إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU)
جورج بومبيدو يراقب صحة أعدائه:
أن يكون رئيس دولة، شديد الانتباه، يراقب عن كثب، صحة ونشاط غيره، من رؤساء الدول، العدوة والصديقة، على حد سواء، يبدو طبيعياً جدا، غير ذلك فكل من رؤساء الدول، في أيامنا هذه على الأقل الدول الصناعية الكبرى والمتطورة، يستفيد من خدمات جهاز دراسات خاصة، يتألف من كبار الباحثين والمحللين، يطلعونه، على كل ما يتوصلون إليه في هذا المجال المهم، وأول من اعتمد مثل هذه الخدمات الرئيس الأمريكي جون كندي الذي كان يرغب في معرفة مقدرة الانفعال والمواجهة، كذلك نقط الضعف، عند مساعديه الرئيسيين، كذلك عند حكام ورؤساء الدول في العالم، وخصوصاً ما يتعلق بصديقه اللدود، نيكيتا خرتشوف استعداداً لمقابلات أو مواجهات محتملة.
وفي هذا المجال أصدر تعليماته لجهاز الاستخبارات الأمريكية C.I.A الذي جمع وعلى جناح السرعة، كل ما له علاقة، بحياة وتصرفات وردود الفعل، من وثائق ومجلات، وكل ما قيل وكتب، عن رئيس الاتحاد السوفياتي "نيكيتا خروتشوف" مما شكل ملفاً ضخماً، حوّل إلى مكتب المحللين، الذي يتألف من عشرين عالماً، على رأسهم العالم النفساني الكبير "بريان ودج" بعد دراسة مطولة وتمحيص دقيق، حذر "ودج" الرئيس كندي، من الصحة الممتازة، والحيوية المتفجرة التي يتمتع بها الرئيس السوفيات "نيكيتا خروتشوف" الذي يمارس حيلة قديمة فيتعمد إطالة الوقت في المباحثات للنيل من قوة خصومه واحتمالهم للجدل والمقارعة، وللتوصل إلى مبتغاه أصرّ خروتشوف، على عقد جلستين يومياً، كل منها لمدة تسعين دقيقة مما يقتضي على كندي، عدم الاستسلام للتعب والضجر، وتعاطي بعض المنشطات، كالقهوة مثلاً من خلال الجلسة.
في مجال الاهتمام، واعتبار صحة الحكام والرؤساء أمراً مهماً جداً، كرّس الرئيس فاليري جيسكار ديستان القسم الأول من كتابه مع السلطة والحياة، الذي صدر سنة 1988، وهو فريد من نوعه لهذا الأمر، وقد نال هذا الكتاب إعجاب وتقدير القراء، وقد وصفه أحد الناقدين بأنه برهان واضح، عن حكمة وصفاء الذهن لدى كاتبه، الذي سجل بدقة، ملاحظاته عن تفاقم حالة "ليونيد بريجنيف" الصحية والصعاب التي أودت به.
فعندما كان يحتل "قصر الإليزيه الرئاسي" التقاه في "قلعة رامبويه" خلال كانون الأول 1974 حيث لم يفته كم كان يعاني القيصر من الصعوبة في تنقله، وتصحيح وضع قلنسوته في كل خطوة يخطوها، كما كان عليه أن يبذل مجهوداًَ للنطق.
ولاحظ الرئيس الفرنسي التدني، خلال هذا الشهر، في مقدرة بريجينيف على الانتباه والاستيعاب، التي لم تتعدى العشرين، أو الخمسة وعشرين دقيقة في أحسن حالاته، مما أوجب تقسيط المباحثات ورفع الجلسات من وقت لآخر، مهما كانت موضوعاتها مهمة وملحة.
كما في باريس، كذلك في موسكو، فخلال تشرين الأول 1975، طلب خروتشوف من الرئيس الفرنسي، كخدمة شخصية من قبله، المزيد من الاستراحات، مما استدعى تغيير في جدول الأعمال المتفق عليه مسبقاً، بواسطة وزير خارجية كل من البلدين، وأيضاً في موسكو خلال نيسان 1979، لاحظ "ديستان" دون عناء، الضعف الظاهر على خروتشوف، الذي بانكسار ملحوظ، توجه إلهي قائلا: إنني مريض جداً.
هلموث شميدت يعاني من قلبه:
كان "هلموت شميدت" مستشار جمهورية ألمانيا الفدرالية، وهو صديق فرنسا الوفي، في زيارة عمل لباريس، وفي قصر الأليزه الرئاسي، خلال، اجتماع شخصي مع الرئيس الفرنسي، المعروف بإدمانه على التدخين ويعاني من مشاكل في الشريان التاجي للقلب، أصيب شميدت فجأة، تحت أنظار الرئيس الفرنسي، بالغيبوبة الناتجة عن توقف، لبرهة لا تتعدى الثواني، في دورة الدماغ الدموية، مما استدعى استعمال منظم منشط للقلب، ذي فعالية ممتازة في هذه الحالة، وبالمناسبة فإن ليونيد بريجينيف الذي يعاني من نفس المشاكل، يحمل في صدره أحد هذه الأجهزة.
فاليري جيسكار ديستان لا يخفي شيئاً عن حالته:
الرئيس الفرنسي ديستان لم يتستر، على حالة التعب الشديد، التي عانى منها خلال شهرين، بعد عودته من مصر حيث واجه الرئيس أنور السادات، خلال كانون الأول 1975، ورافقه في جولة إلى الاسماعيلية في جو من الغبار الكثيف، وفي جو شديد الحرارة، وكانت سفرة طويلة، مما أتاح الفرصة للفرعون العصري، باستفراد الرئيس الفرنسي وإخضاعه لضوضائه المعتادة، والتي لا توصف، خلال مدة طويلة.
إن الحالة الصحية التي عانى منها خلال شهرين، هل كانت نتيجة حتمية لما قاساه خلال الرحلة الطويلة في الغيوم الرملية العاصفة؟؟ أم هي جراثيم استوائية؟ وقد بقيت هذه الحالة، لغزاً لا تفسير له، بالرغم من الفحوصات الطبية المتقدمة التي أجراها في مستشفة "فال ده غراس" التي تضم نخبة الأطباء العسكريين، والتي اعتمدت فيما بعد، للسهر على صحة الرؤساء.
