إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
الفصل الثالث
كانت الغرفة التي تلي السقف مباشرة في المنزل ، تمتد على طول السطح ويصعد إليها بواسطة سلم خشبي حلزوني ضيق يبدأ من فجوة في الطابق الثاني .
وبينما كانت نيرن تصعد السلم المظلم ، أخذت تصفر بصوت عال . ولم تكن تشعر بالعصبية عادة ولكنها كانت تتساءل عما إذا كانت فكرة أقفالها الباب الأمامي والخلفي هي فكرة حسنة حقاً رغم أنها فكرة عديمة الذوق . ذلك أن نزل برواش كان دوماً منزلاً مفتوحاً للمراهقين العاملين في هذا المكان فهو الملجأ لهم ليلاً ونهاراً ، عندما لا يتمكنون من التصرف في منازلهم . ولم يكن من غير المعتاد أن تنزل نيرن صباحاً إلى المطبخ لتجد غلاماً مستغرقاً في النوم وقد تكوم على نفسه بجانب الكلب شادو على سجادة قرب الموقد ، ولكن روري لم يعد معها الآن لقد أصبحت امرأة تعيش بمفردها وربما من الحكمة أن تكون أكثر حذراً في المستقبل وفي نفس الوقت ذكرت نفسها عابسة بتلك الضجة التي سمعتها البارحة بينما الفتيان كانوا بعيدين عنها مئات الأميال ، فلا يمكن إذن أن يكونوا مسؤولين عن ذلك ولكنها كانت تعلم أنه لن يقر لها قرار قبل أن تعرف سبب تلك الضجة والذي قد لا يعدو كما حدثت نفسها ، أن يكون مجرد فأرة قد أوقعت المصباح النحاسي القديم .
وابتدأت تطوف في المكان عاقدة ذراعيها فوق صدرها ، ومرت عدة دقائق اقتنعت بعدها أنه لا يوجد من هو مختبئ في أحد الصناديق أو الأكياس المتراكمة تحت رفارف القرميد . لم يبق سوى مكان واحد عليها أن تبحث فيه وشعرت بنبضات قلبها تتسارع . إنها الغرفة الصغيرة في آخر السطح والتي لا تحوي شيئاً سوى سرير نحاسي أثري يبدو أن خادماً كان ينام فيه في الأيام الخوالي .
دفعت الباب بحذر بأطراف أصابعها وصدر عن مفاصله أزيز عال شق الصمت ولكنها ما أن جالت بنظراتها في أنحاء الغرفة حتى تنهدت بارتياح ، طبعاً لا يوجد هنا أحد . لقد سبق وتوقعت أن تكون الغرفة خالية ، ولكن .......
وصدرت عن نيرن شهقة وهي ترفع يدها إلى عنقها ... آه ... صحيح أن الغرفة كانت خالية تماماً ، حالياً ولكن شخصاً كان فيها ، ومنذ وقت قصير جداً وحدقت في مجموعة المفارش الواقعة على الأرض ، ويظهر أن سقوطها كان سبب تلك الضجة التي كانت سمعتها واستدارت عيناها وهي تحملق في تلك البطانية العسكرية التي كانت ملقاة على تلك الكومة في الوسط ما جعلها لا تكاد تلاحظ علبة السجائر الفارغة التي كانت على الأرض قرب رأس السرير وإلى جانبها كان غطاء علبة صفيح يحتوي على رماد السجائر و أعقابها . لقد كان هنا شخص ما ، الليلة الفائتة بينما كانت هي نائمة . شخص قد أشعل خمس سجائر كما كانت عدتها ودخنها في منزلها.
وداخلها الغضب . كان غضباً جامحاً اكتسح كل شعور بالخوف ولكنها أدركت أن الشخص الذي كان هنا ، قد رحل عن المنزل لقد أحست بذلك وإحساسها لم يسبق أن خذلها من قبل.
تنفست بعمق ، ثم تراجعت خارجة من الغرفة مغلقة الباب خلفها وحدثت نفسها بأن لا تستعظم هذا الأمر ، وأن تفسير ذلك قد يكون غاية في البساطة . انها على الأقل قد أدركت السبب في أن ستروم لم يسمع الضجة ذلك أن غرفته واقعة في الطرف الآخر من .......
وتعالى صوت عجلات سيارة على الحصى تبعها صوت الكابح بصورة عنيفة مفاجئة ما شعرت معه بالفزع لقد بدا لها وكأن شخصاً ما قد قذف بنفسه أمام السيارة فوقفت هذه بهذا الشكل أمام منزلها بالضبط ... ومهماً يكن صاحب السيارة فهو يبدو على عجلة كبيرة من أمره أتراها حالة ما مستعجلة؟
وهبطت السلم الحلزوني بأسرع ما أمكنها ، وقلبها يخفق عالياً لتتحول بعده إلى السلم الرئيسي حيث أمكنها أن تزيد من سرعتها . وما أن وصلت إلى الدرجة الأخيرة حتى تصاعد رنين جرس الباب وكان الصوت مفاجئاً لها ، ما جعلها تطلق صرخة صغيرة هتفت بعدها : " إنني قادمة . " واجتازت الصالة إلى الباب وهي تكاد تتعثر في ركضها ، ومن ثم فتحته بعنف : " ما هذا........؟ "
ولم يعد بإمكانها أن تطلق أي كلمة أخرى ... لم تستطع حتى ولو دفعت لها ثروة بأكملها .. ذلك أن المشهد الذي بدا أمامها ما كان ليطرأ على مخيلتها ولو بعد ألف عام !
كان ستروم غالبريث واقفاً أمامها وقد أوشكت ملامحه على التفجر وكأنه ابتلع لتوه شحنة من الديناميت .
كان ممسكاً برقبة غلام يكاد يبلغه طولاً ... ذا وجه شاحب قذر يبدو عليه الغضب والتوعد . غلام تعرفه هي جيداً ، غلام بإمكانها أن تميزه في أي مكان ، إذ من غيره يملك هذه القامة الشامخة ذات الأطراف الطويلة النحيلة ، وهذا الشعر ذا اللون الفاحم اللامع الميال إلى الاحمرار؟ من غيره يضع في شحمة أذنه اليسرى دبوساً ... ومن غيره يمكنه أن يختال زهواً بمثل هذا القميص القديم المقفل وهذه التنورة الجبلية السوداء الباليه المعلقة على وركيه النحيلين ، متأرجحة حول ساقيه القويتين البارزتين العضلات؟ انه كيلتي دنبار ..... آه وحدثت نيرن نفسها بهلع عما كان يفعله هنا وقد سبق ورأته بنفسها يستقل الحافلة ، صباح أمس؟ ومن المفروض أن يكون الآن في البحر في السفينة كوينز بونتي .....
وما الذي اقترفه يا ترى ليستحق هذه المعاملة التي يعامله بها ستروم غالبريث؟
فتحت نيرن الباب على مصراعيه وهي تشير إليهما بيدها بالدخول قائلة بصوت يخالطه الارتباك : " أدخلا ، لكي توضحا الأمر . "
فدفع ستروم الغلام أمامه لاوياً ذراعيه بغلظة وهو يقول له : " أدخل . " ورأت نيرن شفتيه تنطبقان بصرامة عندما أفلت كيلتي من يده ، ليتراجع متعثراً نحو القنطرة المصنوعة من خشب السنديان ، والتي تسند سقف الصالة .
التفت إليها ستروم بصوت يفور بالغضب : " نوضح الأمر؟ اسأليه هو أن يوضح ذلك هيا ، أذكر اسمك يا فتى وإياك وأن تجرب علي ألاعيبك وإلا استدعيت الشرطة . "
وكانت عينا الغلام الرماديتان خاليتين من التعبير وهو يتجنب النظر إلى وجه سائله بينما أخذ يتمتم بشيء غير مفهوم .
فصرخ به ستروم بحدة : " تكلم بصوت عال . "
فرد عليه الغلام بحدة : " دنبار . " ولم تعد عيناه الآن تتجنبان وجه ستروم فقد كانتا على العكس ، مثبتتين على وجهه وقد بان فيهما التمرد وهو يتابع بوقاحة : " سومرليد دنبار وأصدقائي يدعونني كيلتي أما أنت فيمكنك أن دعوني سومرليد ."
وحملقت نيرن في الاثنين وهي تتساءل عمن يبدو لها غريباً منهما . كانت تعرف كيلتي منذ ولادته إذ كانت أمه من أعز صديقاتها وعندما فقد والديه فاض قلبها بالحزن لأجله ولكنها لم تره أبداً من قبل بمثل هذه الوقاحة . أما ستروم غالبريث فقد عرفته منذ حوالي أربع وعشرين ساعة ومع هذا تراه وهي تنظر إليه الآن بوجهه الذي يعلوه الشحوب في هذه المواجهة المربكة بين الاثنين ما جعلها تشعر بشيء من العطف نحوه كان يبدو كما لو كان مريضاً ، مريضاً حقاً .
فقالت : " هل لأحد منكما أن يخبرني عما حدث؟ ما الذي تفعله هنا يا كيلتي؟ لماذا لست مع رفاقك؟ "
فأجابها بصوت خلا من الوقاحة : " كنت قد أخبرت السيد وبستر أنني أشعر بوعكة صحية وسألته إن كان بإمكاني العودة ، فاتصل بكِ هاتفياً ليخبرك .... "
فقاطعته قائلة : " ولكنني لم أتلق أي مكالمة هاتفية ولم تكن هناك رسالة محفوظة في آلة تسجيل المكالمات . "
فرأت الدم يتصاعد إلى وجهه وهو يقول : " لقد محوتها من آلة تسجيل هاتفك ."
فهتفت به : " ماذا؟ ومتى؟ ."
فأجاب : " لقد رأيتك تذهبين إلى المقبرة أمس عند ذلك دخلت إلى المنزل ولم أكن أريد أن يعلم أحد بعودتي . "
ومضت لحظة طويلة كانت نيرن أثناءها تحدق فيه صامتة وبعد أن استوعبت الأمر ملياً قالت له : " إذن فهو أنت الذي كان ... في الغرفة الصغيرة التي على السطح الليلة الفائتة؟ "
فنظر كيلتي إلى الأرض وهو يقول : " نعم . "
هزت نيرن رأسها ، ما الذي يحدث هنا؟ وحولت انتباهها إلى ستروم غالبريث ولكنها عندما رأت التعبير الذي بدا على ملامحه تلاشى السؤال من بين شفتيها فقد جعلتها الطريقة التي كان ينظر فيها إلى كيلتي تهتز بعنف ... ليس لأنه كان فقط ينظر إليه وإنما لأن نظرته تلك كانت تتفحصه بلهفة قريبة من الوحشية كانت تتفحص وجهه ، تتفحصه بدقة وتركيز جعلت شعرها يقف .
كان يبدو وكأنه يبحث عن شيء ما ... شيء هو وراء ملامح كيلتي الظاهرة ولكن مهما كان ذلك الشيء الذي يبحث عنه فقد كان واضحاً من الغضب الذي كان يعلو وجهه ، انه لم يكن يريد رؤية ذلك الشيء ... آه لا بد أن هذا من تصوراتها ليس إلا أم أنها قد خرجت عن عقلها؟
وأخيراً ، أخذت نفساً عميقاً لتقول بعد ذلك بحزم : " سأكون شاكرة لك يا سيد غالبريث ، إن أخبرتني بدورك بهذا الأمر بأجمعه . "
ظنت في البداية أنه لم يسمعها وأوشكت أن تعيد السؤال عندما حول نظراته بجهد واضح من الصبي إليها ودبت للحظة على وجهه مظاهر الحرج وكأنه نسي ما يدور حوله ، ليتلاشى بعد ذلك ، هذا التعبير تدريجياً وتبدو في عينيه نظرة باردة قاسية وقد عاد مرة أخرى مسيطراً على نفسه ودفع يديه في جيبي بنطلونه بعنف وهو يقول بإيجاز : " عندما تركت هذا المنزل وجدت نفسي أفكر في ما حدث الليلة الماضية بالنسبة إلى تلك الضجة التي سمعتها أنتِ وفي اختفاء محفظتي هذا الصباح واستنتجت من ذلك أنه قد يكون هناك شخص ثالث في المنزل ففكرت في أنه من الأفضل أن أعود لأعلمك بالأمر ....."
فقالت : " وهكذا صممت على العودة . "
فقال : " بالضبط وما أن دخلت البوابة حتى رأيت ..... "
فتجهم وجه كيلتي وقاطعه ناظراً إلى نيرن : " رآني أتسلل خارجاً من الباب الأمامي . "
وأخذ يعبث بقدميه وهو يتابع قائلاً : " إنني آسف يا نيرن . "
فأخذت نيرن تتخلل شعرها بأصابعها دافعة إياه من على جبينها وهي تقول : " ولكنني ما زلت لا أفهم . هل كنت أنت من أخذ تلك المحفظة يا كيلتي؟ "
فقال : " لقد أخذتها ، ولكن فقط لكي ......" وسكت مقفلاً فمه بعناد وقد بدا عليه بجلاء أنه لن يفصح عن السبب الذي جعله يأخذ المحفظة .
فعادت تسأله : " ولكنك أعدتها دون أن يفقد منها شيء مما فيها من نقود أو بطاقات مصرفية....؟ "
هز رأسه ، وكان كل جوابه هو هزة من كتفيه .
ها قد وصلت إلى طريق مسدود . وتنهدت وهي تلتفت إلى ستروم تسأله : " هل تريد أن تتصل بالشرطة؟ "
فأجاب : " لا أدري ما الذي علي فعله ولكن من الواضح أنه ليس بمقدوركِ الأشراف على تنشئة هذا الغلام . لماذا تظنين أن بمقدوركِ التعامل مع الفتيان الثمانية .. وإدارة مزرعة خضراوات للتسويق هذا عدا عن إدارة نزل يمنح السرير والفطور للنزلاء في الصيف . إذا كنتِ تريدين نصيحتي .. " وبانت في لهجته السخرية وهو يتابع قائلاً : " بيعي هذا المكان الكبير وابحثي لنفسك عن شاب لطيف تتزوجينه ثم تستقرين وتنشئين أسرة .. راجية أن يكون لك بنات صغيرات لا يسببن لك المشكلات . "
وهنا تلاشى من نفس نيرن كل العطف الذي كانت شعرت به نحو هذا الرجل منذ لحظات ، وكأنه لم يكن وازدحمت على شفتيها كلمات الغضب والامتعاض ولكن لأمر لم تستطع فهمه ، استطاعت أن تكظم كل هذا . من الأفضل لها أن لا تتكلم مطلقاً كي لا تمنح هذا الرجل الشعور بالرضى للاستياء الذي سببه لها ، مفضلة على ذلك ، النظر إليه بثبات منتظرة منه أن يخرج من المنزل ولكنه لم يتحرك ، وبدلاً من ذلك رأت لوناً خفيفاً جداً يتصاعد إلى وجنتيه وسمعته يتنحنح مرة بعد مرة ثم ولحيرتها البالغة ، قال بصوت يشوبه شيء من الحرج : " إنني أتساءل يا سيدة كامبل عما إذا كنتِ ترضين باستضافتي عدة أيام أخرى . "
ورأت نيرن نفسها تكاد تجن . هل هذا ما كان شعور ( أليس ) بطلة كتاب ، أليس في بلاد العجائب؟ الفضول ثم الفضول؟؟
لو لم يكن قد أخذها ، بسؤاله هذا على حين غرة ولو لم تكن في أشد الحاجة للانفراد بكيلتي للتحدث إليه ، لولا ذلك ، لالتفتت إليه ببرود تخبره بأن من الأفضل نظراً لظروفها الحاضرة ، أن يرحل عن المنزل ولكنها لم تفعل ، آه نعم ... لقد ابتسمت له ببرود فعلاً ،
ولكنها عندما نظرت في عينيه الزرقاوين الكحيلتين اللتين أصبح لونهما قاتماً لشدة الانفعال ، وجدت نفسها تقول وكأنها منومة مغناطيسياً : " لا بأس ." هل تراها قالت ذلك حقاً؟ وحدثها صوت خفي في داخلها بأنها تقترف غلطة كبرى ولكنها تجاهلت هذا الصوت ، لماذا؟ لم يكن لديها فكرة مطلقاً عن السبب وحولت بصرها عنه وهي تزدرد ريقها ، إلى الباب خلفه وهي تتابع قائلة : " إذا شئت ، يمكنك أن تحضر أمتعتك من السيارة وتصعد بها إلى الغرفة بينما أكون أنا قد جهزت القهوة إنما امنحني عشر دقائق من فضلك . "
هل تراه تنفس بارتياح فعلاً ، أم هي مخيلتها صورت لها ذلك؟ لماذا أصبح بقاؤه هنا مهماً بالنسبة إليه ، بهذه الصورة المفاجئة؟ وما لبثت نيرن أن أرغمت أفكارها على الابتعاد عنه . مهما كانت مشكلاته ، فهي لا تخص أحداً سواه . ذلك أن ثمة ما يجب أن تقوم به الآن وأول شيء هو أن تتحدث إلى كيلتي في أمر خاص .
أشاحت بوجهها عن ستروم ، لتضع يدها على ذراع الغلام قائلة : " تعال معي إلى المطبخ يا كيلتي . "
إنها لم تمنح نفسها سوى عشر دقائق فقط ، ولكن بإمكانها أن تتحدث إليه أثناءها وتحاول أن تعلم ما الذي حدث . فهي لم تصدق أنه عاد بسبب وعكة أصابته ، إنما تعتقد أن ثمة سبباً جعله يرفض الإبحار على السفينة لقد أراد أن يعود إلى البيت .
ولكن لماذا؟ وهل تراه سيخبرها؟
وأخذت تملأ إبريق القهوة بالماء البارد وهي تميل برأسها نحو الغلام ، تسأله : " هل تناولت شيئاً من الطعام هذا النهار؟ "
فأجاب : " كلا ، لم آكل شيئاً ."
فسألته : " هل أنت جائع؟ "
فأجاب : " نعم "
فقالت : " إذن فأنا اقترح بأن تقوم بأمرين ، وذلك حالما تخبرني بالضبط ماذا جرى . أما الأمران فهما ، أولاً : اذهب إلى بيتك وأطلب من عمتك آني أن تقدم لك الإفطار . ثانياً : ما أن تنتهي من ذلك عليك أن تهذب إلى المستوصف وتطلب من الدكتور كوغيل أن يفحصك ......"
فقاطعها قائلاً : " إن عمتي آني ليست في البيت لقد ذهبت إلى بلدة انفرنيس لتمكث مع صديقتها روبي . "
فتأوهت بفروغ صبر وهي تفكر ، طبعاً لا بد أن آني قد خططت لتأخذ عطلة أثناء ذهاب كيلتي في رحلته على تلك السفينة .
فتمتمت قائلة : " وأظن أن بيتها مقفل ولكن حتى لو استطعت الدخول ، فليس في إمكانك أن تبقى في البيت بمفردك على كل حال ...."
فسألها : " هل أستطيع البقاء هنا إلى حين عودتها ؟ "
فأجابت رافعة حاجبيها وهي تحمل بيدها إبريق القهوة : " هنا؟ ولم لا؟ يمكنك أن تستعمل إحدى غرف النزل . "
فقال : " هل يمكنني أن أنام في غرفة السطح؟ "
أجابت : " غرفة السطح؟ كلا انك ستموت من البرد فيها. "
فقال : " ولكنني لم أمت من البرد البارحة . "
وبدت في عينيه نظرة هزل ماكرة ، فلم تتمالك نفسها من الضحك وأجابت وهي تهز كتفيها : " كلا . انك لم تمت من البرد أليس كذلك؟ حسناً لم لا؟ ولكن عليك أن تتدبر أمر الفراش وسأعطيك مصباحاً وبعض الأغطية إنما هنالك شرط واحد ..."
فسألها : " وما هو؟ "
أجابت : " لا أريدك أن تدخن يا كيلتي وإذا شئت أن تدخن فعليك أن تقوم بذلك خارج البيت . فأنا لا أسمح بذلك داخل المنزل . "
فقال : " كما تشائين . لا مشكلة في هذا . " ورفع تنورته ولكن ما أن تركها حتى انحدرت مرة أخرى إلى وركيه وقال : " علي أن أعود إلى المدرسة ما دمت قد عدت من الرحلة . "
فحاولت أن تخفي ابتسامتها وهي تجيبه قائلة : " أظن هذا هو المفروض ولكن عليك أن تأكل شيئاً قبل ذلك هاك .." ووضعت على المائدة طبقاً عميقاً وملعقة وهي تقول : " ضع لنفسك بعض الحبوب الموجودة في الخزانة مع الحليب وهو في الثلاجة . "
والآن ، حان الوقت لكي تسأله عن سبب عودته فقالت بصورة عفوية وهو يسكب الحليب : " والآن ، اخبرني ، ما الذي جعلك تلغي رحلتك على متن السفينة بونتي؟ كنت أظنك متشوقاً إلى هذه الرحلة . "
فدفع إناء الحليب إلى وسط المائدة ، ثم حنى رأسه فوق طبقه وهو يجيبها قائلاً : " إنني لا أريد أن أتحدث عن هذا الأمر يا نيرن انه ... شأني الخاص . "
فاستندت إلى منضدة خلفها وهي تنظر إلى الغلام بمزيج من العطف والخيبة ، لقد عانى أكثر مما عانى أي غلام في سنه وإذا كان لديه بعض المشكلات الآن فهو لا يريد أن يشاركه أحد في أمرها وقد يكون هذا بالنسبة إليها هي على الأقل .
ومن خبرتها ، كانت تعرف الأوقات التي يمكنها بها الإلحاح أو عدم الإلحاح وهي الآن تعرف أن الإلحاح لن يأتي بفائدة .
وهكذا قالت برقة : " لا بأس ولكن تذكر عندما تقرر في أي وقت أن تتحدث بالأمر فتذكر أنني هنا . وأي شيء تخبرني به سيبقى سراً إذا كان هذا ما تريده . "
فتمتم : " شكراً يا نيرن . "
كان قد التهم الطعام وكأنه لم يأكل منذ أسبوع ونهض واقفاً وهو يقول : " أتريدين أن أضع هذه في ماكينة غسل الأطباق؟ "
فأجابت : " كلا ، بل ضعها في الحوض من فضلك . إنما اسمع يا كيلتي ..."
فقال : " نعم ."
فقالت : " بالنسبة إلى محوك للمكالمة في آلة التسجيل في الهاتف ....."
فتنهد قائلاً : " سأشتغل مقابل ذلك في عطلة الأسبوع القادمة من دون أجر . "
فقالت : " حسناً . "
استقام في وقفته وهو يقول : " حسناً سأذهب الآن . "
سألته قائلة : " هل آخذ لك موعداً من الدكتور كوغيل؟ "
ورفعت حاجبيها ساخرة ، فاحمر وجهه وهو يجيب : " كلا لن أذهب إلى الطبيب وأنا آسف لأنني كذبت على السيد وبستر بالنسبة لهذا . إن صحتي حسنة جداً سأذهب إلى المدرسة الآن وسأراك فيما بعد . "
وما أن وصل كيلتي إلى الباب ، حتى ظهر ستروم غالبريث على العتبة وما أن تجاوز أحدهما الآخر حتى ألقى كيلتي على الرجل الغريب الأسمر نظرة جامدة بينما أظلمت ملامح ستروم وظنت نيرن أنه سيقول شيئاً ولكنه فقط أطبق فمه بقوة وهو يرمق الغلام المبتعد بعينين حادتين .
وبعد ذلك بلحظات ، سمعا صوت الباب الخارجي يصفق ولم تكن نيرن قد شعرت بأنها تمسك أنفاسها إلى أن رأت نفسها تتنفس ببطء ، ذلك أن الجو سرعان ما يشحن بالتوتر كلما جمعتهما غرفة معاً . كان توتراً قلقاً بقدر ما هو غامض محير ماذا يمكن أن يكون السبب يا ترى؟
وسألت ستروم ببشاشة بينما كان يدخل المطبخ : " هل استقر بك المكان؟ "
فأجاب : " نعم أشكرك . "
فقالت : " دعني اسكب لك فنجاناً من القهوة . " وبينما كانت تقوم بذلك أخذ هو يذرع المطبخ بخطوات قلقة ومرة أخرى داخلها الضيق ما أشد الاختلاف بينه وبين روري لقد كان زوجها رجلاً سهل المعشر هادئ الطبع . كان دوماً ينجز العمل الذي يبدأ به ، وكان ينهيه دوماً دون أن يزعج أحداً كانت هذه موهبة فيه كما كانت تخبره على الدوام .
كانت موهبة يبدو بجلاء أن ستروم غالبريث هذا لا يملكها . لقد عرفت من الطريقة التي عامل بها كيلتي أنه يواجه المشكلات رأساً ويعامل أي شخص يعترض طريقه بكل غلظة وفظاظة .
ناولته فنجان القهوة ، ولكنها لم تتكلف عناء دعوته إلى الجلوس , لقد أحست بأنه اكثر قلقاً من أن يستجيب لهذا . كما أنها أحست أيضاً بأنه يريد أن يتحدث إليها ولكن في أي موضوع؟
قال فجأة : " أخبريني عن ذلك الغلام . ما هو تاريخه؟ "
حسناً ، لقد تملكتها الدهشة في الواقع ، ذلك أنها منذ وقت قصير كانت تشعر بالأسى عندما رأته يفقد اهتمامه وهي تتحدث عن الفتيان الذين يعملون لديها وهاهو ذا الآن يوجه إليها أسئلة عن واحد منهم .
فسكبت لنفسها فنجاناً من القهوة أضافت إليه السكر والحليب وأخذت تحركه قبل أن تتجه إلى المائدة حيث جلست واضعة يديها حول الفنجان وهي تقول : " كيلتي؟ انه صبي لطيف ....."
فارتسمت على شفتيه ابتسامة عدم تصديق وهو يقاطعها قائلاً : " لطيف؟ لقد كنت استنتجت مما أخبرتني به أن الفتيان الذين يعملون معك هم خارجين عن القانون ومن القليل الذي رأيته من سومرليد هذا أو كليتي أو مهما كان اسمه ...."
فقاطعته وهي ترغم نفسها على الهدوء : " قبل كل شيء نعم الفتيان الذين يعملون معي في برواش كان لهم جميعاً مشكلات مع القانون .. ولكن ما عدا كيلتي فالأمر معه مختلف . "
فسألها : " من أي ناحية؟ "
فأجابت : " إن كيلتي هو أصغر سناً من أكثرهم وهو يعمل هنا منذ وفاة والديه فقط . "
وحدقت نيرن من النافذة وهي تفكر بذهن شارد في أن كيلتي لا بد قد أطلق شادو إلى خارج المنزل . فقد كان الكلب الأسود متمدداً في الشمس على الطريق قرب سيارتها الفان وتابعت تقول : " كان دوماً بمفرده . لم ينخرط قط مع المجموعة انه غير عادي ..."
وأطلقت ضحكة أسى قصيرة وهي تقول : " لا بد انك استنتجت هذا بنفسك من الطريقة التي يرتدي بها ثيابه . "
فقال : " معك حق بالنسبة إلى ذلك . فأنا لا يمكنني أن أتصور أن كثيرين من الغلمان الذين في سنه يشعرون بالارتياح لارتداء التنورة . "
فقالت : " عندما كان في الثالثة من عمره تقريباً ، ابتدأت أمه هازيل تلبسه تنورة يوم الأحد وقد اعتاد الأطفال الذين يكبرونه سناً ، إغاظته فأطلقوا عليه لقب كيلتي ومعناها ذو التنورة ، وعندما ابتدأ بالذهاب إلى مدرسة غلينكريغ الابتدائية لم يعد يلبس التنورة مطلقاً ولكن اللقب التصق به . "
ووضعت نيرن فنجانها على المائدة ثم أخذت تمر بإصبعها على حافته وهي تتابع مفكرة : " عندما أصبح في الحادية عشرة ذهب إلى مهرجان للكشافة في أدنبرة وعندما ذهب والداه ، هازيل و هوغ ليستقبلاه في محطة القطار ، لم يعرفاه فقد استبدل بنطلونه الجينز بتلك التنورة الاسكتلندية السوداء .. وكانت في ذلك الحين تنزل إلى ما تحت ركبتيه .. كما كان صابغاً شعره بلون ارجواني كعادة سكان الجبال ومنذ ذلك الحين أصبحت التنورة دلالة عليه . "
وساد صمت في المطبخ صمت طويل ، لم يخترقه سوى صوت دقات ساعة ساحة غلينكريغ تدق الواحدة . وعندما تلاشى الصدى ، وضع ستروم فنجانه من يده ثم مشى نحو النافذة ، فاستند بكتفه على الجدار ، ثم نظر إلى نيرن وهو يعقد ذراعيه فوق صدره قائلاً : " لقد قلت إن والديه قد توفيا من يعتني بالغلام الآن؟ "
استغربت شدة اهتمامه بهذا الغلام الذي سبق وعامله بعنف وبطريقة خاطئة فقالت تجيبه : " إن القريبة الوحيدة لكيلتي هي آني لو . وهي عمة أبيه ، وقد أصبحت قانونياً الوصية على الصبي بعد موت أبيه . "
وهزت رأسها متابعة : " مسكينة آني فقد بقيت عازبة طيلة حياتها ما جعلها غير قادرة على التعامل مع كيلتي وهذا ما جعلني شريكة في الموضوع إذ طلبت مني أن أعطيه عملاً بعد الخروج من المدرسة وبهذا أتمكن من مراقبته . "
فقال وهو ينظر إليها بثبات : " يبدو أن علاقتك طيبة مع الغلام . "
فأجابت : " إنني أحبه فهو كما سبق و أخبرتك غلام لطيف ولكنني قلقة عليه فهو بسكنه مع آني وعمله معي لا يجد في حياته رجلاً يسير على منواله . "
سألها : " وماذا عنه في المدرسة؟ "
فأجابت : " انه ذكي جداً ولكنه لا ينكب على دروسه ذلك أن له هواية و حيدة في حياته وهي ....."
وقطع عليها حديثها رنين جرس الهاتف ، فاستأذنت منه وهي تهرع لترفع السماعة وجاءها صوت كيلا يقول : " نيرن لقد نسيت أن انسخ من عندك تلك الوصفة التي كنا نتحدث عنها تلك الليلة هل عندك وقت لتعطيني إياها الآن؟ "
فأجابت : " طبعاً ، انتظري برهة لكي أحضر الدفتر . "
ووضعت السماعة وهي تقول ناظرة إلى ستروم : " إنني آسفة فسأتأخر في المكالمة الهاتفية عدة دقائق هل ستخرج هذا الصباح؟ ."
فأجاب : " لقد فكرت في ذلك ، لأستكشف المكان . "
لماذا يريد رجل قادم من المدينة أن يطوف حول قرية إسكتلندية صغيرة في أكثر أيام شهر شباط ( فبراير ) كآبة ، بينما بإمكانه أن يطير إلى الريفييرا أو فلوريدا أو جزر الباهاما؟ وجدت نيرن نفسها تتساءل عن ذلك ولكنها ما لبثت أن تخلت عن هذه الأفكار فهذا شأنه .
أخرجت دفترها ومضت تقلب صفحاته وهي تقول : " إنني في العادة ، أقدم لنزلائي السرير والفطور ولكن بما أنك بمفردك وأكثر أمكنة السواح مقفلة في هذا الوقت من السنة ، فإنني أرحب بأن تتناول طعامك معي فقط دعني أعرف مقدماً ما إذا كنت لن تتناول وجبتك هنا . "
فقال : " شكراً ولكنني اليوم بالذات سأغيب حتى الساعة الخامسة . "
ارتاحت نيرن في سرها ، لكنها ما لبثت أن أجفلت وهي تتساءل عن سبب ردة الفعل هذه نحوه ، وما لبثت أن أدركت الجواب ، ذلك أنها لم تقابل قط ، رجلاً سبب لها مثل هذا القلق وذلك بمجرد وجوده ، كما أنها لم يسبق لها أن شعرت قبله قط ، بالاهتمام والانجذاب برجل ما ، ولم يكن ذلك بسبب قامته الفارعة وشعره الأسود وعينيه الزرقاوين ذات المشاعر القوية كان الذي يضايقها حقاً هو شيء أقل ظهوراً .
وفجأة ، أنهت أفكار الطائشة لتقول : " هذا حسن . "
ومشت نحو الهاتف ، بينما رفع أنامله إلى جبهته يحييها مودعاً وعلى شفتيه ابتسامة ملتوية جعلت نبض نيرن يرتفع بطريقة غريبة ما دفعها إلى التفكير بأن هذا الرجل يجب أن يسجن في الطابق الأعلى ، ثم يلقى بالمفتاح بعيداً ... فقد كان رجلاً محطماً للقلوب لم تر له من قبل مثيلاً .
وحبست أنفاسها حتى سمعت الباب الخارجي يصفق خلفه لتتنهد عند ذاك وهي تلتقط السماعة قائلة : " هل ما زالت على الخط يا كيلا؟ "
فأجابت شقيقتها قائلة : " هل أنتِ بخير يا نيرن؟ إن صوتك ليس كالمعتاد هذا الصباح ."
وكذلك نيرن لم تشعر بنفسها كالمعتاد أيضاً ، فقالت : " لا بد أن الخط ليس على ما يرام إنني بخير تماماً . "
ولكن ضربات قلبها كانت تقرع كالمطارق ما الذي حدث لها يا ترى؟ كان جواب ذلك هناك في مكان ما من رأسها ... ولكنها بدلاً من أن تفكر في جذور المسألة نقلت ذهنها بسرعة من تلك المهمة إلى الأمر الذي بين يديها فقالت : " هل بيدك قلم يا كيلا؟ حسناً هاك الوصفة . "
الفصل الرابع
عاد كيلتي من المدرسة في الساعة الرابعة ، فكلفته نيرن على الفور بتنظيم الغرفة الصغيرة على السطح . وبعد ذلك بفترة قصيرة نزل مطمئناً نيرن أنه لم يعد هناك خطر من انهيار الفراش بعد الآن .
قال : " لقد وضعت لوحين من الخشب تحت الفراش ما أصبح سقوطه بعد ذلك مستحيلاً ، وهو في الواقع مريح أكثر من ذلك الذي أنام فوقه عند العمة آني . "
فقالت نيرن : " هذا حسن . " وكانت تقف عند الحوض تقشر البطاطس . ثم توقفت لحظة ، لتستدير إليه قائلة : " بالمناسبة ، ذهبت في الأسبوع الماضي لزيارة آني فأرتني الصور الفوتوغرافية التي ألصقتها أنت على جدار غرفة نومك إنها رائعة تماماً . "
فقال : " شكراً يا نيرن . "
لم يكن في صوته تواضع زائف ، كما لاحظت وعدا عن لون خفيف ظهر على وجنتيه ، لم يكن هناك دليل على أن إطراءها ترك أي تأثير عليه . وكان إطراؤها صادقاً فقد كانت الصور الفوتوغرافية تمثل مناظر من قرية غلينكريغ . البحيرة والمناظر التي تحيط بالجبال . وكان كل ذلك من الجمال بحيث احتبست أنفاسها وهي تنظر إليها وتابعت تقول : " ولكن آني تقول انك تركت التصوير منذ أقمت معها لماذا يا كيلتي؟ "
فهز كتفيه وهو يحول عينيه عنها ويقول : " لقد فقدت اهتمامي فقط كما أظن ومن ناحية أخرى ، أنتِ تعلمين كم هو صغير منزل آني حتى أنني لا أجد فيه زاوية يمكنني استعمالها كغرفة مظلمة أظهر فيها أفلامي لهذا حزمت كل أمتعتي ووضعتها جانباً ."
فسألته : " بما في ذلك آلة التصوير أيضاً؟ "
فعبس وهو يعبث بقدميه قائلاً : " لقد بعتها "
فلم تتمكن نيرن من منع شهقة أفلتت منها وهي تقول : " بعتها؟ أوه يا كيلتي ... كيف أمكنك هذا؟ كانت والدتك قد أخبرتني كم تعب والدك في توفير ثمن تلك الآلة لقد ضحى بأشياء كثيرة ...."
وذهلت وهي ترى الدموع تتفجر من عيني كيلتي الذي رفع يده يمسحها بكمه بخشونة وهو يمر بها أثناء ذلك دون أن يراها متابعاً قوله : " لا أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع يا نيرن . " وتابع يقول بصوت مرتجف : " لقد فقدت اهتمامي بالتصوير .. ألا تفهمين؟ كان ذلك عملاً صبيانياً قد انتهيت منه . "
ودفع باب المطبخ وفي لحظات كانت تسمع خطواته صاعداً السلم نحو غرفته الصغيرة ليكون بمفرده وشعرت بقلبها يتمزق لأجله . ما زال في نفسه أشياء لم يفصح عنها ، أشياء جعلته يتخلى عن هوايته في التصوير . أشياء شخصية عميقة لا بد أنها تركت في نفسه ألماً عميقاً ماذا يمكن أن تكون هذه يا ترى؟ إنها طبعاً ليست عدم وجود مكان في بيت آني يجعله غرفة مظلمة لتظهير الأفلام لقد كانت أحلامه أقوى كثيراً من أن يسمح لها بالتبدد بهذه السرعة .
وأجفلت حين سمعت صوت الباب الخارجي يغلق لا بد أنه ستروم غالبريث جاء ليتناول عشاءه وأسرعت بإنهاء تقشير البطاطس وكانت تمسك بآخر حبة منها عندما سمعت خطواته في الصالة .
بعد لحظة ، كان يدخل من الباب الذي كادت كتفاه العريضتان تملأنه وما أن تقدم مقترباً منها ، حتى شعرت برغمها ، بالجو حولها يمتلئ بالحيوية والنشاط اللذين يشعان منه .
وقال يخاطبها : " إنها رائحة شهية . "
فأجابت : " انه حساء العدس . " وأسقطت البطاطس في إناء على النار تغلي فيه المياه وهي تتابع قائلة ببساطة : " ألي أين ذهبت هذا العصر؟ "
فأجاب وهو يقف في وسط المطبخ دون هدف : " آه ، هنا وهناك . "
ولاحظت نيرن أن هناك دلائل على مشاعر الرجل في نفسه ، هي فوق مستوى إدراكه وذلك في ما يتعلق بميدان المرأة ، فحاولت أن تعامله كما تعامل أي فتى من أولئك الذين ترعاهم ، فقالت وهي تناوله ملعقة طويلة اليد : " هيا تقدم واجعل من نفسك شخصاً ذا فائدة وحرك هذا الحساء . "
لم يكن الحساء بحاجة إلى تحريك .... ولكنه لن يعرف ذلك أبداً لقد عرفت ذلك عندما دخل في إحدى المرات أحد الفتيان المطبخ ليقف دون هدف لقد أراد أن يكون بقرب امرأة ولكنه لم يكن يدرك ذلك في أعماقه وسرعان ما اكتشفت هي أن في إعطائه عملاً يقوم به يجعله أكثر راحة فهل يمكن أن يفيد هذا رجلاً منعزلاً كئيباً مثل هذا الرجل؟
وعندما أخذ الملعقة منها اشتمت منه رائحة تبغ خفيفة فقالت بفتور : " آه لقد كنت إذن في مقهى رويال تتحدث إلى المواطنين . "
فانحدرت نظراته إليها ولأول مرة شاهدت عينيه تبتسمان وهو يقول لها : " هل هي خطيئة يا سيدتي؟ "
كان يقف أكثر قرباً منها مما أرادته أن يكون حين ناولته الملعقة وشعرت بالضيق لهذا ، وهذا جعلها تتراجع قليلاً إلى الخلف وهي تحول الحديث قائلة : " لقد اعتاد روري أن يقوم بذلك أحياناً فيجلس قليلاً في مقهى رويال وهو في طريقه إلى المنزل حين يذهب إلى المحطة ليرسل الخضر إلى لندن في قطار بعد الظهر . "
وساورها الآن شعور بالارتياح وهي تضع روري بينهما ، وذلك لتقطع الطريق على تلك الأحاسيس التي تتفاعل بينها وبين هذا الرجل الغريب وتابعت تقول بمرح وهي تتابع تقشير حبة البطاطس : " إن يدك رشيقة في تحريك الحساء ولا بد أن لك بعض الخبرة في ذلك هل أنت متزوج؟ "
وشعرت بالغضب من نفسها هل بعد كل تلميحاته وتعريضه بها الليلة الماضية ، تأتي الآن لتضع نفسها موضع الريبة مرة أخرى وذلك بإلقائها سؤالاً كهذا يمكنه أن يفسره برغبتها في أن تعرف ما إذا كان حراً في حياته؟
ولكنها ما لبثت أن شعرت بالارتياح وهي تراه يأخذ سؤالها هذا بنفس البراءة التي ألقتها بها ، فيجيب قائلاً وهو يتابع تحريك الحساء : " كلا لست متزوجاً ولم أتزوج قط .. وليس من المحتمل أن أتزوج وأخشى أنني مرشح ضعيف لمؤسسة الزواج المقدسة تلك .. "
فسألته : " ولماذا تظن ذلك؟ "
فأجاب بحدة : " لأنني في كل مرة تبتعد فيها تلك المرأة المسكينة عن أنظاري سأظن أنها ذهبت لملاقاة صديق أي أساس يمكن أن يكون لهذا الزواج؟ "
فقالت له بعدم تصديق واضح : " هل أنت من النوع الغيور؟ آسفة لعدم تصديقي هذا . "
فأجاب : " لا لست من النوع الغيور وإنما من النوع الساخر! . "
فقالت : " الساخر؟ و كأنك .... "
فقاطعها قائلاً : " وكأنني لم أقابل بعد امرأة تستحق ثقتي . "
إذن هذا يفسر كل شيء لا بد أن هذا الرجل كانت له خبرة سيئة مع إحدى النساء وربما مع أكثر من واحدة ، هذا إذا اعتبرنا سخريته القاسية تلك . فهل يمكن أن يكون هذا هو سبب تجهمه ذاك وهو يتفرج على المشهد السعيد الذي كان يدور بين كيلا وأسرتها في غرفة الجلوس مساء أمس؟
وقال بسخرية رقيقة : " لا أراك أسرعت إلى الدفاع عن بنات جنسك؟ "
فنظرت إليه بهدوء وهي تجيبه قائلة : " كلا فأنا لا يمكنني أن أتحدث عن أي امرأة أخرى غير نفسي ولكنني آسفة لما نالك من سوء الحظ في ....."
فضحك هازئاً وهو يقاطعها قائلاً : " سوء الحظ؟ ليس للحظ شأن في هذا الأمر لقد كانت المرأة التي عرفتها قاسية متحايلة تعرف اثنين في وقت واحد الخلاصة أنها كانت فتاة سافلة . "
استدارت نيرن وهي تسمع صوت كيلتي خلفها ، كان واقفاً عند الباب وعندما لاحظت الشحوب الذي يعلو وجهه وتوتر ملامحه شعرت بالفزع يتملكها .
لم يكن ينظر إليها بل إلى ستروم محدقاً فيه وقد بان في عينيه مزيج من الغضب والتعاسة والفوضى . وبحركة لا إرادية اقتربت نيرن منه عدة خطوات ولكنه تراجع إلى الخلف ليصبح في الصالة مرة أخرى ثم قال بصوت مرتجف : " سأخرج الآن لقد أنهيت فروض المدرسة وسأعود في العاشرة . "
فهتفت : " كيلتي ...." ولكنه كان قد خرج قبل أن تستطيع إيقافه ليصفق الباب الخارجي خلفه بعنف تجاوبت معه أرجاء المنزل . وتساءلت بخوف عما قد يكون حدث للغلام . لم تره من قبل يتصرف بمثل هذه الغرابة كانت متأكدة من أن الأمر لا يتعلق بها هي ، إذن فلا بد من أن يكون الأمر متعلقاً بستروم غالبريث.
ولكنه لم يسبق له أن قابل هذا الرجل قبل الآن فهل يمكن أن يكون هذا الغريب قد قام بعمل جعل الغلام يستاء إلى هذا الحد؟
لقد رآه طبعاً وهو يتسلل من البيت هذا الصباح ولكن كيلتي علم تماماً أنه كان هو المخطئ في تصرفه ذلك الحين كما أنها كانت تعرف أنه ليس من الأشخاص الذين يحقدون كلا لا بد أن هناك شيئاً آخر يحمله على هذا التصرف .
وبطبيعة الحال ، كان أسهل شيء هو أن تسأل ستروم مباشرة عما فعله ليسبب عند الغلام ردة الفعل هذه ولكن غريزتها أوحت إليها بأنه مهما كان يوجد بين الاثنين فلا بد أنه شيء لا يريد أي منهما أن يخبرها عنه .
وتنهدت وهي تعود إلى المطبخ ذلك أنها طيلة الثمانية أعوام الماضية قد تمكنت من إقامة علاقات طيبة مع الفتيان الذين كانت ترعاهم ، ولكن الأمر مع كيلتي كان مختلفاً فقد كانت متعلقة جداً بالغلام وربما بطبيعة الحال ، لأنها كانت صديقة حميمة لوالدته ولأنها كانت تعرف كيلتي منذ يوم ولادته ....
سألها ستروم فجأة : " بماذا تفكرين؟ "
فأجابت وهي تسير نحو الموقد : " آه لقد كنت أفكر في اليوم الذي ولد فيه كيلتي ." وجذبت إناء البطاطس جانباً فخمد صوت غليان الماء وهي تتابع قائلة : " لقد ولد قبل أوانه بشهر ولكن وزنه مع هذا كان أكثر من أربعة كيلو غرامات كما كان طفلاً نهماً يزمجر على الدوام إنني أذكر قول والده ( حسناً لقد أقبل علينا كالأسد أليس كذلك؟ ) لقد كانت ولادته أول يوم في آذار ( مارس ) وذكرى مولده أصبح قريباً جداً .... "
فسألها : " كم سيصبح عمره؟ "
فأجابت : " خمسة عشر عاماً ، انه يبدو أكبر من سنه لطول قامته ومتانة بنيته . "
فعاد يسألها : " هل قلت انه ولد قبل الأوان؟ "
فأجابت : " لقد كان هوغ غائباً في رحلة صيد لمدة شهرين أو نحو ذلك وقد تزوجا هو و هازيل بعد رجوعه بفترة قصيرة لقد كانت آني هي القابلة التي استقبلته إنني أذكر إصرارها على أنه طفل كامل النمو ولكنها كانت قد تقدمت في السن وفي الواقع كان كيلتي هو آخر طفل استقبلته قبل أن تتقاعد وكانت مخطئة في تقديرها بطبيعة الحال ، إذ لا يمكن أن يكون طفلاً كامل النمو لأن هوغ كان في رحلة الصيد طوال شهر أيار ( مايو ) ومعظم شهر حزيران ( يونيو) ....
فقال ستروم وهو يلوي شفتيه تهكماً : " أتعنين أن الطفل إذا كان قد جاء في أوانه فان هوغ لا يمكن أن يكون والده حقاً؟ "
فأجابت بذهن شارد وهي تخرج من الدرج بعض أدوات المائدة : " بالضبط وبالطبع لا يمكن لهذا أن يكون صحيحاً . "
فقال : " ولم لا؟ "
كان في صوت ستروم شيء ما ، برود هادئ أرسل قشعريرة في جسد نيرن فنظرت إليه متسائلة وقد أدهشتها أن ترى تلك النظرة القاسية الهازئة في عينيه .
وسألته بصوت يحتوي على نوع من الدفاع : " لم لا؟ لأن هازيل لم تكن من ذلك النوع من الفتيات! وكانت تخرج مع هوغ منذ أيام الدراسة فقد كانت موعودة به."
فسألها : " موعودة به؟ "
فأجابت : " نعم . "
قال : " انهما لم يكونا خطيبين إذن . "
فأجابت : " كلا لم يكونا خطيبين لم يكن لدى هازيل خاتم خطبة ولكن كل شخص كان يعلم أن زواجهما ما هو إلا مسألة وقت فقط . "
وتساءلت عما يجعله يهتم بكيلتي ولماذا يهتم بهازيل وتبادرت إلى ذاكرتها ذكرى أول مرة رأته فيها وكان واقفاً يحدق في قبر هازيل لقد ظنت حينذاك أنه يقول شيئاً وعندما اقتربت منه كانت الكآبة والمرارة تكسوان ملامحه ، هذا إلى شيء آخر لم تستطع إدراكه حينذاك ولكنها أدركته الآن وهي ترى نفس النظرة في عينيه كانت نظرة احتقار . ولكنها عندما سألته عند ذلك عما إذا كان يعرف هازيل أنكر الأمر . على أنها عادت تصحح لنفسها قائلة ، كلا انه لم ينكر الأمر إنما غير الموضوع فقط وبدقة فائقة إذ أنه هز كتفيه قائلاً انه مهتم بالمقابر القديمة.
واهتز قلب نيرن والحقيقة تنبلج أمام بصيرتها فجأة ... هذا الرجل كان يعرف هازيل! أو أنه على الأقل كان يعلم عنها أمراً ما ولسبب ما كان يكرهها .
وشعرت نيرن وكأن شخصاً ضربها على رأسها ، فاصعقها . أي ذكرى من الماضي يراود هذا الغريب الغامض ، ولماذا؟ وإذا كان هذا يسبب له كل هذا الألم فما الذي جعله يعود ليعرض نفسه لذلك؟
وأخرجت شوكة من الدرج تختبر بها نضج البطاطس ، دون أن تعي ما تفعل وكانت هذه ناضجة تماماً فتمتمت تقول : " العفو . " وهي تمر من أمامه إلى حوض الغسيل لتصفي الخضر من مائها.
لم تعرف سبب مجيئه إلى غلينكريغ حتى أنه لا يمكنها التكهن به ولكن مجيئه قد سبب إزعاجاً ، كان كالحجر يلقى وسط مياه بحيرة هادئة ، وبصرف النظر عن نعومة الحجر وهدوء البحيرة فان التموج سيحدث ولن تعود إلى البحيرة هدوءها مرة أخرى إلى أن تتلاشى آخر موجة .
أو في هذه الحالة حتى يعود ستروم غالبريث إلى بلده .
وسألته : " من أين أقبلت يا سيد غالبريث؟ "
فأجاب : " من لندن عندي شقة هناك . "
فعادت تسأله وهي تملأ إبريق القهوة بالماء : " أي نوع من العمل تقوم به؟ "
فأجاب : " البناء . "
فسألته وهي تمد يدها تتناول مناشف قطنية ملونة من على منضدة بجانبها : " هل تبني بيوتاً أم تقيم إنشاءات تجارية؟ "
فأجاب : " إنني أشيد مساكن في أنحاء العالم .. لأجل أنصار الرياضة مثلاً وخاصة متسلقي الجبال وشركتي تدعى أكواخ قمم الجبال . "
فجمدت يد نيرن وهي تحمل المناشف ثم سألته : " أكواخ قمم الجبال؟ إن لهذه الشركة أملاكاً مجاورة لمنزلي هذا ... تبلغ حوالي المائة فدان ."
وحدقت فيه وهي تتابع قائلة : " هل أنت صاحبها؟ هل أنت صاحب أكواخ قمم الجبال؟ "
فأجاب : " نعم يا سيدة كامبل . "
فقالت : " آه أتمنى أن تكف من مناداتي سيدة كامبل إن كل إنسان يدعوني نيرن يا سيد غالبريث ..."
فقاطعها مازحاً : " ستروم . "
فقالت : " ستروم ... لماذا كنت متمسكاً بتلك الأملاك؟ إن الأرض مهملة لا تستغل منذ ... آه لا بد أن ذلك منذ خمسة عشر عاماً . "
فرفع حاجبيه ساخراً وهو يسألها : " وما الذي يهمك من هذا؟ "
فتنفست نيرن بعمق ثم قالت : " لأنني أنا و روري حاولنا أن نشتري منها خمسة فدادين منذ عدة أعوام من خلال المحامي الذي نتعامل معه ، ولكن المحامي المسؤول عن أكواخ قمم الجبال ، محاميك ، أخبرنا أن الأرض ليست للبيع . "
فسألها : " هل كنتِ تريدين أن تشتري قسماً من كريجند؟ طبعاً ليس لأجل بناء بيت ريفي لأن هذه الأرض عبارة عن صخور متراكمة وسقوف متآكلة . "
فقالت : " كلا ، ليس لأجل بناء بيت ريفي فهي قذى للعين ينبغي أن تجرف وتسوى ولكن موقعها رائع .... إذ أنها تشرف على الوادي والبحيرة ، كلا كنا نريد الأرض فقط . "
فسألها : " وماذا كنتما تريدان أن تفعلا بها؟ "
فأجابت : " كنا نريد أن نخصص قسماً منها قرب الطريق كمركز للمراهقين ، أما البقية فقد كنا نريد أن نزرعها بشجر التوت . "
قال : " آه ."
فسألته بهدوء : " وأنت؟ ماذا كانت خططك بشأنها عندما اشتريتها؟ لأنني متأكدة من أن رجل أعمال ناجح مثلك كما هو ظاهر ما كان ليشتري أملاكاً دون هدف . "
فأجاب : " كنت قد خططت في ذلك الوقت لبناء مساكن لمتسلقي الجبال . "
فقطبت نيرن حاجبيها قليلاً وهي تفكر في قوله ذاك ثم سألته : " مساكن لمتسلقي الجبال قرب نزل برواش مباشرة؟ "
فقطع عليها أفكارها قائلاً : " هل أرى من ردة فعلك عدم استحسانك لهذا؟ "
فسكتت عدة لحظات قبل أن تجيب و عندما تكلمت قالت مفكرة بصوت هادئ : " كلا أظن هذا سيكون في مصلحة غلينكريغ من نواح كثيرة فسيكون هناك أعمالاً كثيرة في هذا الوقت الذي أصبح العمل فيه شيئاً نادراً .. كما هو الآن ولكن ..."
فقال : " آه نعم . دائماً هناك ( ولكن ) هذه .... "
فقالت : " حسناً إنني اكره أن أرى منشآت عصرية في هذا المكان إنني سأتألم عندما أرى ما يفسد جمال قرية غلينكريغ الطبيعي . "
فقال : " إنني لا أفسد الأشياء الجميلة يا نيرن . "
نطق بهذه الكلمات ببساطة وإنما بحزم وهذا جعلها تنظر في عينيه . كان ينظر إليها ولأول مرة ترى عينيه صافيتين صريحتين وهو يكرر قوله : " إنني لا افسد الأشياء . " كانت لهجته هذه المرة أكثر رقة وشعرت بأنفاسها تحتبس وهي ترى تحديقه في وجهها بينما عاد هو يتمتم قائلاً : " خصوصاً الأشياء الجميلة . "
لم تتحرك في مكانها وقد أدركت ماذا يعني . وعندما نهض من مكانه متقدماً نحوها رن جرس الباب فقفزت من مكانها قائلة : " دعني أرى من في الباب . " واستطاعت بشكل ما أن تفلت من نظراته ، لم تنظر إلى الخلف وهي هاربة كان كل ما تريده هو أن تبتعد عنه قبل أن تدفعها الحماقة إلى ارتكاب ما تندم عليه .
وقفت أمام الباب لحظات تسوي من شعرها و تحاول التقاط أنفاسها . وأطلقت آهة قصيرة سرعان ما أخمدها رنين جرس الباب مرة ثانية . وازدردت ريقها بصعوبة وهي تتظاهر بالهدوء ثم فتحت الباب .
كان القادم رجلاً نحيلاً أشقر الشعر وكان يبتسم لها محيياً وهو يقول : " آه نيرن إنني مسرور لوجودك في المنزل . "
فقالت بدهشة : " أهلاً بك يا دكتور كوغيل تفضل بالدخول . "
وأشارت إلى القاعة . ما الذي يريده يا ترى؟ فهي لم تطلب إليه الحضور .. وأطلقت ضحكة عصبية وهي تسأله قائلة : " أتريدني أن آخذ معطفك؟ "
فخلع سترته المصنوعة من فروة الخروف ، وناولها إياها شاكراً منتظراً ريثما علقتها في الخزانة ثم التفتت إليه قائلة : " فلنذهب إلى غرفة الجلوس . "
ومشت أمامه وهي تغتنم هذه الفرصة لتعيد تنفسها إلى طبيعته ... وتبعد أفكارها عن ذلك الرجل المزعج في المطبخ .
وبعد أن جلسا إلى جانب المدفأة المضطرمة قالت له : " والآن أي خدمة تطلبها مني؟ "
فأجاب : " لقد تلقيت للتو مكالمة من انفرنيس من آني لو . لقد أصيبت بأزمة صحية وقد أخذت إلى مستشفى ريغمور . "
فهتفت نيرن وهي تنحني إلى الأمام بقلق : " أوه ، إنني جداً آسفة هل ستكون بخير؟"
فأجاب : " نعم ستصبح بخير ولكنني لا أظنها ستعود إلى منزلها في غلينكريغ لقد تحدثت مع الطبيب الذي عالجها فقال إنها لن تستطيع العناية بنفسها بعد الآن وهو سيبقيها في المستشفى عدة أيام ، لكي تنال قسطاً كاملاً من الراحة ثم بعد ذلك يرسلها إلى دار المسنين . انكِ تعرفين طبعاً انه كان عليها أن تدخل الدار منذ سنوات فهي قد قاربت التسعين من عمرها . "
فقالت : " ألم تقدم طلباً لحجز غرفة لها في الدار منذ سنة؟ أذكر أنهم أعطوها غرفة؟"
فأجاب : " نعم ولكن بعد وفاة هوغ و هازيل ، كان عليها أن تعتني بكيلتي فألغت الحجز وقد حاولت أنا في ذلك الحين أن أجنبها تلك الوصاية على الصبي ولكن كان البديل لذلك أن يرسل كيلتي إلى دار رعاية الأطفال فلم تقبل هي بذلك وطبعاً العناية بغلام مراهق لامرأة في سنها هو أكثر مما يمكنها احتماله . "
فقالت : " طبعاً إن دار المسنين سيكون أفضل مكان لها ولكن ماذا سيحدث لكيلتي الآن؟ فهو ليس لديه من يرعاه ؟ آه كم أتمنى لو أستطيع مد يد العون له بطريقة ما.."
فتنحنح الطبيب ثم قال : " إن لدي فكرة يا نيرن ... وأنا لا أريد منك أن تعطيني جواباً الآن لأنني أعلم أن هذا الأمر يتطلب منك تفكيراً طويلاً ... ولكن ..."
وتردد..... وتساءلت هي عما يمكن أن يطلبه منها ....... فقالت تستحثه أن يتابع كلامه : " انك تعلم أنني أفعل أي شيء لأجل كيلتي فهو فتى رائع ومن أفضل الفتيان ."
فوقف الطبيب ووضع يديه في جيبي بنطلونه محدقاً في نيرن بنظرة ثابتة طويلة من خلف نظارتيه ثم رأت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يقول برقة : " عزيزتي نيرن إنني أدرك تماماً مقدار الوحدة التي تعانيها منذ وفاة روري ومع أنني أعلم كم شغلت نفسك بالعمل ، ومقدار حب والديك وأختك وزوجها لك .. فهذا كله ليس كما لو كان لديك شخص يخصك أما ما أريد أن أقول دون أن أعرف كيف أتطرق إلى الأمر بلباقة هو .... هلا فكرت في حضانة الغلام؟ "
وأخذت نيرن تذرع غرفة الجلوس في الساعة العاشرة إلا خمس دقائق في انتظار عودة كيلتي ونظرت إلى الساعة الموضوعة على رف المدفأة للمرة العشرين كان الدكتور كوغيل قد تركها
كانت الغرفة التي تلي السقف مباشرة في المنزل ، تمتد على طول السطح ويصعد إليها بواسطة سلم خشبي حلزوني ضيق يبدأ من فجوة في الطابق الثاني .
وبينما كانت نيرن تصعد السلم المظلم ، أخذت تصفر بصوت عال . ولم تكن تشعر بالعصبية عادة ولكنها كانت تتساءل عما إذا كانت فكرة أقفالها الباب الأمامي والخلفي هي فكرة حسنة حقاً رغم أنها فكرة عديمة الذوق . ذلك أن نزل برواش كان دوماً منزلاً مفتوحاً للمراهقين العاملين في هذا المكان فهو الملجأ لهم ليلاً ونهاراً ، عندما لا يتمكنون من التصرف في منازلهم . ولم يكن من غير المعتاد أن تنزل نيرن صباحاً إلى المطبخ لتجد غلاماً مستغرقاً في النوم وقد تكوم على نفسه بجانب الكلب شادو على سجادة قرب الموقد ، ولكن روري لم يعد معها الآن لقد أصبحت امرأة تعيش بمفردها وربما من الحكمة أن تكون أكثر حذراً في المستقبل وفي نفس الوقت ذكرت نفسها عابسة بتلك الضجة التي سمعتها البارحة بينما الفتيان كانوا بعيدين عنها مئات الأميال ، فلا يمكن إذن أن يكونوا مسؤولين عن ذلك ولكنها كانت تعلم أنه لن يقر لها قرار قبل أن تعرف سبب تلك الضجة والذي قد لا يعدو كما حدثت نفسها ، أن يكون مجرد فأرة قد أوقعت المصباح النحاسي القديم .
وابتدأت تطوف في المكان عاقدة ذراعيها فوق صدرها ، ومرت عدة دقائق اقتنعت بعدها أنه لا يوجد من هو مختبئ في أحد الصناديق أو الأكياس المتراكمة تحت رفارف القرميد . لم يبق سوى مكان واحد عليها أن تبحث فيه وشعرت بنبضات قلبها تتسارع . إنها الغرفة الصغيرة في آخر السطح والتي لا تحوي شيئاً سوى سرير نحاسي أثري يبدو أن خادماً كان ينام فيه في الأيام الخوالي .
دفعت الباب بحذر بأطراف أصابعها وصدر عن مفاصله أزيز عال شق الصمت ولكنها ما أن جالت بنظراتها في أنحاء الغرفة حتى تنهدت بارتياح ، طبعاً لا يوجد هنا أحد . لقد سبق وتوقعت أن تكون الغرفة خالية ، ولكن .......
وصدرت عن نيرن شهقة وهي ترفع يدها إلى عنقها ... آه ... صحيح أن الغرفة كانت خالية تماماً ، حالياً ولكن شخصاً كان فيها ، ومنذ وقت قصير جداً وحدقت في مجموعة المفارش الواقعة على الأرض ، ويظهر أن سقوطها كان سبب تلك الضجة التي كانت سمعتها واستدارت عيناها وهي تحملق في تلك البطانية العسكرية التي كانت ملقاة على تلك الكومة في الوسط ما جعلها لا تكاد تلاحظ علبة السجائر الفارغة التي كانت على الأرض قرب رأس السرير وإلى جانبها كان غطاء علبة صفيح يحتوي على رماد السجائر و أعقابها . لقد كان هنا شخص ما ، الليلة الفائتة بينما كانت هي نائمة . شخص قد أشعل خمس سجائر كما كانت عدتها ودخنها في منزلها.
وداخلها الغضب . كان غضباً جامحاً اكتسح كل شعور بالخوف ولكنها أدركت أن الشخص الذي كان هنا ، قد رحل عن المنزل لقد أحست بذلك وإحساسها لم يسبق أن خذلها من قبل.
تنفست بعمق ، ثم تراجعت خارجة من الغرفة مغلقة الباب خلفها وحدثت نفسها بأن لا تستعظم هذا الأمر ، وأن تفسير ذلك قد يكون غاية في البساطة . انها على الأقل قد أدركت السبب في أن ستروم لم يسمع الضجة ذلك أن غرفته واقعة في الطرف الآخر من .......
وتعالى صوت عجلات سيارة على الحصى تبعها صوت الكابح بصورة عنيفة مفاجئة ما شعرت معه بالفزع لقد بدا لها وكأن شخصاً ما قد قذف بنفسه أمام السيارة فوقفت هذه بهذا الشكل أمام منزلها بالضبط ... ومهماً يكن صاحب السيارة فهو يبدو على عجلة كبيرة من أمره أتراها حالة ما مستعجلة؟
وهبطت السلم الحلزوني بأسرع ما أمكنها ، وقلبها يخفق عالياً لتتحول بعده إلى السلم الرئيسي حيث أمكنها أن تزيد من سرعتها . وما أن وصلت إلى الدرجة الأخيرة حتى تصاعد رنين جرس الباب وكان الصوت مفاجئاً لها ، ما جعلها تطلق صرخة صغيرة هتفت بعدها : " إنني قادمة . " واجتازت الصالة إلى الباب وهي تكاد تتعثر في ركضها ، ومن ثم فتحته بعنف : " ما هذا........؟ "
ولم يعد بإمكانها أن تطلق أي كلمة أخرى ... لم تستطع حتى ولو دفعت لها ثروة بأكملها .. ذلك أن المشهد الذي بدا أمامها ما كان ليطرأ على مخيلتها ولو بعد ألف عام !
كان ستروم غالبريث واقفاً أمامها وقد أوشكت ملامحه على التفجر وكأنه ابتلع لتوه شحنة من الديناميت .
كان ممسكاً برقبة غلام يكاد يبلغه طولاً ... ذا وجه شاحب قذر يبدو عليه الغضب والتوعد . غلام تعرفه هي جيداً ، غلام بإمكانها أن تميزه في أي مكان ، إذ من غيره يملك هذه القامة الشامخة ذات الأطراف الطويلة النحيلة ، وهذا الشعر ذا اللون الفاحم اللامع الميال إلى الاحمرار؟ من غيره يضع في شحمة أذنه اليسرى دبوساً ... ومن غيره يمكنه أن يختال زهواً بمثل هذا القميص القديم المقفل وهذه التنورة الجبلية السوداء الباليه المعلقة على وركيه النحيلين ، متأرجحة حول ساقيه القويتين البارزتين العضلات؟ انه كيلتي دنبار ..... آه وحدثت نيرن نفسها بهلع عما كان يفعله هنا وقد سبق ورأته بنفسها يستقل الحافلة ، صباح أمس؟ ومن المفروض أن يكون الآن في البحر في السفينة كوينز بونتي .....
وما الذي اقترفه يا ترى ليستحق هذه المعاملة التي يعامله بها ستروم غالبريث؟
فتحت نيرن الباب على مصراعيه وهي تشير إليهما بيدها بالدخول قائلة بصوت يخالطه الارتباك : " أدخلا ، لكي توضحا الأمر . "
فدفع ستروم الغلام أمامه لاوياً ذراعيه بغلظة وهو يقول له : " أدخل . " ورأت نيرن شفتيه تنطبقان بصرامة عندما أفلت كيلتي من يده ، ليتراجع متعثراً نحو القنطرة المصنوعة من خشب السنديان ، والتي تسند سقف الصالة .
التفت إليها ستروم بصوت يفور بالغضب : " نوضح الأمر؟ اسأليه هو أن يوضح ذلك هيا ، أذكر اسمك يا فتى وإياك وأن تجرب علي ألاعيبك وإلا استدعيت الشرطة . "
وكانت عينا الغلام الرماديتان خاليتين من التعبير وهو يتجنب النظر إلى وجه سائله بينما أخذ يتمتم بشيء غير مفهوم .
فصرخ به ستروم بحدة : " تكلم بصوت عال . "
فرد عليه الغلام بحدة : " دنبار . " ولم تعد عيناه الآن تتجنبان وجه ستروم فقد كانتا على العكس ، مثبتتين على وجهه وقد بان فيهما التمرد وهو يتابع بوقاحة : " سومرليد دنبار وأصدقائي يدعونني كيلتي أما أنت فيمكنك أن دعوني سومرليد ."
وحملقت نيرن في الاثنين وهي تتساءل عمن يبدو لها غريباً منهما . كانت تعرف كيلتي منذ ولادته إذ كانت أمه من أعز صديقاتها وعندما فقد والديه فاض قلبها بالحزن لأجله ولكنها لم تره أبداً من قبل بمثل هذه الوقاحة . أما ستروم غالبريث فقد عرفته منذ حوالي أربع وعشرين ساعة ومع هذا تراه وهي تنظر إليه الآن بوجهه الذي يعلوه الشحوب في هذه المواجهة المربكة بين الاثنين ما جعلها تشعر بشيء من العطف نحوه كان يبدو كما لو كان مريضاً ، مريضاً حقاً .
فقالت : " هل لأحد منكما أن يخبرني عما حدث؟ ما الذي تفعله هنا يا كيلتي؟ لماذا لست مع رفاقك؟ "
فأجابها بصوت خلا من الوقاحة : " كنت قد أخبرت السيد وبستر أنني أشعر بوعكة صحية وسألته إن كان بإمكاني العودة ، فاتصل بكِ هاتفياً ليخبرك .... "
فقاطعته قائلة : " ولكنني لم أتلق أي مكالمة هاتفية ولم تكن هناك رسالة محفوظة في آلة تسجيل المكالمات . "
فرأت الدم يتصاعد إلى وجهه وهو يقول : " لقد محوتها من آلة تسجيل هاتفك ."
فهتفت به : " ماذا؟ ومتى؟ ."
فأجاب : " لقد رأيتك تذهبين إلى المقبرة أمس عند ذلك دخلت إلى المنزل ولم أكن أريد أن يعلم أحد بعودتي . "
ومضت لحظة طويلة كانت نيرن أثناءها تحدق فيه صامتة وبعد أن استوعبت الأمر ملياً قالت له : " إذن فهو أنت الذي كان ... في الغرفة الصغيرة التي على السطح الليلة الفائتة؟ "
فنظر كيلتي إلى الأرض وهو يقول : " نعم . "
هزت نيرن رأسها ، ما الذي يحدث هنا؟ وحولت انتباهها إلى ستروم غالبريث ولكنها عندما رأت التعبير الذي بدا على ملامحه تلاشى السؤال من بين شفتيها فقد جعلتها الطريقة التي كان ينظر فيها إلى كيلتي تهتز بعنف ... ليس لأنه كان فقط ينظر إليه وإنما لأن نظرته تلك كانت تتفحصه بلهفة قريبة من الوحشية كانت تتفحص وجهه ، تتفحصه بدقة وتركيز جعلت شعرها يقف .
كان يبدو وكأنه يبحث عن شيء ما ... شيء هو وراء ملامح كيلتي الظاهرة ولكن مهما كان ذلك الشيء الذي يبحث عنه فقد كان واضحاً من الغضب الذي كان يعلو وجهه ، انه لم يكن يريد رؤية ذلك الشيء ... آه لا بد أن هذا من تصوراتها ليس إلا أم أنها قد خرجت عن عقلها؟
وأخيراً ، أخذت نفساً عميقاً لتقول بعد ذلك بحزم : " سأكون شاكرة لك يا سيد غالبريث ، إن أخبرتني بدورك بهذا الأمر بأجمعه . "
ظنت في البداية أنه لم يسمعها وأوشكت أن تعيد السؤال عندما حول نظراته بجهد واضح من الصبي إليها ودبت للحظة على وجهه مظاهر الحرج وكأنه نسي ما يدور حوله ، ليتلاشى بعد ذلك ، هذا التعبير تدريجياً وتبدو في عينيه نظرة باردة قاسية وقد عاد مرة أخرى مسيطراً على نفسه ودفع يديه في جيبي بنطلونه بعنف وهو يقول بإيجاز : " عندما تركت هذا المنزل وجدت نفسي أفكر في ما حدث الليلة الماضية بالنسبة إلى تلك الضجة التي سمعتها أنتِ وفي اختفاء محفظتي هذا الصباح واستنتجت من ذلك أنه قد يكون هناك شخص ثالث في المنزل ففكرت في أنه من الأفضل أن أعود لأعلمك بالأمر ....."
فقالت : " وهكذا صممت على العودة . "
فقال : " بالضبط وما أن دخلت البوابة حتى رأيت ..... "
فتجهم وجه كيلتي وقاطعه ناظراً إلى نيرن : " رآني أتسلل خارجاً من الباب الأمامي . "
وأخذ يعبث بقدميه وهو يتابع قائلاً : " إنني آسف يا نيرن . "
فأخذت نيرن تتخلل شعرها بأصابعها دافعة إياه من على جبينها وهي تقول : " ولكنني ما زلت لا أفهم . هل كنت أنت من أخذ تلك المحفظة يا كيلتي؟ "
فقال : " لقد أخذتها ، ولكن فقط لكي ......" وسكت مقفلاً فمه بعناد وقد بدا عليه بجلاء أنه لن يفصح عن السبب الذي جعله يأخذ المحفظة .
فعادت تسأله : " ولكنك أعدتها دون أن يفقد منها شيء مما فيها من نقود أو بطاقات مصرفية....؟ "
هز رأسه ، وكان كل جوابه هو هزة من كتفيه .
ها قد وصلت إلى طريق مسدود . وتنهدت وهي تلتفت إلى ستروم تسأله : " هل تريد أن تتصل بالشرطة؟ "
فأجاب : " لا أدري ما الذي علي فعله ولكن من الواضح أنه ليس بمقدوركِ الأشراف على تنشئة هذا الغلام . لماذا تظنين أن بمقدوركِ التعامل مع الفتيان الثمانية .. وإدارة مزرعة خضراوات للتسويق هذا عدا عن إدارة نزل يمنح السرير والفطور للنزلاء في الصيف . إذا كنتِ تريدين نصيحتي .. " وبانت في لهجته السخرية وهو يتابع قائلاً : " بيعي هذا المكان الكبير وابحثي لنفسك عن شاب لطيف تتزوجينه ثم تستقرين وتنشئين أسرة .. راجية أن يكون لك بنات صغيرات لا يسببن لك المشكلات . "
وهنا تلاشى من نفس نيرن كل العطف الذي كانت شعرت به نحو هذا الرجل منذ لحظات ، وكأنه لم يكن وازدحمت على شفتيها كلمات الغضب والامتعاض ولكن لأمر لم تستطع فهمه ، استطاعت أن تكظم كل هذا . من الأفضل لها أن لا تتكلم مطلقاً كي لا تمنح هذا الرجل الشعور بالرضى للاستياء الذي سببه لها ، مفضلة على ذلك ، النظر إليه بثبات منتظرة منه أن يخرج من المنزل ولكنه لم يتحرك ، وبدلاً من ذلك رأت لوناً خفيفاً جداً يتصاعد إلى وجنتيه وسمعته يتنحنح مرة بعد مرة ثم ولحيرتها البالغة ، قال بصوت يشوبه شيء من الحرج : " إنني أتساءل يا سيدة كامبل عما إذا كنتِ ترضين باستضافتي عدة أيام أخرى . "
ورأت نيرن نفسها تكاد تجن . هل هذا ما كان شعور ( أليس ) بطلة كتاب ، أليس في بلاد العجائب؟ الفضول ثم الفضول؟؟
لو لم يكن قد أخذها ، بسؤاله هذا على حين غرة ولو لم تكن في أشد الحاجة للانفراد بكيلتي للتحدث إليه ، لولا ذلك ، لالتفتت إليه ببرود تخبره بأن من الأفضل نظراً لظروفها الحاضرة ، أن يرحل عن المنزل ولكنها لم تفعل ، آه نعم ... لقد ابتسمت له ببرود فعلاً ،
ولكنها عندما نظرت في عينيه الزرقاوين الكحيلتين اللتين أصبح لونهما قاتماً لشدة الانفعال ، وجدت نفسها تقول وكأنها منومة مغناطيسياً : " لا بأس ." هل تراها قالت ذلك حقاً؟ وحدثها صوت خفي في داخلها بأنها تقترف غلطة كبرى ولكنها تجاهلت هذا الصوت ، لماذا؟ لم يكن لديها فكرة مطلقاً عن السبب وحولت بصرها عنه وهي تزدرد ريقها ، إلى الباب خلفه وهي تتابع قائلة : " إذا شئت ، يمكنك أن تحضر أمتعتك من السيارة وتصعد بها إلى الغرفة بينما أكون أنا قد جهزت القهوة إنما امنحني عشر دقائق من فضلك . "
هل تراه تنفس بارتياح فعلاً ، أم هي مخيلتها صورت لها ذلك؟ لماذا أصبح بقاؤه هنا مهماً بالنسبة إليه ، بهذه الصورة المفاجئة؟ وما لبثت نيرن أن أرغمت أفكارها على الابتعاد عنه . مهما كانت مشكلاته ، فهي لا تخص أحداً سواه . ذلك أن ثمة ما يجب أن تقوم به الآن وأول شيء هو أن تتحدث إلى كيلتي في أمر خاص .
أشاحت بوجهها عن ستروم ، لتضع يدها على ذراع الغلام قائلة : " تعال معي إلى المطبخ يا كيلتي . "
إنها لم تمنح نفسها سوى عشر دقائق فقط ، ولكن بإمكانها أن تتحدث إليه أثناءها وتحاول أن تعلم ما الذي حدث . فهي لم تصدق أنه عاد بسبب وعكة أصابته ، إنما تعتقد أن ثمة سبباً جعله يرفض الإبحار على السفينة لقد أراد أن يعود إلى البيت .
ولكن لماذا؟ وهل تراه سيخبرها؟
وأخذت تملأ إبريق القهوة بالماء البارد وهي تميل برأسها نحو الغلام ، تسأله : " هل تناولت شيئاً من الطعام هذا النهار؟ "
فأجاب : " كلا ، لم آكل شيئاً ."
فسألته : " هل أنت جائع؟ "
فأجاب : " نعم "
فقالت : " إذن فأنا اقترح بأن تقوم بأمرين ، وذلك حالما تخبرني بالضبط ماذا جرى . أما الأمران فهما ، أولاً : اذهب إلى بيتك وأطلب من عمتك آني أن تقدم لك الإفطار . ثانياً : ما أن تنتهي من ذلك عليك أن تهذب إلى المستوصف وتطلب من الدكتور كوغيل أن يفحصك ......"
فقاطعها قائلاً : " إن عمتي آني ليست في البيت لقد ذهبت إلى بلدة انفرنيس لتمكث مع صديقتها روبي . "
فتأوهت بفروغ صبر وهي تفكر ، طبعاً لا بد أن آني قد خططت لتأخذ عطلة أثناء ذهاب كيلتي في رحلته على تلك السفينة .
فتمتمت قائلة : " وأظن أن بيتها مقفل ولكن حتى لو استطعت الدخول ، فليس في إمكانك أن تبقى في البيت بمفردك على كل حال ...."
فسألها : " هل أستطيع البقاء هنا إلى حين عودتها ؟ "
فأجابت رافعة حاجبيها وهي تحمل بيدها إبريق القهوة : " هنا؟ ولم لا؟ يمكنك أن تستعمل إحدى غرف النزل . "
فقال : " هل يمكنني أن أنام في غرفة السطح؟ "
أجابت : " غرفة السطح؟ كلا انك ستموت من البرد فيها. "
فقال : " ولكنني لم أمت من البرد البارحة . "
وبدت في عينيه نظرة هزل ماكرة ، فلم تتمالك نفسها من الضحك وأجابت وهي تهز كتفيها : " كلا . انك لم تمت من البرد أليس كذلك؟ حسناً لم لا؟ ولكن عليك أن تتدبر أمر الفراش وسأعطيك مصباحاً وبعض الأغطية إنما هنالك شرط واحد ..."
فسألها : " وما هو؟ "
أجابت : " لا أريدك أن تدخن يا كيلتي وإذا شئت أن تدخن فعليك أن تقوم بذلك خارج البيت . فأنا لا أسمح بذلك داخل المنزل . "
فقال : " كما تشائين . لا مشكلة في هذا . " ورفع تنورته ولكن ما أن تركها حتى انحدرت مرة أخرى إلى وركيه وقال : " علي أن أعود إلى المدرسة ما دمت قد عدت من الرحلة . "
فحاولت أن تخفي ابتسامتها وهي تجيبه قائلة : " أظن هذا هو المفروض ولكن عليك أن تأكل شيئاً قبل ذلك هاك .." ووضعت على المائدة طبقاً عميقاً وملعقة وهي تقول : " ضع لنفسك بعض الحبوب الموجودة في الخزانة مع الحليب وهو في الثلاجة . "
والآن ، حان الوقت لكي تسأله عن سبب عودته فقالت بصورة عفوية وهو يسكب الحليب : " والآن ، اخبرني ، ما الذي جعلك تلغي رحلتك على متن السفينة بونتي؟ كنت أظنك متشوقاً إلى هذه الرحلة . "
فدفع إناء الحليب إلى وسط المائدة ، ثم حنى رأسه فوق طبقه وهو يجيبها قائلاً : " إنني لا أريد أن أتحدث عن هذا الأمر يا نيرن انه ... شأني الخاص . "
فاستندت إلى منضدة خلفها وهي تنظر إلى الغلام بمزيج من العطف والخيبة ، لقد عانى أكثر مما عانى أي غلام في سنه وإذا كان لديه بعض المشكلات الآن فهو لا يريد أن يشاركه أحد في أمرها وقد يكون هذا بالنسبة إليها هي على الأقل .
ومن خبرتها ، كانت تعرف الأوقات التي يمكنها بها الإلحاح أو عدم الإلحاح وهي الآن تعرف أن الإلحاح لن يأتي بفائدة .
وهكذا قالت برقة : " لا بأس ولكن تذكر عندما تقرر في أي وقت أن تتحدث بالأمر فتذكر أنني هنا . وأي شيء تخبرني به سيبقى سراً إذا كان هذا ما تريده . "
فتمتم : " شكراً يا نيرن . "
كان قد التهم الطعام وكأنه لم يأكل منذ أسبوع ونهض واقفاً وهو يقول : " أتريدين أن أضع هذه في ماكينة غسل الأطباق؟ "
فأجابت : " كلا ، بل ضعها في الحوض من فضلك . إنما اسمع يا كيلتي ..."
فقال : " نعم ."
فقالت : " بالنسبة إلى محوك للمكالمة في آلة التسجيل في الهاتف ....."
فتنهد قائلاً : " سأشتغل مقابل ذلك في عطلة الأسبوع القادمة من دون أجر . "
فقالت : " حسناً . "
استقام في وقفته وهو يقول : " حسناً سأذهب الآن . "
سألته قائلة : " هل آخذ لك موعداً من الدكتور كوغيل؟ "
ورفعت حاجبيها ساخرة ، فاحمر وجهه وهو يجيب : " كلا لن أذهب إلى الطبيب وأنا آسف لأنني كذبت على السيد وبستر بالنسبة لهذا . إن صحتي حسنة جداً سأذهب إلى المدرسة الآن وسأراك فيما بعد . "
وما أن وصل كيلتي إلى الباب ، حتى ظهر ستروم غالبريث على العتبة وما أن تجاوز أحدهما الآخر حتى ألقى كيلتي على الرجل الغريب الأسمر نظرة جامدة بينما أظلمت ملامح ستروم وظنت نيرن أنه سيقول شيئاً ولكنه فقط أطبق فمه بقوة وهو يرمق الغلام المبتعد بعينين حادتين .
وبعد ذلك بلحظات ، سمعا صوت الباب الخارجي يصفق ولم تكن نيرن قد شعرت بأنها تمسك أنفاسها إلى أن رأت نفسها تتنفس ببطء ، ذلك أن الجو سرعان ما يشحن بالتوتر كلما جمعتهما غرفة معاً . كان توتراً قلقاً بقدر ما هو غامض محير ماذا يمكن أن يكون السبب يا ترى؟
وسألت ستروم ببشاشة بينما كان يدخل المطبخ : " هل استقر بك المكان؟ "
فأجاب : " نعم أشكرك . "
فقالت : " دعني اسكب لك فنجاناً من القهوة . " وبينما كانت تقوم بذلك أخذ هو يذرع المطبخ بخطوات قلقة ومرة أخرى داخلها الضيق ما أشد الاختلاف بينه وبين روري لقد كان زوجها رجلاً سهل المعشر هادئ الطبع . كان دوماً ينجز العمل الذي يبدأ به ، وكان ينهيه دوماً دون أن يزعج أحداً كانت هذه موهبة فيه كما كانت تخبره على الدوام .
كانت موهبة يبدو بجلاء أن ستروم غالبريث هذا لا يملكها . لقد عرفت من الطريقة التي عامل بها كيلتي أنه يواجه المشكلات رأساً ويعامل أي شخص يعترض طريقه بكل غلظة وفظاظة .
ناولته فنجان القهوة ، ولكنها لم تتكلف عناء دعوته إلى الجلوس , لقد أحست بأنه اكثر قلقاً من أن يستجيب لهذا . كما أنها أحست أيضاً بأنه يريد أن يتحدث إليها ولكن في أي موضوع؟
قال فجأة : " أخبريني عن ذلك الغلام . ما هو تاريخه؟ "
حسناً ، لقد تملكتها الدهشة في الواقع ، ذلك أنها منذ وقت قصير كانت تشعر بالأسى عندما رأته يفقد اهتمامه وهي تتحدث عن الفتيان الذين يعملون لديها وهاهو ذا الآن يوجه إليها أسئلة عن واحد منهم .
فسكبت لنفسها فنجاناً من القهوة أضافت إليه السكر والحليب وأخذت تحركه قبل أن تتجه إلى المائدة حيث جلست واضعة يديها حول الفنجان وهي تقول : " كيلتي؟ انه صبي لطيف ....."
فارتسمت على شفتيه ابتسامة عدم تصديق وهو يقاطعها قائلاً : " لطيف؟ لقد كنت استنتجت مما أخبرتني به أن الفتيان الذين يعملون معك هم خارجين عن القانون ومن القليل الذي رأيته من سومرليد هذا أو كليتي أو مهما كان اسمه ...."
فقاطعته وهي ترغم نفسها على الهدوء : " قبل كل شيء نعم الفتيان الذين يعملون معي في برواش كان لهم جميعاً مشكلات مع القانون .. ولكن ما عدا كيلتي فالأمر معه مختلف . "
فسألها : " من أي ناحية؟ "
فأجابت : " إن كيلتي هو أصغر سناً من أكثرهم وهو يعمل هنا منذ وفاة والديه فقط . "
وحدقت نيرن من النافذة وهي تفكر بذهن شارد في أن كيلتي لا بد قد أطلق شادو إلى خارج المنزل . فقد كان الكلب الأسود متمدداً في الشمس على الطريق قرب سيارتها الفان وتابعت تقول : " كان دوماً بمفرده . لم ينخرط قط مع المجموعة انه غير عادي ..."
وأطلقت ضحكة أسى قصيرة وهي تقول : " لا بد انك استنتجت هذا بنفسك من الطريقة التي يرتدي بها ثيابه . "
فقال : " معك حق بالنسبة إلى ذلك . فأنا لا يمكنني أن أتصور أن كثيرين من الغلمان الذين في سنه يشعرون بالارتياح لارتداء التنورة . "
فقالت : " عندما كان في الثالثة من عمره تقريباً ، ابتدأت أمه هازيل تلبسه تنورة يوم الأحد وقد اعتاد الأطفال الذين يكبرونه سناً ، إغاظته فأطلقوا عليه لقب كيلتي ومعناها ذو التنورة ، وعندما ابتدأ بالذهاب إلى مدرسة غلينكريغ الابتدائية لم يعد يلبس التنورة مطلقاً ولكن اللقب التصق به . "
ووضعت نيرن فنجانها على المائدة ثم أخذت تمر بإصبعها على حافته وهي تتابع مفكرة : " عندما أصبح في الحادية عشرة ذهب إلى مهرجان للكشافة في أدنبرة وعندما ذهب والداه ، هازيل و هوغ ليستقبلاه في محطة القطار ، لم يعرفاه فقد استبدل بنطلونه الجينز بتلك التنورة الاسكتلندية السوداء .. وكانت في ذلك الحين تنزل إلى ما تحت ركبتيه .. كما كان صابغاً شعره بلون ارجواني كعادة سكان الجبال ومنذ ذلك الحين أصبحت التنورة دلالة عليه . "
وساد صمت في المطبخ صمت طويل ، لم يخترقه سوى صوت دقات ساعة ساحة غلينكريغ تدق الواحدة . وعندما تلاشى الصدى ، وضع ستروم فنجانه من يده ثم مشى نحو النافذة ، فاستند بكتفه على الجدار ، ثم نظر إلى نيرن وهو يعقد ذراعيه فوق صدره قائلاً : " لقد قلت إن والديه قد توفيا من يعتني بالغلام الآن؟ "
استغربت شدة اهتمامه بهذا الغلام الذي سبق وعامله بعنف وبطريقة خاطئة فقالت تجيبه : " إن القريبة الوحيدة لكيلتي هي آني لو . وهي عمة أبيه ، وقد أصبحت قانونياً الوصية على الصبي بعد موت أبيه . "
وهزت رأسها متابعة : " مسكينة آني فقد بقيت عازبة طيلة حياتها ما جعلها غير قادرة على التعامل مع كيلتي وهذا ما جعلني شريكة في الموضوع إذ طلبت مني أن أعطيه عملاً بعد الخروج من المدرسة وبهذا أتمكن من مراقبته . "
فقال وهو ينظر إليها بثبات : " يبدو أن علاقتك طيبة مع الغلام . "
فأجابت : " إنني أحبه فهو كما سبق و أخبرتك غلام لطيف ولكنني قلقة عليه فهو بسكنه مع آني وعمله معي لا يجد في حياته رجلاً يسير على منواله . "
سألها : " وماذا عنه في المدرسة؟ "
فأجابت : " انه ذكي جداً ولكنه لا ينكب على دروسه ذلك أن له هواية و حيدة في حياته وهي ....."
وقطع عليها حديثها رنين جرس الهاتف ، فاستأذنت منه وهي تهرع لترفع السماعة وجاءها صوت كيلا يقول : " نيرن لقد نسيت أن انسخ من عندك تلك الوصفة التي كنا نتحدث عنها تلك الليلة هل عندك وقت لتعطيني إياها الآن؟ "
فأجابت : " طبعاً ، انتظري برهة لكي أحضر الدفتر . "
ووضعت السماعة وهي تقول ناظرة إلى ستروم : " إنني آسفة فسأتأخر في المكالمة الهاتفية عدة دقائق هل ستخرج هذا الصباح؟ ."
فأجاب : " لقد فكرت في ذلك ، لأستكشف المكان . "
لماذا يريد رجل قادم من المدينة أن يطوف حول قرية إسكتلندية صغيرة في أكثر أيام شهر شباط ( فبراير ) كآبة ، بينما بإمكانه أن يطير إلى الريفييرا أو فلوريدا أو جزر الباهاما؟ وجدت نيرن نفسها تتساءل عن ذلك ولكنها ما لبثت أن تخلت عن هذه الأفكار فهذا شأنه .
أخرجت دفترها ومضت تقلب صفحاته وهي تقول : " إنني في العادة ، أقدم لنزلائي السرير والفطور ولكن بما أنك بمفردك وأكثر أمكنة السواح مقفلة في هذا الوقت من السنة ، فإنني أرحب بأن تتناول طعامك معي فقط دعني أعرف مقدماً ما إذا كنت لن تتناول وجبتك هنا . "
فقال : " شكراً ولكنني اليوم بالذات سأغيب حتى الساعة الخامسة . "
ارتاحت نيرن في سرها ، لكنها ما لبثت أن أجفلت وهي تتساءل عن سبب ردة الفعل هذه نحوه ، وما لبثت أن أدركت الجواب ، ذلك أنها لم تقابل قط ، رجلاً سبب لها مثل هذا القلق وذلك بمجرد وجوده ، كما أنها لم يسبق لها أن شعرت قبله قط ، بالاهتمام والانجذاب برجل ما ، ولم يكن ذلك بسبب قامته الفارعة وشعره الأسود وعينيه الزرقاوين ذات المشاعر القوية كان الذي يضايقها حقاً هو شيء أقل ظهوراً .
وفجأة ، أنهت أفكار الطائشة لتقول : " هذا حسن . "
ومشت نحو الهاتف ، بينما رفع أنامله إلى جبهته يحييها مودعاً وعلى شفتيه ابتسامة ملتوية جعلت نبض نيرن يرتفع بطريقة غريبة ما دفعها إلى التفكير بأن هذا الرجل يجب أن يسجن في الطابق الأعلى ، ثم يلقى بالمفتاح بعيداً ... فقد كان رجلاً محطماً للقلوب لم تر له من قبل مثيلاً .
وحبست أنفاسها حتى سمعت الباب الخارجي يصفق خلفه لتتنهد عند ذاك وهي تلتقط السماعة قائلة : " هل ما زالت على الخط يا كيلا؟ "
فأجابت شقيقتها قائلة : " هل أنتِ بخير يا نيرن؟ إن صوتك ليس كالمعتاد هذا الصباح ."
وكذلك نيرن لم تشعر بنفسها كالمعتاد أيضاً ، فقالت : " لا بد أن الخط ليس على ما يرام إنني بخير تماماً . "
ولكن ضربات قلبها كانت تقرع كالمطارق ما الذي حدث لها يا ترى؟ كان جواب ذلك هناك في مكان ما من رأسها ... ولكنها بدلاً من أن تفكر في جذور المسألة نقلت ذهنها بسرعة من تلك المهمة إلى الأمر الذي بين يديها فقالت : " هل بيدك قلم يا كيلا؟ حسناً هاك الوصفة . "
الفصل الرابع
عاد كيلتي من المدرسة في الساعة الرابعة ، فكلفته نيرن على الفور بتنظيم الغرفة الصغيرة على السطح . وبعد ذلك بفترة قصيرة نزل مطمئناً نيرن أنه لم يعد هناك خطر من انهيار الفراش بعد الآن .
قال : " لقد وضعت لوحين من الخشب تحت الفراش ما أصبح سقوطه بعد ذلك مستحيلاً ، وهو في الواقع مريح أكثر من ذلك الذي أنام فوقه عند العمة آني . "
فقالت نيرن : " هذا حسن . " وكانت تقف عند الحوض تقشر البطاطس . ثم توقفت لحظة ، لتستدير إليه قائلة : " بالمناسبة ، ذهبت في الأسبوع الماضي لزيارة آني فأرتني الصور الفوتوغرافية التي ألصقتها أنت على جدار غرفة نومك إنها رائعة تماماً . "
فقال : " شكراً يا نيرن . "
لم يكن في صوته تواضع زائف ، كما لاحظت وعدا عن لون خفيف ظهر على وجنتيه ، لم يكن هناك دليل على أن إطراءها ترك أي تأثير عليه . وكان إطراؤها صادقاً فقد كانت الصور الفوتوغرافية تمثل مناظر من قرية غلينكريغ . البحيرة والمناظر التي تحيط بالجبال . وكان كل ذلك من الجمال بحيث احتبست أنفاسها وهي تنظر إليها وتابعت تقول : " ولكن آني تقول انك تركت التصوير منذ أقمت معها لماذا يا كيلتي؟ "
فهز كتفيه وهو يحول عينيه عنها ويقول : " لقد فقدت اهتمامي فقط كما أظن ومن ناحية أخرى ، أنتِ تعلمين كم هو صغير منزل آني حتى أنني لا أجد فيه زاوية يمكنني استعمالها كغرفة مظلمة أظهر فيها أفلامي لهذا حزمت كل أمتعتي ووضعتها جانباً ."
فسألته : " بما في ذلك آلة التصوير أيضاً؟ "
فعبس وهو يعبث بقدميه قائلاً : " لقد بعتها "
فلم تتمكن نيرن من منع شهقة أفلتت منها وهي تقول : " بعتها؟ أوه يا كيلتي ... كيف أمكنك هذا؟ كانت والدتك قد أخبرتني كم تعب والدك في توفير ثمن تلك الآلة لقد ضحى بأشياء كثيرة ...."
وذهلت وهي ترى الدموع تتفجر من عيني كيلتي الذي رفع يده يمسحها بكمه بخشونة وهو يمر بها أثناء ذلك دون أن يراها متابعاً قوله : " لا أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع يا نيرن . " وتابع يقول بصوت مرتجف : " لقد فقدت اهتمامي بالتصوير .. ألا تفهمين؟ كان ذلك عملاً صبيانياً قد انتهيت منه . "
ودفع باب المطبخ وفي لحظات كانت تسمع خطواته صاعداً السلم نحو غرفته الصغيرة ليكون بمفرده وشعرت بقلبها يتمزق لأجله . ما زال في نفسه أشياء لم يفصح عنها ، أشياء جعلته يتخلى عن هوايته في التصوير . أشياء شخصية عميقة لا بد أنها تركت في نفسه ألماً عميقاً ماذا يمكن أن تكون هذه يا ترى؟ إنها طبعاً ليست عدم وجود مكان في بيت آني يجعله غرفة مظلمة لتظهير الأفلام لقد كانت أحلامه أقوى كثيراً من أن يسمح لها بالتبدد بهذه السرعة .
وأجفلت حين سمعت صوت الباب الخارجي يغلق لا بد أنه ستروم غالبريث جاء ليتناول عشاءه وأسرعت بإنهاء تقشير البطاطس وكانت تمسك بآخر حبة منها عندما سمعت خطواته في الصالة .
بعد لحظة ، كان يدخل من الباب الذي كادت كتفاه العريضتان تملأنه وما أن تقدم مقترباً منها ، حتى شعرت برغمها ، بالجو حولها يمتلئ بالحيوية والنشاط اللذين يشعان منه .
وقال يخاطبها : " إنها رائحة شهية . "
فأجابت : " انه حساء العدس . " وأسقطت البطاطس في إناء على النار تغلي فيه المياه وهي تتابع قائلة ببساطة : " ألي أين ذهبت هذا العصر؟ "
فأجاب وهو يقف في وسط المطبخ دون هدف : " آه ، هنا وهناك . "
ولاحظت نيرن أن هناك دلائل على مشاعر الرجل في نفسه ، هي فوق مستوى إدراكه وذلك في ما يتعلق بميدان المرأة ، فحاولت أن تعامله كما تعامل أي فتى من أولئك الذين ترعاهم ، فقالت وهي تناوله ملعقة طويلة اليد : " هيا تقدم واجعل من نفسك شخصاً ذا فائدة وحرك هذا الحساء . "
لم يكن الحساء بحاجة إلى تحريك .... ولكنه لن يعرف ذلك أبداً لقد عرفت ذلك عندما دخل في إحدى المرات أحد الفتيان المطبخ ليقف دون هدف لقد أراد أن يكون بقرب امرأة ولكنه لم يكن يدرك ذلك في أعماقه وسرعان ما اكتشفت هي أن في إعطائه عملاً يقوم به يجعله أكثر راحة فهل يمكن أن يفيد هذا رجلاً منعزلاً كئيباً مثل هذا الرجل؟
وعندما أخذ الملعقة منها اشتمت منه رائحة تبغ خفيفة فقالت بفتور : " آه لقد كنت إذن في مقهى رويال تتحدث إلى المواطنين . "
فانحدرت نظراته إليها ولأول مرة شاهدت عينيه تبتسمان وهو يقول لها : " هل هي خطيئة يا سيدتي؟ "
كان يقف أكثر قرباً منها مما أرادته أن يكون حين ناولته الملعقة وشعرت بالضيق لهذا ، وهذا جعلها تتراجع قليلاً إلى الخلف وهي تحول الحديث قائلة : " لقد اعتاد روري أن يقوم بذلك أحياناً فيجلس قليلاً في مقهى رويال وهو في طريقه إلى المنزل حين يذهب إلى المحطة ليرسل الخضر إلى لندن في قطار بعد الظهر . "
وساورها الآن شعور بالارتياح وهي تضع روري بينهما ، وذلك لتقطع الطريق على تلك الأحاسيس التي تتفاعل بينها وبين هذا الرجل الغريب وتابعت تقول بمرح وهي تتابع تقشير حبة البطاطس : " إن يدك رشيقة في تحريك الحساء ولا بد أن لك بعض الخبرة في ذلك هل أنت متزوج؟ "
وشعرت بالغضب من نفسها هل بعد كل تلميحاته وتعريضه بها الليلة الماضية ، تأتي الآن لتضع نفسها موضع الريبة مرة أخرى وذلك بإلقائها سؤالاً كهذا يمكنه أن يفسره برغبتها في أن تعرف ما إذا كان حراً في حياته؟
ولكنها ما لبثت أن شعرت بالارتياح وهي تراه يأخذ سؤالها هذا بنفس البراءة التي ألقتها بها ، فيجيب قائلاً وهو يتابع تحريك الحساء : " كلا لست متزوجاً ولم أتزوج قط .. وليس من المحتمل أن أتزوج وأخشى أنني مرشح ضعيف لمؤسسة الزواج المقدسة تلك .. "
فسألته : " ولماذا تظن ذلك؟ "
فأجاب بحدة : " لأنني في كل مرة تبتعد فيها تلك المرأة المسكينة عن أنظاري سأظن أنها ذهبت لملاقاة صديق أي أساس يمكن أن يكون لهذا الزواج؟ "
فقالت له بعدم تصديق واضح : " هل أنت من النوع الغيور؟ آسفة لعدم تصديقي هذا . "
فأجاب : " لا لست من النوع الغيور وإنما من النوع الساخر! . "
فقالت : " الساخر؟ و كأنك .... "
فقاطعها قائلاً : " وكأنني لم أقابل بعد امرأة تستحق ثقتي . "
إذن هذا يفسر كل شيء لا بد أن هذا الرجل كانت له خبرة سيئة مع إحدى النساء وربما مع أكثر من واحدة ، هذا إذا اعتبرنا سخريته القاسية تلك . فهل يمكن أن يكون هذا هو سبب تجهمه ذاك وهو يتفرج على المشهد السعيد الذي كان يدور بين كيلا وأسرتها في غرفة الجلوس مساء أمس؟
وقال بسخرية رقيقة : " لا أراك أسرعت إلى الدفاع عن بنات جنسك؟ "
فنظرت إليه بهدوء وهي تجيبه قائلة : " كلا فأنا لا يمكنني أن أتحدث عن أي امرأة أخرى غير نفسي ولكنني آسفة لما نالك من سوء الحظ في ....."
فضحك هازئاً وهو يقاطعها قائلاً : " سوء الحظ؟ ليس للحظ شأن في هذا الأمر لقد كانت المرأة التي عرفتها قاسية متحايلة تعرف اثنين في وقت واحد الخلاصة أنها كانت فتاة سافلة . "
استدارت نيرن وهي تسمع صوت كيلتي خلفها ، كان واقفاً عند الباب وعندما لاحظت الشحوب الذي يعلو وجهه وتوتر ملامحه شعرت بالفزع يتملكها .
لم يكن ينظر إليها بل إلى ستروم محدقاً فيه وقد بان في عينيه مزيج من الغضب والتعاسة والفوضى . وبحركة لا إرادية اقتربت نيرن منه عدة خطوات ولكنه تراجع إلى الخلف ليصبح في الصالة مرة أخرى ثم قال بصوت مرتجف : " سأخرج الآن لقد أنهيت فروض المدرسة وسأعود في العاشرة . "
فهتفت : " كيلتي ...." ولكنه كان قد خرج قبل أن تستطيع إيقافه ليصفق الباب الخارجي خلفه بعنف تجاوبت معه أرجاء المنزل . وتساءلت بخوف عما قد يكون حدث للغلام . لم تره من قبل يتصرف بمثل هذه الغرابة كانت متأكدة من أن الأمر لا يتعلق بها هي ، إذن فلا بد من أن يكون الأمر متعلقاً بستروم غالبريث.
ولكنه لم يسبق له أن قابل هذا الرجل قبل الآن فهل يمكن أن يكون هذا الغريب قد قام بعمل جعل الغلام يستاء إلى هذا الحد؟
لقد رآه طبعاً وهو يتسلل من البيت هذا الصباح ولكن كيلتي علم تماماً أنه كان هو المخطئ في تصرفه ذلك الحين كما أنها كانت تعرف أنه ليس من الأشخاص الذين يحقدون كلا لا بد أن هناك شيئاً آخر يحمله على هذا التصرف .
وبطبيعة الحال ، كان أسهل شيء هو أن تسأل ستروم مباشرة عما فعله ليسبب عند الغلام ردة الفعل هذه ولكن غريزتها أوحت إليها بأنه مهما كان يوجد بين الاثنين فلا بد أنه شيء لا يريد أي منهما أن يخبرها عنه .
وتنهدت وهي تعود إلى المطبخ ذلك أنها طيلة الثمانية أعوام الماضية قد تمكنت من إقامة علاقات طيبة مع الفتيان الذين كانت ترعاهم ، ولكن الأمر مع كيلتي كان مختلفاً فقد كانت متعلقة جداً بالغلام وربما بطبيعة الحال ، لأنها كانت صديقة حميمة لوالدته ولأنها كانت تعرف كيلتي منذ يوم ولادته ....
سألها ستروم فجأة : " بماذا تفكرين؟ "
فأجابت وهي تسير نحو الموقد : " آه لقد كنت أفكر في اليوم الذي ولد فيه كيلتي ." وجذبت إناء البطاطس جانباً فخمد صوت غليان الماء وهي تتابع قائلة : " لقد ولد قبل أوانه بشهر ولكن وزنه مع هذا كان أكثر من أربعة كيلو غرامات كما كان طفلاً نهماً يزمجر على الدوام إنني أذكر قول والده ( حسناً لقد أقبل علينا كالأسد أليس كذلك؟ ) لقد كانت ولادته أول يوم في آذار ( مارس ) وذكرى مولده أصبح قريباً جداً .... "
فسألها : " كم سيصبح عمره؟ "
فأجابت : " خمسة عشر عاماً ، انه يبدو أكبر من سنه لطول قامته ومتانة بنيته . "
فعاد يسألها : " هل قلت انه ولد قبل الأوان؟ "
فأجابت : " لقد كان هوغ غائباً في رحلة صيد لمدة شهرين أو نحو ذلك وقد تزوجا هو و هازيل بعد رجوعه بفترة قصيرة لقد كانت آني هي القابلة التي استقبلته إنني أذكر إصرارها على أنه طفل كامل النمو ولكنها كانت قد تقدمت في السن وفي الواقع كان كيلتي هو آخر طفل استقبلته قبل أن تتقاعد وكانت مخطئة في تقديرها بطبيعة الحال ، إذ لا يمكن أن يكون طفلاً كامل النمو لأن هوغ كان في رحلة الصيد طوال شهر أيار ( مايو ) ومعظم شهر حزيران ( يونيو) ....
فقال ستروم وهو يلوي شفتيه تهكماً : " أتعنين أن الطفل إذا كان قد جاء في أوانه فان هوغ لا يمكن أن يكون والده حقاً؟ "
فأجابت بذهن شارد وهي تخرج من الدرج بعض أدوات المائدة : " بالضبط وبالطبع لا يمكن لهذا أن يكون صحيحاً . "
فقال : " ولم لا؟ "
كان في صوت ستروم شيء ما ، برود هادئ أرسل قشعريرة في جسد نيرن فنظرت إليه متسائلة وقد أدهشتها أن ترى تلك النظرة القاسية الهازئة في عينيه .
وسألته بصوت يحتوي على نوع من الدفاع : " لم لا؟ لأن هازيل لم تكن من ذلك النوع من الفتيات! وكانت تخرج مع هوغ منذ أيام الدراسة فقد كانت موعودة به."
فسألها : " موعودة به؟ "
فأجابت : " نعم . "
قال : " انهما لم يكونا خطيبين إذن . "
فأجابت : " كلا لم يكونا خطيبين لم يكن لدى هازيل خاتم خطبة ولكن كل شخص كان يعلم أن زواجهما ما هو إلا مسألة وقت فقط . "
وتساءلت عما يجعله يهتم بكيلتي ولماذا يهتم بهازيل وتبادرت إلى ذاكرتها ذكرى أول مرة رأته فيها وكان واقفاً يحدق في قبر هازيل لقد ظنت حينذاك أنه يقول شيئاً وعندما اقتربت منه كانت الكآبة والمرارة تكسوان ملامحه ، هذا إلى شيء آخر لم تستطع إدراكه حينذاك ولكنها أدركته الآن وهي ترى نفس النظرة في عينيه كانت نظرة احتقار . ولكنها عندما سألته عند ذلك عما إذا كان يعرف هازيل أنكر الأمر . على أنها عادت تصحح لنفسها قائلة ، كلا انه لم ينكر الأمر إنما غير الموضوع فقط وبدقة فائقة إذ أنه هز كتفيه قائلاً انه مهتم بالمقابر القديمة.
واهتز قلب نيرن والحقيقة تنبلج أمام بصيرتها فجأة ... هذا الرجل كان يعرف هازيل! أو أنه على الأقل كان يعلم عنها أمراً ما ولسبب ما كان يكرهها .
وشعرت نيرن وكأن شخصاً ضربها على رأسها ، فاصعقها . أي ذكرى من الماضي يراود هذا الغريب الغامض ، ولماذا؟ وإذا كان هذا يسبب له كل هذا الألم فما الذي جعله يعود ليعرض نفسه لذلك؟
وأخرجت شوكة من الدرج تختبر بها نضج البطاطس ، دون أن تعي ما تفعل وكانت هذه ناضجة تماماً فتمتمت تقول : " العفو . " وهي تمر من أمامه إلى حوض الغسيل لتصفي الخضر من مائها.
لم تعرف سبب مجيئه إلى غلينكريغ حتى أنه لا يمكنها التكهن به ولكن مجيئه قد سبب إزعاجاً ، كان كالحجر يلقى وسط مياه بحيرة هادئة ، وبصرف النظر عن نعومة الحجر وهدوء البحيرة فان التموج سيحدث ولن تعود إلى البحيرة هدوءها مرة أخرى إلى أن تتلاشى آخر موجة .
أو في هذه الحالة حتى يعود ستروم غالبريث إلى بلده .
وسألته : " من أين أقبلت يا سيد غالبريث؟ "
فأجاب : " من لندن عندي شقة هناك . "
فعادت تسأله وهي تملأ إبريق القهوة بالماء : " أي نوع من العمل تقوم به؟ "
فأجاب : " البناء . "
فسألته وهي تمد يدها تتناول مناشف قطنية ملونة من على منضدة بجانبها : " هل تبني بيوتاً أم تقيم إنشاءات تجارية؟ "
فأجاب : " إنني أشيد مساكن في أنحاء العالم .. لأجل أنصار الرياضة مثلاً وخاصة متسلقي الجبال وشركتي تدعى أكواخ قمم الجبال . "
فجمدت يد نيرن وهي تحمل المناشف ثم سألته : " أكواخ قمم الجبال؟ إن لهذه الشركة أملاكاً مجاورة لمنزلي هذا ... تبلغ حوالي المائة فدان ."
وحدقت فيه وهي تتابع قائلة : " هل أنت صاحبها؟ هل أنت صاحب أكواخ قمم الجبال؟ "
فأجاب : " نعم يا سيدة كامبل . "
فقالت : " آه أتمنى أن تكف من مناداتي سيدة كامبل إن كل إنسان يدعوني نيرن يا سيد غالبريث ..."
فقاطعها مازحاً : " ستروم . "
فقالت : " ستروم ... لماذا كنت متمسكاً بتلك الأملاك؟ إن الأرض مهملة لا تستغل منذ ... آه لا بد أن ذلك منذ خمسة عشر عاماً . "
فرفع حاجبيه ساخراً وهو يسألها : " وما الذي يهمك من هذا؟ "
فتنفست نيرن بعمق ثم قالت : " لأنني أنا و روري حاولنا أن نشتري منها خمسة فدادين منذ عدة أعوام من خلال المحامي الذي نتعامل معه ، ولكن المحامي المسؤول عن أكواخ قمم الجبال ، محاميك ، أخبرنا أن الأرض ليست للبيع . "
فسألها : " هل كنتِ تريدين أن تشتري قسماً من كريجند؟ طبعاً ليس لأجل بناء بيت ريفي لأن هذه الأرض عبارة عن صخور متراكمة وسقوف متآكلة . "
فقالت : " كلا ، ليس لأجل بناء بيت ريفي فهي قذى للعين ينبغي أن تجرف وتسوى ولكن موقعها رائع .... إذ أنها تشرف على الوادي والبحيرة ، كلا كنا نريد الأرض فقط . "
فسألها : " وماذا كنتما تريدان أن تفعلا بها؟ "
فأجابت : " كنا نريد أن نخصص قسماً منها قرب الطريق كمركز للمراهقين ، أما البقية فقد كنا نريد أن نزرعها بشجر التوت . "
قال : " آه ."
فسألته بهدوء : " وأنت؟ ماذا كانت خططك بشأنها عندما اشتريتها؟ لأنني متأكدة من أن رجل أعمال ناجح مثلك كما هو ظاهر ما كان ليشتري أملاكاً دون هدف . "
فأجاب : " كنت قد خططت في ذلك الوقت لبناء مساكن لمتسلقي الجبال . "
فقطبت نيرن حاجبيها قليلاً وهي تفكر في قوله ذاك ثم سألته : " مساكن لمتسلقي الجبال قرب نزل برواش مباشرة؟ "
فقطع عليها أفكارها قائلاً : " هل أرى من ردة فعلك عدم استحسانك لهذا؟ "
فسكتت عدة لحظات قبل أن تجيب و عندما تكلمت قالت مفكرة بصوت هادئ : " كلا أظن هذا سيكون في مصلحة غلينكريغ من نواح كثيرة فسيكون هناك أعمالاً كثيرة في هذا الوقت الذي أصبح العمل فيه شيئاً نادراً .. كما هو الآن ولكن ..."
فقال : " آه نعم . دائماً هناك ( ولكن ) هذه .... "
فقالت : " حسناً إنني اكره أن أرى منشآت عصرية في هذا المكان إنني سأتألم عندما أرى ما يفسد جمال قرية غلينكريغ الطبيعي . "
فقال : " إنني لا أفسد الأشياء الجميلة يا نيرن . "
نطق بهذه الكلمات ببساطة وإنما بحزم وهذا جعلها تنظر في عينيه . كان ينظر إليها ولأول مرة ترى عينيه صافيتين صريحتين وهو يكرر قوله : " إنني لا افسد الأشياء . " كانت لهجته هذه المرة أكثر رقة وشعرت بأنفاسها تحتبس وهي ترى تحديقه في وجهها بينما عاد هو يتمتم قائلاً : " خصوصاً الأشياء الجميلة . "
لم تتحرك في مكانها وقد أدركت ماذا يعني . وعندما نهض من مكانه متقدماً نحوها رن جرس الباب فقفزت من مكانها قائلة : " دعني أرى من في الباب . " واستطاعت بشكل ما أن تفلت من نظراته ، لم تنظر إلى الخلف وهي هاربة كان كل ما تريده هو أن تبتعد عنه قبل أن تدفعها الحماقة إلى ارتكاب ما تندم عليه .
وقفت أمام الباب لحظات تسوي من شعرها و تحاول التقاط أنفاسها . وأطلقت آهة قصيرة سرعان ما أخمدها رنين جرس الباب مرة ثانية . وازدردت ريقها بصعوبة وهي تتظاهر بالهدوء ثم فتحت الباب .
كان القادم رجلاً نحيلاً أشقر الشعر وكان يبتسم لها محيياً وهو يقول : " آه نيرن إنني مسرور لوجودك في المنزل . "
فقالت بدهشة : " أهلاً بك يا دكتور كوغيل تفضل بالدخول . "
وأشارت إلى القاعة . ما الذي يريده يا ترى؟ فهي لم تطلب إليه الحضور .. وأطلقت ضحكة عصبية وهي تسأله قائلة : " أتريدني أن آخذ معطفك؟ "
فخلع سترته المصنوعة من فروة الخروف ، وناولها إياها شاكراً منتظراً ريثما علقتها في الخزانة ثم التفتت إليه قائلة : " فلنذهب إلى غرفة الجلوس . "
ومشت أمامه وهي تغتنم هذه الفرصة لتعيد تنفسها إلى طبيعته ... وتبعد أفكارها عن ذلك الرجل المزعج في المطبخ .
وبعد أن جلسا إلى جانب المدفأة المضطرمة قالت له : " والآن أي خدمة تطلبها مني؟ "
فأجاب : " لقد تلقيت للتو مكالمة من انفرنيس من آني لو . لقد أصيبت بأزمة صحية وقد أخذت إلى مستشفى ريغمور . "
فهتفت نيرن وهي تنحني إلى الأمام بقلق : " أوه ، إنني جداً آسفة هل ستكون بخير؟"
فأجاب : " نعم ستصبح بخير ولكنني لا أظنها ستعود إلى منزلها في غلينكريغ لقد تحدثت مع الطبيب الذي عالجها فقال إنها لن تستطيع العناية بنفسها بعد الآن وهو سيبقيها في المستشفى عدة أيام ، لكي تنال قسطاً كاملاً من الراحة ثم بعد ذلك يرسلها إلى دار المسنين . انكِ تعرفين طبعاً انه كان عليها أن تدخل الدار منذ سنوات فهي قد قاربت التسعين من عمرها . "
فقالت : " ألم تقدم طلباً لحجز غرفة لها في الدار منذ سنة؟ أذكر أنهم أعطوها غرفة؟"
فأجاب : " نعم ولكن بعد وفاة هوغ و هازيل ، كان عليها أن تعتني بكيلتي فألغت الحجز وقد حاولت أنا في ذلك الحين أن أجنبها تلك الوصاية على الصبي ولكن كان البديل لذلك أن يرسل كيلتي إلى دار رعاية الأطفال فلم تقبل هي بذلك وطبعاً العناية بغلام مراهق لامرأة في سنها هو أكثر مما يمكنها احتماله . "
فقالت : " طبعاً إن دار المسنين سيكون أفضل مكان لها ولكن ماذا سيحدث لكيلتي الآن؟ فهو ليس لديه من يرعاه ؟ آه كم أتمنى لو أستطيع مد يد العون له بطريقة ما.."
فتنحنح الطبيب ثم قال : " إن لدي فكرة يا نيرن ... وأنا لا أريد منك أن تعطيني جواباً الآن لأنني أعلم أن هذا الأمر يتطلب منك تفكيراً طويلاً ... ولكن ..."
وتردد..... وتساءلت هي عما يمكن أن يطلبه منها ....... فقالت تستحثه أن يتابع كلامه : " انك تعلم أنني أفعل أي شيء لأجل كيلتي فهو فتى رائع ومن أفضل الفتيان ."
فوقف الطبيب ووضع يديه في جيبي بنطلونه محدقاً في نيرن بنظرة ثابتة طويلة من خلف نظارتيه ثم رأت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يقول برقة : " عزيزتي نيرن إنني أدرك تماماً مقدار الوحدة التي تعانيها منذ وفاة روري ومع أنني أعلم كم شغلت نفسك بالعمل ، ومقدار حب والديك وأختك وزوجها لك .. فهذا كله ليس كما لو كان لديك شخص يخصك أما ما أريد أن أقول دون أن أعرف كيف أتطرق إلى الأمر بلباقة هو .... هلا فكرت في حضانة الغلام؟ "
وأخذت نيرن تذرع غرفة الجلوس في الساعة العاشرة إلا خمس دقائق في انتظار عودة كيلتي ونظرت إلى الساعة الموضوعة على رف المدفأة للمرة العشرين كان الدكتور كوغيل قد تركها
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
مشكور علي الطرح
جلنار- مستشار
-
عدد المشاركات : 19334
العمر : 36
رقم العضوية : 349
قوة التقييم : 28
تاريخ التسجيل : 19/07/2009
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
شكرا للمتابعة
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
مشــــاركه خبـــرهـا مــو هنـــا بلكــل.:.بــــــــــــــــــــــارك الله فيك...
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
شكراً للمروركم الرائع نورت الموضوع
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
لك الشكراخى الكريم على هذا الجهد
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
شكرا للمرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
amol- مستشار
-
عدد المشاركات : 36762
العمر : 43
رقم العضوية : 2742
قوة التقييم : 9
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 2
شكرا للمرور
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
مواضيع مماثلة
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 4
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 1
» سامحني فانا الآن احبك احبك
» دعني.........
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 3
» ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير 1
» سامحني فانا الآن احبك احبك
» دعني.........
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR