صدرت عنها آهة خافتة . ذلك أنها لم تشأ لهذه المرأة من بين كل الناس أن تراها في هذا الوضع ، ( فاني وبستر) هذه موظفة البريد المتقاعدة ، إن بإمكانها هي نيرن أن ترى الفضول يتألق في عيني تلك المرأة رغم بعد المسافة و زجاج نظارتيها السميكتين .
فأرغمت نيرن نفسها على الابتسام وهي تحاول تخليص معصمها من يد ستروم دون نجاح بينما كانت ترد قائلة : " صباح الخير يا فاني ."
والآن سينتشر كل ما يحدث بينها هذه اللحظة وبين ستروم في كل أنحاء قرية غلينكريغ قبل أن ينتهي هذا النهار وهو أنها كانت واقفة في ساوث ستريت قبل الساعة التاسعة صباحاً مع رجل غريب متماسكي الأيدي ....
وقال لها : " هل أنتِ مضطربة لهذا يا نيرن؟ "
وكان جلياً من ابتسامته العريضة انه مستمتع جداً بارتباكها هذا . فرفعت بصرها إليه وقد توترت ملامحها وردت عليه بحدة : " كلا طبعاً وما الذي يجعلني أضطرب؟ "
فأجاب : " لأنها ستتحدث عنك أليس كذلك؟ "
فأجابت : " إنها ثرثارة كثيرة الكلام وإذا كنت تعيش في قرية صغيرة مثل غلينكريغ فان كل إنسان سيعرف عملك قبل أن تعرفه أنت تقريباً . "
فنظر بطرف عينه إلى تلك المرأة على الرصيف المقابل وهو يقول : " ها هي ذي قد وقفت ، إنها تتظاهر بالتفرج على واجهة المقهى ذاك ولكنها تراقبنا نحن بطبيعة الحال إنها تنظر إلى انعكاس صورتنا في زجاج الواجهة . أظن أنها تشعر بخيبة الأمل لأننا لا نفعل شيئاً سوى الإمساك بأيدي بعضنا البعض . "
فقالت : " إننا لا نمسك أيدي بعضنا البعض وإنما أنت الذي تحتجز معصمي بيديك ."
وتنفست الصعداء حين قاطعها قائلاً : " أريد أن اعترف لكِ بشيء وهو أنني لم ألمسك لكي أعطي فاني موضوعاً تتحدث عنه وإنما لأنني لم استطع مقاومة جمالك ."
تساءلت نيرن عن السبب الذي يجعله يردد على الدوام أنها جميلة ولماذا لا يجعل الأمور اقل تعقيداً وذلك بأن يقول الحقيقة وهو أنه إنما يشعر بالإعجاب نحوها ولا شيء آخر .
تأوهت بخيبة أمل وهي تفلت من ستروم ، محاولة أن تبدو بشكل طبيعي وهي تقول : " يجب أن أذهب الآن . "
ولكنها شهقت مستنكرة عندما تبعها إلى الداخل ، ثم أغلق الباب خلفهما وهو يقول : " سأساعدكِ ."
فقالت : " كلا . "
من أين أتاها هذا الرجل؟ وعادت تكرر للمرة الثانية والثالثة : " كلا ، كلا أشكرك أنا أعرف العمة آني لو ، واعلم أنها ستستاء جداً إذا علمت أن شخصاً غريباً خاصة إذا كان رجلاً قد عبث بخصوصياتها . "
وعندما أضاء الصالة ، أخذت تتساءل عن الطريقة التي تتخلص فيها منه . والتفتت لتنظر إليه فوجدته خلفها مباشرة يشرف عليها بقامته الفارعة رغم أن طول قامتها هي كان فوق المعدل، فقالت له بسرعة : " إذا كنت تريد أن تساعدني حقاً فما رأيك في أن تعود آلي حوالي الساعة الثانية عشرة لنأخذ هذه الصناديق قبل موعد الغداء وفي الطريق يمكننا أن نتوقف لنأخذ معنا بنزين لسيارتي ...."
وفجأة أدركت أنه لا يستمع إليها فقد كان ينظر من فوق كتفها إلى غرفة صغيرة من خلال بابها المفتوح فالتفتت ، لترى أنها غرفة كيلتي . كانت غرفة صغيرة جداً ذات نافذة عريضة وكان ستروم يحدق في جدار الغرفة الذي علق كيلتي عليه الصور الفوتوغرافية .
وبدا عليه أنه نسي تماماً نيرن وهو يتخطاها داخلاً إلى تلك الغرفة الصغيرة وهو يقول بشيء من الدهشة : " من الذي التقط هذه الصور؟ "
فأجابت : " إنها غرفة كيلتي . "
فقال : " نعم غرفة كيلتي ولكن من التقط هذه الصور؟ "
فأجابت : " انه كيلتي أليست رائعة الجمال؟ "
فبقى وقتاً طويلاً لا يتحرك وهو يحدق في الصور .
تنحنحت وهي تقول : " انك تراها جميلة أليس كذلك؟ "
وأخيراً أنهى تفحص الصور ، فالتفت إليها قائلاً : " ماذا قلتي؟ "
فأجابت : " انه موهوب .. أليس كذلك؟ "
وكانت تنظر إلى نسر ينطلق طائراً من على أعلى شجرة صنوبر
وتابعت تقول : " لقد شعرت بخيبة أمل كبيرة لأنه ترك هذه الهواية . "
فسألها بحدة : " ترك هذه الهواية؟ "
فأجابت : " نعم منذ وقت قصير ، لقد اخبرني بأنه فعل ذلك لأنه لا يوجد هنا مكان ليقيم غرفة التحضير المظلمة ولكنني أظن أن هنالك سبباً آخر لا أدري ماذا يمكن أن يكون والأسوأ من ذلك انه باع آلة التصوير الغالية والتي كان أبوه قد قدمها إليه منذ ثلاث سنوات في أحد الأعياد وقد كلفته ثمناً باهظاً ولكن هوغ دنبار ما كان ليضن بقطعة من كبده يقدمها إلى ذلك الصبي . "
فابتعد ستروم عنها فجأة ليسير نحو النافذة وقد توتر جسده حيث بقي مدة طويلة وظهره إلى الغرفة حتى أخذت هي تتساءل عما دهاه هل عليها أن تتقدم منه وتسأله عما به؟ ولكنها هزت رأسها شاعرة بأن ستروم يريدها أن تقترب منه فقد بدا عليه تماما أنه في عالم آخر مستغرقاً في أفكاره وأن هذه الأفكار لابد تتعلق بكيلتي . وبدا لها هذا وهي تخرج من الغرفة ، لغزاً كبيراً ، لغزاً لا يعرفه سوى ستروم وكيلتي .. وأغلقت الباب خلفها بهدوء ثم سارت نحو غرفة آني وأفكارها ما زالت تعمل . وأخذت تتساءل عما يدور حولها لقد تعقدت الأمور منذ جاء ستروم غالبريث إلى غلينكريغ . وكلما أسرع بالرحيل كان ذلك أفضل إذ يمكن عند ذاك للاستقرار أن يعود إلى حياتها .. هذه الحياة التي ستصبح اكثر غنى وبهجة بوجود كيلتي معها الآن ولكن ما أن فتحت أول درج لتخرج منه أشياء آني حتى أدركت وقد تملكها الذعر أن فكرة توديعها لستروم ثم لا تراه بعد ذلك أبداً لم تجد في نفسها أي نوع من السرور كما كانت تظن.
وعندما سمعت بعد لحظات صوت الباب الخارجي يغلق خلفه ، أخذت تحدق في فضاء الغرفة بعينين لا تريان .
وعندما أنهت نيرن حزم حاجيات آني بالكامل وقفت تنظر حولها إلى الغرفة الخالية ويداها على وركيها . وأجفلت وهي تسمع طرقاً عالياً على الباب الخارجي وألقت نظرة على ساعتها لتجدها الثانية عشر إلا ربعاً ، ولكن ربما الطارق هو ستروم قد عاد مبكراً.
وتساءلت وهي تذهب لتفتح الباب عما عسى أن يكون عليه مزاجه الآن . هل تراه ما زال ذاهلاً متوتراً كما كان عندما رأى عرض صور كيلتي الفوتوغرافية؟
ولكن توترها ما لبث أن تلاشى حين رأت أن القادم لم يكن ستروم بل فلورا ماكدونلد زوجة رجل الدين .
وهتفت نيرن تحيي المرأة المسنة بابتسامة صادقة : " فلورا ما أجمل أن أراك ، إن آني ليست هنا مع الأسف ...."
فأجابت المرأة : " إنني أعلم أنها في المستشفى ولكنني رأيت فاني منذ ساعة فأخبرتني أنكِ هنا . وأنا أريد أن أتحدث إليك أنتِ . "
وعضت على شفتيها وهي تنظر إلى حقيبة صغيرة كانت في يدها وعندما رفعت عينيها إلى نيرن لاحظت هذه أنها قلقة فسألتها : " ألا تدخلين؟ "
فأجابت : " ليس لدي وقت يا نيرن فان علي أن أعود لأصنع الشطائر لاجتماع الرابطة عصراً . "
فهتفت نيرن : " آه الاجتماع .. لقد كدت أنسى ذلك ."
وسمعت صوت سيارة تقف على بعد أمتار منهما ومن زاوية عينها رأت ستروم قادماً نحوهما ولمست ذراع فلورا برقة وهي تسألها : " أي خدمة تريدينها مني؟ "
فأجابت المرأة : " إنني أكره أن أضايقك ولكن الدكتور كوغيل قال لزوجي إن كيلتي يسكن معك الآن ففكرت في أنني ينبغي أن أراك بشأن ...."
فقاطعتها : " كيلتي ."
فأجابت المرأة : " لقد باع كيلتي آلة التصوير إلى ابني دنكان وهو سيذهب إلى الجامعة السنة القادمة وقد دفع له ثمنها من نقوده الخاصة وهي النقود التي وضعت جانباً لأجل تكاليف تعليمه في الجامعة ، لقد تحدثنا طويلاً الليلة الماضية .. أنا وزوجي بيتر ودنكان الذي اعترف بأنها كانت مجرد نزوة طارئة منه وقد غير رأيه فلم يعد يرغب في آلة التصوير هذه ."
وبدا التوسل في عينيها وهي تتابع قائلة : " أيمكنك أن تقنعي كيلتي لكي يعيد النقود إلى دنكان؟ انه فعلاً بحاجة إليها . "
كان ستروم قد وقف بجانبهما الآن ما لم يدع لنيرن أي شك في أنه قد سمع حديثهما كاملاً ولكنها كانت مشغولة عنه بالحديث إلى المرأة قائلة : " إنني متأكدة من أن كيلتي لم يرغب في بيع آلة التصوير ولكن ليس لدي فكرة عما فعل بالنقود ربما قد احتاجها لأمر ما . "
وكادت الدموع تطفر من عيني المرأة وهي تقول : " آه، إنني لم أفكر في ذلك في انه قد يكون أنفق النقود. "
وفجأة قال ستروم : " وهل آلة التصوير معك هنا؟ "
فقالت نيرن للمرأة : " أقدم إليك ستروم غالبريث وهو نزيل عندي في برواش .. وهذه السيدة ماكدونلد."
فصافحته فلورا ثم أخرجت آلة التصوير من الحقيبة وهي تقول : " هذه هي لقد اشتراها ابني من ......."
فقاطعها قائلاً : " إنني أتعاطف معك في ورطتك هذه ."
وتناول منها آلة التصوير يتفحصها قائلاً :" ما هو الثمن الذي دفعته فيها؟ "
وتمتمت فلورا تذكر الثمن بصوت لا يكاد يسمع وكادت نيرن تصرخ ذعراً لقد كانت هازيل ذكرت لها أن زوجها دفع الكثير ثمناً للآلة هذه ولكنها لم تكن تتصور أن يصل إلى هذا الحد .
سحب ستروم دفتر الشيكات من جيبه وحرر لها شيكاً مصرفياً في لحظات ثم ناوله للمرأة وهو يقول باسماً : " هاكه ، واخبري ابنك أن لا يكون متسرعاً بعد الآن للحصول على ما يشتهيه وسأسوي أنا الأمر مع كيلتي . "
وسرعان ما كانت فلورا تنطلق في الشارع وقد بان الارتياح في عينيها .
نظرت نيرن إلى ستروم ، إلى قامته الفارعة والجاذبية الأخاذة التي تشع منه ثم قالت مظهرة غضباً اكثر مما تشعر به حقاً : " ألا تظن أن في عملك ذاك شيئاً من الجسارة؟ إنني لا أنكر كرمك فقد رفعت عن كاهل المرأة حملاً ثقيلاً فقد كانت في غاية القلق لأجل النقود ولكن الحقيقة أن هذا الأمر كله لا دخل لك فيه وليس هكذا يكون التصرف بشأنه . "
فنظر إليها قائلاً : " معكِ حق ولكنها كانت طريقه مناسبة وأنا سأسوي الأمر مع كيلتي فلا تقلقي ."
فسألته : " أتعني أنك ستطلب منه أن يعيد إليك النقود التي دفعتها إلى فلورا . "
فأجاب : " نعم ."
فقالت : " وماذا لو لم يكن يملك هذه النقود؟ "
فقال : " إنني مدرك أنه ربما سبق وأنفقها كلها أو بعضها ولكنني متأكد من أننا سنصل إلى نتيجة . "
فقالت : " هل نسيت ما سبق وأخبرتك به من أن كيلتي ترك التصوير؟ ربما ما عاد بحاجة إلى آلة التصوير هذه ."
فقال بحدة : " إن هذا الصبي موهوب ، لديه موهبة كبيرة فعليه أن لا يهملها فهو مسؤول عن استخدامها بالكامل . "
أرادت أن تصيح به أنها معه في قوله هذا ولكن ستروم لم ير مبلغ ذهول واضطراب كيلتي وهو يخبرها أنه لم يعد يهتم بالتصوير الفوتوغرافي فما هو موقف الغلام الآن عندما يقدم ستروم آلة التصوير أليه طالباً ثمنها؟
دقت الساعة الواحدة بعد الظهر وتنهدت هي باضطراب . لا فائدة من الوقوف في الشارع والجدل مع هذا الرجل .
وقالت له : " تفضل بالدخول فكل الصناديق جاهزة وشكراً لرجوعك ."
فأجاب : " لا بأس والآن في أي وقت يعود كيلتي من المدرسة؟ "
فأجابت : " في الرابعة ."
فقال : " أرني مكان المدرسة ونحن في الطريق فإنني أريد أن انتظره خارج المدرسة لاتحدث إليه . "
فهزت رأسها قائلة : " ليس اليوم فقد ذهب في رحلة مدرسية إلى مدينة أباردين لحضور مسرحية هاملت وسيعودون متأخرين في الليل وسيكون هو متعباً ، الأفضل أن تدع الأمر إلى الغد ."
كان غريباً أن ترى التوتر يمتلك ستروم كلما نظر إلى كيلتي . وإذا كان ما افترضته من أنه ربما كان يعرف هازيل ... إذا كان هذا صحيحاً فهذا هو سر ذلك التوتر إذن ولهذا استعاد آلة التصوير! لأنه رأى أن الغلام ذو موهبة فهل لذلك سبب آخر يا ترى؟
هل هنالك شيء آخر؟ شيء لا تستطيع هي رؤيته؟ لم تستطع أن تجيب عن هذه الأسئلة التي تقلقها .
قال ستروم مقاطعاً أفكارها : " إلى الغد إذن واليوم بعد أن نأخذ هذه الصناديق إلى دار المسنين سآخذك لتناول الغداء . "
وفكرت هي أن هذا ليس صواباً إذ من الأفضل أن تقلل من فترات صحبتها لهذا الرجل قدر استطاعتها . فأجابته قائلة : " هذا لطف منك وإنما علي أن أحضر اجتماع الرابطة في منزل فلورا بعد الظهر . "
فأجاب وعيناه تبتسمان لها : " إذن ، فستأتين معي للعشاء هذا إذا كنتِ لم تضعي خطة مسبقة بشأن عشائك ."
ولم تستطع أن تكذب فأجابت : " كلا ، ليس لدي خطة مسبقة للعشاء ."
فقال : " سأحجز إذن مائدة في مطعم فندق هيذرفيو ."
فقالت : " آه .... ولكن ......" وعضت شفتها فقد اعتادت أن تذهب مع روري إلى ذلك المطعم دوماً في المناسبات وكانا عادة يحجزان إحدى الموائد المسؤولة عنها هازيل والتي كانت تشتغل نادلة هناك منذ دخل كيلتي المدرسة . ومنذ وفاة زوجها لم تذهب نيرن إلى ذلك المطعم وذلك تجنباً لفيض الذكريات المؤلمة .
وقال : " لقد استقر الرأي إذن؟ في هيذرفيو؟ "
فتنهدت وهي تجيب : " لا بأس في هيذرفيو . "
الفصل السابع
كانت الليلة مظلمة عندما أوقف ستروم غالبريث سيارته المرسيدس ثم تخطى مع نيرن السيارات المتوقفة هناك . وفي الردهة ، ساعدها على خلع معطفها وعيناه لا تخفيان نظرة الاستحسان التي شمل بها قميصها الحريري الذهبي اللون و تنورتها الواسعة .
وتمتم وهو ينظر إلى شعرها : " يا للجمال الرائع ."
وشعرت بوجهها يتوهج.
قال لها : " انكِ تبدين وكأنك بفتنتك وعذوبتك خارجة من إحدى لوحات الرسام رامبراندت الرائعة . "
وتورد وجهها لإطرائه ذاك إلى حد لم يحلم رامبراندت بمثله . وقالت تخفي ارتباكها : " إنكم يا أبناء المدن تحسنون الكلام ."
وسمعته يضحك وهو يناول المستخدم معطفها ثم يقودها إلى الصالة وهو يقول :" لم لا تتقبلين الإطراء بسهولة؟ "
فقالت : " لا أدري . ربما لأن أمهاتنا علمتنا أثناء طفولتنا أن لا نكون مغرورات."
فسألها : " وهل كن يعلمن الأطفال الذكور أن لا يكونوا مغرورين هم أيضاً؟ "
فأجابت : " لا ادري لأنه لم يكن لدي اخوة ذكور . لا بد انك تعرف هذا بنفسك هل كانت أمك تعلمك في طفولتك عدم الغرور؟ أم انك لم تكن طفلاً قط؟ "
وكان الآن قد وصلا إلى مدخل غرفة الطعام فوقفا عند العتبة ورفعت هي بصرها إليه بهذا السؤال ولدهشتها رأت مسحة من الألم تكسو ملامحه لحظة ، سرعان ما تلاشت لتحل محلها ابتسامة وهو يقول : " ربما معك حق . ربما ما كنت أنا طفلاً قط "
فقالت : " ربما أنت تتقبل الإطراء بسهولة ."
فسألها : " لماذا لا تجربينني؟ "
فأجابت تسأله : " أجربك؟ "
فقال : " نعم وجهي ألي إطراء يا سيدة كامبل وانظري ردة الفعل عندي لذلك ."
فقالت : " آه .. لا أظن ."
فقاطعها رافعاً حاجبه بسخرية : " لا تظنين أن في شخصي ما يعجبك؟ لا أظنني من البشاعة بحيث ......"
فقاطعته : " بشاعة؟ آه انك غير بشع ...." وسكتت وهي تفكر يا لصراحتي .. إن هذا قد أوقعني حقاً .
قال : " آسف فالإطراء الذي يوجه بشكل نفي لا يعتد به قولي ذلك بأسلوب آخر."
فأخذت تفكر بمقدار حماقتها وهي ترى نفسها قد انخرطت برغمها في هذه اللعبة .. كيف تقول شيئاً لا يدخل في الخصوصيات؟ هل تقول له أن لك عينين جميلتين؟ نعم هذا حسن لأن عينيه هما جميلتان حقاً .
وتنحنحت وهي تقول : " إن عينيك عندما تنظران ألي .... أشعر وكأنهما ينومانني مغناطيسياً ......." وسكتت ذاهلة .....
وهتف بها وعيناه تلمعان : " هذا عظيم انه أعظم إطراء تلقيته منذ سنوات إنني سأستغل طبعاً هذه المعلومات عندما تحين اللحظة المناسبة شكراً يا سيدة كامبل ..."
وفجأة كان رئيس المضيفين الفرنسي واقفاً أمامهما يقول موجهاً كلامه لنيرن :" نيرن يا عزيزتي ما أجمل أن أراك مرة أخرى تتألقين بكل هذه الفتنة . انكِ ستنيرين المكان وسيخطف جمالك الأنظار ."
وكان يتكلم بلغة هي خليط من الفرنسية والإنكليزية .
أوشكت أن ترد عليه قائلة كعادتها من قبل ، آه يا ( آلان ) ... انك تبالغ في المديح .. عندما وكزها ستروم ما جعلها تغير كلامها فتقول : " أشكرك يا آلان . "
وعاد آلان يقول بعطف : " كم أنا آسف يا عزيزتي لما سمعته عن وفاة زوجك فهل هذا سبب عدم حضورك إلى هنا؟ هل بسبب الذكريات المؤلمة؟ "
فأجابت نيرن بصوت أجش : " نعم إن الذكريات مؤلمة حقاً . "
فقال : " آه .... ولكن مرور الزمن يخفف من ذلك والآن؟ "
ولأول مرة ينقل بصره إلى ستروم قائلاً : " آه .. السيد غالبريث أهلاً بعودتك إلى مؤسستنا هذه . "
وأدركت نيرن أن الإكرامية السخية التي لابد منحها ستروم لرئيس الندل عند حضوره سابقاً إلى هذا المكان ، لا بد أنها كانت شيئاً لا ينسى .
و أشار إليهما آلان قائلاً : " اتبعاني ، وستكون لكما أحسن مائدة في هذا المكان ."
وعندما جلسا نظرت هي إليه باسمة وقالت : " إن القاعة مزدحمة كالعادة أليس كذلك؟ "
فأجاب : " نعم ، كالعادة ولو أنني أفتقد تلك المرأة السمراء التي لا يمكن أن تعوض كم كانت عاملة مجدة ، كما أنها طيبة ... طيبة ... "
وهز رأسه بأسى ثم ابتعد .
ونظرت إلى ألسنة اللهب المتصاعدة من المدفأة ... وفاضت ذكرياتها .. ما أكثر ما ترددت إلى هذا المكان مع روري ...
وقال ستروم فجأة : " هل ترين صوراً في تلك النيران؟ "
فأجفلت وهي تلتفت إليه قائلة : " آسفة ... كنت فقط ..."
فقاطعها قائلاً : " تفكرين في الماضي أليس كذلك؟ لقد فهمت من كلام آلان أنكِ وزوجك ، كنتما تترددان إلى هذا المكان ، و أن هذه أول مرة تحضرين إلى هنا بعد ... وفاته؟ "
فأجابت : " نعم، لقد كنت أتجنب ذلك ...."
فقال : " ولماذا لم تقولي شيئاً عندما دعوتك للحضور إلى هنا؟ آه لقد ترددتِ فعلاً وكان علي أن أدرك ..."
فقالت : " وكيف كان لك أن تعلم؟ كما أنني مسرورة لحضورنا وأول مرة هي صعبة طبعاً بالنسبة ألي ."
كان العشاء رائعاً مؤلفاً من سمك السلمون المشوي كطبق رئيسي ودهشت هي إذ لاحظت أن حديثهما معاً طوال الوقت لم يتوقف ، رغم أنها لاحظت في النهاية أن ستروم كان يشجعها على الدوام على أن تكون هي المتكلمة وكان يبدو مستمتعاً حقاً بحديثها عن عملها وعن قريتها بشكل عام .
ولكنه لم يتطرق مرة واحدة إلى الكلام عن كيلتي وعن أمه هازيل .
ولكنه ما لبث أن قال وهو يستند إلى ظهر كرسيه بكل راحة وعلى شفتيه ابتسامة هازلة : " وماذا عن تلك المرأة السمراء؟ و الطيبة؟ من هي هذه الطيبة التي جرؤت على أن تترك عملها لتترك رئيس الندل في هذا الموقف الحرج؟ "
فأجابت : " انه كان يتحدث عن هازيل والدة كيلتي وأنت مخطئ فهي لم تترك عملها ، لقد ماتت ."
وسرعان ما شعرت نيرن بغصة في حلقها فلم تستطع متابعة كلامها بينما طفرت الدموع من عينيها . بحثت في حقيبتها عن منديل تمسح به دموعها تلك . كانت تعلم أن الذكريات ستؤلمها في هذا المكان وكان عليها أن تتمالك نفسها .
سألها : " هل أنتِ بخير؟ "
فأومأت برأسها قائلة : " نعم إنني بخير الآن افني آسفة إذ أثار شجوني الحديث عن هازيل. "
فسألها : " هل كانت صداقتكما متينة؟ "
فأجابت : " نعم جداً "
فسألها ثانياً :" وهل كانت تثق بكِ "
فأجابت : " تثق بي؟ "
فقال : " أعني أنها تطلعك على كل أسرارها ."
كان صوته يبدو متحدياًَ بشكل غريب . ما الذي كان يرمي إليه؟ و أجابته قائلة :" أسرارها؟ لم تكن هازيل من النوع الذي يحتوي على أسرار لقد كانت ...."
فقاطعها : " طيبة ....." وأطلق ضحكة استخفاف وهو يتابع : " امرأة طيبة؟ الطيّبة تعني شخصاً بالغ الطهارة وليس هناك امرأة حية تستحق هذا الوصف ."
دفعت نيرن كرسيها إلى الخلف بعنف ووقفت تتناول حقيبتها بيديها الاثنتين وهي تنظر إلى ستروم قائلة : " افني لن أدعوك حيواناً متعصباً لأن أمي علمتني بجانب أن لا أكون مغرورة ، علمتني أيضاً أن لا أشتم أحداً وان كان يستحق ذلك وعلى كل حال فأنا أقول لك انك قد أفسدت أجمل أمسية مرت بي منذ أشهر أما الآن فأنا ذاهبة . "
وشقت طريقها دون اهتمام به بين الموائد متجهة إلى الصالة حيث مركز المعاطف وبينما كانت تطلب معطفها كانت تتمتم ، فظ متغطرس لا يحتمل ...
وجاءها صوته من خلفها : " انه فعلاً يستحق هذه الصفات الثلاث ."
واستدارت على عقبيها شاعرة بيده تقبض على كتفيها بقوة وهو يقول : " إنني مذنب يا سيدتي فهل تصفحين؟ "
و أوشكت أن تقول بحدة كلا وأي امرأة ترضى بأن تحشر بين النساء اللاتي لا يمكن الوثوق بهن؟ ولكنها كانت تعلم أنه لم يكن يوجه كلامه إليها هي بالذات ولا بد أن تجربة مرت به في حياته جعلته يفقد ثقته بالجنس الآخر .
وبينما أخذ ستروم يساعدها في ارتداء المعطف قالت له : " سأصفح عن إفسادك لأمسيتنا هذه أما ما قلته عن النساء فليس الصفح أو عدمه بيدي إذ من الواضح أن تجربة سيئة مرت بك تركت تأثيرها على حكمك عليهن . ربما ستقابل يوماً ما امرأة تحوي على ما يرضيك في المرأة وما أرجوه هو أن تجد هي فيك أيضاً كل ما يرضيها في الرجل . "
فقال باسماً : " آه إنها ضربة قوية . "
فأجابت : " وأنت تستحقها . "
فقال : " أسلم بهذا هل عدنا صديقين؟ "
فسارت أمامه وهي تقول ساخرة : " وهل كنا صديقين من قبل؟ "
فمشى بجانبها وهو يجيب : " نعم يا نيرن لقد كنا صديقين من قبل ومن الغريب أنني أشعر وكأننا سنكون صديقين على الدوام . "
وأخبرتها دقات قلبها وهي تتوجه معه نحو سيارته بأنهما لن يكونا مجرد صديقين ذلك أن مشاعرها نحوه أقوى وأكثر تعقيداً من أن تكون مجرد مشاعر صداقة عادية كان يساورها إحساس عميق بأنها إذا هي أفسحت المجال لهذا الرجل فسيقلب حياتها رأساً على عقب مبدداً السلام الذي سبق وجاهدت للحصول عليه منذ وفاة زوجها روري ذلك أن قلبها ما زال جريحاً وهي لن تكرر التجربة مرة أخرى ومن الأفضل لها أن تبقى في زاويتها الهادئة .
إنها حلما يصلان إلى بيتها ستستأذن ثم تصعد إلى غرفتها انه لم يقل كم يوماً سيمضي في غلينكريغ .. ولكنها ستسأله عن ذلك غداً آملة أن يسرع بالرحيل .
ولكنها ستنتظر إلى أن يتحدث مع كيلتي بشأن آلة التصوير .
ولم يتحدث ستروم في الأمر في الصباح التالي حتى انهوا هم الثلاثة تناول الفطور كانت نيرن تغسل إناء القهوة في الحوض بينما وقف كيلتي قائلاً انه سيتوجه إلى المدرسة عندما وقف ستروم مسنداً ظهره إلى النافذة وهو يقول : " انتظر لحظة .. إن لي كلمة معك . "
فاستدار الغلام يواجهه قائلاً بأدب : " ليس عندي وقت كاف ما هي؟ "
فقال ستروم عابساً : " لقد جاءت والدة دنكان ماكدونالد إلى نيرن أمس لتخبرها أن أبنها اشترى منك آلة التصوير بالنقود المدخرة لتعليمه . "
ولم يبد على كيلتي أي ردة فعل لهذا الكلام سوى اضطراب خفيف في نظراته .. وعندما لم يتكلم ، تابع ستروم : " إن والدة دنكان تريد استرداد النقود . "
فبدا الشحوب على وجه الغلام وهو يقول : " إنها كانت معاملة بيع وشراء بيني وبين دنكان ولا يمكنني إعادة النقود إليه .. إن عليه أن يحتفظ بآلة التصوير . "
ولاحظت نيرن في صوته ألماً دفيناً وهو يقول ذلك .
قال ستروم : " إن آلة التصوير هي معي . "
فبدا الذهول في عيني الغلام ولكنه هز كتفيه قائلاً بصوت مرتجف قليلاً : " احتفظ بها لنفسك إذن فأنا لا أريدها . "
فانفجر ستروم قائلاً بحدة : " إنني لا أريدها أنني أريدك أن تستردها فقد كنت رأيت تصويرك الفوتوغرافي .. وهو حسن جداً ، طبعاً ما زال أمامك الكثير لتتعلمه ولكن عندك الموهبة لقد أعدت أنا ثمن آلة التصوير وسنصل إلى نتيجة بيننا يمكنك أن تعيد إلى النقود على أقساط ولا يهمني كم سيأخذ ذلك من الوقت ولا أظنك أنفقت النقود كلها . كم بقي معك؟ "
فتورد وجه كيلتي وهو يقول : " لا شيء ."
فقال ستروم بحدة : " هل ذهبت كلها؟ وعلى ماذا أنفقتها؟ "
ولجزء من الثانية ، تجمد المشهد أمام عيني نيرن ، لترى أن الرجل والغلام متماثلان تقريباً وكأنهما صنعا من معدن واحد . نفس لفتة الرأس ونفس تكوين الوجه ونفس الفك ونفس العنق القوي ونفس الكتفين العريضين ونفس الأصابع الطويلة ...
ثم تحرك المشهد لتدرك أن ستروم ما زال يتحدث وبسرعة بلهجة يشوبها شيء من الذعر : " أي نوع من الفتيان أنت؟ كيف تتخلى بسهولة عن شيء مثل هذا كان عليك أن تحتفظ به؟ إن أباك حسب قول نيرن قد ضحى بالكثير لكي تحصل على آلة التصوير تلك .... ما الذي كنت تريده بثمنها؟ "
فازدرد كيلتي ريقه ثم تنحنح قائلاً بصوت متردد : " كان شيئاً أنا بحاجة إليه ...."
كان في صوته توجس مما عسى أن تكون ردة فعل ستروم لهذا ما جعل نيرن تشعر بالألم لأجله وأرادت أن تقول شيئاً ولكن راعها أن انفجر ستروم يقول بخشونة : " شيء أنت بحاجة إليه؟ انك غير مدمن على المخدرات أليس كذلك يا فتى؟ "
فاتسعت عينا الغلام وحملق في ستروم لحظات وكأنه لم يفهم ، ليصرخ بعدها بصوت يختنق بالألم وكأن ستروم وجه إليه ضربة : " كلا ... هذا غير صحيح طبعاً لا ... هذا غير ممكن .. كيف أمكنك أن تفكر ...."
إذا كانت نيرن قد ظنت أن هجومها المباشر هذا على ستروم سيسبب له الارتباك فهي إذن مخطئة وربما كانت توقعت منه أن ينسحب أو أن يرد مهاجماً ... ولكنه لم يقم بأي من هذين الأمرين ، لقد ضحك عليها وكانت ضحكة مشوبة بالسخرية ولكنها كانت ضحكة على كل حال ، كما كان في عينيه الزرقاوين شيء من الهزل .
وقال : " آه ، إن لي احتياجاتي أنا أيضاً يا نيرن تماماً كأي رجل آخر إنها الاحتياجات الأساسية في الحياة ... الجوع ، العطش والمحافظة على الذات ..."
فقاطعته : " وأنا متأكدة أيضاً من أنك بحاجة إلى الانتماء وإلى الحب ولو أنه يبدو أنك تنكر هذه الحاجات بالذات ."
واتجهت نحو المطبخ وفتحت البراد حيث وضعت عدة أنواع من العصير ، اختارت واحداً منها وأحضرت كوبين . مشى نحوها ثم أخذ كوباً وعاد إلى قرب النار في الصالة حيث وضعه على رف المدفأة ثم اتكأ على الجدار بجانبه وهو يقول : " هكذا إذن . الانتماء والحب . فلنتحدث عن الانتماء إلى مكان معين أم الانتماء إلى شخص؟ "
أغلقت نيرن باب البراد وتبعته إلى الصالة ثم أجابته قائلة : " أظن الاثنين معاً . عندما أقول ، أنا أنتمي إلى غلينكريغ فأنا أعي أنني أعيش هنا وأنني دوماً عشت هنا ، فأنا إذن جزء من المكان وهو جزء مني . "
وعادت إلى الأريكة حيث غاصت على الوسادة في وسطها وهي ترفع بصرها إلى ستروم متابعة قولها : " وأنت .... هل أنت تنتمي إلى لندن بنفس هذه الطريقة؟ "
فهز كتفيه بعدم اهتمام وهو يقول : " كلا ، أنا لا انتمي إلى لندن بالشكل الذي ذكرته فقد ولدت في مانشستر وقد سافرت إلى جميع أنحاء العالم وأنا أعيش في لندن لأن مكتبي في لندن .... ولكن موطني بالنسبة إلي هو المكان الذي أعيش فيه حالياً ."
فقالت : " ولكن هذا ليس موطناً أنك ستمكث هنا عدة أيام فهو إذن ليس موطنك فكيف تقول انه كذلك. "
أجاب : " إن ما أريد قوله هو أن ليس لي موطناً ، فأنا لا أنتمي إلى أي مكان وهذا لا يشكل ( حاجة ) بالنسبة إلي . "
فقالت : " ولكن مكانك في لندن ...."
فقال : " انه الأساس انه المكان الذي أعلق عليه قبعتي ."
فقالت : " حدثتني عنه . "
فقال : " ماذا تريدين أن تعرفي؟ انه شقة مائلة السقف تشرف على المدينة ... تحتوي على ثلاث غرف نوم وغرفة جلوس وغرفة طعام ومطبخ إلكتروني يبدو وكأنه سفينة فضاء وهناك أيضاً حمامان وغرفة مظلمة لتحضير الأفلام . "
فقالت : " غرفة مظلمة؟ هل أنت مغرم بالتصوير الفوتوغرافي؟ "
أجاب : " فلنقل انه كان أفضل هواياتي . "
سألته : " وهل كنت ناجحاً فيه؟ "
فأجاب : " كنت ناجحاً إلى حد أنني أستطيع أن أصنع منه مهنة . "
فقالت : " آه إن هذا ممتع جداً إنني اعجب كثيراً بالأشخاص الذين يملكون موهبة النظر خلال عدسة التصوير ويرون أكثر مما يستطيع الشخص العادي أن يرى. "
وتابعت وهي تضحك بأسى : " إن مهارتي في التصوير لا تعدو أن تكون جيدة على أن لا تقطع أرجل الأشخاص في الصورة وفي اكثر الأوقات ..."
فقاطعها قائلاً : " إنني متأكد من أن لكِ مواهب أخرى ."
فابتسمت له قائلة : " كلا ليس لدي شيء من ذلك إنني امرأة عادية تماماً مع أن أسرتي موهوبة جداً فأمي كيت هي رسامة وأبي ماك مخترع وأختي كيلا التي قابلتها أنت ، أليست هي جميلة؟ لقد ورثت موهبة والدتنا الفنية وهي التي رسمت تلك الألوان المائية المعلقة على جدران غرفتك هل لاحظتها؟ "
فأجاب بذهن شارد : " نعم وهي حسنة جداً . "
بدا وكأن أفكاره تهيم في مجال آخر وما لبث أن قال : " عادية . " وهز رأسه وهو يرمقها بنظرة غريبة ، ثم تابع قائلاً : " ما الذي يجعلك تعتبرين نفسك عادية؟ إنني لم أر امرأة مثلك قط . "
فنظرت إليه بعينين ضاحكتين وهي تقول : " آه إنني لا أتحدث عن المظهر إنني اعرف أن مظهري غير عادي . "
و أمسكت بخصلة كثيفة من شعرها اللامع الكث الذي ينسدل على كتفيها وهي تقول : " كيف يمكن أن يوصف شخص له شعر بهذا اللون المفزع ، انه عادي؟ إياك أن تخبرني أن من المستطاع تميزي به بين الجموع فهذا شيء اعرفه منذ ابتدأت انظر إلى نفسي في المرآة . من حسن حظي أن أحداً لم يطلق علي لقباً بهذا الشأن لقد أمضيت سنوات المدرسة يتملكني رعب من أن يخطر لشخص ما أن يطلق علي لقباً ساخراً يلتصق بي على الدوام مثل الحمراء أو الجزرة . "
فقال : " إنني لا أستطيع تصديق ذلك . " وترك مكانه متقدماً نحوها قائلاً : " انهضي أريد أن أريك شيئاً . "
فترددت نيرن وهي تحدق في أصابعه ثم تسأله : " ماذا؟ "
فقال بلهجة آمرة : " انهضي . "
ولسبب لم تفهمه ، لم تستطع عصيانه .
فوقفت وهي تهتز قليلاً شاعرة بالوهن ولكنه شدد من لهجته وهو يقول : " تعالي هنا ."
سألته بضعف : " إلى أين؟ ." ولكنه لم يجب بل قادها بثبات إلى المرآة وعندما رأت انعكاس صورته في المرآة أدركت قصده وهو يقف خلفها يدير كتفيها بيديه القويتين لتواجه المرآة مباشرة وهو يقول : " انظري إلى هذا الشعر . تقولين انه مفزع! هل أنتِ عمياء يا امرأة؟ هل عندك عمى الألوان؟ إن نساء لندن يدفعن الغالي والنفيس لكي يجدن مزيناً يمكنه أن يصبغ شعرهن بلون شعرك هذا ....."
فقاطعته بحدة : " ولكن لون شعري ليس صناعياً . "
فهي ربما لم تكن تحب لون شعرها ولكنه لون شعرها على كل حال .
فقال يعاتبها برقة : " انه ليس صناعياً طبعاً ، انكِ غبية حقاً إذ تعترفين بأن مظهرك غير عادي ولكنك لا تتصورين إلى أي مدى هو غير عادي أليس كذلك؟ "
وهز كتفيها قليلاً وهو يتابع قائلاً : " هل لكِ أن تنظري إلى نفسك ثم تخبريني ماذا ترين؟ "
وما الذي رأته هي؟ لقد رأت امرأة لم تكن تعرفها فمنذ وقت طويل لم تر عينيها بهذا التألق و وجنتيها الشاحبتين بهذا التوهج.
تنفست بعمق وهي تقول : " ماذا أرى؟ إنني أرى امرأة تكبر في السن يوماً بعد يوم امرأة ذات شعر أحمر وبشرة شاحبة وعينين زرقاوين . "
وحركت كتفيها محاولة تخليصها من قبضتيه ففعل .
وتمتم قائلاً : " هذا غريب . يبدو أننا نحن الاثنين نرى امرأتين مختلفتين في وقت واحد فأنا أرى امرأة ذات وجه بيضاوي مكتمل وبشرة كالقشدة وأنفاً حلواً تنتشر عليه ... دعيني أعدها ... خمس نمشات بالضبط ، وعينين بنعومة المخمل ولون البنفسج وشعراً يبدو وكأنه ليرات ذهبية تتساقط في شلال من أشعة الشمس ، شعراً له عبير الأزهار البرية التي تتمايل مع نسائم الصيف . "
وحاولت نيرن أن تبتعد عنه ولكنها لم تجد لها طاقة على ذلك .
وتمتمت بضعف : " من كان يظن أن خلف هاتين العينين الساخرتين يكمن شاعر؟ أنك الآن ستجد صعوبة كبرى في إقناعي بأنك رجل قد من الصخر ...."
هل من الممكن أنه إنما كان ينومها مغناطيسياً حين كان يشيد بما يدعوه جمالها الرائع؟ أتراه سرق عقلها وأسر قلبها بهذه السهولة؟
وفجأة شعرت بما يشبه طعنة السكين في فؤادها كان شعوراً بالذنب مزقها تمزيقاً ما الذي حدث لها؟
وتحولت مبتعدة عنه لتستدير حول منضدة القهوة وكأنها تحتمي بها منه ليصبح ظهرها إلى نار المدفأة حيث لفحتها الحرارة ، بينما كانت عاقدة ذراعيها فوق صدرها وقد انحدرت نظراتها إلى الأرض .
كانت تنتظر منه أن يقول شيئاً يبدد الصمت ...... ولكن عندما لم يتكلم رفعت بصرها تنظر إليه .
وذهلت عندما رأته جالساً على كرسيه واضعاً ساقاً على أخرى بكل راحة وقد بدا عليه من الهدوء والبرود .
وعاودها الشعور بالذنب ما جعلها تشعر وكأن قلبها قد أصبح كتلة من رصاص داخل صدرها كل هذا بسبب هذا الرجل وأحست من الطريقة التي كان ينظر بها إليها رافعاً حاجبه بأنه يتوقع أن تكون هي البادئة بالحديث .
وتنحنحت قائلة : " حسناً ..."
كان صوتها منخفضاً وتنحنحت مرة أخرى بصوت أقوى هذه المرة قبل أن تقول بصوت أعلى قليلاً من الهمس : " حسناً لقد كان هذا شيئاً غير متوقع . "
فارتفع حاجب ستروم الثاني وهو يقهقه ضاحكاً ويقول : " غير متوقع؟ آه يا نيرن من تراك تحاولين استغفاله؟ نفسك؟ قد يكون هناك أشياء كثيرة لكن ليس بينها كلمة غير متوقع هذه . "
فقالت رافعة ذقنها بعناد : " حسناً أنا أقول انه كان كذلك . "
فعاد يضحك وكأنه وجد في إنكارها هذا تسلية بالغة وهو يقول : " يمكنك أن تقولي ما تشائين ولكن هذا لا يعني أن الأمر كما تقولين حقاً انكِ تعرفين كما أعرف أنا ، أن الوصول إلى بعضنا البعض هو مجرد وقت . "
وكانت تعرف في أعماقها بأن ما يقوله صحيح ، إنها لم تسمح قط لنفسها بأن تفكر في هذا فقد أثار فزعها ......
وشعرت للمرة الثالثة بالشعور بالذنب يجتاحها وكان من القوة بحيث جعلها تقابل صراحة ستروم بصراحة منها هي أيضاً فتقول : " انك في غاية الوقاحة . "
وردت شعرها إلى الخلف ولكنه كان يرتد لكثافته تحت راحتيها فتمتمت بضيق ومن ثم أخذت تعبث بعصبية ، بخاتم زواجها الذهبي .
هز رأسه قائلاً : " كلا لا أظن ذلك مع أنني اعترف بأنني أخطأت في أمر واحد.."
فسألته ببرود : " أحقاً؟ وما هو هذا الأمر؟ "
فأجاب : " في أول ليلة لي هنا عندما صعدت إلى غرفتي . "
فعادت نيرن ترد شعرها إلى الخلف قائلة : " لقد اتهمتني عند ذاك بأنني كنت أحاول التحرش بك وهذا لم يكن صحيحاً . "
فقال وقد بدت في عينيه هزل : " كلا لم تكوني تريدين ذلك ليس في ذلك الحين .."
وشعرت بأنفاسها تتوقف . ما الذي كان يحدث لها؟ وجاهدت لكي تهدئ من الذعر الذي كان يسرع بضربات قلبها . عليها أن تضع حداً لتصرفات هذا الرجل معها عليها أن تضع حداً لتصرفاته الآن ، في هذه اللحظة وقالت : " إنني لست كما تعتقد ... إنني لا أنكر أن هناك .... شيئاً معيناً بيني وبينك ...."
فقاطعها قائلاً : " وهو أنكِ ترينني جذاباً ، بقدر ما أراك . واجهي هذا يا نيرن ..."
ولم تكن هي قد اعتادت مثل هذا الكلام المكشوف ... ولكنها لم تشأ أن تدعه يعلم بذلك ... وبأن كلامه هذا قد سبب لها الضيق ....
فقالت : " نعم أظن ذلك . لا بد أنه ..... ماذا قلت ."
فسألها قائلاً : " هل أنتِ خائفة مني؟ ."
فضغطت شفتيها وهي تنظر إليه ، كان مستنداً إلى الخلف على الوسادة ، مشبكاً يديه خلف رأسه ما بدا معه وكأنه يشعر أنه في بيته تماماً وليس في بيتها هي وأن الأوضاع كلها في يده وجعلها هذا لسبب ما تشعر بالغضب فردت عليه بحدة : " إنني لست خائفة منك . أما هذا الحديث الذي يدور بيننا فقد أصبح غاية في السخافة وإذا أردت الحقيقة فأنا أشعر بالخجل من هذا الكلام . "
فقاطعها : " انكِ لم تقولي ما تخجلين منه! ."
كانت تعلم أن غضبها هذا ليس منه وإنما من نفسها وأجابته قائلة : " إنني أنا التي تقرر ذلك . إن علي أن أعيش في هذه الحياة بمفردي وإذا حدث بيننا شيء فهذا يعتبر بالنسبة لي خيانة! .."
فحدق فيها لحظة طويلة ثم قال بهدوء دون أن يبدو في صوته أثر للسخرية : " وكيف تكون الخيانة لرجل ميت؟ "
فأجفلت لصراحته هذه ولكنها أجابت وهي تغالب الغصة التي شعرت بها في حلقها : " إن روري ما زال حياً ...... وهو سيبقى كذلك في قلبي على الدوام . "
في البداية لم يظهر أي تجاوب نحو ما قالت وبدا أن السكون الذي لفه أوجد لديها سكوناً نفسياً مماثلاً فشعرت بالهدوء والثبات .
وأخيراً قال : " آه القلب . "
وتنفس بعمق ثم ابتسم كانت ابتسامة بطيئة كسولة ارتسمت على شفتيه دون أن تصل إلى عينيه ... عينيه اللتين كانتا تحدقان في عينيها بسخرية وهو يقول : " لقد ابتدأنا بالحديث عن الانتماء والحاجة .. ولكنك تنهينه بالحديث عن الحب . إن هذه عادة النساء ، أليس كذلك؟ "
كان في صوته من السخرية ما ذكر نيرن باجتماعهما الأول في المقبرة عندما رأت في عينيه الفراغ والكآبة ، فأرادت أن تتقدم لترفه عنه و ها هي ذي الآن يتملكها نفس الشعور نحوه فأجابته قائلة : " إن هذا يدفع الكون إلى الاستمرار . "
ما أسخف جوابها هذا ، هل هذا كل ما أمكنها قوله؟ إن أمامها رجلاً يتألم ... رجلاً يبدو أنه قد عانى طويلاً ولكن كل ما استطاعت قوله له هو ( إن هذا يدفع الكون إلى الاستمرار .....)
أجابها : " آه كلا يا عزيزتي نيرن في هذا أنتِ مخطئة ليس الحب الذي يدفع الكون إلى الاستمرار وإنما العلاقة والمعاملة التي تقوم بين الناس حتى لو لم يعد الإنسان يشعر بالحب فان الكون سيستمر سائراً في طريقه ...."
فقاطعته قائلة : " من الواضح تماماً أن ليس في نفسك ذرة من الشاعرية . "
فقهقه ستروم ضاحكاً وهو يقول : " شاعرية؟ هل تريدين شاعرية؟ صدقيني انه حتى من دون هذه المقومات ، النتيجة هي واحدة ، توالد الأجناس سيبقى مضموناً وستضل الأرض تدور ...."
فسألته بهدوء : " هل هذا هو عالمك يا ستروم؟ هل هذا هو نوع العالم الذي تريد أن تعيش فيه؟ عالم من دون عهود ولا التزامات ....."
سألها : " هل تؤمنين بالحرية يا نيرن؟ "
فأجابت : " طبعاً أؤمن بالحرية ولكن ...."
فقال : " عندما تتحدثين عن الالتزام فان ما تتحدثين عنه هو تقيد للحرية في الواقع ألا يمكن لأثنين أن يستمتعا معاً دون الحاجة إلى نوع من التعهدات؟ "
وبينما كانت تقف تحدق فيه ، شاعرة بالدوار سمعت الكلب شادو ينبح . كانت تعلم أنه كان غافياً في مكانه الدافئ تحت الموقد ولكنها لاحظت في نباحه القصير ذاك حاجته إلى الخروج .
وبحركة مفاجئة ، وقالت وهي تتراجع إلى الخلف : " أرجو المعذرة فان علي أن أخرج الكلب لأتمشى معه قليلاً قبل أن آوي إلى فراشي . "
ودون أن تلقي عليه نظرة تحولت متجهة إلى الباب رافعة الرأس بشموخ .
كان عليها أن تهرب منه ، لكي تتخلص من هذه المشاعر المضطربة التي تعتريها المشاعر التي كانت تدفعها في اتجاهات لا ترضاها وسمعته يقول لها : " إذن فأنا أتمنى لك ليلة سعيدة يا سيدة كامبل ...."
وعندما استدارت مجفلة رأته وراءها مباشرة وكان قريباً منها إلى حد استطاعت معه أن ترى الخطوط التي كانت تحيط بفمه الساخر وأجابت متوترة : " ليلة سعيدة ." ومن ثم فتحت الباب ، شاعرة بالسرور لابتعادها عنه . ولم يتبعها هو ولكنها ما أن اجتازت الصالة بخطوات نافرة متعجرفة حتى سمعته يقول من حيث كان واقفاً عند الباب ، سمعته يقول كلمة واحدة ولكنها كلمة نفذت مباشرة إلى أعماق قلبها .
تلك الكلمة كانت ( جبانة )
الفصل السادس
وعادت نيرن تهبط جالسة على مقعدها في سيارتها الفان لحظة طويلة دون أن تهتم بدفء أشعة الشمس وهي تحاول التفكير في وضعها هذا ثم سحبت المفتاح من المحرك وهي تتأوه بخيبة أمل ، لتعيده إلى جيبها ثم جذبت الباب بعنف تفتحه وكانت قد قفزت لتوها إلى الأرض المغطاة بالحصى مغلقة باب السيارة بعنف لا ضرورة له إذ لم ينفع في تهدئة انفعالها ، عندما رأت ستروم غالبريث يخرج من المنزل بقامته الفارعة وسترته الجلدية السوداء وبنطلونه القاتم .
قال يخاطبها وهو يعيد بيده إلى الخلف شعره الأسود الذي كان يتلاعب به النسيم : " ظننتك خارجة بسيارتك هل غيرت رأيك؟ أم أنكِ نسيتِ شيئاً في المنزل؟ "
فأجابت وقد تجهم وجهها : " بالضبط لقد نسيت أن أملاً الخزان بالوقود ولا أدري كيف حدث هذا الإهمال مني . كما أن محطة البنزين لن تفتح قبل نصف ساعة ."
فقال : " لا بأس سأوصلك أنا إلى المكان الذي تبغين. "
ترددت وهي تنظر إليه مفكرة وقد ظللت عينيها بيدها تحميها من أشعة الشمس لقد شعرت بالسرور حين جاءها الدكتور كوغيل بمفتاح منزل آني يسألها إن كان بإمكانها أن تحزم بعض حاجات آني وتأخذها لها إلى دار المسنين ذلك أن هذا منحها فرصة رائعة لكي تتجنب البقاء في المنزل بصحبة ستروم . أما الآن فعليها إما أن تضيع نصف ساعة من وقتها في هذا الصباح الذي يتراكم فيه شغلها أو أن تجلس بجانبه عدة دقائق فقط في السيارة .....
وأخيراً قالت : " أشكرك لعرضك هذا . " ومشت إلى سيارتها تفتحها من الخلف .
فسألها قائلاً : " إلى أين نحن ذاهبان؟ إلى انفرنيس؟ أم إلى الجين؟ أم ترانا ذاهبين إلى سكاي؟ إنني لم أذهب مطلقاً إلى سكاي . "
فقهقهت نيرن ضاحكة بالرغم منها وهي تجيبه قائلة : " كلا إننا لسنا ذاهبين إلى سكاي وإنما إلى شارع ساوث ستريت الذي لا يبعد عنا أكثر من نصف ميل والسبب الوحيد الذي يجعلني أقبل بمرافقتك لي ، هو أنني أريد أخذ هذه إلى منزل آني ."
وأشارت إلى كومة من صناديق الكرتون الفارغة . فساعدها في نقل الصناديق إلى صندوق سيارته المرسيدس ، قبل أن يشير إليها بالصعود إلى سيارته الفارهة ولم ينطق بشيء إلا بعد أن تحركت بهما السيارة فقال يسألها : " هل تحزمين أمتعة عمة كيلتي؟ "
فأجابت : " نعم ويظهر أنها قلقة على أشيائها ، فقد سألني الدكتور كوغيل إذا كان بإمكاني أخذ ملابسها وأشيائها الخاصة إلى الدار لتجدها في انتظارها عندما تنقلها سيارة الإسعاف من المستشفى إلى هناك آخر هذا الأسبوع . "
وبينما كانت نيرن تتحدث ، نفذت إلى خياشيمها الرائحة العطرية الرجالية التي كانت اشتمتها ليلة وصول ستروم إلى منزلها وكانت ظنت ذلك الحين أن هذه الرائحة الغالية هي رائحة ماء الكولونيا ولكنها أدركت الآن أنها ليست كذلك و إنما هي محلول بعد الحلاقة فقد كانت في ذلك الصباح تنظف حمام غرفته أثناء تناوله الفطور عندما لاحظت الزجاجة الثمينة ببطاقتها السوداء والبيضاء ورأت نفسها ترفعها إلى انفها وأغمضت عينيها حينذاك وقد أعادت هذه الرائحة إلى ذهنها صورة الرجل الأنيق في هذه الغرفة الصغيرة وأعادت الزجاجة إلى مكانها بسرعة ولكنها لمحت وجهها في المرآة وهي تغادر الغرفة لترى شعور الذنب في عينيها واللون الذي صعد إلى وجنتيها ....
وأجفلت وهي تسمع الرجل الذي تفكر فيه يحدثها ، فقالت : " عفواً . "
فقال هازلاً : " إنني فقط أسألك عن الطريق ، فأنا لست قارئ أفكار . "
" من حسن حظي! "
فقال لها ضاحكاً : " ولماذا هذا التمني؟ هل كنتِ تفكرين في شيء لا تريدينني أن أعرفه ؟ "
قالت : " عليك أن تتحول من هنا ، نعم ، إلى اليمين ثم إلى شارع ساوث ستريت هنا تسكن العمة آني . ذلك المنزل الصغير ذو الباب البني اللامع بجانب عمود النور . "
و أمسكت بحقيبة يدها وما أن أوقف السيارة حتى أمسكت بمقبض الباب قائلة : " شكراً . "
لتسرع بعد ذلك نازلة إلى الرصيف وقبل أن تغلق الباب تابعت تقول : " إنني شاكرة لك حقاُ إحضاري إلى هنا وإذا كنت تريد العودة إلى المنزل لتناول الغداء سأراك هناك حوالي الساعة الواحدة ."
وما أن أغلقت الباب واستدارت لتبتعد حتى قال لها : " ألم تنسي شيء؟ "
وكان قد نزل بدوره واتجه إلى صندوق السيارة . فقد نسيت الصناديق الكرتونية وذلك في إسراعها للابتعاد عنه ولكن يبدو أن هذا لن يكون ممكناً وانتظرت حتى أخرج الصناديق ووضعها على الرصيف .
فقالت : " أشكرك مرة أخرى ، إن بإمكاني تدبيرها الآن . "
ولكنها عندما استدارت نحو باب البيت تفتحه لاحظت أن ستروم لم يذهب فقد كان واقفاً خلفهاً مباشرة .
ورفعت رأسها تنظر إليه عندما أمسك بمعصمها بأصابعه الباردة الحازمة وهو يقول : " كلا ، أنكِ لن تفعلي هذا . "
فسألته : " أفعل ماذا؟ "
فأجاب : " لن تبتعدي هكذا بسهولة ، إن الفضول يضغط علي لكي أعرف لماذا قلتِ من حسن حظي. "
وخاطبت نيرن نفسها آه انه ملحاح يا له من مأزق .
وقالت تجيبه : " قلت من حسن حظي لأنك قلت انك لست قارئ أفكار لأنني في تلك اللحظة كنت أفكر فيك هل رضيت الآن؟ . "
فأجاب : " آه يا سيدة كامبل إنني أحتاج إلى أكثر بكثير من مجرد كلمات لكي أرضى . "
وارتسمت على فمه ابتسامة عريضة جذابة تورد لرؤيتها وجه نيرن وهو يتابع قائلاً : " ولكنني أريدك أن تخبريني ما الذي كنتِ تفكرين فيه بشأني؟ "
فقالت كاذبة بلباقة : " إذا كنت تريد حقاً أن تعرف ، فقد كنت أتساءل من أين اشتريت محلول بعد الحلاقة الغالي الثمن هذا الذي تضعه. "
فعاد يبتسم لها ببطء : " آه ، محلول بعد الحلاقة إن اسمه ابن المدينة ولكنني لم اشتره انه هدية من شخص ما . "
وعرفت أن هذا الشخص ما هو إلا امرأة ما . لقد تضمنت لهجته هذه الحقيقة وشعرت بالحيرة والغضب من ردة الفعل عندها لما قاله ، إذ شعرت بقلبها يهبط بسرعة وهي تتصور امرأة شقراء ناعسة العينين تبتسم له وهي تقدم إليه هذه الهدية .
كان ستروم يراقبها بعينين يلمع فيهما الهزل . لقد قال لها انه ليس قارئ أفكار ولكنها الآن تتساءل عما إذا كان فعلاً كذلك .... يا للسخافة .
ولكنها قالت بمرح : " حسناً ، ألست رجلاً محظوظاً؟ والآن هل لك أن تترك يدي؟ إن ورائي أعمالاً كثيرة . "
ذلك أنها لاحظت لتوها أنه ما زال ممسكاً بمعصمها.
" صباح الخير يا نيرن "
نادها شخص ما من الرصيف المقابل ، فالتفتت فجأة بسرعة إذا كان الصوت مألوفاً لديها وعندما رأت شخصية المنادي صدرت عنها آهة خافتة . ذلك أنها لم تشأ لهذه المرأة من بين كل الناس أن تراها في هذا الوضع ، ( فاني وبستر) هذه موظفة البريد المتقاعدة ، إن بإمكانها هي نيرن أن ترى الفضول يتألق في عيني تلك المرأة رغم بعد المسافة و زجاج نظارتيها السميكتين .
فأرغمت نيرن نفسها على الابتسام وهي تحاول تخليص معصمها من يد ستروم دون نجاح بينما كانت ترد قائلة : " صباح الخير يا فاني ."
والآن سينتشر كل ما يحدث بينها هذه اللحظة وبين ستروم في كل أنحاء قرية غلينكريغ قبل أن ينتهي هذا النهار وهو أنها كانت واقفة في ساوث ستريت قبل الساعة التاسعة صباحاً مع رجل غريب متماسكي الأيدي ....
وقال لها : " هل أنتِ مضطربة لهذا يا نيرن؟ "
وكان جلياً من ابتسامته العريضة انه مستمتع جداً بارتباكها هذا . فرفعت بصرها إليه وقد توترت ملامحها وردت عليه بحدة : " كلا طبعاً وما الذي يجعلني أضطرب؟ "
فأجاب : " لأنها ستتحدث عنك أليس كذلك؟ "
فأجابت : " إنها ثرثارة كثيرة الكلام وإذا كنت تعيش في قرية صغيرة مثل غلينكريغ فان كل إنسان سيعرف عملك قبل أن تعرفه أنت تقريباً . "
فنظر بطرف عينه إلى تلك المرأة على الرصيف المقابل وهو يقول : " ها هي ذي قد وقفت ، إنها تتظاهر بالتفرج على واجهة المقهى ذاك ولكنها تراقبنا نحن بطبيعة الحال إنها تنظر إلى انعكاس صورتنا في زجاج الواجهة . أظن أنها تشعر بخيبة الأمل لأننا لا نفعل شيئاً سوى الإمساك بأيدي بعضنا البعض . "
فقالت : " إننا لا نمسك أيدي بعضنا البعض وإنما أنت الذي تحتجز معصمي بيديك ."
وتنفست الصعداء حين قاطعها قائلاً : " أريد أن اعترف لكِ بشيء وهو أنني لم ألمسك لكي أعطي فاني موضوعاً تتحدث عنه وإنما لأنني لم استطع مقاومة جمالك ."
تساءلت نيرن عن السبب الذي يجعله يردد على الدوام أنها جميلة ولماذا لا يجعل الأمور اقل تعقيداً وذلك بأن يقول الحقيقة وهو أنه إنما يشعر بالإعجاب نحوها ولا شيء آخر .
تأوهت بخيبة أمل وهي تفلت من ستروم ، محاولة أن تبدو بشكل طبيعي وهي تقول : " يجب أن أذهب الآن . "
ولكنها شهقت مستنكرة عندما تبعها إلى الداخل ، ثم أغلق الباب خلفهما وهو يقول : " سأساعدكِ ."
فقالت : " كلا . "
من أين أتاها هذا الرجل؟ وعادت تكرر للمرة الثانية والثالثة : " كلا ، كلا أشكرك أنا أعرف العمة آني لو ، واعلم أنها ستستاء جداً إذا علمت أن شخصاً غريباً خاصة إذا كان رجلاً قد عبث بخصوصياتها . "
وعندما أضاء الصالة ، أخذت تتساءل عن الطريقة التي تتخلص فيها منه . والتفتت لتنظر إليه فوجدته خلفها مباشرة يشرف عليها بقامته الفارعة رغم أن طول قامتها هي كان فوق المعدل، فقالت له بسرعة : " إذا كنت تريد أن تساعدني حقاً فما رأيك في أن تعود آلي حوالي الساعة الثانية عشرة لنأخذ هذه الصناديق قبل موعد الغداء وفي الطريق يمكننا أن نتوقف لنأخذ معنا بنزين لسيارتي ...."
وفجأة أدركت أنه لا يستمع إليها فقد كان ينظر من فوق كتفها إلى غرفة صغيرة من خلال بابها المفتوح فالتفتت ، لترى أنها غرفة كيلتي . كانت غرفة صغيرة جداً ذات نافذة عريضة وكان ستروم يحدق في جدار الغرفة الذي علق كيلتي عليه الصور الفوتوغرافية .
وبدا عليه أنه نسي تماماً نيرن وهو يتخطاها داخلاً إلى تلك الغرفة الصغيرة وهو يقول بشيء من الدهشة : " من الذي التقط هذه الصور؟ "
فأجابت : " إنها غرفة كيلتي . "
فقال : " نعم غرفة كيلتي ولكن من التقط هذه الصور؟ "
فأجابت : " انه كيلتي أليست رائعة الجمال؟ "
فبقى وقتاً طويلاً لا يتحرك وهو يحدق في الصور .
تنحنحت وهي تقول : " انك تراها جميلة أليس كذلك؟ "
وأخيراً أنهى تفحص الصور ، فالتفت إليها قائلاً : " ماذا قلتي؟ "
فأجابت : " انه موهوب .. أليس كذلك؟ "
وكانت تنظر إلى نسر ينطلق طائراً من على أعلى شجرة صنوبر
وتابعت تقول : " لقد شعرت بخيبة أمل كبيرة لأنه ترك هذه الهواية . "
فسألها بحدة : " ترك هذه الهواية؟ "
فأجابت : " نعم منذ وقت قصير ، لقد اخبرني بأنه فعل ذلك لأنه لا يوجد هنا مكان ليقيم غرفة التحضير المظلمة ولكنني أظن أن هنالك سبباً آخر لا أدري ماذا يمكن أن يكون والأسوأ من ذلك انه باع آلة التصوير الغالية والتي كان أبوه قد قدمها إليه منذ ثلاث سنوات في أحد الأعياد وقد كلفته ثمناً باهظاً ولكن هوغ دنبار ما كان ليضن بقطعة من كبده يقدمها إلى ذلك الصبي . "
فابتعد ستروم عنها فجأة ليسير نحو النافذة وقد توتر جسده حيث بقي مدة طويلة وظهره إلى الغرفة حتى أخذت هي تتساءل عما دهاه هل عليها أن تتقدم منه وتسأله عما به؟ ولكنها هزت رأسها شاعرة بأن ستروم يريدها أن تقترب منه فقد بدا عليه تماما أنه في عالم آخر مستغرقاً في أفكاره وأن هذه الأفكار لابد تتعلق بكيلتي . وبدا لها هذا وهي تخرج من الغرفة ، لغزاً كبيراً ، لغزاً لا يعرفه سوى ستروم وكيلتي .. وأغلقت الباب خلفها بهدوء ثم سارت نحو غرفة آني وأفكارها ما زالت تعمل . وأخذت تتساءل عما يدور حولها لقد تعقدت الأمور منذ جاء ستروم غالبريث إلى غلينكريغ . وكلما أسرع بالرحيل كان ذلك أفضل إذ يمكن عند ذاك للاستقرار أن يعود إلى حياتها .. هذه الحياة التي ستصبح اكثر غنى وبهجة بوجود كيلتي معها الآن ولكن ما أن فتحت أول درج لتخرج منه أشياء آني حتى أدركت وقد تملكها الذعر أن فكرة توديعها لستروم ثم لا تراه بعد ذلك أبداً لم تجد في نفسها أي نوع من السرور كما كانت تظن.
وعندما سمعت بعد لحظات صوت الباب الخارجي يغلق خلفه ، أخذت تحدق في فضاء الغرفة بعينين لا تريان .
وعندما أنهت نيرن حزم حاجيات آني بالكامل وقفت تنظر حولها إلى الغرفة الخالية ويداها على وركيها . وأجفلت وهي تسمع طرقاً عالياً على الباب الخارجي وألقت نظرة على ساعتها لتجدها الثانية عشر إلا ربعاً ، ولكن ربما الطارق هو ستروم قد عاد مبكراً.
وتساءلت وهي تذهب لتفتح الباب عما عسى أن يكون عليه مزاجه الآن . هل تراه ما زال ذاهلاً متوتراً كما كان عندما رأى عرض صور كيلتي الفوتوغرافية؟
ولكن توترها ما لبث أن تلاشى حين رأت أن القادم لم يكن ستروم بل فلورا ماكدونلد زوجة رجل الدين .
وهتفت نيرن تحيي المرأة المسنة بابتسامة صادقة : " فلورا ما أجمل أن أراك ، إن آني ليست هنا مع الأسف ...."
فأجابت المرأة : " إنني أعلم أنها في المستشفى ولكنني رأيت فاني منذ ساعة فأخبرتني أنكِ هنا . وأنا أريد أن أتحدث إليك أنتِ . "
وعضت على شفتيها وهي تنظر إلى حقيبة صغيرة كانت في يدها وعندما رفعت عينيها إلى نيرن لاحظت هذه أنها قلقة فسألتها : " ألا تدخلين؟ "
فأجابت : " ليس لدي وقت يا نيرن فان علي أن أعود لأصنع الشطائر لاجتماع الرابطة عصراً . "
فهتفت نيرن : " آه الاجتماع .. لقد كدت أنسى ذلك ."
وسمعت صوت سيارة تقف على بعد أمتار منهما ومن زاوية عينها رأت ستروم قادماً نحوهما ولمست ذراع فلورا برقة وهي تسألها : " أي خدمة تريدينها مني؟ "
فأجابت المرأة : " إنني أكره أن أضايقك ولكن الدكتور كوغيل قال لزوجي إن كيلتي يسكن معك الآن ففكرت في أنني ينبغي أن أراك بشأن ...."
فقاطعتها : " كيلتي ."
فأجابت المرأة : " لقد باع كيلتي آلة التصوير إلى ابني دنكان وهو سيذهب إلى الجامعة السنة القادمة وقد دفع له ثمنها من نقوده الخاصة وهي النقود التي وضعت جانباً لأجل تكاليف تعليمه في الجامعة ، لقد تحدثنا طويلاً الليلة الماضية .. أنا وزوجي بيتر ودنكان الذي اعترف بأنها كانت مجرد نزوة طارئة منه وقد غير رأيه فلم يعد يرغب في آلة التصوير هذه ."
وبدا التوسل في عينيها وهي تتابع قائلة : " أيمكنك أن تقنعي كيلتي لكي يعيد النقود إلى دنكان؟ انه فعلاً بحاجة إليها . "
كان ستروم قد وقف بجانبهما الآن ما لم يدع لنيرن أي شك في أنه قد سمع حديثهما كاملاً ولكنها كانت مشغولة عنه بالحديث إلى المرأة قائلة : " إنني متأكدة من أن كيلتي لم يرغب في بيع آلة التصوير ولكن ليس لدي فكرة عما فعل بالنقود ربما قد احتاجها لأمر ما . "
وكادت الدموع تطفر من عيني المرأة وهي تقول : " آه، إنني لم أفكر في ذلك في انه قد يكون أنفق النقود. "
وفجأة قال ستروم : " وهل آلة التصوير معك هنا؟ "
فقالت نيرن للمرأة : " أقدم إليك ستروم غالبريث وهو نزيل عندي في برواش .. وهذه السيدة ماكدونلد."
فصافحته فلورا ثم أخرجت آلة التصوير من الحقيبة وهي تقول : " هذه هي لقد اشتراها ابني من ......."
فقاطعها قائلاً : " إنني أتعاطف معك في ورطتك هذه ."
وتناول منها آلة التصوير يتفحصها قائلاً :" ما هو الثمن الذي دفعته فيها؟ "
وتمتمت فلورا تذكر الثمن بصوت لا يكاد يسمع وكادت نيرن تصرخ ذعراً لقد كانت هازيل ذكرت لها أن زوجها دفع الكثير ثمناً للآلة هذه ولكنها لم تكن تتصور أن يصل إلى هذا الحد .
سحب ستروم دفتر الشيكات من جيبه وحرر لها شيكاً مصرفياً في لحظات ثم ناوله للمرأة وهو يقول باسماً : " هاكه ، واخبري ابنك أن لا يكون متسرعاً بعد الآن للحصول على ما يشتهيه وسأسوي أنا الأمر مع كيلتي . "
وسرعان ما كانت فلورا تنطلق في الشارع وقد بان الارتياح في عينيها .
نظرت نيرن إلى ستروم ، إلى قامته الفارعة والجاذبية الأخاذة التي تشع منه ثم قالت مظهرة غضباً اكثر مما تشعر به حقاً : " ألا تظن أن في عملك ذاك شيئاً من الجسارة؟ إنني لا أنكر كرمك فقد رفعت عن كاهل المرأة حملاً ثقيلاً فقد كانت في غاية القلق لأجل النقود ولكن الحقيقة أن هذا الأمر كله لا دخل لك فيه وليس هكذا يكون التصرف بشأنه . "
فنظر إليها قائلاً : " معكِ حق ولكنها كانت طريقه مناسبة وأنا سأسوي الأمر مع كيلتي فلا تقلقي ."
فسألته : " أتعني أنك ستطلب منه أن يعيد إليك النقود التي دفعتها إلى فلورا . "
فأجاب : " نعم ."
فقالت : " وماذا لو لم يكن يملك هذه النقود؟ "
فقال : " إنني مدرك أنه ربما سبق وأنفقها كلها أو بعضها ولكنني متأكد من أننا سنصل إلى نتيجة . "
فقالت : " هل نسيت ما سبق وأخبرتك به من أن كيلتي ترك التصوير؟ ربما ما عاد بحاجة إلى آلة التصوير هذه ."
فقال بحدة : " إن هذا الصبي موهوب ، لديه موهبة كبيرة فعليه أن لا يهملها فهو مسؤول عن استخدامها بالكامل . "
أرادت أن تصيح به أنها معه في قوله هذا ولكن ستروم لم ير مبلغ ذهول واضطراب كيلتي وهو يخبرها أنه لم يعد يهتم بالتصوير الفوتوغرافي فما هو موقف الغلام الآن عندما يقدم ستروم آلة التصوير أليه طالباً ثمنها؟
دقت الساعة الواحدة بعد الظهر وتنهدت هي باضطراب . لا فائدة من الوقوف في الشارع والجدل مع هذا الرجل .
وقالت له : " تفضل بالدخول فكل الصناديق جاهزة وشكراً لرجوعك ."
فأجاب : " لا بأس والآن في أي وقت يعود كيلتي من المدرسة؟ "
فأجابت : " في الرابعة ."
فقال : " أرني مكان المدرسة ونحن في الطريق فإنني أريد أن انتظره خارج المدرسة لاتحدث إليه . "
فهزت رأسها قائلة : " ليس اليوم فقد ذهب في رحلة مدرسية إلى مدينة أباردين لحضور مسرحية هاملت وسيعودون متأخرين في الليل وسيكون هو متعباً ، الأفضل أن تدع الأمر إلى الغد ."
كان غريباً أن ترى التوتر يمتلك ستروم كلما نظر إلى كيلتي . وإذا كان ما افترضته من أنه ربما كان يعرف هازيل ... إذا كان هذا صحيحاً فهذا هو سر ذلك التوتر إذن ولهذا استعاد آلة التصوير! لأنه رأى أن الغلام ذو موهبة فهل لذلك سبب آخر يا ترى؟
هل هنالك شيء آخر؟ شيء لا تستطيع هي رؤيته؟ لم تستطع أن تجيب عن هذه الأسئلة التي تقلقها .
قال ستروم مقاطعاً أفكارها : " إلى الغد إذن واليوم بعد أن نأخذ هذه الصناديق إلى دار المسنين سآخذك لتناول الغداء . "
وفكرت هي أن هذا ليس صواباً إذ من الأفضل أن تقلل من فترات صحبتها لهذا الرجل قدر استطاعتها . فأجابته قائلة : " هذا لطف منك وإنما علي أن أحضر اجتماع الرابطة في منزل فلورا بعد الظهر . "
فأجاب وعيناه تبتسمان لها : " إذن ، فستأتين معي للعشاء هذا إذا كنتِ لم تضعي خطة مسبقة بشأن عشائك ."
ولم تستطع أن تكذب فأجابت : " كلا ، ليس لدي خطة مسبقة للعشاء ."
فقال : " سأحجز إذن مائدة في مطعم فندق هيذرفيو ."
فقالت : " آه .... ولكن ......" وعضت شفتها فقد اعتادت أن تذهب مع روري إلى ذلك المطعم دوماً في المناسبات وكانا عادة يحجزان إحدى الموائد المسؤولة عنها هازيل والتي كانت تشتغل نادلة هناك منذ دخل كيلتي المدرسة . ومنذ وفاة زوجها لم تذهب نيرن إلى ذلك المطعم وذلك تجنباً لفيض الذكريات المؤلمة .
وقال : " لقد استقر الرأي إذن؟ في هيذرفيو؟ "
فتنهدت وهي تجيب : " لا بأس في هيذرفيو . "
الفصل السابع
كانت الليلة مظلمة عندما أوقف ستروم غالبريث سيارته المرسيدس ثم تخطى مع نيرن السيارات المتوقفة هناك . وفي الردهة ، ساعدها على خلع معطفها وعيناه لا تخفيان نظرة الاستحسان التي شمل بها قميصها الحريري الذهبي اللون و تنورتها الواسعة .
وتمتم وهو ينظر إلى شعرها : " يا للجمال الرائع ."
وشعرت بوجهها يتوهج.
قال لها : " انكِ تبدين وكأنك بفتنتك وعذوبتك خارجة من إحدى لوحات الرسام رامبراندت الرائعة . "
وتورد وجهها لإطرائه ذاك إلى حد لم يحلم رامبراندت بمثله . وقالت تخفي ارتباكها : " إنكم يا أبناء المدن تحسنون الكلام ."
وسمعته يضحك وهو يناول المستخدم معطفها ثم يقودها إلى الصالة وهو يقول :" لم لا تتقبلين الإطراء بسهولة؟ "
فقالت : " لا أدري . ربما لأن أمهاتنا علمتنا أثناء طفولتنا أن لا نكون مغرورات."
فسألها : " وهل كن يعلمن الأطفال الذكور أن لا يكونوا مغرورين هم أيضاً؟ "
فأجابت : " لا ادري لأنه لم يكن لدي اخوة ذكور . لا بد انك تعرف هذا بنفسك هل كانت أمك تعلمك في طفولتك عدم الغرور؟ أم انك لم تكن طفلاً قط؟ "
وكان الآن قد وصلا إلى مدخل غرفة الطعام فوقفا عند العتبة ورفعت هي بصرها إليه بهذا السؤال ولدهشتها رأت مسحة من الألم تكسو ملامحه لحظة ، سرعان ما تلاشت لتحل محلها ابتسامة وهو يقول : " ربما معك حق . ربما ما كنت أنا طفلاً قط "
فقالت : " ربما أنت تتقبل الإطراء بسهولة ."
فسألها : " لماذا لا تجربينني؟ "
فأجابت تسأله : " أجربك؟ "
فقال : " نعم وجهي ألي إطراء يا سيدة كامبل وانظري ردة الفعل عندي لذلك ."
فقالت : " آه .. لا أظن ."
فقاطعها رافعاً حاجبه بسخرية : " لا تظنين أن في شخصي ما يعجبك؟ لا أظنني من البشاعة بحيث ......"
فقاطعته : " بشاعة؟ آه انك غير بشع ...." وسكتت وهي تفكر يا لصراحتي .. إن هذا قد أوقعني حقاً .
قال : " آسف فالإطراء الذي يوجه بشكل نفي لا يعتد به قولي ذلك بأسلوب آخر."
فأخذت تفكر بمقدار حماقتها وهي ترى نفسها قد انخرطت برغمها في هذه اللعبة .. كيف تقول شيئاً لا يدخل في الخصوصيات؟ هل تقول له أن لك عينين جميلتين؟ نعم هذا حسن لأن عينيه هما جميلتان حقاً .
وتنحنحت وهي تقول : " إن عينيك عندما تنظران ألي .... أشعر وكأنهما ينومانني مغناطيسياً ......." وسكتت ذاهلة .....
وهتف بها وعيناه تلمعان : " هذا عظيم انه أعظم إطراء تلقيته منذ سنوات إنني سأستغل طبعاً هذه المعلومات عندما تحين اللحظة المناسبة شكراً يا سيدة كامبل ..."
وفجأة كان رئيس المضيفين الفرنسي واقفاً أمامهما يقول موجهاً كلامه لنيرن :" نيرن يا عزيزتي ما أجمل أن أراك مرة أخرى تتألقين بكل هذه الفتنة . انكِ ستنيرين المكان وسيخطف جمالك الأنظار ."
وكان يتكلم بلغة هي خليط من الفرنسية والإنكليزية .
أوشكت أن ترد عليه قائلة كعادتها من قبل ، آه يا ( آلان ) ... انك تبالغ في المديح .. عندما وكزها ستروم ما جعلها تغير كلامها فتقول : " أشكرك يا آلان . "
وعاد آلان يقول بعطف : " كم أنا آسف يا عزيزتي لما سمعته عن وفاة زوجك فهل هذا سبب عدم حضورك إلى هنا؟ هل بسبب الذكريات المؤلمة؟ "
فأجابت نيرن بصوت أجش : " نعم إن الذكريات مؤلمة حقاً . "
فقال : " آه .... ولكن مرور الزمن يخفف من ذلك والآن؟ "
ولأول مرة ينقل بصره إلى ستروم قائلاً : " آه .. السيد غالبريث أهلاً بعودتك إلى مؤسستنا هذه . "
وأدركت نيرن أن الإكرامية السخية التي لابد منحها ستروم لرئيس الندل عند حضوره سابقاً إلى هذا المكان ، لا بد أنها كانت شيئاً لا ينسى .
و أشار إليهما آلان قائلاً : " اتبعاني ، وستكون لكما أحسن مائدة في هذا المكان ."
وعندما جلسا نظرت هي إليه باسمة وقالت : " إن القاعة مزدحمة كالعادة أليس كذلك؟ "
فأجاب : " نعم ، كالعادة ولو أنني أفتقد تلك المرأة السمراء التي لا يمكن أن تعوض كم كانت عاملة مجدة ، كما أنها طيبة ... طيبة ... "
وهز رأسه بأسى ثم ابتعد .
ونظرت إلى ألسنة اللهب المتصاعدة من المدفأة ... وفاضت ذكرياتها .. ما أكثر ما ترددت إلى هذا المكان مع روري ...
وقال ستروم فجأة : " هل ترين صوراً في تلك النيران؟ "
فأجفلت وهي تلتفت إليه قائلة : " آسفة ... كنت فقط ..."
فقاطعها قائلاً : " تفكرين في الماضي أليس كذلك؟ لقد فهمت من كلام آلان أنكِ وزوجك ، كنتما تترددان إلى هذا المكان ، و أن هذه أول مرة تحضرين إلى هنا بعد ... وفاته؟ "
فأجابت : " نعم، لقد كنت أتجنب ذلك ...."
فقال : " ولماذا لم تقولي شيئاً عندما دعوتك للحضور إلى هنا؟ آه لقد ترددتِ فعلاً وكان علي أن أدرك ..."
فقالت : " وكيف كان لك أن تعلم؟ كما أنني مسرورة لحضورنا وأول مرة هي صعبة طبعاً بالنسبة ألي ."
كان العشاء رائعاً مؤلفاً من سمك السلمون المشوي كطبق رئيسي ودهشت هي إذ لاحظت أن حديثهما معاً طوال الوقت لم يتوقف ، رغم أنها لاحظت في النهاية أن ستروم كان يشجعها على الدوام على أن تكون هي المتكلمة وكان يبدو مستمتعاً حقاً بحديثها عن عملها وعن قريتها بشكل عام .
ولكنه لم يتطرق مرة واحدة إلى الكلام عن كيلتي وعن أمه هازيل .
ولكنه ما لبث أن قال وهو يستند إلى ظهر كرسيه بكل راحة وعلى شفتيه ابتسامة هازلة : " وماذا عن تلك المرأة السمراء؟ و الطيبة؟ من هي هذه الطيبة التي جرؤت على أن تترك عملها لتترك رئيس الندل في هذا الموقف الحرج؟ "
فأجابت : " انه كان يتحدث عن هازيل والدة كيلتي وأنت مخطئ فهي لم تترك عملها ، لقد ماتت ."
وسرعان ما شعرت نيرن بغصة في حلقها فلم تستطع متابعة كلامها بينما طفرت الدموع من عينيها . بحثت في حقيبتها عن منديل تمسح به دموعها تلك . كانت تعلم أن الذكريات ستؤلمها في هذا المكان وكان عليها أن تتمالك نفسها .
سألها : " هل أنتِ بخير؟ "
فأومأت برأسها قائلة : " نعم إنني بخير الآن افني آسفة إذ أثار شجوني الحديث عن هازيل. "
فسألها : " هل كانت صداقتكما متينة؟ "
فأجابت : " نعم جداً "
فسألها ثانياً :" وهل كانت تثق بكِ "
فأجابت : " تثق بي؟ "
فقال : " أعني أنها تطلعك على كل أسرارها ."
كان صوته يبدو متحدياًَ بشكل غريب . ما الذي كان يرمي إليه؟ و أجابته قائلة :" أسرارها؟ لم تكن هازيل من النوع الذي يحتوي على أسرار لقد كانت ...."
فقاطعها : " طيبة ....." وأطلق ضحكة استخفاف وهو يتابع : " امرأة طيبة؟ الطيّبة تعني شخصاً بالغ الطهارة وليس هناك امرأة حية تستحق هذا الوصف ."
دفعت نيرن كرسيها إلى الخلف بعنف ووقفت تتناول حقيبتها بيديها الاثنتين وهي تنظر إلى ستروم قائلة : " افني لن أدعوك حيواناً متعصباً لأن أمي علمتني بجانب أن لا أكون مغرورة ، علمتني أيضاً أن لا أشتم أحداً وان كان يستحق ذلك وعلى كل حال فأنا أقول لك انك قد أفسدت أجمل أمسية مرت بي منذ أشهر أما الآن فأنا ذاهبة . "
وشقت طريقها دون اهتمام به بين الموائد متجهة إلى الصالة حيث مركز المعاطف وبينما كانت تطلب معطفها كانت تتمتم ، فظ متغطرس لا يحتمل ...
وجاءها صوته من خلفها : " انه فعلاً يستحق هذه الصفات الثلاث ."
واستدارت على عقبيها شاعرة بيده تقبض على كتفيها بقوة وهو يقول : " إنني مذنب يا سيدتي فهل تصفحين؟ "
و أوشكت أن تقول بحدة كلا وأي امرأة ترضى بأن تحشر بين النساء اللاتي لا يمكن الوثوق بهن؟ ولكنها كانت تعلم أنه لم يكن يوجه كلامه إليها هي بالذات ولا بد أن تجربة مرت به في حياته جعلته يفقد ثقته بالجنس الآخر .
وبينما أخذ ستروم يساعدها في ارتداء المعطف قالت له : " سأصفح عن إفسادك لأمسيتنا هذه أما ما قلته عن النساء فليس الصفح أو عدمه بيدي إذ من الواضح أن تجربة سيئة مرت بك تركت تأثيرها على حكمك عليهن . ربما ستقابل يوماً ما امرأة تحوي على ما يرضيك في المرأة وما أرجوه هو أن تجد هي فيك أيضاً كل ما يرضيها في الرجل . "
فقال باسماً : " آه إنها ضربة قوية . "
فأجابت : " وأنت تستحقها . "
فقال : " أسلم بهذا هل عدنا صديقين؟ "
فسارت أمامه وهي تقول ساخرة : " وهل كنا صديقين من قبل؟ "
فمشى بجانبها وهو يجيب : " نعم يا نيرن لقد كنا صديقين من قبل ومن الغريب أنني أشعر وكأننا سنكون صديقين على الدوام . "
وأخبرتها دقات قلبها وهي تتوجه معه نحو سيارته بأنهما لن يكونا مجرد صديقين ذلك أن مشاعرها نحوه أقوى وأكثر تعقيداً من أن تكون مجرد مشاعر صداقة عادية كان يساورها إحساس عميق بأنها إذا هي أفسحت المجال لهذا الرجل فسيقلب حياتها رأساً على عقب مبدداً السلام الذي سبق وجاهدت للحصول عليه منذ وفاة زوجها روري ذلك أن قلبها ما زال جريحاً وهي لن تكرر التجربة مرة أخرى ومن الأفضل لها أن تبقى في زاويتها الهادئة .
إنها حلما يصلان إلى بيتها ستستأذن ثم تصعد إلى غرفتها انه لم يقل كم يوماً سيمضي في غلينكريغ .. ولكنها ستسأله عن ذلك غداً آملة أن يسرع بالرحيل .
ولكنها ستنتظر إلى أن يتحدث مع كيلتي بشأن آلة التصوير .
ولم يتحدث ستروم في الأمر في الصباح التالي حتى انهوا هم الثلاثة تناول الفطور كانت نيرن تغسل إناء القهوة في الحوض بينما وقف كيلتي قائلاً انه سيتوجه إلى المدرسة عندما وقف ستروم مسنداً ظهره إلى النافذة وهو يقول : " انتظر لحظة .. إن لي كلمة معك . "
فاستدار الغلام يواجهه قائلاً بأدب : " ليس عندي وقت كاف ما هي؟ "
فقال ستروم عابساً : " لقد جاءت والدة دنكان ماكدونالد إلى نيرن أمس لتخبرها أن أبنها اشترى منك آلة التصوير بالنقود المدخرة لتعليمه . "
ولم يبد على كيلتي أي ردة فعل لهذا الكلام سوى اضطراب خفيف في نظراته .. وعندما لم يتكلم ، تابع ستروم : " إن والدة دنكان تريد استرداد النقود . "
فبدا الشحوب على وجه الغلام وهو يقول : " إنها كانت معاملة بيع وشراء بيني وبين دنكان ولا يمكنني إعادة النقود إليه .. إن عليه أن يحتفظ بآلة التصوير . "
ولاحظت نيرن في صوته ألماً دفيناً وهو يقول ذلك .
قال ستروم : " إن آلة التصوير هي معي . "
فبدا الذهول في عيني الغلام ولكنه هز كتفيه قائلاً بصوت مرتجف قليلاً : " احتفظ بها لنفسك إذن فأنا لا أريدها . "
فانفجر ستروم قائلاً بحدة : " إنني لا أريدها أنني أريدك أن تستردها فقد كنت رأيت تصويرك الفوتوغرافي .. وهو حسن جداً ، طبعاً ما زال أمامك الكثير لتتعلمه ولكن عندك الموهبة لقد أعدت أنا ثمن آلة التصوير وسنصل إلى نتيجة بيننا يمكنك أن تعيد إلى النقود على أقساط ولا يهمني كم سيأخذ ذلك من الوقت ولا أظنك أنفقت النقود كلها . كم بقي معك؟ "
فتورد وجه كيلتي وهو يقول : " لا شيء ."
فقال ستروم بحدة : " هل ذهبت كلها؟ وعلى ماذا أنفقتها؟ "
ولجزء من الثانية ، تجمد المشهد أمام عيني نيرن ، لترى أن الرجل والغلام متماثلان تقريباً وكأنهما صنعا من معدن واحد . نفس لفتة الرأس ونفس تكوين الوجه ونفس الفك ونفس العنق القوي ونفس الكتفين العريضين ونفس الأصابع الطويلة ...
ثم تحرك المشهد لتدرك أن ستروم ما زال يتحدث وبسرعة بلهجة يشوبها شيء من الذعر : " أي نوع من الفتيان أنت؟ كيف تتخلى بسهولة عن شيء مثل هذا كان عليك أن تحتفظ به؟ إن أباك حسب قول نيرن قد ضحى بالكثير لكي تحصل على آلة التصوير تلك .... ما الذي كنت تريده بثمنها؟ "
فازدرد كيلتي ريقه ثم تنحنح قائلاً بصوت متردد : " كان شيئاً أنا بحاجة إليه ...."
كان في صوته توجس مما عسى أن تكون ردة فعل ستروم لهذا ما جعل نيرن تشعر بالألم لأجله وأرادت أن تقول شيئاً ولكن راعها أن انفجر ستروم يقول بخشونة : " شيء أنت بحاجة إليه؟ انك غير مدمن على المخدرات أليس كذلك يا فتى؟ "
فاتسعت عينا الغلام وحملق في ستروم لحظات وكأنه لم يفهم ، ليصرخ بعدها بصوت يختنق بالألم وكأن ستروم وجه إليه ضربة : " كلا ... هذا غير صحيح طبعاً لا ... هذا غير ممكن .. كيف أمكنك أن تفكر ...."
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
مشكور علي الطرح
جلنار- مستشار
-
عدد المشاركات : 19334
العمر : 35
رقم العضوية : 349
قوة التقييم : 28
تاريخ التسجيل : 19/07/2009
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
شكرا للمتابعة
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
مشــــاركه خبـــرهـا مــو هنـــا بلكــل.:.بــــــــــــــــــــــارك الله فيك...
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
شكراً للمروركم الرائع نورت الموضوع
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
لك الشكراخى الكريم على هذا الجهد
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
شكرا للمرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
amol- مستشار
-
عدد المشاركات : 36762
العمر : 43
رقم العضوية : 2742
قوة التقييم : 9
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
شكرا للمرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
مواضيع مماثلة
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 1
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
» سامحني فانا الآن احبك احبك
» دعني.........
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 1
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
» سامحني فانا الآن احبك احبك
» دعني.........
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:56 am من طرف STAR
» مخمورا حافي القدمين يجوب الشوارع.. لماذا ترك أدريانو الرفاهية والنجومية في أوروبا وعاد إلى
اليوم في 8:42 am من طرف STAR
» نصائح يجب اتباعها منعا للحوادث عند تعطل فرامل السيارة بشكل مفاجئ
اليوم في 8:37 am من طرف STAR
» طريقة اعداد معكرونة باللبن
اليوم في 8:36 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:34 am من طرف STAR
» مشاركة شعرية
أمس في 12:28 pm من طرف محمد0
» لو نسيت الباسورد.. 5 طرق لفتح هاتف أندرويد مقفل بدون فقدان البيانات
2024-11-03, 9:24 am من طرف STAR
» عواقب صحية خطيرة للجلوس الطويل
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» صلاح يقترب من هالاند.. ترتيب قائمة هدافي الدوري الإنجليزي
2024-11-03, 9:23 am من طرف STAR
» زلزال يضرب شرق طهران وسط تحذيرات للسكان
2024-11-03, 9:22 am من طرف STAR
» أحدث إصدار.. ماذا تقدم هيونداي اينيشم 2026 الرياضية ؟
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» بانكوك وجهة سياحية تايلاندية تجمع بين الثقافة والترفيه
2024-11-03, 9:21 am من طرف STAR
» مناسبة للأجواء الشتوية.. طريقة عمل كعكة التفاح والقرفة
2024-11-03, 9:20 am من طرف STAR
» صلى عليك الله
2024-10-30, 12:39 pm من طرف dude333
» 5 جزر خالية من السيارات
2024-10-26, 9:02 am من طرف STAR