في هذا الجزء من ذكرياته، الذي كرسه فاليري جيسكار ديستان لشرح أمراض الحكام، كانت الأسطر المؤثرة تعني سلفة في قصر الإليزيه، جورج بومبيدو، كما أنه تعرض لجميع أعضاء الجسم السياسي الفرنسي، ولكنه لم يأت بشيء جديد فكل ما قاله، في هذا السياق كان معروفاً من قبل بعض الناس، لكنه لم يذكر شيئاً عما لاحظه شخصياً.
في تلك الحقبة من الزمن، كان وزيراً للمالية، ومن المفروض أنه كان على اتصال دائم برئيس الجمهورية، الذي كان يغوص صحياً بشكل واضح فكان ما كتبه في حينه، زاعماً أنها الحقيقة البحتة، تسهم في فضح الخبث الجماعي، الذي يكذب ومازالت تنشره السراي، لتخفي خطورة ما يعاني الرئيس عن الرئيس الفرنسي.
إلا أن فاليري جيسكار ديستان، كتب في مذكراته التي صدرت بعد موت الرئيس بومبيدو، قائلا: أكتب هذه الأسطر، والألم يعصر قلبي،مما قاساه سلفي بومبيدو، من الأوجاع والآلام التي قاساها من المرض الذي أودى بحياته، وهو مرض في الدم، أودى بعده بقليل، بحياة ثلاثة من رؤساء الدول: هواري بومدين، وغولدا مائير، وشاه إيران، وكان مرضهم نادراً، ولا يصيب عادة، إلا المتقدمين جداً بالعمر، إلا أن هذه الحالة لم تخف عن البروفسور الفرنسي الكبير "جان برنار" فقد شرحها في كتابه "دماء الرجال" الصادر في باريس 1981.
مرض واحد يحصد أربعة رؤساء:
لا مجال للقول بأن الرئيس جورج بومبيدو كان على موعد، مع الرؤساء الثلاثة، الذين شاركوه نفس المرض: هواري بومدين، وغولدا مائير، وشاه إيران للاجتماع في الآخرة، لكن الصدفة والمصيبة جمعت بين الرؤساء الأربعة إن الصدفة خير من ميعاد.
لا تختلف دماء الأمراء، عن دماء بقية الشعب، كما أن الأمراض التي أودت بحياة هؤلاء الأربعة من الحكام، لم تكن أمراضاً وراثية، تنتقل من الأهل إلى الأولاد، كالهيموفيليا وغيرها، علماً أنه ليس من قرابة، تجمع بينهم إطلاقاً، كذلك ليست أمراضاً من النوع الذي ينتقل بالعدوى، فهي بكل بساطة، أمراض الشيخوخة والمتقدمين بالعمر، بفعل الزمن وطول السنين، وقد قيل في هذا المجال "لا يصلح العطار ما أفسده الدهر".
إن بعض الأسئلة تفرض نفسها في هذا المجال؛ فالإصابة بارتفاع الضغط المتكرر التي تصيب عادة الحكام والرؤساء هل تحدث لديهم، ضعفاً في القوة والمناعة؟ وهذا الضعف والتآكل، إن على الصعيد الجسدي أو على الصعيد النفسي، تكون له نتائج سلبية على حسن أداء المهمات والواجبات، وعلى التسريع في إحداث اضطراب وتشويش في الرؤيا والذاكرة، التي لا تصيب عادة، إلا المتقدمين في العمر.
انتقل الرئيس جورج بومبيدو إلى مثواه الأخير في الثاني من نيسان 1974، وقد توفي في منزله الباريسي الخاص المشرف على نهر اللسان في الساعة 22 بفعل مرض "السبتيسميا" تكاثر الجراثيم في الدم وما ينتج عنها من اشتراكات مرضية، والتي من أعراضها الأولية، سمنة غير طبيعية، وصعوبة في التنقل.
وقد بدأت في الظهور لديه منذ 1968 تدريجياً وببطء لا يلفت الأنظار، ولا يستدعي الاهتمام من قبله، أو من قبل المحيطين به، لكن لم يتوان عن تعاطي بعض المنشطات، كما أنه لم تكن تنقصه الأسباب الوجيهة، لتفسير تعبه الظاهر، منها الأربعة وسبعون شهراً التي قضاها على رأس الحكومة، كذلك أحداث 1968 التي هزت فرنسا، أما الأهم فالإذلال الذي أصابه، على يد الجنرال ديغول، الذي أراد استبداله في أحد الأيام.
وعلى سبيل الثار، أجهد نفسه بالعمل ليلاً ونهاراً، ينتقل عبر فرنسا في جميع الاتجاهات ساعياً لخلافة ديغول في رئاسة الجمهورية مما نال من صحته بشكل عام، حتى شعر بضعف في عظامه، لكنه حافظ على سره لنفسه دون أن يلفت إليه الأنظار.
عندما أخذت بعض الإصابات المرضية المتكررة تظهر عليه كان جورج بومبيدو قد أصبح رئيساً للجمهورية، ولم يعد لديه متسعاً من الوقت للاهتمام بنفسه، أصيب بانحطاط عام في قواه، بناء على تصريح طبيبه الخاص الدكتور "فينيالو: وفي توضيح له قال: لا أعرف تماما ولكنني أؤكد بأنه غير مهم، وذلك على الطريقة في الحديث، التي يفضلها الرؤساء والحكام وقد درجوا على استعمال: بسيطة سنتهم بالموضوع، مفضلين عدم تخويف زبائنهم الكبار، فينام هؤلاء على فراش من حرير، حتى يقعوا في المحظور وتكون نهايتهم، وهكذا انتهى بومبيدو كغيره.
في أيامه الأخيرة، أخذ يشعر من وقت لآخر، بدوار في الرأس مع آلام مبرحة، كذلك بتنميل في الأطراف مصحوباً بعض الأوقات بنزيف دموي من أنفه، كل ذلك يضاف إليه، عدم الشعور بالراحة والحيوية، مما لا يعني بحد ذاته شيئاً محددا.
ولم يشغل بال الطبيب "فينيالو" وربما تعود عليه لكن لم يفته تضخم في الكبد والطحال، والغدد اللمفاوية مما كان تحذيراً بالنسبة للطبيب.
ولدى إجراء فحوصات مخبرية للرئيس، تبين أن سرعة ترسب الكرويات لديه هي ضعفها في الحالات الطبيعية، لكن إصابات الرشح والكريب المتكررة التي يصاب بها، تشكل غطاء أو تفسيرا معقولاً لهذه العوارض بشكل عام.
وفي فحص روتيني ثان للدم، جعل الهيئة الطبية المحيطة بالرئيس، تقنعه بتدخل كبار الأخصائيين والأطباء الفرنسيين، الذين اكتشفوا لديه، قصوراً في نخاعه العظمي، الذي يولد المناعة والدفاع في الجسم.
وهذا المرض لا يظهر عادة إلا عند المتقدمين جدا في العمر، من الرجال بوجه عام، ويتقدم ببطء وصمت على مر السنين، وهكذا تجري الأمور بالنسبة لضحاياه.
وبعد تشخيص المرض من قبل هؤلاء الأخصائيين، لم يبوحوا للرئيس سوى بجزء بسيط من الحقيقة، التي أخفوها تماما ًعن زوجته وولده، الذي أصبح فيما بعد طبيباً، إنما صرحوا، بأن هذا المرض إن لم يعالج، لا يفسح مجالا للحياة أكثر من خمس سنوات، إنما إذا عولج بشكل جدي، ربما عاش المريض لعشر أو اثني عشر سنة، مما جعله يكتب وصيته خلال آب 1972.
وفي هذا التاريخ تقريبا، سجل المراقبون السياسيون من جهتهم، بأن حالة الرئيس الصحية تتفاقم، وأصبح يتردد كثيراً في معالجة الأمور واتخاذ القرارات، وكانوا يتساءلون عن السبب إذ كانوا جميعاً يجهلون حقيقة الأمر، خصوصاً أنه من المبكر جداً على الرئيس بومبيدو بأن يصاب بهذا القصور والتردد إذ لم يبلغ بعد الحد الأدنى من العمر الذي يبدأ فيها الإنسان بالتقهقر والعجز.
وفي نهاية 1972 قرر الأطباء البدء بالمعالجة، ولكن في المنزل وليس في المستشفى كما يقتضي الأمر، حفاظاً على سرية المرض، وإيهاماً للرئيس المريض، أن حالته بسيطة لا تستدعي نقله إلى المستشفى وبإمكانية معالجته في المنزل، حيث تتوفر له الراحة والهدوء، بصورة أفضل.
وهكذا أخضع الرئيس بومبيدو للمعالجة، في منزله محاطا ًبما يلزم من العناية الفائقة، والسرية المطلوبة، أما طبيعة العلاج فكانت بإعطائه المركبات الكيميائية نفسها، التي تستعمل في علاج "اللوكيميا" أي "سرطان الدم"، ومنها الفوسفاميد والكورتيزون وغيرها ومن أهم ما يصاب به صاحب هذا النوع من المرض، إصابته بالأنيميا "فقر الدم" فعالجوه، بالكورتيزون، دون أن تتعدى الجرعة 2 ميليغرام بالنسبة إلى كيلو غرام من وزن المريض، في اليوم الواحد، ولكن بالرغم من سهر الأطباء وعنايتهن، فقد نال منه الضعف والوهن، حتى تعذر عليه الاشتراك باحتفالات عيد الشجرة، كما كانت تقتضي العادة والعرف.
كذلك أقعده المرض عن الاشتراك بالاحتفال التقليدي الذي يقام في قصر الإليزيه، مما أثار فضول الشعب، وخصوصاً رجال السياسة والصحافة، وبعد ستة وعشرين يوماً كان على الرئيس، أن يجلس على كنبة، لتقبل التهاني بعيد رأس السنة، وغداة ذلك النهار، لازم الفراش مصاباً بالكريب، ولم يتمكن من تقبل تمنيات موظفي القصر، والكريب هو دائماً ما يصاب به الرئيس استناداً إلى النشرات الصحية الرسمية.
بهذا الخصوص، كتب فاليري جيسكار ديستان في كتابه، بأنه ولأول مرة رأى بأن بومبيدو عملياً مريض، في الطائرة التي حملته إلى "ريكجافيك" في أيسلندا في 30 أيار 1973، حيث يجري لقاء رئاسي ثان مع الرئيس الأمريكي ريشار نيكسون، وقد طلب منه، إذ كان وزيراً للمالية بالعمل معه في الجناح الذي أعد له في مقدمة الطائرة، حيث كان الرئيس يغفو من وقت لآخر، فيبدو وجهه بلون رصاصي من التعب، بدل اللون الزهري الفرح المعهود لديه.
وكأن الحياة تنسل خارجاً، ولدى وصولنا إلى أيسلندا، لاحظ كل من كان معه ومن ينتظره بأن بومبيدو يهبط من الطائرة، بكثير من الحذر والصعوبة متشبثاً، بدرابزين الطائرة، وقد دس نفسه في معطف سميك، كما أنه يلف عنقه ويخفي أنفه بوشاح صوفي، ويعتمر قبعة تغوص حتى حواجبه، وتخفي جزءاً كبيراً من وجهه المحتقن الأصفر اللون، المحاكي للون الشمع، من هنا تناولت الشائعات خبر مرضه وأصبحت تشكل العناوين الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح من الممكن التكهن، دون أن يكون الإنسان خبيراً، بأنه قد تعاطى الكثير من الكورتيزون.
كما أن الأطباء الذين عالجوه وقد شاهدوه، على جهاز التلفزة يتعثر في خطاه في أيسلندا، اعترفوا بأنه معالجته في المنزل كانت خطأ فادحاً وأنهم يعتقدون أن بعض المحيطين به، قد زادوا من كمية الدواء المعطاة له، معتقدين أن ذلك يسرع في شفائه.
من المعروف جيداً ما أصبحت عليه حالة جورج بومبيدو في الأشهر الأخيرة فقد اعترف الأطباء بأنهم قد خسروا الرهان في معالجة فقر الدم، كما أنهم فشلوا في السيطرة على الاشتراكات، التي عاودته للمرة الثانية، وقد أكد الرئيس فاليري جيسكار ديستان، في كتابه الثاني كذلك في مجلة السلطة والخياة، أن بومبيدو بقي على جهله التام بحقيقة مرضه، وبالحالة التي وصل إليها.
صباح الأربعاء الواقع في 27 آذار 1974 ذهب وزير المالية على عادته إلى قصر الإليزيه، لاطلاع الرئيس بومبيدو على الملفات الاقتصادية والمالية التي يحملها، ومن الطبيعي أن يستفسر عن صحته، فأجاب بومبيدو قائلاً: بما أنك تتكلم عن صحتي إنني أعرف أنه يروى، في هذا المجال، الكثير من الترهات والأكاذيب، فسأشرح لك حقيقة الأمر، إنني قيد المعالجة من مرض يعرفه الأطباء تماما، لكن هذا يتعبني، ليس المرض، إنما العلاج.
فسبب مركزي يقسون عليه بهذا الشأن، لقد أصبت بكريب لعين، تحول إلى اشتراكات لكنني سأوقف هذا العلاج فوراً، وأذهب يوم السبت لتمضية عطلة الأسبوع في "أورفيليه"، ومن ثم في الأسبوع القادم سأذهب إلى كارجاك حيث أبقي خلال عطلة أعياد الفصح وحتى منتصف نيسان، ومن الطبيعي أن أستعيد صحتي ونشاطي فأعود لممارسة مسؤولياتي بشكل أفضل، وخلال هذه المدة ستطلعوني على مجريات الأمور.
على كل سأجري الترتيبات اللازمة بهذا الشأن.
بومبيدو يعاني سكرات الموت:
صباح الجمعة في 29 أيار انتقل الرئيس جورج بومبيدو، عملياً إلى "أورفيليه" طبعاًً للراحة والنقاهة، فابتعد عن العاصمة وجوها الضاغط وضجيجها الذي يقض المضاجع، وحيث البروتوكول وواجباته، إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد حصل له بعد أيام من وصوله إليها، ما كان يخشاه الأطباء، منذ أشهر عديدة، بدأت متاعبه بنزف بسيط في إحدى عينيه.
وكأن ذلك إنذاراً، إذ سرعان ما تبعه نزيف أنفي هام، ثم دملة في مخرج الجسم أخذت بالتمدد والتضخم في جميع الاتجاهات، وخصوصاً صعوداً في المستقيم، ومن هنا دخل الرئيس في مرحلة من العذاب المرير.
بعد نقاش وتقويم للوضع، قرر الأطباء نقل المريض بسيارة إسعاف إلى منزله في باريس الكائن على رصيف بتيم، لكن الأطباء وقفوا مكتوفي الأيدي عاجزين عن مساعدته، وزاد في الطين بلة، إصابته بحمى مرتفعة الحرارة، حاول الأطباء تخفيفها بأي ثمن، ولكن دون جدوى، مما جعل رئيسهم يقول، لقد انتهى كل شيء لم يعد في اليد حيلة، قريباً سيرتاح من عذاباته، إنها مسألة ساعات لا أكثر، أما الضربة القاضية، ورصاصة الرحمة فكانت "السبتييسيميا" تسمم الدم، أو بشكل أوضح، العديد من جراثيم الأمراض في الدم، التي هاجمته في اللحظات الأخيرة.
في الساعة الثامنة عشرة، بعد ظهر الثلاثاء في 2 نيسان دخل الرئيس جورج بومبيدو في مرحلة فقدان الوعي تدريجياً.
في الساعة 22 مساء اليوم ذاته، استسلمت أوعيته الدموية فتفجرت في العديد من الأماكن فغرق في دمائه، و... أسلم الروح.
نهاية مأساوية، حتمية لا مفر منها؛ لكن المؤسف جداً في الأمر، أنها كانت منتظرة ومعروفة منذ اثني عشر شهراً، وهي المدة التي عاشها الرئيس جورج بومبيدو، في جحيم مقيت، في الوقت الذي كانت فيه البلاد بأمس الحاجة، إلى رئيس نشيط يتميز بالحيوية والإقدام لقد كانت تعاني أشد المعاناة؛ من الحظر البترولي التي فرضته، الدول العربية المنتجة للنفط بالملفات تتراكم والمصاعب تتفاقم، أما الرئيس فغارق في همومه وأوجاعه وهكذا دفعت فرنسا ثمن مرض رئيسها.
------------------------------------------------
اضغط هنا للمشاهدة الجزء الرابع وباقى الاجزاء
جورج بومبيدو يراقب صحة أعدائه:
أن يكون رئيس دولة، شديد الانتباه، يراقب عن كثب، صحة ونشاط غيره، من رؤساء الدول، العدوة والصديقة، على حد سواء، يبدو طبيعياً جدا، غير ذلك فكل من رؤساء الدول، في أيامنا هذه على الأقل الدول الصناعية الكبرى والمتطورة، يستفيد من خدمات جهاز دراسات خاصة، يتألف من كبار الباحثين والمحللين، يطلعونه، على كل ما يتوصلون إليه في هذا المجال المهم، وأول من اعتمد مثل هذه الخدمات الرئيس الأمريكي جون كندي الذي كان يرغب في معرفة مقدرة الانفعال والمواجهة، كذلك نقط الضعف، عند مساعديه الرئيسيين، كذلك عند حكام ورؤساء الدول في العالم، وخصوصاً ما يتعلق بصديقه اللدود، نيكيتا خرتشوف استعداداً لمقابلات أو مواجهات محتملة.
وفي هذا المجال أصدر تعليماته لجهاز الاستخبارات الأمريكية C.I.A الذي جمع وعلى جناح السرعة، كل ما له علاقة، بحياة وتصرفات وردود الفعل، من وثائق ومجلات، وكل ما قيل وكتب، عن رئيس الاتحاد السوفياتي "نيكيتا خروتشوف" مما شكل ملفاً ضخماً، حوّل إلى مكتب المحللين، الذي يتألف من عشرين عالماً، على رأسهم العالم النفساني الكبير "بريان ودج" بعد دراسة مطولة وتمحيص دقيق، حذر "ودج" الرئيس كندي، من الصحة الممتازة، والحيوية المتفجرة التي يتمتع بها الرئيس السوفيات "نيكيتا خروتشوف" الذي يمارس حيلة قديمة فيتعمد إطالة الوقت في المباحثات للنيل من قوة خصومه واحتمالهم للجدل والمقارعة، وللتوصل إلى مبتغاه أصرّ خروتشوف، على عقد جلستين يومياً، كل منها لمدة تسعين دقيقة مما يقتضي على كندي، عدم الاستسلام للتعب والضجر، وتعاطي بعض المنشطات، كالقهوة مثلاً من خلال الجلسة.
في مجال الاهتمام، واعتبار صحة الحكام والرؤساء أمراً مهماً جداً، كرّس الرئيس فاليري جيسكار ديستان القسم الأول من كتابه مع السلطة والحياة، الذي صدر سنة 1988، وهو فريد من نوعه لهذا الأمر، وقد نال هذا الكتاب إعجاب وتقدير القراء، وقد وصفه أحد الناقدين بأنه برهان واضح، عن حكمة وصفاء الذهن لدى كاتبه، الذي سجل بدقة، ملاحظاته عن تفاقم حالة "ليونيد بريجنيف" الصحية والصعاب التي أودت به.
فعندما كان يحتل "قصر الإليزيه الرئاسي" التقاه في "قلعة رامبويه" خلال كانون الأول 1974 حيث لم يفته كم كان يعاني القيصر من الصعوبة في تنقله، وتصحيح وضع قلنسوته في كل خطوة يخطوها، كما كان عليه أن يبذل مجهوداًَ للنطق.
ولاحظ الرئيس الفرنسي التدني، خلال هذا الشهر، في مقدرة بريجينيف على الانتباه والاستيعاب، التي لم تتعدى العشرين، أو الخمسة وعشرين دقيقة في أحسن حالاته، مما أوجب تقسيط المباحثات ورفع الجلسات من وقت لآخر، مهما كانت موضوعاتها مهمة وملحة.
كما في باريس، كذلك في موسكو، فخلال تشرين الأول 1975، طلب خروتشوف من الرئيس الفرنسي، كخدمة شخصية من قبله، المزيد من الاستراحات، مما استدعى تغيير في جدول الأعمال المتفق عليه مسبقاً، بواسطة وزير خارجية كل من البلدين، وأيضاً في موسكو خلال نيسان 1979، لاحظ "ديستان" دون عناء، الضعف الظاهر على خروتشوف، الذي بانكسار ملحوظ، توجه إلهي قائلا: إنني مريض جداً.
هلموث شميدت يعاني من قلبه:
كان "هلموت شميدت" مستشار جمهورية ألمانيا الفدرالية، وهو صديق فرنسا الوفي، في زيارة عمل لباريس، وفي قصر الأليزه الرئاسي، خلال، اجتماع شخصي مع الرئيس الفرنسي، المعروف بإدمانه على التدخين ويعاني من مشاكل في الشريان التاجي للقلب، أصيب شميدت فجأة، تحت أنظار الرئيس الفرنسي، بالغيبوبة الناتجة عن توقف، لبرهة لا تتعدى الثواني، في دورة الدماغ الدموية، مما استدعى استعمال منظم منشط للقلب، ذي فعالية ممتازة في هذه الحالة، وبالمناسبة فإن ليونيد بريجينيف الذي يعاني من نفس المشاكل، يحمل في صدره أحد هذه الأجهزة.
فاليري جيسكار ديستان لا يخفي شيئاً عن حالته:
الرئيس الفرنسي ديستان لم يتستر، على حالة التعب الشديد، التي عانى منها خلال شهرين، بعد عودته من مصر حيث واجه الرئيس أنور السادات، خلال كانون الأول 1975، ورافقه في جولة إلى الاسماعيلية في جو من الغبار الكثيف، وفي جو شديد الحرارة، وكانت سفرة طويلة، مما أتاح الفرصة للفرعون العصري، باستفراد الرئيس الفرنسي وإخضاعه لضوضائه المعتادة، والتي لا توصف، خلال مدة طويلة.
إن الحالة الصحية التي عانى منها خلال شهرين، هل كانت نتيجة حتمية لما قاساه خلال الرحلة الطويلة في الغيوم الرملية العاصفة؟؟ أم هي جراثيم استوائية؟ وقد بقيت هذه الحالة، لغزاً لا تفسير له، بالرغم من الفحوصات الطبية المتقدمة التي أجراها في مستشفة "فال ده غراس" التي تضم نخبة الأطباء العسكريين، والتي اعتمدت فيما بعد، للسهر على صحة الرؤساء.
في هذا الجزء من ذكرياته، الذي كرسه فاليري جيسكار ديستان لشرح أمراض الحكام، كانت الأسطر المؤثرة تعني سلفة في قصر الإليزيه، جورج بومبيدو، كما أنه تعرض لجميع أعضاء الجسم السياسي الفرنسي، ولكنه لم يأت بشيء جديد فكل ما قاله، في هذا السياق كان معروفاً من قبل بعض الناس، لكنه لم يذكر شيئاً عما لاحظه شخصياً.
في تلك الحقبة من الزمن، كان وزيراً للمالية، ومن المفروض أنه كان على اتصال دائم برئيس الجمهورية، الذي كان يغوص صحياً بشكل واضح فكان ما كتبه في حينه، زاعماً أنها الحقيقة البحتة، تسهم في فضح الخبث الجماعي، الذي يكذب ومازالت تنشره السراي، لتخفي خطورة ما يعاني الرئيس عن الرئيس الفرنسي.
إلا أن فاليري جيسكار ديستان، كتب في مذكراته التي صدرت بعد موت الرئيس بومبيدو، قائلا: أكتب هذه الأسطر، والألم يعصر قلبي،مما قاساه سلفي بومبيدو، من الأوجاع والآلام التي قاساها من المرض الذي أودى بحياته، وهو مرض في الدم، أودى بعده بقليل، بحياة ثلاثة من رؤساء الدول: هواري بومدين، وغولدا مائير، وشاه إيران، وكان مرضهم نادراً، ولا يصيب عادة، إلا المتقدمين جداً بالعمر، إلا أن هذه الحالة لم تخف عن البروفسور الفرنسي الكبير "جان برنار" فقد شرحها في كتابه "دماء الرجال" الصادر في باريس 1981.
مرض واحد يحصد أربعة رؤساء:
لا مجال للقول بأن الرئيس جورج بومبيدو كان على موعد، مع الرؤساء الثلاثة، الذين شاركوه نفس المرض: هواري بومدين، وغولدا مائير، وشاه إيران للاجتماع في الآخرة، لكن الصدفة والمصيبة جمعت بين الرؤساء الأربعة إن الصدفة خير من ميعاد.
لا تختلف دماء الأمراء، عن دماء بقية الشعب، كما أن الأمراض التي أودت بحياة هؤلاء الأربعة من الحكام، لم تكن أمراضاً وراثية، تنتقل من الأهل إلى الأولاد، كالهيموفيليا وغيرها، علماً أنه ليس من قرابة، تجمع بينهم إطلاقاً، كذلك ليست أمراضاً من النوع الذي ينتقل بالعدوى، فهي بكل بساطة، أمراض الشيخوخة والمتقدمين بالعمر، بفعل الزمن وطول السنين، وقد قيل في هذا المجال "لا يصلح العطار ما أفسده الدهر".
إن بعض الأسئلة تفرض نفسها في هذا المجال؛ فالإصابة بارتفاع الضغط المتكرر التي تصيب عادة الحكام والرؤساء هل تحدث لديهم، ضعفاً في القوة والمناعة؟ وهذا الضعف والتآكل، إن على الصعيد الجسدي أو على الصعيد النفسي، تكون له نتائج سلبية على حسن أداء المهمات والواجبات، وعلى التسريع في إحداث اضطراب وتشويش في الرؤيا والذاكرة، التي لا تصيب عادة، إلا المتقدمين في العمر.
انتقل الرئيس جورج بومبيدو إلى مثواه الأخير في الثاني من نيسان 1974، وقد توفي في منزله الباريسي الخاص المشرف على نهر اللسان في الساعة 22 بفعل مرض "السبتيسميا" تكاثر الجراثيم في الدم وما ينتج عنها من اشتراكات مرضية، والتي من أعراضها الأولية، سمنة غير طبيعية، وصعوبة في التنقل.
وقد بدأت في الظهور لديه منذ 1968 تدريجياً وببطء لا يلفت الأنظار، ولا يستدعي الاهتمام من قبله، أو من قبل المحيطين به، لكن لم يتوان عن تعاطي بعض المنشطات، كما أنه لم تكن تنقصه الأسباب الوجيهة، لتفسير تعبه الظاهر، منها الأربعة وسبعون شهراً التي قضاها على رأس الحكومة، كذلك أحداث 1968 التي هزت فرنسا، أما الأهم فالإذلال الذي أصابه، على يد الجنرال ديغول، الذي أراد استبداله في أحد الأيام.
وعلى سبيل الثار، أجهد نفسه بالعمل ليلاً ونهاراً، ينتقل عبر فرنسا في جميع الاتجاهات ساعياً لخلافة ديغول في رئاسة الجمهورية مما نال من صحته بشكل عام، حتى شعر بضعف في عظامه، لكنه حافظ على سره لنفسه دون أن يلفت إليه الأنظار.
عندما أخذت بعض الإصابات المرضية المتكررة تظهر عليه كان جورج بومبيدو قد أصبح رئيساً للجمهورية، ولم يعد لديه متسعاً من الوقت للاهتمام بنفسه، أصيب بانحطاط عام في قواه، بناء على تصريح طبيبه الخاص الدكتور "فينيالو: وفي توضيح له قال: لا أعرف تماما ولكنني أؤكد بأنه غير مهم، وذلك على الطريقة في الحديث، التي يفضلها الرؤساء والحكام وقد درجوا على استعمال: بسيطة سنتهم بالموضوع، مفضلين عدم تخويف زبائنهم الكبار، فينام هؤلاء على فراش من حرير، حتى يقعوا في المحظور وتكون نهايتهم، وهكذا انتهى بومبيدو كغيره.
في أيامه الأخيرة، أخذ يشعر من وقت لآخر، بدوار في الرأس مع آلام مبرحة، كذلك بتنميل في الأطراف مصحوباً بعض الأوقات بنزيف دموي من أنفه، كل ذلك يضاف إليه، عدم الشعور بالراحة والحيوية، مما لا يعني بحد ذاته شيئاً محددا.
ولم يشغل بال الطبيب "فينيالو" وربما تعود عليه لكن لم يفته تضخم في الكبد والطحال، والغدد اللمفاوية مما كان تحذيراً بالنسبة للطبيب.
ولدى إجراء فحوصات مخبرية للرئيس، تبين أن سرعة ترسب الكرويات لديه هي ضعفها في الحالات الطبيعية، لكن إصابات الرشح والكريب المتكررة التي يصاب بها، تشكل غطاء أو تفسيرا معقولاً لهذه العوارض بشكل عام.
وفي فحص روتيني ثان للدم، جعل الهيئة الطبية المحيطة بالرئيس، تقنعه بتدخل كبار الأخصائيين والأطباء الفرنسيين، الذين اكتشفوا لديه، قصوراً في نخاعه العظمي، الذي يولد المناعة والدفاع في الجسم.
وهذا المرض لا يظهر عادة إلا عند المتقدمين جدا في العمر، من الرجال بوجه عام، ويتقدم ببطء وصمت على مر السنين، وهكذا تجري الأمور بالنسبة لضحاياه.
وبعد تشخيص المرض من قبل هؤلاء الأخصائيين، لم يبوحوا للرئيس سوى بجزء بسيط من الحقيقة، التي أخفوها تماما ًعن زوجته وولده، الذي أصبح فيما بعد طبيباً، إنما صرحوا، بأن هذا المرض إن لم يعالج، لا يفسح مجالا للحياة أكثر من خمس سنوات، إنما إذا عولج بشكل جدي، ربما عاش المريض لعشر أو اثني عشر سنة، مما جعله يكتب وصيته خلال آب 1972.
وفي هذا التاريخ تقريبا، سجل المراقبون السياسيون من جهتهم، بأن حالة الرئيس الصحية تتفاقم، وأصبح يتردد كثيراً في معالجة الأمور واتخاذ القرارات، وكانوا يتساءلون عن السبب إذ كانوا جميعاً يجهلون حقيقة الأمر، خصوصاً أنه من المبكر جداً على الرئيس بومبيدو بأن يصاب بهذا القصور والتردد إذ لم يبلغ بعد الحد الأدنى من العمر الذي يبدأ فيها الإنسان بالتقهقر والعجز.
وفي نهاية 1972 قرر الأطباء البدء بالمعالجة، ولكن في المنزل وليس في المستشفى كما يقتضي الأمر، حفاظاً على سرية المرض، وإيهاماً للرئيس المريض، أن حالته بسيطة لا تستدعي نقله إلى المستشفى وبإمكانية معالجته في المنزل، حيث تتوفر له الراحة والهدوء، بصورة أفضل.
وهكذا أخضع الرئيس بومبيدو للمعالجة، في منزله محاطا ًبما يلزم من العناية الفائقة، والسرية المطلوبة، أما طبيعة العلاج فكانت بإعطائه المركبات الكيميائية نفسها، التي تستعمل في علاج "اللوكيميا" أي "سرطان الدم"، ومنها الفوسفاميد والكورتيزون وغيرها ومن أهم ما يصاب به صاحب هذا النوع من المرض، إصابته بالأنيميا "فقر الدم" فعالجوه، بالكورتيزون، دون أن تتعدى الجرعة 2 ميليغرام بالنسبة إلى كيلو غرام من وزن المريض، في اليوم الواحد، ولكن بالرغم من سهر الأطباء وعنايتهن، فقد نال منه الضعف والوهن، حتى تعذر عليه الاشتراك باحتفالات عيد الشجرة، كما كانت تقتضي العادة والعرف.
كذلك أقعده المرض عن الاشتراك بالاحتفال التقليدي الذي يقام في قصر الإليزيه، مما أثار فضول الشعب، وخصوصاً رجال السياسة والصحافة، وبعد ستة وعشرين يوماً كان على الرئيس، أن يجلس على كنبة، لتقبل التهاني بعيد رأس السنة، وغداة ذلك النهار، لازم الفراش مصاباً بالكريب، ولم يتمكن من تقبل تمنيات موظفي القصر، والكريب هو دائماً ما يصاب به الرئيس استناداً إلى النشرات الصحية الرسمية.
بهذا الخصوص، كتب فاليري جيسكار ديستان في كتابه، بأنه ولأول مرة رأى بأن بومبيدو عملياً مريض، في الطائرة التي حملته إلى "ريكجافيك" في أيسلندا في 30 أيار 1973، حيث يجري لقاء رئاسي ثان مع الرئيس الأمريكي ريشار نيكسون، وقد طلب منه، إذ كان وزيراً للمالية بالعمل معه في الجناح الذي أعد له في مقدمة الطائرة، حيث كان الرئيس يغفو من وقت لآخر، فيبدو وجهه بلون رصاصي من التعب، بدل اللون الزهري الفرح المعهود لديه.
وكأن الحياة تنسل خارجاً، ولدى وصولنا إلى أيسلندا، لاحظ كل من كان معه ومن ينتظره بأن بومبيدو يهبط من الطائرة، بكثير من الحذر والصعوبة متشبثاً، بدرابزين الطائرة، وقد دس نفسه في معطف سميك، كما أنه يلف عنقه ويخفي أنفه بوشاح صوفي، ويعتمر قبعة تغوص حتى حواجبه، وتخفي جزءاً كبيراً من وجهه المحتقن الأصفر اللون، المحاكي للون الشمع، من هنا تناولت الشائعات خبر مرضه وأصبحت تشكل العناوين الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح من الممكن التكهن، دون أن يكون الإنسان خبيراً، بأنه قد تعاطى الكثير من الكورتيزون.
كما أن الأطباء الذين عالجوه وقد شاهدوه، على جهاز التلفزة يتعثر في خطاه في أيسلندا، اعترفوا بأنه معالجته في المنزل كانت خطأ فادحاً وأنهم يعتقدون أن بعض المحيطين به، قد زادوا من كمية الدواء المعطاة له، معتقدين أن ذلك يسرع في شفائه.
من المعروف جيداً ما أصبحت عليه حالة جورج بومبيدو في الأشهر الأخيرة فقد اعترف الأطباء بأنهم قد خسروا الرهان في معالجة فقر الدم، كما أنهم فشلوا في السيطرة على الاشتراكات، التي عاودته للمرة الثانية، وقد أكد الرئيس فاليري جيسكار ديستان، في كتابه الثاني كذلك في مجلة السلطة والخياة، أن بومبيدو بقي على جهله التام بحقيقة مرضه، وبالحالة التي وصل إليها.
صباح الأربعاء الواقع في 27 آذار 1974 ذهب وزير المالية على عادته إلى قصر الإليزيه، لاطلاع الرئيس بومبيدو على الملفات الاقتصادية والمالية التي يحملها، ومن الطبيعي أن يستفسر عن صحته، فأجاب بومبيدو قائلاً: بما أنك تتكلم عن صحتي إنني أعرف أنه يروى، في هذا المجال، الكثير من الترهات والأكاذيب، فسأشرح لك حقيقة الأمر، إنني قيد المعالجة من مرض يعرفه الأطباء تماما، لكن هذا يتعبني، ليس المرض، إنما العلاج.
فسبب مركزي يقسون عليه بهذا الشأن، لقد أصبت بكريب لعين، تحول إلى اشتراكات لكنني سأوقف هذا العلاج فوراً، وأذهب يوم السبت لتمضية عطلة الأسبوع في "أورفيليه"، ومن ثم في الأسبوع القادم سأذهب إلى كارجاك حيث أبقي خلال عطلة أعياد الفصح وحتى منتصف نيسان، ومن الطبيعي أن أستعيد صحتي ونشاطي فأعود لممارسة مسؤولياتي بشكل أفضل، وخلال هذه المدة ستطلعوني على مجريات الأمور.
على كل سأجري الترتيبات اللازمة بهذا الشأن.
بومبيدو يعاني سكرات الموت:
صباح الجمعة في 29 أيار انتقل الرئيس جورج بومبيدو، عملياً إلى "أورفيليه" طبعاًً للراحة والنقاهة، فابتعد عن العاصمة وجوها الضاغط وضجيجها الذي يقض المضاجع، وحيث البروتوكول وواجباته، إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد حصل له بعد أيام من وصوله إليها، ما كان يخشاه الأطباء، منذ أشهر عديدة، بدأت متاعبه بنزف بسيط في إحدى عينيه.
وكأن ذلك إنذاراً، إذ سرعان ما تبعه نزيف أنفي هام، ثم دملة في مخرج الجسم أخذت بالتمدد والتضخم في جميع الاتجاهات، وخصوصاً صعوداً في المستقيم، ومن هنا دخل الرئيس في مرحلة من العذاب المرير.
بعد نقاش وتقويم للوضع، قرر الأطباء نقل المريض بسيارة إسعاف إلى منزله في باريس الكائن على رصيف بتيم، لكن الأطباء وقفوا مكتوفي الأيدي عاجزين عن مساعدته، وزاد في الطين بلة، إصابته بحمى مرتفعة الحرارة، حاول الأطباء تخفيفها بأي ثمن، ولكن دون جدوى، مما جعل رئيسهم يقول، لقد انتهى كل شيء لم يعد في اليد حيلة، قريباً سيرتاح من عذاباته، إنها مسألة ساعات لا أكثر، أما الضربة القاضية، ورصاصة الرحمة فكانت "السبتييسيميا" تسمم الدم، أو بشكل أوضح، العديد من جراثيم الأمراض في الدم، التي هاجمته في اللحظات الأخيرة.
في الساعة الثامنة عشرة، بعد ظهر الثلاثاء في 2 نيسان دخل الرئيس جورج بومبيدو في مرحلة فقدان الوعي تدريجياً.
في الساعة 22 مساء اليوم ذاته، استسلمت أوعيته الدموية فتفجرت في العديد من الأماكن فغرق في دمائه، و... أسلم الروح.
نهاية مأساوية، حتمية لا مفر منها؛ لكن المؤسف جداً في الأمر، أنها كانت منتظرة ومعروفة منذ اثني عشر شهراً، وهي المدة التي عاشها الرئيس جورج بومبيدو، في جحيم مقيت، في الوقت الذي كانت فيه البلاد بأمس الحاجة، إلى رئيس نشيط يتميز بالحيوية والإقدام لقد كانت تعاني أشد المعاناة؛ من الحظر البترولي التي فرضته، الدول العربية المنتجة للنفط بالملفات تتراكم والمصاعب تتفاقم، أما الرئيس فغارق في همومه وأوجاعه وهكذا دفعت فرنسا ثمن مرض رئيسها.
------------------------------------------------
اضغط هنا للمشاهدة الجزء الرابع وباقى الاجزاء
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
المرتجع حنتوش- مشرف قسم المنتدي العام
-
عدد المشاركات : 21264
العمر : 32
رقم العضوية : 121
قوة التقييم : 41
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
رد: مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
شكرا للموضوع الرائع والمتميز..وفقكم الله
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
لحظة الوداع من أصعب اللحظات على البشر .. ولكن ما باليد حيله
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
وداعا ... لك ايها المنتدى الغالي..وداعا ... لكم يا أعضاء منتديات عيت ارفاد التميمي
وداعا ... لكل من اسعدته ..وداعا ... لكل من احزنته..وداعا ... لكل من أحبني
وداعا ... لكل من كرهني ..وداعا ... لكل من كنت ضيفا خفيفا عليه ..
وداعا ... لكل من كنت ضيفا ثقيلا عليه ..وداعا ... وكلي ألم لفراقكم
لأنكم أفضل من إستقبلني ..وداعا ... وكلي حزن لأنكم خير من شرفني
وداعا ... واجعلوا ايامي التي لم تعجبكم في طي النسيان ..فقط تذكروني بينكم!!
وداعا ... واستودعكــــــــــم الله الذي لا تضيع ودائـــــــــــــعه
اتمني لكم اوقات سعيد
واتمني التقدم لهذا المنتدى الرائع
زهرة اللوتس- إداري
-
عدد المشاركات : 124527
العمر : 42
رقم العضوية : 2346
قوة التقييم : 158
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
مواضيع مماثلة
» مرضى حكموا العالم
» مرضى حكموا العالم (يوري أندربوف YURI ANDROPOV) جزء 6
» مرضى حكموا العالم (فرديناند مركوس FERDINAND MARCOS)
» مرضى حكموا العالم 7(قسطنطين تشرنانكو KONSTANTIN CHERNENKO)
» مرضى حكموا العالم (نيكولاي شاوشيكسو NICOLAE CEAUSESCU)
» مرضى حكموا العالم (يوري أندربوف YURI ANDROPOV) جزء 6
» مرضى حكموا العالم (فرديناند مركوس FERDINAND MARCOS)
» مرضى حكموا العالم 7(قسطنطين تشرنانكو KONSTANTIN CHERNENKO)
» مرضى حكموا العالم (نيكولاي شاوشيكسو NICOLAE CEAUSESCU)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR