إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
مرضى حكموا العالم (مناحيم بيغن MENAHEM BEGIN) الجزء 4
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
مرضى حكموا العالم (مناحيم بيغن MENAHEM BEGIN) الجزء 4
مرضى حكموا العالم (مناحيم بيغن MENAHEM BEGIN)
تابعت الولايات المتحدة حياتها، بطريقة أو بأخرى في عهد رئيسها رونالد ريغن، خلال حقبتين، لقد عايش الأمريكيون الكثير من الرؤساء غيره، ومن المحتمل أن بعضهم كان أسوأ منه، لكنهم أصبحوا في عالم النسيان منذ أمد بعيد، هكذا كان الرئيس أوليس سمبسون غرانت، فهو ابن مزارع من ولاية أوهايو، أصبح جنرالاً إنه الجنرال المنتصر في حرب الانفصال، أي الحرب الأهلية المدمرة، كان مدمناً للخمرة، يعاقرها منفرداً، بعيداً عن الناس، بصورة شبه متواصلة، حتى أصبح مصاباً بالتسمم من جرائها وكثيراً ما كان يشاهد مخموراً كئيباً مقطب الجبين، متبرماً يخرج عن طوره في ثورة غضب، غير مبررة، رغم كل ذلك، انتخب رئيساً للبلاد مستفيدا من الهياج الكثير، والإحباط، الذي سيطر على أمريكا، إثر مقتل الرئيس "أبراهام لنكولن".
استعاض بخمرة السلطة والحكم، عن الخمرة المقطرة من الحبوب، التي كان يفضلها فيغبها بنهم، في محاولة للسيطرة على سأمه وتبرمه بأحوال البلاد، وكان ذلك مرحلة عابرة باعتقاد المحيطين به، والعارفين بأمره، كما أن هذا الزهد بالخمرة، لم يساعده للتوصل إلى الحس السياسي المطلوب، والتفكير السليم، فأحاط نفسه بشلة من المستشارين الجهلة، يأخذ بآرائهم المرتجلة وينفذ توصياتهم المسلوقة، دون درس أو تمحيص، وكثيراً ما كانت لمصالح شخصية ضيقة، وفي خطوة ناقصة غير مسؤولة، قام بها تنكّر لحزبه، الحزب الذي حمله إلى السدة.
إثر ذلك تركه الجمهوريون، فلم يتمكن من العودة إلى البيت الأبيض كما كان يشتهي، فعاد إلى سيرته الأولى في معاقرة الخمرة وقد حاول أن يمتلك المقدرة والسلطة المادية، ولكن دون جدوى فانزوى منفرداً وقد أصيب بتآكل ذاتي وضيق عصبي مدمر مما أفقده دفاعه ومناعته الصحية ضد الأمراض وفي خاتمة المطاف خرّ صريع سرطان قاتل، أصيب به لسانه.
أما البرازيل، فمن جهتها، عندما نال منها انهيار اقتصادي مدمر، عقدت آمالها الجسام على معجزة يقوم بها النجم الساطع "تانكردو نافذ" أما الاتحاد السوفياتي وقد وصل إلى سدة الحكم "ميكائيل غوربتشيف" الرجل الواقعي المثالي الذي كانت البلاد تنتظر منه إدخال دماء فتية جديدة إلى الإدارة، ويظهر بأن السوفيات نسوا أو تناشوا، داء الريقان المزمن الذي أقعده قيد المعالجة أربع سنوات، لا يقوى على الحركة من جراء فقر متقدم في الدم، الذي يصيب عادة المصابين بالريقان.
كثيراً من رجال العلم لا سيما العلوم السياسية، ومن بينهم أحد وزراء الرئيس جورج بومبيدو يعتقدون بأن الأمراض التي تصيب بعض الزعماء والقادة تؤثر سلباً على مستقبل البلاد، لكن أقل بكثير مما يحاول تصويره البعض من المغرضين.
من المؤكد أن هذا الرأي لن يحظى بتأييد جماعي من قبل علماء الاتحاد السوفياتي الذين أسقطوا الرئيس "أندره شاكاروف" أو اليهود الروس، وثوار الأفغان، وجياع البرازيل، ولا حكام الولايات المتحدة الأمريكية، ورجال المال والاستثمارات وأعضاء الكونغرس، الذين حثثوا في فضيحة إيران كات.
بالمقابل فإذا كان من المؤكد أن النظام السوفياتي، بقي يعمل ويدور تلقائياً في عهد "أندروبوف-تشرنانكو" والبرازيل المتحشرج لم يغرق، كذلك الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد ريغان، الذي يغط بالنوم تابعت سيرها بالتوجيه الذاتي الأتوماتيكي، فذلك بالحظ والفال الحسن، إذ لم يقطع عليها جبل من الجليد القائم، والبلاد سائبة دون أي رقيب، أو ربّان ماهر يسهر على حسن توجيه دفة الحكم.
إن إدارة البلاد والشؤون العامة لا يمكن أن تعتمد على القدر والصدفة، قد ترى الديموقراطيات أن ممارسة الحكم، تتطلب الكثير من القوة والتحرك بصورة دائمة من قبل البرلمان، وليس عليها الاهتمام، بصورة رئيسية، بصحة رئيس البلاد؛ فهذه مسألة ثانوية بالنسبة إليهم، فالرئيس ليس سوى واجهة، أو عنوان وفي أحسن الأحوال، المتكلم باسم البلاد.
أما الحكم عملياً فهو مسؤولية السلطات التشريعية أولاً، والتنفيذية ثانياً، فهذه السلطات هي المسؤولة عن شؤون البلاد وسلامتها، وفي هذا المجال تسهر شركات الطيران بيقظة ودقة، على صحة موظفيها الذين يطيرون، من طيارين وملاحين ومضيفين، ولولا ذلك لما وثق بهم المسافرون، على الرغم مما يقوله البعض، بأن المرض يفشل أكثر الناس دقة؛ فيهاجم دون سابق إشارة أو إنذار؛ حتى أكثر الأشخاص صلابة وحيوية ينسون هذا الواقع فمناحيم بيغن، نسي هذا الأمر، ودفع الثمن غالياً، إذ أغرق بلاده إسرائيل في أكبر كارثة خلال تاريخها الحديث.
يقول تي تسنغ الفيلسوف الصيني: إن خيول الحرب، تبصر النور على الحدود، وهكذا بالنسبة إلى بعض الرجال، فقد ولد مناحيم بيغن وعاش في برست –ليتوفسك من ليتوانيا وهي تقع عند ملتقى نهرين، نهر الموكافتس والبوتح، وهذه المدينة كانت منذ القدم موضع تجاذب بين بولونيا وروسيا المتلاصقتين في هذا المكان.
فكانت بولونية حتى 1795 ثم روسية إذ أن الامبراطورة كاترين الثانية الكبيرة ضمتها إلى امبراطوريتها الشاسعة، وفي حقبة ثالثة، احتلها الألمان، وهم في طريقهم سنة 1915، وبقوا فيها حتى 1918، فعادت بولونية سنة 1921، ثم عاد إليها الروس السوفياتيون سنة 1939 وفي مرورهم كالبرق اقتلعها الألمان من أيدي الروس بعد سنتين، ثم انسحبوا إلى غير رجعة في 1944.
وبالرغم من أن السكان يرنون بأنظارهم ويحنون بقلوبهم إلى بلدهم الأم "ليتوانيا" فهم سوفياتيون منذ 1945، وهذه شريعة الأقوى، فلا مجال للعجب بأن يثور بعض أفراد الجالية اليهودية، ذوي العناد وصلابة الرأس كمناحيم بيغن، وقد كانوا عبر التاريخ، عرضة لمذابح البولون الكاثوليك، والألمان المتجولون، والطغاة الروس، ففي هذه البيئة الملوثة بالظلم والاضطهاد ترعرع مناحيم بيغن محاطاً بالكراهية، يتآكله الحقد والضغينة، كان يجيد لغات عديدة، ولكنه لا يشعر إلا أنه بولوني، أما قلبه فلم يكن يخفق إلا حنيناً إلى القدس، وكان يعتنق ويعتمد العنف للوصول إلى مبتغاه بالرغم من احترامه الشديد للشرائع الدينية اليهودية، ولد سنة 1913 في "برست" حيث أمضى طفولته وشبابه نشيطا سريع الحركة، كما كان مشاكساً محباً للعراك، وخصوصاً عندما يغامر فيدخل إلى الأحياء المسيحية، ولاسيما الأحياء المتحدرة من أصل روسي لا يخرج منها إلا وقد أثخن بالجراح، وقد غطت وجهه وكامل جسده الكدمات، وكان حلمه الوحيد الرجوع في يوم من الأيام إلى صهيون، أرض الميعاد.
ولن يتمكن من ردعه البريطانيون أو العرب وفي 1941 اجتاحت الجحافل النازية مسقط رأسه "براست" فولى الأدبار هارباً، ونجا بجلده إذ أن جميع أفراد أسرته قضوا نجبهم في "أوشويز" معسكر التصفية الشهير في بولونيا ما عدا شقيقته، التي كانت عشيقة أحد الضباط الروس فرافقته لدى انسحابهم قبل دخول النازيين بأيام معدودة.
أما مناحيم فأخذ يتسكع متلطياً في أرجاء أوروبا المشتعلة بالنار والكبريت، تحت أسماء مختلفة وجنسيات شتى، حتى وصل إلى اسبانيا حيث كانت الصهيونية العالمية تنظم رحلات سرية، للفارين اليهود تنتهي بهم في فلسطين، وذلك بموافقة ضمنية من السلطات البريطانية، فانضم مناحيم إلى إحدى الرحلات ودخل كغيره إلى فلسطين، وبهذا تحقق حلمه ونال مشتهاه.
فلسطين وقدسها، يا مهبط الوحي ومهد الأنبياء، يا مولد عسى، يا أرض الإسراء والمعراج، يا أرض كنيسة القيامة والمسجد الأقصى أيتها الأرض المقدسة، التي تضم رفات معظم أنبياء اللـه الصالحين، لقد أصبحت مأوى مجرمين وملجأ الصهاينة والإرهابيين، وأخيراً لا آخراً، وفد إليك كبيرهم "مناحين بيغن" الذي أصبح فيما بعد، علماً من أعلام الصهيونية والعنصرية، التي أنشأها ونظمها "تيودور هرتزل" وأطلقها تعيث فساداً في جميع أقطار العالم، تحوك المؤامرات فتغتال وتقتل، كل من يقف حجر عثرة في وجه مخططاتها التوسعية على حساب الأمم والشعوب وفي هذا المجال قتلت الوسيط الدولي، "داك همرشولد" إذ كان له رأي يخالف أهدافهم المشبوهة، وبعد موت "هرتزل" سنة 1904، خلفه من هو أكثر منه إجراماً وحقداً، "دافيد بن غوريون" البولوني الأصل أيضاً، وقد ولد في ضواحي فرصوفيا "بلونسك" التي مع غيرها مع الأزقة أصبحت ما يسمى "الفيتو اليهودي" حيث حشر الألمان الشعب اليهودي واقاموا حولها الجدران العالية وأغلقوا المداخل والمخارج ومنعوا عنهم المؤن وكذلك قطعت الماء والكهرباء فكانوا يستعملون مياه الشتاء، أو ليس السماء تمطر على الأبرار والأشرار، وكان الألمان قد قرروا إبادة اليهود وتنظيف الأرض من رجسهم، وفي هذا المجال كان رجال "الغستابو" يشنون الغارة تلو الغارة فيقبضون على كل من تطاله أيديهم ويكدسون فوق بعضهم، حتى تضيق بهم عشرات الشاحنات التي تنقلهم إلى معتقلات الإبادة وأشهرها: أوشويز، وتريبلنكا، حيث ينتهي بهم المطاف في الأفران أو المخانق؛ ولهذه الأسباب وسواها، كان بن غوريون كالكثير من غيره من اليهود يحملون في قلوبهم غيظاً وحقداً على موجة مناهضة الصهيونية التي عمت أوروبا.
فلجأ إلى فلسطين وقد جعل نصب عينيه هدفاً أكبر وأوسع بكثير من موطن لليهود على الأرض الفلسطينية، الذي وعدهم به اللورد بلفور، وزير الخارجية في الثاني من تشرين الثاني 1917 فكان بن غوريون يخطط لإنشاء دولة عبرية خالصة، ليستولي على الأرض العربية فيطرد أهلها وأصحابها ويهجرهم في مشارق الأرض ومغاربها.
لدى وصول مناحيم بيغن إلى فلسطين، رأى أن بن غوريون قد خطا خطوات واسعة في مجال التمدد والتوسع الصهيوني فألف الأحزاب وأقام المؤسسات والمنظمات التي تعنى بشؤون اليهود وتحمي حياتهم وممتلكاتهم ومنها: "الهيستدروت" للشرون العمالية، وحزب "ماباي" الاشتراكي، للشؤون السياسية، والهاغانا، سنة 1920 للشؤون الإرهابية، وبكلمة واحدة فإن كل الشؤون الصهيونية تحمل بصمات بن غوريون، وأن الكيان العبري يخطو إلى الأمام فعلاً، وهذا ما يتمناه بيغن من صميم قلبه، ولكن، ليس بدونه، ودون أن يكون من أكبر عناوينه.
وتحقيقاً لأهدافه، كان لابد له من عصابة يترأسها، تبزّ الهاغانا في مجالات العنف والإرهاب، وفي هذا المسعى أخذ يتقرب مغازلاً من أكبر وأشرس عتاة الهاغانا دفيد رسيال، وإبراهام شترن، إذ كانا يشاركانه الرأي بضرورة الهجوم المعاكس، بشراسة وضراوة على الهجمات التي تقوم بها المقاومة العربية على المستوطنات العبرية، بمساعدة رفيقيه، وفي عجلة من أمره جمع حوله جيشاً ضم غلاة القتلة والإرهابيين سنة 1931 دعي فيما بعد شترون على اسم أحد منظميه رفيق "مناحيم" إلا أن هذا الأخير احتفظ بقيادته.
كما ألف حزباً سياسياً في مواجهة حزب "بن غوريون" حزب "هاروت" وتتلخص أهدافه بكلمتين "ارتيز" ومعناه "أرض إسرائيل" الذي يتجاوب مع أحلام العديد من التوسعيين الصهاينة، والتي تعني استعادة جميع الأراضي التي كان يسكنها اليهود، أيام التوراة، زاعمين أنهم أحفاد أصحاب هذه الأرض الذين قتلوا أو هجروا منها بالقوة ظلماً وعدوانا، والتي تضم الأرض التي تمتد من البحر الأبيض المتوسط حتى الضفاف الغربية لنهر الأردن.
سنة 1970 اعتزل بن غوريون الحياة السياسية، وكان في الرابعة والثمانين من العمر، وقبل موته في الأول من كانون الأول، حرّض مواطنيه على إعادة الأراضي، ومنها القدس الشرقية، التي احتلتها إسرائيل، في حرب الأيام الستة، (وإلا فإنهم سيدفعون الثمن غالياً) وكأنها كانت نبوءة إذ في السادس من الشهر نفسه أي بعد خمسة أيام فقط من موته، وبقيادة أسد سوريا وبطلها وهو اسم على مسمى الرئيس حافظ الأسد الذي لا ينام على ضيم ولا يتهاون في الحقوق العربية، وفرعون مصر الجديد أنور السادات، هجم الجيش السوري المتعطش لتحرير الأرض الوطنية المقدسة والجيش العربي المصري فألحقوا بالصهاينة هزيمة نكراء، محطمين أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
وفي الحادي عشر من كانون الأول من السنة نفسها، ألف مناحيم بيغن، حزب الليكود الذي ضم اليمين الوطني، والأحزاب الدينية ووسط اليمين، مما سمح له بالفوز في الانتخابات في 17 أيار 1977، فكان انتصاره منعطفاً تاريخياً إذ لأول مرة في تاريخ إسرائيل ينهزم العمال أما اليمين المتكتل بزعامة مناحيم بيغن، الذي يطلق أخصامه عليه تهكماً، "الجنتلمان البولوني".
مناحين بيغن يصاب في قلبه:
بعد انتصاره في الانتخابات بيومين، سقط مناحيم بيغن فريسة ذبحة قلبية مزدوجة، بالاشتراك مع التهاب حاد في غشاء القلب، وكان قد صرح مرارا عديدة، بأنه لم يبق له في الحياة سوى سنوات معدودة، فلو قدر له أن يبلغ السبعين من العمر، فسينسحب ليس من البرلمان فقط بل من كامل الحياة العامة، مفسحاً المجال أمام من هو أصغر منه سناً لإكمال المسيرة؛ مما يعني أنه على معرفة تامة بحالته الصحية، وبقدرته على متابعة هذا النمط المضني من الحياة فهو منذ خمس سنوات يشكو من ارتفاع في نسبة السكر لديه.
وكان يعلم وهو مقتنع بأنه بعد الرابعة، أو الخامسة والستين، يدخل الإنسان في دوامة لا تنتهي من أمراض الشيخوخة: نشاف وتصلب في الشرايين وارتفاع في الضغط الوريدي والبروستات وغيرها وغيرها..
وأخيراً بالقلب كما مر معنا أعلاه، وبالفعل كانت إصابة بالغة ومعقدة، بناء على تصريح البروفسور "مرفن غوتستمان" رئيس قسم الأمراض القلبية في مستشفى حداثه بالقدس، وقد قضى بيغن ستة أسابيع طريح الفراش لاستعادة صحته.
ولدى عودته إلى مركز عمله، هذا المركز الذي طالما اشتهاه، وجدّ وكدّ للوصول إليه، راح يتحقق من الملفات والشؤون التي عليه أن يدرسها ويقضي في أمورها المعقدة.
شعر بالتعب، وتأكد من أنه ليس في أحسن حالته الصحية، كما أكد له الأطباء، إذ لم يكن العمل المتراكم بانتظاره يترك له مجالاً للراحة والاستجمام، فيستعيد بعض قواه، الذي فقدها وهو طريح الفراش.
أما أهم ما كان ينتظره فهو ملف العلاقات الإسرائيلية، مع أقوى أعدائه الطبيعيين وهي مصر، كما أن من أزعجه أكثر من غيره، كان وزير خارجيته موشي دايان، وقد صرح لبعض المقربين بهذا الخصوص شاكياً لا أدري كيف أصبح هذا وزيراً في حكومتي، من المؤكد أنني لم أكن بكامل عقلي عندما قبلت به.
أما فوز مناحيم بيغن في الانتخابات وتكليفه بتأليف الحكومة فكان له وقع الصاعقة على الرؤوس فالإرهابي الكبير، رئيس عصابات شترن وارغون والعدو الألد للعرب، وخصوصاً الفلسطينيين منهم، لا يمكن أن يتعاطى معهم إلا بما تمليه عليه طبيعته الشريرة، ومن هذا المنطلق لابد أن تطلب الرحمة لحكومة العمال بعد التعرف إلى بيغن.
أما الرئيس السادات فخلافاً للمنطق وبناء على المعلومات المرسلة من قبل البعثات الإسرائيلية، فإنه كان يقوم باتصالات سرية على مستوى رفيع، ومع شخصيات نافذة لتمهيد الطريق إلى محادثات في أمر السلام بين مصر وإسرائيل.
في هذه الأثناء كان قد وصل إلى مسامع السادات، عن طريق الأمريكيين ما يعانيه بيغن من مرض وتدهور في قواه الجسدية، مما يجعله سلساً وأقل تصلباً وعنادا، كما أن الرئيس كارتر كان يدفع السادات في هذا الاتجاه وينصحه بأخذ المبادرة.
ثم إن الرئيس السادات راهن للوصول إلى هدفه على أن بيغن المريض يبغي وبأي ثمن أن يقوم بإنجاز هام قبل موته يضع اسمه في مصف بن غوريون أو مصف أعلى، في تاريخ الشعب اليهودي، هذا ما همس به في أذنه نيقولا شاوشسكو، رئيس رومانيا، الذي تطوع للعب دور الوسيط، في هذه البقعة من العالم، التي لم تكن تنتهي الحروب على أراضيها.
ومع كل هذه المعطيات كلف السادات وزير خارجيته اسماعيل فهمي، بصورة لا مجال فيها للجدل، بأن يبلغ تمنياته إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقد زاد قائلا: إنني على استعداد للذهاب إلى القدس، لمباحثته إذا لزم الأمر، مما جعل شعر رأس فهمي ينتصب كالقنفذ، إلا أنه لم يجد نفسه بحاجة إلى تنفيذ أمر رئيسه، إذ أن الخبر قد سبقه فوصل إلى إسرائيل بطرق ملتوية.
وفي مراهنة على التقرب من السادات، قام بيغن ووزير خارجيته دايان بخطوتين، إلى الأمام في هذا الاتجاه، ليست أقل سرية ولكنها حقيقة ملموسة.
وهكذا علم الرئيس السادات بأن ليبيا، تقوم بتنظيم ثلاث مؤامرات برسم التصدير إلى مصر والعربية السعودية، والسودان، كان قد اكتشفها جهاز المخابرات الإسرائيلية، كما أكد للسادات بأن إعادة سيناء لمصر مسألة قابلة للبحث، أما احتلال الجيش الإسرائيلي للأراضي الإسرائيلية أصلا، حسب التوراة، فنهائية وغير قابلة لإعادة النظر.
وبناء على اقتراح السادات وافق بيغن، على إشراك الحسن الثاني، ملك لمغرب، في عملية التفاهم بينهما، وهكذا تم لقاء سري في الرباط بين حسني مبارك نائب الرئيس المصري وموشي دايان الذي وعد بأن إسرائيل ستذهب بعيداً جداً في طريق التفاهم والسلم وهكذا فعلاً ذهب الرئيس إلى الكنيست.
السادات يحاضر في الكنيست:
قام الرئيس السادات، بالخطوة الحدث، التي تلفزت في حينه، عبر العالم وذلك في الواحد والعشرين من تشرين الثاني 1977 في الساعة 16 والقى في البرلمان الإسرائيلي، محاضرة أدهشت العالم بالجرأة والصراحة التي اتسمت بها، فقد اعترف رسمياً بالكيان اليهودي دون أن يخون الشعب الفلسطيني أو الشعب المصري بحسب رأيه.
إذ أنني أقدم لبلادي سلماً مشرفاً ودائماً، صم انتقل ليأخذ مكانه، وسط عاصفة من التصفيق وصرخات الاستحسان، من قبل أعضاء الكنيست الإسرائيلي، ولكن سرعان ما تجهم وجهه، إذ خلافا لما تعهد به دايان في لقائه لحسني مبارك في الرباط، لم تقدم إسرائيل التنازلات المطلوبة، إذ صرح بيغن جازماً حازماً، أن القدس لن تكون موضع بحث، فهي عاصمة إسرائيل التاريخية، وستبقى إلى الأزل، وقد زادت خيبة أمل الرئيس فيما بعد أثر المحادثات التي جرت بينه وبين بيغن، بحضور الرئيس الأمريكي كارتر في مخيم داوود بالولايات المتحدة، والتي خلالها لم يؤت على ذكر الفلسطينيين من قريب ولا من بعيد، حتى الاتفاقية الثنائية التي وقعت في 26 آذار 1979 في واشنطن لم ينتج عنها، سوى سلام بارد، وهي نوع من الحياد من قبل الطرفين وقد صرح لحاشيته بأن أتعابه لم تعط ثمارها.
حتى هذه الاتفاقية المخيبة للآمال، وصلت مراراً عديدة، إلى حافة الفشل، مما جعل كارتر يتدخل لترطيب الجو، وإعادة الطرفيين إلى طاولة المحادثات، أما الخلافات فكانت سخيفة ولا علاقة لها بالشؤون السياسية إطلاقاً، إذ كان العجوز بيغن، في نوبات من الغضب تنتابه من وقت لآخر، ودون ما سبب ظاهر، يرفع صوته ويقلب الأوراق بعصبية ظاهرة.
وفي تحليل لبعض علماء النفس الأمريكيين، أن عقله الباطني كان يعود بالذاكرة إلى المذابح الجماعية بحق الشعب اليهودي في أوروبا، والتي شاهد بعضها وهو صغير بأم عينه، كما عزى بعض الأطباء الأمر إلى تقدمه بالعمر وحالته الصحية التي لم تكن على ما يرام.
بيغن يدخل المستشفى مجدداً:
بالفعل أدخل مناحيم بيغن إلى المستشفى في أيلول، تحديدا حيث بقي أسابيع طويلة مصاباً بنوبة قلبية حادة، وبعد خروجه من المستشفى بأربعة أشهر فقط أصيب بنوبة ألم حاد في صدره، إثر مشادة عنيفة جرت بينه وبين سفير الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل، وفيما بعد خروجه وجه اللوم بقساوة إلى طبيبه الخاص، لإفشائه خبر هذه الإصابة، وأعفاه من مهماته.
وهذا الحادث بحد ذاته يؤكد بأن مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل، لم يعد محصناً صحياً، بل أصبح عرضة للإصابة بمثل هذه النوبات ولو لأتفه الأسباب.
وفي هذا المجال كثر القال والقيل، وتعددت الأقاويل والأساطير، ومنها مات صيغ بشكل تساؤل بريء أقلها: ألم يأت بيغن إلى الحكم متأخراً؟ إن بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى مصلحة البلاد؟ وتساءل غيره: هل ما زال بمقدوره أن يدير شؤون البلاد كما يجب؟
أصبحت صحة رئيس الوزراء بيغن، حديث الساعة، على كل شفة ولسان من رجال ونساء، فهو حديث سيدات المجتمع في الصالونات، كذلك بين العمال، أما في المساء فهو الحوار الوحيد بين رواد البارات وعلب الليل.
وفي أحيان كثيرة يحتدم النقاش بشكل لا يخلو من الحدة بين مؤيد ومعارض فيصل بينهم الأمر إلى التشابك بالأيدي وتبادل الشتائم، خصواً بعد تناوله بضع كؤوس إذ تلعب الخمرة بالرؤوس مما جعل من ذلك قضية وطنية.
منذ 27 حزيران 1978، شاع في إسرائيل أن ارتفاعاً مهماً في مستوى السكر، قد حصل بيغن، فاستدعي البروفسور "ميرفن كوتسمان" أمام لجنة حكومية عليا للتحقق من الوضع الصحي لرئيس الوزراء.
فأعطى تقريراً مفصلاً عما كان يعاني منه، والعلاج الذي يخضع له؛ ولدى سؤاله عن الذبحة القلبية التي كان قد أصيب بها منذ ثلاثة عشر شهراُ، عرض الأمر بشكل دقيق وواضح لكنه لم يتمالك نفسه، مرة أخرى، من الإضافة إنها مرت بسلام ولم تترك آثاراً سلبية.
لكن ذلك لم يمنع محرر جريدة "الجريزلوم بوست" من الاعتراف قائلا: هذا كلام غير موضعي، وذلك لا يمنعه من أن يكون مناحيم بيغن رجلاً مريضاً، وهو عرضة للمرض في كل ساعة وحالته الراهنة هي مشكلة سياسية، إذ أن ذلك يمنعه من السيطرة على مرؤوسيه؛ وبالفعل وجد بيغن نفسه مجبراً على إجراء بعض التغييرات المهمة، في تركيبة وزارته.
وعلى الرغم من جميع المحاولات لذر الرماد في العيون أصبحت صحته مشكل الدولة العبرية، فعيون النواب تراقبه، والصحافة لا تغفل عنه، وفي هذا المجال صدرت الصحف الإسرائيلية في أيار 1979، وفي صفحاتها الأولى أن بيغن قد فقد البصر بعينه اليمنى، إثر انسداد الشريان الذي يمون هذه العين بالدماء.
أما أطباؤه فحاولوا كالعادة التقليل من أهمية الحادث زاعمين أن تلك مسألة بسيطة، لا أهمية لها؛ تصيب كل الرجال، في عمر معين، خصوصاً عند المصابين بارتفاع نسبة السكر، بالفعل لم يبد على بيغن آثار الإصابة مستمداً من الضعف قوة، فحافظ على الاستمرار في مزاولة جميع نشاطاته الرسمية.
لكن ذلك ليس لمدة طويلة؛ إذ سرعان ما ضرب في مكان آخر، وفي هذه المرة، كان دور الشريان الممون الدماغ بالدماء، فارتفع ضغط الدم في شريان العين، مما سبب نزفاً داخلياً فيها، ثم احتقانا في كامل منطقة العين اليمنى لا يخفى على أحد.
أخيراً لا آخراً خلال شهر كانون الأول من نفس السنة 1979 ظاهرة دراماتيكية مرضية، حدثت لبيغن في البرلمان الإسرائيلي، على مرآى من جميع أعضائه، إنه البرلمان الذي يعرفه حق المعرفة إذ كان ما زال يتردد إليه منذ ثلاثين سنة.
لكن في هذه المرة ضاع مقعد الوزراء، فأخذ يبحث في جميع الاتجاهات محتاراً حتى تأبطه أحد وزرائه واصطحبه إلى مقعد إضافة إلى ذلك لاحظ الصحفيون، الذين يراقبون ليلاً ونهاراً أنه أصبح عصبي المزاج، شديد الحساسية، يتبرم بموظفيه وزواره، لكن ما من أحد منهم خطر على باله إعلام أطبائه بهذه التصرفات المستجدة لدى رئيس الوزراء، وبعد أقل من شهر، نقل محمولاً على وجه السرعة إلى غرفة العناية الفائقة، مصاباً بذبحة قلبية ثانية، حيث حصل كما في كل مرة، على العناية الممتازة.
فتخطى الأزمة، وتماثل للشفاء، على نحو أبطأ مما جرى سنة 1977 وفي سنة 1981 تحسنت صحته بعض الشيء بشكل عام مما سمح له بالتحرك سياسياً بشكل أفضل.
فعلى الرغم من معارضة حزب العمال العنيفة، تمكن بيغن من النجاح في الانتخابات التي جرت في حزيران، بفضل تكتل اليمين والأحزاب الدينية حول الليكود، فكلف بتأليف الوزارة في 5 آب بأكثرية ثلاثة أصوات فقط.
فأسند حقيقة الدفاع إلى الجنرال آريل شارون، المعروف بحزمه وتشدده، في التعاطي مع الفلسطينيين وبهذا يكون قد اختار لحكومته الجديدة شعار التصلب، فقد دق جرس الصقور، مع هذه الحكومة تكاثرت الأزمات والصعاب، وخصوصاً على صعيد المدفوعات العامة فقد كان الجيش يبتلع ثلثي الميزانية، ناهيك عن الديون العامة.
كما أن علاقتها مع واشنطن لم تكن في أحسن حالاتها، واعراتها بعض الفتور والاختلاف في الرأي على أكثر من صعيد، منها: الغارة الجوية على العراق، التي أمر بها شخصيا رئيس الوزراء بيغن، في السابع من حزيران 1981، ضد المفاعل النووي، الذي أنجزه الفرنسيون للعراق، كذلك ضم مرتفعات الجولان السورية في الرابع عشر من كانون الأول.
قبل ذلك في العاشر من تشرين الأول كان يوم حزين بالنسبة بيغن، إذ توجه على رأس بعثة، من أعلى المستويات إلى القاهرة لحضور مأتم الرئيس أنور السادات الذي اغتاله بعض المتطرفين قبل ذلك بأربعة أيام أثناء استعراض عسكري بمناسبة الذكرى الثامنة لحرب يوم الغفران، كذلك في الثامن عشر منه، اشترك بمأتم وزير خارجيته موشي دايان الذي توفي في إحدى مستشفيات تل أبيب.
بشكل عام، لم تكن هذه السنة هي الفضلى بالنسبة إلى مناحيم بيغن، كانت رمادية قاتمة اللون، يتمنى مخلصاً أن تنتهي بخير، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أصيب بتشنج عصبي، وهو في حمامه فوقع أرضاً بقوة، ونقل إلى المستشفى على عجل، حيث تبين أنه قد أصيب بكسور في أعلى الفخذ "الورك".
على الصعيد الصحي، وخلافاً للعادة التي جرى عليها الزعماء، والرؤساء وخصوصاً غولدا مائير، لم يحاول مناحيم بيغن إطلاقاً إخفاء مشاكله وصعابه الصحية، عن الرأي العام، ولم يكن شخصياً يتهرب من مناقشة حالته.
أما الغريب في هذا الأمر، فقد نصب أحد محرري صحيفة "هاآرتز" نفسه مدافعاً ومحامياً، عن الرؤساء، إذ غداة إصابة بيغن تصدر الصفحة الأولى في الجريدة المذكورة، مقال شديد اللهجة، يؤنب فيه المحرر الأطباء، الذين يبالغون في تصوير أهمية الأمراض والمشاكل الصحية، التي يتعرض لها رجالات الحكم.
كما أن مناحيم بيغن، كتب رسالة يشرح فيها بجرأة وصراحة حالته الصحية، نشرت في مجلة "جاروزلم بوست" يقول فيها: أريد أن أشرح لكم ما يتعلق بالمرض الذي أعاني منه، لا أحاول إخفاء حالتي، وأطلب من أطبائي أن يقولوا الحقيقة للشعب الإسرائيلي، فعلى سبيل المثال، طلبت منهم توضيح الإنسداد الذي حصل لأحد شرايين الدماغ، الذي تسبب بتدني قوة البصر في عيني اليمنى، وكنت قد طلبت منهم التصريح بذلك إلى الصحف منذ سنتين وفي هذا المجال كنت شديد الحظ حيث أن هذا الشريان كان صغيراً جداً فلو كان أكبر من ذلك فلربما كنت أصبت بالشلل وقد عانيت من هذا الانخفاض في النظر، لعدة أشهر، بعد خروجي من المستشفى، أما الآن فلم يعد عندي أية مشاكل بالنسبة لنظري.
وكما هو معروف، فقد أصبت بذبحتين قلبيتين، ولكني تجاوزتهما وخرجت منها سليما معافى باعتراف الأطباء، أما الآن فقد أصبت بكسر جنبي، وقد طلبت من أطبائي قول الحقيقة كاملة إلى الجمهور، وهنا لابد لي من القول، أن السياسيين أنفسهم يمكن أن يصابوا بالمرض ثم يعودوا إلى مزاولة أعمالهم، بعد الشفاء التام، تماماً كغيرهم من الناس، إنني أفهم تماما، أن يخفي بعض السياسيين، مرضهم عن الشعب، خوفاً من استغلال منافسيهم السياسيين.
أما فيما يخصني، فلي وجهة نظري الخاصة، فعائلتي ليست كبيرة، وأفضل أن تعرف شقيقتي، وأولادي حقيقة الأمر، من فمي، وليس بواسطة الراديو أو التلفزيون، وبعدها أن يشرح الأطباء حالتي على الصعيد العام.
لاقى كتاب مناحيم بيغن، استحساناً عارماً لدى الإسرائيليين على جميع المستويات، ومن أقوالهم بهذا الصدد، إن بيغن رجل واثق من نفسه لا يخشى الأرياح من حيثما هبت.
إنه كغيره من رجال الحكم والسياسة؛ فهو قد حافظ بكتابه هذا على أدق شروط الديمقراطية وبهذا كانوا يغمزون من قناة غولدا مائير إلى ما هنالك من أقوال الاستحسان والتأييد، مما أزعج أخصامه، لاسيما اليسار وعلى رأسهم حزب العمال، إذ قد أزعجهم لا بل هالهم تعاظم شعبيته، فما كان منهم إلا، أن تنادوا لعقد جلسة مستعجلة، وخاصة في الكنيست، لتقويم كتابه، ووضع الأمور في نصابها حيث، تباروا في إلقاء خطابات، مطولة ومنمقة، دون أن يجرؤ أحدهم على تناول أو مهاجمة بيغن شخصيا.
بل على العكس، كان كل منهم في نهاية موضوع الإنشاء الذي أجهد نفسه في تنميقه وتضمينه كل ما يحفظه من العبارات الوطنية الطنانة، ولو كانت في هذا المجال جوفاء، لا مكان لها، ولا معنى لها يتمنى لبيغن الشفاء العاجل، وكانت جلسة ماراثونية، في نهايتها، اخترعوا ما ينقد ماء وجوههم، فاعترضوا على الفقرة الرابعة من كتاب بيغن، التي يقول فيها أنه قد كلف أطبائه نشر الحقائق فيما يتعلق بحالته الصحية، إذ لا يمكن أخذ آرائهم بعين الاعتبار إذ لابد أن يكونوا متحيزين، ولو عن غير قصد، فللكنيست وحده حق تكليف جنة خاصة، من أعضاء البرلمان، وكبار الأطباء، لتقويم حالة رئيس الوزراء وإصدار تقرير مفصل، وخصوصاً فيما يتعلق بمركزه والقيام بالمهام المطلوبة، بشكل صحيح، ودعماً لقرارهم هذا (الذي لم يجرأوا على تنفيذه) وعلى سبيل التذكير بسابقة قانونية، عرضوا ما حصل في أمريكا مع الرئيس داويت إيزنهاور يوم أصيب بذبحة قلبية سنة 1954.
عندما أصيب أيزنهاور لأول مرة بذبحة قلبية، وهو في البيت الأبيض، طلب من أطبائه، وخصوصاً الدكتور بول دودللي وايت من بوسطن، أن لا يخفي شيئاً عن الرأي العام الأمريكي بما يتعلق بحالته الصحية، إذ مازال وبكثير من المرارة يتذكر يوم كان ملازماً صغيراً سنة 1918، كم كانت السلطات تجهد نفسها لإخفاء الحقيقة المرة المعيقة التي يعاني منها، الرئيس وودور ويلسون، عن الشعب الأمريكي، ولهذا شدد على طبيبه قائلا: عليك أن تعلن الحقيقة، كل الحقيقة، لا تحاول أن تخفي أو تلطف الأمر مهما كانت الحقيقة مرة.
نزولاً عند رغبة الرئيس، كانت النشرات الطبية التي صدرت مثالاً للدقة والصراحة التامة، لكن الأطباء تأكدوا ودون أدنى شك أنه لم يعد يتمتع بكامل مقدرته، على حسن الرؤيا وتقدير الأمور.
وهذا ما أوضحه شخصياً فيما بعد في مذكراته، حيث كرس جزءا مهماً منها لإصابته القلبية وانعكاساتها السلبية على تصرفاته وقراراته، لكنه تابع مستدركاً: رغم ذلك، لا يسعني سوى تهنئة نفسي فلو قدر لي أن أختار بنفسي تاريخ إصابتي، لما كان بمقدوري أن أجد أنسب من ذلك الوقت، بالنسبة لحالة البلاد على جميع، الصعد فالاقتصاد في أحسن حالاته والكونغرس بحالة طمأنينة، واسترخاء، كما أنه يمكنني وبثقة تامة الاعتماد كليا على وزير خارجيتي القدير، فوستر دالاس، فيما يتعلق بالشؤون الخارجية خصوصاُ أنه ما من مشكلة، تحتاج لتدخلنا، في جميع أقطار العالم.
كما أنني ثابرت يومياُ على تلقي تقارير اللجنة الاستشارية العليا، فأصدر التعليمات المناسبة، أما الأهم من كل ذلك، فهو أنني لم أجد نفسي في مواجهة أمر ما، يقتضي تدخل القوات الأمريكية المسلحة، وهنا لابد لي من القول بأنه لو وجدت نفسي أمام مثل هذا الموقف الحرج، بعد مرور ثمان وأربعين ساعة فقط من إصابتي، فمن المؤكد تماماً أنني كنت أتصرف بمفردي دون حيرة، أو تلكؤ فأصدر الأوامر اللازمة لمعالجة الأمور بدقة وحسن تقدير.
وتأكيداً على ذلك، فبعد أسبوع واحد من إصابتي تمكنت من دراسة ومناقشة الأحداث التي اندلعت في لبنان سنة 1958، متع حكومتي ومستشاري الأمن القومي، فأصدرت أوامري بعملية إنزال على شاطئ ذلك البلد، غير مكترث بالاتحاد السوفياتي وتهديداته التي ألمحت، بإمكانية نشوب حرب نووية عالمية، ومن المؤكد بعد دراسة وافية وتقديرات دقيقة لكل ما قد يترتب على ذلك من سلبيات وإيجابيات، وقد أثبتت مجريات الأمور، فيما بعد صحة نظرتي وتقديري للأمور على المدى الطويل.
وتابع إيزنهاور في مذكراته قائلا: في مطلق الأحوال لا يجوز ولا يحق لرئيس دولة أن يقرر أي أمر، على شيء من الأهمية ما لم يكن متمتعاً بكامل قواه الجسدية والعقلية، إذ خلافاً لذلك ربما ورط نفسه وبلده فيما يندم عليه لاحقاً.
وعلى سبيل المثال، عندما سمح كنيدي بعملية إنزال في خليج الخنازير الشهيرة حيث كان ينتظرهم فيدل كاسترو بجحافله، كذلك جونسون الذي ورط بلاده في حرب الفيتنام، التي لم تتخلص أمريكا من ذيولها حتى يومنا هذا، كما أقحم نيكسون البيت الأبيض بفضيحة الوتر- كايت وغيرهم من الرؤساء من جنسيات مختلفة الذين أساؤوا إلى بلادهم، بسبب المرض، وبالتالي سوء التقدير لمشاكل وصعاب هم بغنى عنها.
بيغن المريض المؤمن:
تابع البروفسور "مرفن غوستمان: وشلته من الأطباء الاجتماع عند قدمي رئيس وزراء الكيان الصهيوني، والإكثار من النشرات الطبية الدورية، طمأنينة الشعب الصهيوني، وذر الرماد في العيون، ففي هذه النشرات كان يخيل للناس بأن بيغن قد شفي تماماًَ من كل ما ألم به، وقد عاد إلى شبابه؛ وفي هذا المجال لابد من الاعتراف بأن بيغن قد أحيط بأفضل عناية وأقصى ما توصل إليه الطب والعلاج، إلا أنهم نسوا أو تناسوا بأن الجرح ولو اندمل سيحمل صاحبه أثره مدى الحياة.
إن قوانين الطبيعة ثابتة، تقوى على الطب والأطباء، طولا يصلح العطار، ما أفسده الدهر، وإن هذه النشرات، لم تقنع الكثير من خصوم بيغن السياسيين وفي مقدمتهم حزب العمال والعديد من رجال العلم والصحفيين، الذين يتربصون به، كما أن الكنيست تحرك تلقائياً لدراسة حالة بيغن الصحية، وما قد ينتج عنها من نتائج سلبية على صعيد الدولة الإسرائيلية.
فخلال كانون الثاني 1981 اجتمع فريق من السياسيين العماليين، وفريق من الليكود المؤيدين لبيغن، لمناقشة الأمر، وقد اعتبر العمال بأن بيغن لم يعد ممسكاً بزمام الأمور كما يجب، ولم يعد مسيطراً على حكومته كسابق عهده.
وقد شبهه أحدهم بمؤلف موسيقي لم يعد باستطاعته إكمال سمفونيته، كما صرح جامعي شهير قائلا: لقد قيّض لي أن أراقب، ثلاثة أو أربعة من رؤساء وزارات وهم في خريف العمر، لقد كان مناحيم برلمانياً من الدرجة الأولى وخطيباً مفوهاً، أما الآن فلم يعد كذلك، بل أصبحت حالته حزينة مثيرة للشفقة.
كذلك إحدى الصحفيات، التي كانت تتعقبه منذ انتخابه المظفر في أيار 1977، فتسقط أخباره، وتبالغ في إنجازاته، وهي من أشد مؤيديه تعصباً كتبت مؤخراً في هذا المجال تقول أن خطبه، أصبحت مونوتونية ميكانيكية، مملة لا تثير مشاعر وعواطف المستمعين، ولم تتورع عن القول، بأن بيغن الذي نعرفه، قد انتهى وعفا عليه الزمن ووجوده على رأس الدولة يشكل خطراً حقيقياً على إسرائيل.
أما الأسوأ، فقد بدأت فصوله السنة 1982 إذ في آذار وانسجاماً مع المعاهدة التي وقعها مع الرئيس السادات باشرت إسرائيل بإخلاء المستوطنات اليهودية في سيناء وإعادتها إلى مصر، لكن بيغن تشبث بالضفة وقطاع غزة رافضاً سحب قواته والتخلي عنها، مما غطى اتفاقيات كمب ديفيد بطبقة من الجليد، فما كان من الرئيس حسني مبارك خليفة أنور السادات سوى رفض الدعوة، التي وجهت إليه لزيارة القدس فأصبحت العلاقة بين البلدين باردة، وشبه عدائية.
كما أن مجلس الأمن، أصدر قراراً يدين حملات القمع والإرهاب التي تمارسها الدولة الصهيونية في الأراضي المحتلة، وفي 28 نيسان وفي 11 أيار انعقدت جلستان صاخبتان بالكنيست، اختلط خلالهما الحابل بالنابل، بين مؤيد ومعارض كما أن قسماً كبيراً من الجيش وقد دبت فيه النخوة الصهيونية واستفاقت لديه الديمقراطية، طالب ببعض الإصلاحات، ولكن كل هذا الصراخ والضجيج، دون أي يأتي أحدهم على ذكر مناحيم بيغن بالاسم.
بعد أن سيطر أريل شارون على الجيش، ن اعتداء آثماً على لبنان في السادس من حزيران، أعطاه تمويها اسم "أمن الجليل" بقصد تدمير البنية التحتية الفلسطينية، فأطلق العنان لمجرميه ومسعوريه، المتعطش للدماء فأعملوا أنيابهم ومخالبهم، في أجساد النساء والأطفال والأبرياء من اللبنانيين، بحقد وضغينة، لا تتواجد إلا في قلوب الصهاينة وأمثالهم.
كما أعطى أوامره الواضحة والمشددة لطيرانه ومدفعيته لتدمير البنى التحتية، من ماء وكهرباء ومصانع على كامل الأراضي اللبنانية، وذلك تنفيذا لخطة مدروسة.
وقد هالهم ما يرتع فيه هذا الشعب الصغير من الرخاء والبحبوحة، معتقدين أن لا قائمة للبنان بعد الآن، ألا فليعلم الصهاينة ومن وراءهم بأن لبنان قد مرّ بظروف أصعب، وعرف غزاة أطغى، ولكنه كان في كل مرة، بنشاط أبنائه وذكائهم وثقافتهم، قد جعلوا من وطنهم الحبيب، طائر فينيق، يخرج من تحت النار والركام، فينفض عن جناحيه الغبار والرماد، ويحلق في السماء على عادته، وفي مجالات أعلى.
وأن بيروت التي كانت حصرمة في عيونهم، قد أصبحت عناقيد من العنب الشهي ولسان حالنا يقول: راجع راجع.. يتعمر.. راجع لبنان.. راجع يتعمر أحلى وأخضر أكثر ما كان.. أما أنت، فالويل ثم الويل لك يا إسرائيل، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليك.
ونتيجة لهذه الحرب العدوانية أكد جميع المقربين من بيغن أنه لم يعد بمقدوره بسبب مرضه السيطرة على الحكم ومجريات الأمور إذ كان لها آثار مدمرة على الاقتصاد كما سود صورتها وأصبح اسمها مرادفاً للإجرام والإرهاب عبر العالم، ونالت من سمعة بيغن؛ فبعد أن كان متسلطاً، حاكماً بأمره، أصبح حرفاً ميتاً يتخطاه الجميع بسهولة ويضعونه أمام الأمر الواقع، وقد أصبح شارون، عملياً صاحب الأمر والنهي مستفيداً، من عدم فاعلية بيغن، فأسقط من حسابه، متقوقعاً، منطوياً على نفسه، غارقاً في مرضه وأحزانه مسلوب الإرادة، لا حول له ولا قوة.
في تشرين الثاني 1982 بسبب القضية اللبنانية استدعي بيغن "المطيع" إلى الولايات الأمريكية، فذهب منحني الظهر، مطأطأ الرأس وخصوصاً، أن زوجته ليزا طريحة الفراش، وقد أبلغ نبأ موتها هنالك في واشنطن تلغرافيا.. وقد أفاد شهود العيان بأنه تحطم فوراً، وكأنه أصيب على رأسه بضربة قوية، ودخل في حالة بشعة من الانهيار العصبي، فعاد إلى القدس على جناح السرعة، بعد أن نال قسطه من التأنيب والتجريح من قبل السلطات الأمريكية.. و.. (الترحيب المنطقع النظير، بالبيض الفاسد، والبندورة المهترئة، من قبل الجالية اللبنانية والعربية، والعديد من أحرار العالم) فلدى وصوله بعيد انتهائه من مراسم الدفن، استدعي للمثول أمام لجنة "كاهان" للتحقيق بشأن المجازر التي حصلت في صبرا وشاتيلا، فأخذ يجيب مترددا متلعثماً مما أزعج القضاة والمحققين.
فأكد بأنه يجهل كل شيء عن المذابح التي دامت ثمانية وأربعين ساعة ولم يعرف بما حدث إلا يوم السبت، ومن إذاعة "بي. بي. سي) البريطانية، كما أكد بأنه لم يتلق أي اتصال هاتفي، من ضباطه المتواجدين على الساحة اللبنانية، ثم بعد تردد صرح بأنه على كل لا يتذكر كما لو كان، في ذاكرته فجوة، لتناسي ما لا يريد الاعتراف به، لكن القضاة كانوا يخفون شاهداً لاستعماله عند اللزوم، هو الجنرال رافائيل إيتان، قائد الأركان، الذي أعلن أنه اتصل به صباح السبت لإعلامه بما يجري فأجاب بيغن بحدة: مستحيل! لقد كنت ففي الكنيس للصلاة حتى الساعة الثلاثة عشر، وقد تصلب بذلك تحت القسم القانوني ثم عاد، بعد تفكير طويل، وفي جولة من التلاعب بالألفاظ، فأفاد: لم يكن الجنرال إيتان من اتصل بي، إنما أنا من اتصل بيه قبل ذهابي للصلاة، ولكن لخيبة أمله، كان شاهد جديد بانتظاره، في جعبة اللجان، هو الكولونيل "زيق زاهارن" رئيس مكتب قائد الأركان المفصول إلى بيروت، وبعد أن أقسم اليمين دحض العديد من ادعاءات رئيس مجلس الوزراء الشهم، ومما ظهر لاحقاً، فاللجنة لم تأخذ أكاذيب بيغن بعين الاعتبار ولم تستسلم أمام ابتزازه.
خلال شباط 1983، اعتبرت اللجنة أن مناحيم بيغن لم يشترك بالقرار في السماح بدخول جحافل القتلة والسفاحين إلى صبرا وشاتيلا، ولكن بالمقابل أعطي البرهان على عدم الاهتمام، مما يدينه، إذ اعتبرت بأنه أصبح على علم فعلياً بالأمر، صباح الجمعة، إنه لم يبد أي اهتمام بما جرى من أعمال إجرامية، مما يشكل تضامناً، وموافقة ضمنية، وأن تصرفه هذا، تصرفاً مستهجناً وغير مسؤول وكان بيغن خلال قراءة الحكم المحرج يقبع في مقعده، متمنياً لو تنشق الأرض من تحته وتبتلعه.
الأشهر الأخيرة من حكم بيغن، كانت نوعاً من الغرق، أو من الهروب إلى الأمام، كان خلالها رئيس الوزراء، حزيناً ساهياً، لا يكاد يمسك قلماً، أو يفتح ملفاً، بالرغم من أن لجنة تحديد المسؤوليات لم تقترب منه وأغفلته تماماً، إلا أنه يلاحق نفسه ويحاسبها على التكاليف الباهظة للاعتداء على لبنان، فقد تكلفت إسرائيل ملياراً ونصف المليار من الدولارات، حتى إخلاء بيروت.
ومليون دولار عن كل يوم من الوجود العسكري في لبنان، كما أن العلاقات الإسرائيلية، كانت تعلق على أبوابها، صور من فقدتهم من أولادها، ولائحة بعدد القتلى والأسرى اليهود، منذ حزيران 1982.
ومن حزيران 1983، أصبح غير قادر على المشي، إلا بصعوبة كبيرة، مما جعله يعتذر عن الذهاب لمقابلة الرئيس ريغن بسبب حالته الصحية، فكلف اثنين من وزرائه بالنيابة عنه، مما أجج القيل والقال بحقه، وأعطى سبباً لترويج الإشاعات، وطبعاً مع شيء من المبالغة من قبل من لهم مصلحة بتنحيه عن الحكم، وخصوصاً حزب العمال، ومن هنا طالبوا بانعقاد جلسة خاصة للكنيست في العشرين من تموز، انعقدت الجلسة، وفي جدول أعمالها بنداً واحداً، دراسة حالة بيغن الصحية وصلاحيته للبقاء في مركزه والقيام بالمهام الملقاة على عاقته بشكل صحيح، وهكذا تعين عليه إما الإخلاء أو الرحيل، وقد جلساتها مفتوحة حتى التوصل إلى قرار نهائي.
في الثامن والعشرين من آب، وقد تعذر على النواب العماليين الحصول على الأكثرية المطلوبة لإقالة بيغن، قرر آخر "عشاق صهيون" وبناء الكيان الصهيوني الإرهابي، الاعتزال والابتعاد عن الحياة العامة فوقف وصرح قائلاً، وقد بدأ اليأس على وجهه: في بعض الأوقات، يجب على الرجال، الاعتقاد بأنه عليهم، التوقف والإخلاد إلى الراحة، بالنسبة إليّ، لقد دقت الساعة وقد انتهى الأمر، كلا! لم يعد بإمكاني الاستمرار، ثم خرج من الكنيست لا يلوي على شيء.
والجدير بالذكر، أن أصدقاءه أعضاء الليكود، ومؤيديه الأحزاب الدينية، أحدثوا هرجاً ومرجاً فتركوا الكنيست صاخبين، ولحقوا به بقافلة من عشرات السيارات إلى منزله، حيث ناشدوه بإلحاح متوسلين، للعدول عن قراره والبقاء في مركزه، كما أن رفاقه القدامى، من القتلة الإرهابيين توافدوا على جناح السرعة، وقد تنادوا من كل حدب وصوب، وخيموا طوال الليل تحت نوافذ "فيلته الرسمية" الكائنة في شارع "بلفور" بالقدس، يطالبونه بالبقاء هازجين.
أما بيغن فبقي مصراً، لا يتزحزح، لكنه إكراماً للمطالبين ببقائه، قال: سأبقى نزولاً عند رغبتكم "الكريمة" لمدة ثمانية وأربعين ساعة فقط، وهكذا كان وانتهى كل شيء بالنسبة إليه.
بالرجوع قليلاً إلى الوراء، والعودة بالذاكرة نجد مناحيم بيغن هو مستقيل عملياً، منذ الخامس عشر 1983، إذ كان قد أصبح مريضاً أكثر من أي وقت مضى، في جسمه كما أنه أكثر مرضاً في رأسه، وعذاباً في نفسه من جراء حرب لبنان، مما جعله حزيناً كئيباً، غير قابل للشفاء لدرجة أنه لم يشترك بالمراسم الدينية، في الرابع من تشرين الثاني 1983، التي جرت في ذكرى وفاة زوجته "أليزا".
في أوائل 1984 خلال الليل، غادر فيلا شارع بلفور، إلى مسكن متواضع، من ثلاث غرف في ناحية "بيت –حاكريم" الشعبية، حيث أغلق بابه، وأسدل ستائره، رافضاً استقبال الزائرين.
والجدير بالذكر أنه رفض فتح بابه لوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الذي مر بالقدس في حينه، ولم يعد يستقبل، من الطبيعي أن لا يتكلم أيضاً إلا مع نفسه إذا شاء، في نوبات الهلوسة، يقال: بأنه كان يكتب مذكراته، من يدري؟
وفي الختام، لابد لنا، من القول بكثير من الصدق والواقعية "مبتعدين عن عواطفنا الشخصية اللدودة" أن الكيان العبري قد تغير كثيراً، حتى بنظر أهله، فهو في ورطة لا نهاية لها، وهو دخيل على المنطقة، محاط بالأعداء، من جميع الجهات، وعلى رأسهم سورية الأسد، التي تزداد قوة يوماً بعد يوم.
وقد أصبح جيشها الفتي، من حيث العدة والتقنية أقوى جيوش الشرق الاوسط يتحلى بالإيمان الوطني والعقيدة القومية.
وبذهاب بيغن وهو آخر من كانوا ينادون بإسرائيل الكبرى، سقط الحلم وتبدد الوهم، فأرض ميعادهم لم تعد كذلك.
من هنا بدأت هجرة معاكسة، إذ غادرها العلماء والفنيون، وأجيال الشباب، فالأرض التي وعدوا بأنها ستعطيهم اللبن والعسل، أنبتت لهم السهام والحراب، ففي كل زاوية، متربص، ووراء كل منعطف ملثم يتمنى الانقضاض عليهم بما تيسر له من السلاح، حتى لو كان أعزلاً لا يملك من العدة سوى قبضتيه الفتيتين، ودماء تغلي في عروقه.
ولا بد لليل أن ينجلي.
--------------------------------------
اضغط هنا للمشاهدة المقدمة والجزء الاول
اضغط هنا للمشاهدة الجزء الثانى
اضغط هنا للمشاهدة الجزء الثالث
تابعت الولايات المتحدة حياتها، بطريقة أو بأخرى في عهد رئيسها رونالد ريغن، خلال حقبتين، لقد عايش الأمريكيون الكثير من الرؤساء غيره، ومن المحتمل أن بعضهم كان أسوأ منه، لكنهم أصبحوا في عالم النسيان منذ أمد بعيد، هكذا كان الرئيس أوليس سمبسون غرانت، فهو ابن مزارع من ولاية أوهايو، أصبح جنرالاً إنه الجنرال المنتصر في حرب الانفصال، أي الحرب الأهلية المدمرة، كان مدمناً للخمرة، يعاقرها منفرداً، بعيداً عن الناس، بصورة شبه متواصلة، حتى أصبح مصاباً بالتسمم من جرائها وكثيراً ما كان يشاهد مخموراً كئيباً مقطب الجبين، متبرماً يخرج عن طوره في ثورة غضب، غير مبررة، رغم كل ذلك، انتخب رئيساً للبلاد مستفيدا من الهياج الكثير، والإحباط، الذي سيطر على أمريكا، إثر مقتل الرئيس "أبراهام لنكولن".
استعاض بخمرة السلطة والحكم، عن الخمرة المقطرة من الحبوب، التي كان يفضلها فيغبها بنهم، في محاولة للسيطرة على سأمه وتبرمه بأحوال البلاد، وكان ذلك مرحلة عابرة باعتقاد المحيطين به، والعارفين بأمره، كما أن هذا الزهد بالخمرة، لم يساعده للتوصل إلى الحس السياسي المطلوب، والتفكير السليم، فأحاط نفسه بشلة من المستشارين الجهلة، يأخذ بآرائهم المرتجلة وينفذ توصياتهم المسلوقة، دون درس أو تمحيص، وكثيراً ما كانت لمصالح شخصية ضيقة، وفي خطوة ناقصة غير مسؤولة، قام بها تنكّر لحزبه، الحزب الذي حمله إلى السدة.
إثر ذلك تركه الجمهوريون، فلم يتمكن من العودة إلى البيت الأبيض كما كان يشتهي، فعاد إلى سيرته الأولى في معاقرة الخمرة وقد حاول أن يمتلك المقدرة والسلطة المادية، ولكن دون جدوى فانزوى منفرداً وقد أصيب بتآكل ذاتي وضيق عصبي مدمر مما أفقده دفاعه ومناعته الصحية ضد الأمراض وفي خاتمة المطاف خرّ صريع سرطان قاتل، أصيب به لسانه.
أما البرازيل، فمن جهتها، عندما نال منها انهيار اقتصادي مدمر، عقدت آمالها الجسام على معجزة يقوم بها النجم الساطع "تانكردو نافذ" أما الاتحاد السوفياتي وقد وصل إلى سدة الحكم "ميكائيل غوربتشيف" الرجل الواقعي المثالي الذي كانت البلاد تنتظر منه إدخال دماء فتية جديدة إلى الإدارة، ويظهر بأن السوفيات نسوا أو تناشوا، داء الريقان المزمن الذي أقعده قيد المعالجة أربع سنوات، لا يقوى على الحركة من جراء فقر متقدم في الدم، الذي يصيب عادة المصابين بالريقان.
كثيراً من رجال العلم لا سيما العلوم السياسية، ومن بينهم أحد وزراء الرئيس جورج بومبيدو يعتقدون بأن الأمراض التي تصيب بعض الزعماء والقادة تؤثر سلباً على مستقبل البلاد، لكن أقل بكثير مما يحاول تصويره البعض من المغرضين.
من المؤكد أن هذا الرأي لن يحظى بتأييد جماعي من قبل علماء الاتحاد السوفياتي الذين أسقطوا الرئيس "أندره شاكاروف" أو اليهود الروس، وثوار الأفغان، وجياع البرازيل، ولا حكام الولايات المتحدة الأمريكية، ورجال المال والاستثمارات وأعضاء الكونغرس، الذين حثثوا في فضيحة إيران كات.
بالمقابل فإذا كان من المؤكد أن النظام السوفياتي، بقي يعمل ويدور تلقائياً في عهد "أندروبوف-تشرنانكو" والبرازيل المتحشرج لم يغرق، كذلك الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد ريغان، الذي يغط بالنوم تابعت سيرها بالتوجيه الذاتي الأتوماتيكي، فذلك بالحظ والفال الحسن، إذ لم يقطع عليها جبل من الجليد القائم، والبلاد سائبة دون أي رقيب، أو ربّان ماهر يسهر على حسن توجيه دفة الحكم.
إن إدارة البلاد والشؤون العامة لا يمكن أن تعتمد على القدر والصدفة، قد ترى الديموقراطيات أن ممارسة الحكم، تتطلب الكثير من القوة والتحرك بصورة دائمة من قبل البرلمان، وليس عليها الاهتمام، بصورة رئيسية، بصحة رئيس البلاد؛ فهذه مسألة ثانوية بالنسبة إليهم، فالرئيس ليس سوى واجهة، أو عنوان وفي أحسن الأحوال، المتكلم باسم البلاد.
أما الحكم عملياً فهو مسؤولية السلطات التشريعية أولاً، والتنفيذية ثانياً، فهذه السلطات هي المسؤولة عن شؤون البلاد وسلامتها، وفي هذا المجال تسهر شركات الطيران بيقظة ودقة، على صحة موظفيها الذين يطيرون، من طيارين وملاحين ومضيفين، ولولا ذلك لما وثق بهم المسافرون، على الرغم مما يقوله البعض، بأن المرض يفشل أكثر الناس دقة؛ فيهاجم دون سابق إشارة أو إنذار؛ حتى أكثر الأشخاص صلابة وحيوية ينسون هذا الواقع فمناحيم بيغن، نسي هذا الأمر، ودفع الثمن غالياً، إذ أغرق بلاده إسرائيل في أكبر كارثة خلال تاريخها الحديث.
يقول تي تسنغ الفيلسوف الصيني: إن خيول الحرب، تبصر النور على الحدود، وهكذا بالنسبة إلى بعض الرجال، فقد ولد مناحيم بيغن وعاش في برست –ليتوفسك من ليتوانيا وهي تقع عند ملتقى نهرين، نهر الموكافتس والبوتح، وهذه المدينة كانت منذ القدم موضع تجاذب بين بولونيا وروسيا المتلاصقتين في هذا المكان.
فكانت بولونية حتى 1795 ثم روسية إذ أن الامبراطورة كاترين الثانية الكبيرة ضمتها إلى امبراطوريتها الشاسعة، وفي حقبة ثالثة، احتلها الألمان، وهم في طريقهم سنة 1915، وبقوا فيها حتى 1918، فعادت بولونية سنة 1921، ثم عاد إليها الروس السوفياتيون سنة 1939 وفي مرورهم كالبرق اقتلعها الألمان من أيدي الروس بعد سنتين، ثم انسحبوا إلى غير رجعة في 1944.
وبالرغم من أن السكان يرنون بأنظارهم ويحنون بقلوبهم إلى بلدهم الأم "ليتوانيا" فهم سوفياتيون منذ 1945، وهذه شريعة الأقوى، فلا مجال للعجب بأن يثور بعض أفراد الجالية اليهودية، ذوي العناد وصلابة الرأس كمناحيم بيغن، وقد كانوا عبر التاريخ، عرضة لمذابح البولون الكاثوليك، والألمان المتجولون، والطغاة الروس، ففي هذه البيئة الملوثة بالظلم والاضطهاد ترعرع مناحيم بيغن محاطاً بالكراهية، يتآكله الحقد والضغينة، كان يجيد لغات عديدة، ولكنه لا يشعر إلا أنه بولوني، أما قلبه فلم يكن يخفق إلا حنيناً إلى القدس، وكان يعتنق ويعتمد العنف للوصول إلى مبتغاه بالرغم من احترامه الشديد للشرائع الدينية اليهودية، ولد سنة 1913 في "برست" حيث أمضى طفولته وشبابه نشيطا سريع الحركة، كما كان مشاكساً محباً للعراك، وخصوصاً عندما يغامر فيدخل إلى الأحياء المسيحية، ولاسيما الأحياء المتحدرة من أصل روسي لا يخرج منها إلا وقد أثخن بالجراح، وقد غطت وجهه وكامل جسده الكدمات، وكان حلمه الوحيد الرجوع في يوم من الأيام إلى صهيون، أرض الميعاد.
ولن يتمكن من ردعه البريطانيون أو العرب وفي 1941 اجتاحت الجحافل النازية مسقط رأسه "براست" فولى الأدبار هارباً، ونجا بجلده إذ أن جميع أفراد أسرته قضوا نجبهم في "أوشويز" معسكر التصفية الشهير في بولونيا ما عدا شقيقته، التي كانت عشيقة أحد الضباط الروس فرافقته لدى انسحابهم قبل دخول النازيين بأيام معدودة.
أما مناحيم فأخذ يتسكع متلطياً في أرجاء أوروبا المشتعلة بالنار والكبريت، تحت أسماء مختلفة وجنسيات شتى، حتى وصل إلى اسبانيا حيث كانت الصهيونية العالمية تنظم رحلات سرية، للفارين اليهود تنتهي بهم في فلسطين، وذلك بموافقة ضمنية من السلطات البريطانية، فانضم مناحيم إلى إحدى الرحلات ودخل كغيره إلى فلسطين، وبهذا تحقق حلمه ونال مشتهاه.
فلسطين وقدسها، يا مهبط الوحي ومهد الأنبياء، يا مولد عسى، يا أرض الإسراء والمعراج، يا أرض كنيسة القيامة والمسجد الأقصى أيتها الأرض المقدسة، التي تضم رفات معظم أنبياء اللـه الصالحين، لقد أصبحت مأوى مجرمين وملجأ الصهاينة والإرهابيين، وأخيراً لا آخراً، وفد إليك كبيرهم "مناحين بيغن" الذي أصبح فيما بعد، علماً من أعلام الصهيونية والعنصرية، التي أنشأها ونظمها "تيودور هرتزل" وأطلقها تعيث فساداً في جميع أقطار العالم، تحوك المؤامرات فتغتال وتقتل، كل من يقف حجر عثرة في وجه مخططاتها التوسعية على حساب الأمم والشعوب وفي هذا المجال قتلت الوسيط الدولي، "داك همرشولد" إذ كان له رأي يخالف أهدافهم المشبوهة، وبعد موت "هرتزل" سنة 1904، خلفه من هو أكثر منه إجراماً وحقداً، "دافيد بن غوريون" البولوني الأصل أيضاً، وقد ولد في ضواحي فرصوفيا "بلونسك" التي مع غيرها مع الأزقة أصبحت ما يسمى "الفيتو اليهودي" حيث حشر الألمان الشعب اليهودي واقاموا حولها الجدران العالية وأغلقوا المداخل والمخارج ومنعوا عنهم المؤن وكذلك قطعت الماء والكهرباء فكانوا يستعملون مياه الشتاء، أو ليس السماء تمطر على الأبرار والأشرار، وكان الألمان قد قرروا إبادة اليهود وتنظيف الأرض من رجسهم، وفي هذا المجال كان رجال "الغستابو" يشنون الغارة تلو الغارة فيقبضون على كل من تطاله أيديهم ويكدسون فوق بعضهم، حتى تضيق بهم عشرات الشاحنات التي تنقلهم إلى معتقلات الإبادة وأشهرها: أوشويز، وتريبلنكا، حيث ينتهي بهم المطاف في الأفران أو المخانق؛ ولهذه الأسباب وسواها، كان بن غوريون كالكثير من غيره من اليهود يحملون في قلوبهم غيظاً وحقداً على موجة مناهضة الصهيونية التي عمت أوروبا.
فلجأ إلى فلسطين وقد جعل نصب عينيه هدفاً أكبر وأوسع بكثير من موطن لليهود على الأرض الفلسطينية، الذي وعدهم به اللورد بلفور، وزير الخارجية في الثاني من تشرين الثاني 1917 فكان بن غوريون يخطط لإنشاء دولة عبرية خالصة، ليستولي على الأرض العربية فيطرد أهلها وأصحابها ويهجرهم في مشارق الأرض ومغاربها.
لدى وصول مناحيم بيغن إلى فلسطين، رأى أن بن غوريون قد خطا خطوات واسعة في مجال التمدد والتوسع الصهيوني فألف الأحزاب وأقام المؤسسات والمنظمات التي تعنى بشؤون اليهود وتحمي حياتهم وممتلكاتهم ومنها: "الهيستدروت" للشرون العمالية، وحزب "ماباي" الاشتراكي، للشؤون السياسية، والهاغانا، سنة 1920 للشؤون الإرهابية، وبكلمة واحدة فإن كل الشؤون الصهيونية تحمل بصمات بن غوريون، وأن الكيان العبري يخطو إلى الأمام فعلاً، وهذا ما يتمناه بيغن من صميم قلبه، ولكن، ليس بدونه، ودون أن يكون من أكبر عناوينه.
وتحقيقاً لأهدافه، كان لابد له من عصابة يترأسها، تبزّ الهاغانا في مجالات العنف والإرهاب، وفي هذا المسعى أخذ يتقرب مغازلاً من أكبر وأشرس عتاة الهاغانا دفيد رسيال، وإبراهام شترن، إذ كانا يشاركانه الرأي بضرورة الهجوم المعاكس، بشراسة وضراوة على الهجمات التي تقوم بها المقاومة العربية على المستوطنات العبرية، بمساعدة رفيقيه، وفي عجلة من أمره جمع حوله جيشاً ضم غلاة القتلة والإرهابيين سنة 1931 دعي فيما بعد شترون على اسم أحد منظميه رفيق "مناحيم" إلا أن هذا الأخير احتفظ بقيادته.
كما ألف حزباً سياسياً في مواجهة حزب "بن غوريون" حزب "هاروت" وتتلخص أهدافه بكلمتين "ارتيز" ومعناه "أرض إسرائيل" الذي يتجاوب مع أحلام العديد من التوسعيين الصهاينة، والتي تعني استعادة جميع الأراضي التي كان يسكنها اليهود، أيام التوراة، زاعمين أنهم أحفاد أصحاب هذه الأرض الذين قتلوا أو هجروا منها بالقوة ظلماً وعدوانا، والتي تضم الأرض التي تمتد من البحر الأبيض المتوسط حتى الضفاف الغربية لنهر الأردن.
سنة 1970 اعتزل بن غوريون الحياة السياسية، وكان في الرابعة والثمانين من العمر، وقبل موته في الأول من كانون الأول، حرّض مواطنيه على إعادة الأراضي، ومنها القدس الشرقية، التي احتلتها إسرائيل، في حرب الأيام الستة، (وإلا فإنهم سيدفعون الثمن غالياً) وكأنها كانت نبوءة إذ في السادس من الشهر نفسه أي بعد خمسة أيام فقط من موته، وبقيادة أسد سوريا وبطلها وهو اسم على مسمى الرئيس حافظ الأسد الذي لا ينام على ضيم ولا يتهاون في الحقوق العربية، وفرعون مصر الجديد أنور السادات، هجم الجيش السوري المتعطش لتحرير الأرض الوطنية المقدسة والجيش العربي المصري فألحقوا بالصهاينة هزيمة نكراء، محطمين أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
وفي الحادي عشر من كانون الأول من السنة نفسها، ألف مناحيم بيغن، حزب الليكود الذي ضم اليمين الوطني، والأحزاب الدينية ووسط اليمين، مما سمح له بالفوز في الانتخابات في 17 أيار 1977، فكان انتصاره منعطفاً تاريخياً إذ لأول مرة في تاريخ إسرائيل ينهزم العمال أما اليمين المتكتل بزعامة مناحيم بيغن، الذي يطلق أخصامه عليه تهكماً، "الجنتلمان البولوني".
مناحين بيغن يصاب في قلبه:
بعد انتصاره في الانتخابات بيومين، سقط مناحيم بيغن فريسة ذبحة قلبية مزدوجة، بالاشتراك مع التهاب حاد في غشاء القلب، وكان قد صرح مرارا عديدة، بأنه لم يبق له في الحياة سوى سنوات معدودة، فلو قدر له أن يبلغ السبعين من العمر، فسينسحب ليس من البرلمان فقط بل من كامل الحياة العامة، مفسحاً المجال أمام من هو أصغر منه سناً لإكمال المسيرة؛ مما يعني أنه على معرفة تامة بحالته الصحية، وبقدرته على متابعة هذا النمط المضني من الحياة فهو منذ خمس سنوات يشكو من ارتفاع في نسبة السكر لديه.
وكان يعلم وهو مقتنع بأنه بعد الرابعة، أو الخامسة والستين، يدخل الإنسان في دوامة لا تنتهي من أمراض الشيخوخة: نشاف وتصلب في الشرايين وارتفاع في الضغط الوريدي والبروستات وغيرها وغيرها..
وأخيراً بالقلب كما مر معنا أعلاه، وبالفعل كانت إصابة بالغة ومعقدة، بناء على تصريح البروفسور "مرفن غوتستمان" رئيس قسم الأمراض القلبية في مستشفى حداثه بالقدس، وقد قضى بيغن ستة أسابيع طريح الفراش لاستعادة صحته.
ولدى عودته إلى مركز عمله، هذا المركز الذي طالما اشتهاه، وجدّ وكدّ للوصول إليه، راح يتحقق من الملفات والشؤون التي عليه أن يدرسها ويقضي في أمورها المعقدة.
شعر بالتعب، وتأكد من أنه ليس في أحسن حالته الصحية، كما أكد له الأطباء، إذ لم يكن العمل المتراكم بانتظاره يترك له مجالاً للراحة والاستجمام، فيستعيد بعض قواه، الذي فقدها وهو طريح الفراش.
أما أهم ما كان ينتظره فهو ملف العلاقات الإسرائيلية، مع أقوى أعدائه الطبيعيين وهي مصر، كما أن من أزعجه أكثر من غيره، كان وزير خارجيته موشي دايان، وقد صرح لبعض المقربين بهذا الخصوص شاكياً لا أدري كيف أصبح هذا وزيراً في حكومتي، من المؤكد أنني لم أكن بكامل عقلي عندما قبلت به.
أما فوز مناحيم بيغن في الانتخابات وتكليفه بتأليف الحكومة فكان له وقع الصاعقة على الرؤوس فالإرهابي الكبير، رئيس عصابات شترن وارغون والعدو الألد للعرب، وخصوصاً الفلسطينيين منهم، لا يمكن أن يتعاطى معهم إلا بما تمليه عليه طبيعته الشريرة، ومن هذا المنطلق لابد أن تطلب الرحمة لحكومة العمال بعد التعرف إلى بيغن.
أما الرئيس السادات فخلافاً للمنطق وبناء على المعلومات المرسلة من قبل البعثات الإسرائيلية، فإنه كان يقوم باتصالات سرية على مستوى رفيع، ومع شخصيات نافذة لتمهيد الطريق إلى محادثات في أمر السلام بين مصر وإسرائيل.
في هذه الأثناء كان قد وصل إلى مسامع السادات، عن طريق الأمريكيين ما يعانيه بيغن من مرض وتدهور في قواه الجسدية، مما يجعله سلساً وأقل تصلباً وعنادا، كما أن الرئيس كارتر كان يدفع السادات في هذا الاتجاه وينصحه بأخذ المبادرة.
ثم إن الرئيس السادات راهن للوصول إلى هدفه على أن بيغن المريض يبغي وبأي ثمن أن يقوم بإنجاز هام قبل موته يضع اسمه في مصف بن غوريون أو مصف أعلى، في تاريخ الشعب اليهودي، هذا ما همس به في أذنه نيقولا شاوشسكو، رئيس رومانيا، الذي تطوع للعب دور الوسيط، في هذه البقعة من العالم، التي لم تكن تنتهي الحروب على أراضيها.
ومع كل هذه المعطيات كلف السادات وزير خارجيته اسماعيل فهمي، بصورة لا مجال فيها للجدل، بأن يبلغ تمنياته إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقد زاد قائلا: إنني على استعداد للذهاب إلى القدس، لمباحثته إذا لزم الأمر، مما جعل شعر رأس فهمي ينتصب كالقنفذ، إلا أنه لم يجد نفسه بحاجة إلى تنفيذ أمر رئيسه، إذ أن الخبر قد سبقه فوصل إلى إسرائيل بطرق ملتوية.
وفي مراهنة على التقرب من السادات، قام بيغن ووزير خارجيته دايان بخطوتين، إلى الأمام في هذا الاتجاه، ليست أقل سرية ولكنها حقيقة ملموسة.
وهكذا علم الرئيس السادات بأن ليبيا، تقوم بتنظيم ثلاث مؤامرات برسم التصدير إلى مصر والعربية السعودية، والسودان، كان قد اكتشفها جهاز المخابرات الإسرائيلية، كما أكد للسادات بأن إعادة سيناء لمصر مسألة قابلة للبحث، أما احتلال الجيش الإسرائيلي للأراضي الإسرائيلية أصلا، حسب التوراة، فنهائية وغير قابلة لإعادة النظر.
وبناء على اقتراح السادات وافق بيغن، على إشراك الحسن الثاني، ملك لمغرب، في عملية التفاهم بينهما، وهكذا تم لقاء سري في الرباط بين حسني مبارك نائب الرئيس المصري وموشي دايان الذي وعد بأن إسرائيل ستذهب بعيداً جداً في طريق التفاهم والسلم وهكذا فعلاً ذهب الرئيس إلى الكنيست.
السادات يحاضر في الكنيست:
قام الرئيس السادات، بالخطوة الحدث، التي تلفزت في حينه، عبر العالم وذلك في الواحد والعشرين من تشرين الثاني 1977 في الساعة 16 والقى في البرلمان الإسرائيلي، محاضرة أدهشت العالم بالجرأة والصراحة التي اتسمت بها، فقد اعترف رسمياً بالكيان اليهودي دون أن يخون الشعب الفلسطيني أو الشعب المصري بحسب رأيه.
إذ أنني أقدم لبلادي سلماً مشرفاً ودائماً، صم انتقل ليأخذ مكانه، وسط عاصفة من التصفيق وصرخات الاستحسان، من قبل أعضاء الكنيست الإسرائيلي، ولكن سرعان ما تجهم وجهه، إذ خلافا لما تعهد به دايان في لقائه لحسني مبارك في الرباط، لم تقدم إسرائيل التنازلات المطلوبة، إذ صرح بيغن جازماً حازماً، أن القدس لن تكون موضع بحث، فهي عاصمة إسرائيل التاريخية، وستبقى إلى الأزل، وقد زادت خيبة أمل الرئيس فيما بعد أثر المحادثات التي جرت بينه وبين بيغن، بحضور الرئيس الأمريكي كارتر في مخيم داوود بالولايات المتحدة، والتي خلالها لم يؤت على ذكر الفلسطينيين من قريب ولا من بعيد، حتى الاتفاقية الثنائية التي وقعت في 26 آذار 1979 في واشنطن لم ينتج عنها، سوى سلام بارد، وهي نوع من الحياد من قبل الطرفين وقد صرح لحاشيته بأن أتعابه لم تعط ثمارها.
حتى هذه الاتفاقية المخيبة للآمال، وصلت مراراً عديدة، إلى حافة الفشل، مما جعل كارتر يتدخل لترطيب الجو، وإعادة الطرفيين إلى طاولة المحادثات، أما الخلافات فكانت سخيفة ولا علاقة لها بالشؤون السياسية إطلاقاً، إذ كان العجوز بيغن، في نوبات من الغضب تنتابه من وقت لآخر، ودون ما سبب ظاهر، يرفع صوته ويقلب الأوراق بعصبية ظاهرة.
وفي تحليل لبعض علماء النفس الأمريكيين، أن عقله الباطني كان يعود بالذاكرة إلى المذابح الجماعية بحق الشعب اليهودي في أوروبا، والتي شاهد بعضها وهو صغير بأم عينه، كما عزى بعض الأطباء الأمر إلى تقدمه بالعمر وحالته الصحية التي لم تكن على ما يرام.
بيغن يدخل المستشفى مجدداً:
بالفعل أدخل مناحيم بيغن إلى المستشفى في أيلول، تحديدا حيث بقي أسابيع طويلة مصاباً بنوبة قلبية حادة، وبعد خروجه من المستشفى بأربعة أشهر فقط أصيب بنوبة ألم حاد في صدره، إثر مشادة عنيفة جرت بينه وبين سفير الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل، وفيما بعد خروجه وجه اللوم بقساوة إلى طبيبه الخاص، لإفشائه خبر هذه الإصابة، وأعفاه من مهماته.
وهذا الحادث بحد ذاته يؤكد بأن مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل، لم يعد محصناً صحياً، بل أصبح عرضة للإصابة بمثل هذه النوبات ولو لأتفه الأسباب.
وفي هذا المجال كثر القال والقيل، وتعددت الأقاويل والأساطير، ومنها مات صيغ بشكل تساؤل بريء أقلها: ألم يأت بيغن إلى الحكم متأخراً؟ إن بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى مصلحة البلاد؟ وتساءل غيره: هل ما زال بمقدوره أن يدير شؤون البلاد كما يجب؟
أصبحت صحة رئيس الوزراء بيغن، حديث الساعة، على كل شفة ولسان من رجال ونساء، فهو حديث سيدات المجتمع في الصالونات، كذلك بين العمال، أما في المساء فهو الحوار الوحيد بين رواد البارات وعلب الليل.
وفي أحيان كثيرة يحتدم النقاش بشكل لا يخلو من الحدة بين مؤيد ومعارض فيصل بينهم الأمر إلى التشابك بالأيدي وتبادل الشتائم، خصواً بعد تناوله بضع كؤوس إذ تلعب الخمرة بالرؤوس مما جعل من ذلك قضية وطنية.
منذ 27 حزيران 1978، شاع في إسرائيل أن ارتفاعاً مهماً في مستوى السكر، قد حصل بيغن، فاستدعي البروفسور "ميرفن كوتسمان" أمام لجنة حكومية عليا للتحقق من الوضع الصحي لرئيس الوزراء.
فأعطى تقريراً مفصلاً عما كان يعاني منه، والعلاج الذي يخضع له؛ ولدى سؤاله عن الذبحة القلبية التي كان قد أصيب بها منذ ثلاثة عشر شهراُ، عرض الأمر بشكل دقيق وواضح لكنه لم يتمالك نفسه، مرة أخرى، من الإضافة إنها مرت بسلام ولم تترك آثاراً سلبية.
لكن ذلك لم يمنع محرر جريدة "الجريزلوم بوست" من الاعتراف قائلا: هذا كلام غير موضعي، وذلك لا يمنعه من أن يكون مناحيم بيغن رجلاً مريضاً، وهو عرضة للمرض في كل ساعة وحالته الراهنة هي مشكلة سياسية، إذ أن ذلك يمنعه من السيطرة على مرؤوسيه؛ وبالفعل وجد بيغن نفسه مجبراً على إجراء بعض التغييرات المهمة، في تركيبة وزارته.
وعلى الرغم من جميع المحاولات لذر الرماد في العيون أصبحت صحته مشكل الدولة العبرية، فعيون النواب تراقبه، والصحافة لا تغفل عنه، وفي هذا المجال صدرت الصحف الإسرائيلية في أيار 1979، وفي صفحاتها الأولى أن بيغن قد فقد البصر بعينه اليمنى، إثر انسداد الشريان الذي يمون هذه العين بالدماء.
أما أطباؤه فحاولوا كالعادة التقليل من أهمية الحادث زاعمين أن تلك مسألة بسيطة، لا أهمية لها؛ تصيب كل الرجال، في عمر معين، خصوصاً عند المصابين بارتفاع نسبة السكر، بالفعل لم يبد على بيغن آثار الإصابة مستمداً من الضعف قوة، فحافظ على الاستمرار في مزاولة جميع نشاطاته الرسمية.
لكن ذلك ليس لمدة طويلة؛ إذ سرعان ما ضرب في مكان آخر، وفي هذه المرة، كان دور الشريان الممون الدماغ بالدماء، فارتفع ضغط الدم في شريان العين، مما سبب نزفاً داخلياً فيها، ثم احتقانا في كامل منطقة العين اليمنى لا يخفى على أحد.
أخيراً لا آخراً خلال شهر كانون الأول من نفس السنة 1979 ظاهرة دراماتيكية مرضية، حدثت لبيغن في البرلمان الإسرائيلي، على مرآى من جميع أعضائه، إنه البرلمان الذي يعرفه حق المعرفة إذ كان ما زال يتردد إليه منذ ثلاثين سنة.
لكن في هذه المرة ضاع مقعد الوزراء، فأخذ يبحث في جميع الاتجاهات محتاراً حتى تأبطه أحد وزرائه واصطحبه إلى مقعد إضافة إلى ذلك لاحظ الصحفيون، الذين يراقبون ليلاً ونهاراً أنه أصبح عصبي المزاج، شديد الحساسية، يتبرم بموظفيه وزواره، لكن ما من أحد منهم خطر على باله إعلام أطبائه بهذه التصرفات المستجدة لدى رئيس الوزراء، وبعد أقل من شهر، نقل محمولاً على وجه السرعة إلى غرفة العناية الفائقة، مصاباً بذبحة قلبية ثانية، حيث حصل كما في كل مرة، على العناية الممتازة.
فتخطى الأزمة، وتماثل للشفاء، على نحو أبطأ مما جرى سنة 1977 وفي سنة 1981 تحسنت صحته بعض الشيء بشكل عام مما سمح له بالتحرك سياسياً بشكل أفضل.
فعلى الرغم من معارضة حزب العمال العنيفة، تمكن بيغن من النجاح في الانتخابات التي جرت في حزيران، بفضل تكتل اليمين والأحزاب الدينية حول الليكود، فكلف بتأليف الوزارة في 5 آب بأكثرية ثلاثة أصوات فقط.
فأسند حقيقة الدفاع إلى الجنرال آريل شارون، المعروف بحزمه وتشدده، في التعاطي مع الفلسطينيين وبهذا يكون قد اختار لحكومته الجديدة شعار التصلب، فقد دق جرس الصقور، مع هذه الحكومة تكاثرت الأزمات والصعاب، وخصوصاً على صعيد المدفوعات العامة فقد كان الجيش يبتلع ثلثي الميزانية، ناهيك عن الديون العامة.
كما أن علاقتها مع واشنطن لم تكن في أحسن حالاتها، واعراتها بعض الفتور والاختلاف في الرأي على أكثر من صعيد، منها: الغارة الجوية على العراق، التي أمر بها شخصيا رئيس الوزراء بيغن، في السابع من حزيران 1981، ضد المفاعل النووي، الذي أنجزه الفرنسيون للعراق، كذلك ضم مرتفعات الجولان السورية في الرابع عشر من كانون الأول.
قبل ذلك في العاشر من تشرين الأول كان يوم حزين بالنسبة بيغن، إذ توجه على رأس بعثة، من أعلى المستويات إلى القاهرة لحضور مأتم الرئيس أنور السادات الذي اغتاله بعض المتطرفين قبل ذلك بأربعة أيام أثناء استعراض عسكري بمناسبة الذكرى الثامنة لحرب يوم الغفران، كذلك في الثامن عشر منه، اشترك بمأتم وزير خارجيته موشي دايان الذي توفي في إحدى مستشفيات تل أبيب.
بشكل عام، لم تكن هذه السنة هي الفضلى بالنسبة إلى مناحيم بيغن، كانت رمادية قاتمة اللون، يتمنى مخلصاً أن تنتهي بخير، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أصيب بتشنج عصبي، وهو في حمامه فوقع أرضاً بقوة، ونقل إلى المستشفى على عجل، حيث تبين أنه قد أصيب بكسور في أعلى الفخذ "الورك".
على الصعيد الصحي، وخلافاً للعادة التي جرى عليها الزعماء، والرؤساء وخصوصاً غولدا مائير، لم يحاول مناحيم بيغن إطلاقاً إخفاء مشاكله وصعابه الصحية، عن الرأي العام، ولم يكن شخصياً يتهرب من مناقشة حالته.
أما الغريب في هذا الأمر، فقد نصب أحد محرري صحيفة "هاآرتز" نفسه مدافعاً ومحامياً، عن الرؤساء، إذ غداة إصابة بيغن تصدر الصفحة الأولى في الجريدة المذكورة، مقال شديد اللهجة، يؤنب فيه المحرر الأطباء، الذين يبالغون في تصوير أهمية الأمراض والمشاكل الصحية، التي يتعرض لها رجالات الحكم.
كما أن مناحيم بيغن، كتب رسالة يشرح فيها بجرأة وصراحة حالته الصحية، نشرت في مجلة "جاروزلم بوست" يقول فيها: أريد أن أشرح لكم ما يتعلق بالمرض الذي أعاني منه، لا أحاول إخفاء حالتي، وأطلب من أطبائي أن يقولوا الحقيقة للشعب الإسرائيلي، فعلى سبيل المثال، طلبت منهم توضيح الإنسداد الذي حصل لأحد شرايين الدماغ، الذي تسبب بتدني قوة البصر في عيني اليمنى، وكنت قد طلبت منهم التصريح بذلك إلى الصحف منذ سنتين وفي هذا المجال كنت شديد الحظ حيث أن هذا الشريان كان صغيراً جداً فلو كان أكبر من ذلك فلربما كنت أصبت بالشلل وقد عانيت من هذا الانخفاض في النظر، لعدة أشهر، بعد خروجي من المستشفى، أما الآن فلم يعد عندي أية مشاكل بالنسبة لنظري.
وكما هو معروف، فقد أصبت بذبحتين قلبيتين، ولكني تجاوزتهما وخرجت منها سليما معافى باعتراف الأطباء، أما الآن فقد أصبت بكسر جنبي، وقد طلبت من أطبائي قول الحقيقة كاملة إلى الجمهور، وهنا لابد لي من القول، أن السياسيين أنفسهم يمكن أن يصابوا بالمرض ثم يعودوا إلى مزاولة أعمالهم، بعد الشفاء التام، تماماً كغيرهم من الناس، إنني أفهم تماما، أن يخفي بعض السياسيين، مرضهم عن الشعب، خوفاً من استغلال منافسيهم السياسيين.
أما فيما يخصني، فلي وجهة نظري الخاصة، فعائلتي ليست كبيرة، وأفضل أن تعرف شقيقتي، وأولادي حقيقة الأمر، من فمي، وليس بواسطة الراديو أو التلفزيون، وبعدها أن يشرح الأطباء حالتي على الصعيد العام.
لاقى كتاب مناحيم بيغن، استحساناً عارماً لدى الإسرائيليين على جميع المستويات، ومن أقوالهم بهذا الصدد، إن بيغن رجل واثق من نفسه لا يخشى الأرياح من حيثما هبت.
إنه كغيره من رجال الحكم والسياسة؛ فهو قد حافظ بكتابه هذا على أدق شروط الديمقراطية وبهذا كانوا يغمزون من قناة غولدا مائير إلى ما هنالك من أقوال الاستحسان والتأييد، مما أزعج أخصامه، لاسيما اليسار وعلى رأسهم حزب العمال، إذ قد أزعجهم لا بل هالهم تعاظم شعبيته، فما كان منهم إلا، أن تنادوا لعقد جلسة مستعجلة، وخاصة في الكنيست، لتقويم كتابه، ووضع الأمور في نصابها حيث، تباروا في إلقاء خطابات، مطولة ومنمقة، دون أن يجرؤ أحدهم على تناول أو مهاجمة بيغن شخصيا.
بل على العكس، كان كل منهم في نهاية موضوع الإنشاء الذي أجهد نفسه في تنميقه وتضمينه كل ما يحفظه من العبارات الوطنية الطنانة، ولو كانت في هذا المجال جوفاء، لا مكان لها، ولا معنى لها يتمنى لبيغن الشفاء العاجل، وكانت جلسة ماراثونية، في نهايتها، اخترعوا ما ينقد ماء وجوههم، فاعترضوا على الفقرة الرابعة من كتاب بيغن، التي يقول فيها أنه قد كلف أطبائه نشر الحقائق فيما يتعلق بحالته الصحية، إذ لا يمكن أخذ آرائهم بعين الاعتبار إذ لابد أن يكونوا متحيزين، ولو عن غير قصد، فللكنيست وحده حق تكليف جنة خاصة، من أعضاء البرلمان، وكبار الأطباء، لتقويم حالة رئيس الوزراء وإصدار تقرير مفصل، وخصوصاً فيما يتعلق بمركزه والقيام بالمهام المطلوبة، بشكل صحيح، ودعماً لقرارهم هذا (الذي لم يجرأوا على تنفيذه) وعلى سبيل التذكير بسابقة قانونية، عرضوا ما حصل في أمريكا مع الرئيس داويت إيزنهاور يوم أصيب بذبحة قلبية سنة 1954.
عندما أصيب أيزنهاور لأول مرة بذبحة قلبية، وهو في البيت الأبيض، طلب من أطبائه، وخصوصاً الدكتور بول دودللي وايت من بوسطن، أن لا يخفي شيئاً عن الرأي العام الأمريكي بما يتعلق بحالته الصحية، إذ مازال وبكثير من المرارة يتذكر يوم كان ملازماً صغيراً سنة 1918، كم كانت السلطات تجهد نفسها لإخفاء الحقيقة المرة المعيقة التي يعاني منها، الرئيس وودور ويلسون، عن الشعب الأمريكي، ولهذا شدد على طبيبه قائلا: عليك أن تعلن الحقيقة، كل الحقيقة، لا تحاول أن تخفي أو تلطف الأمر مهما كانت الحقيقة مرة.
نزولاً عند رغبة الرئيس، كانت النشرات الطبية التي صدرت مثالاً للدقة والصراحة التامة، لكن الأطباء تأكدوا ودون أدنى شك أنه لم يعد يتمتع بكامل مقدرته، على حسن الرؤيا وتقدير الأمور.
وهذا ما أوضحه شخصياً فيما بعد في مذكراته، حيث كرس جزءا مهماً منها لإصابته القلبية وانعكاساتها السلبية على تصرفاته وقراراته، لكنه تابع مستدركاً: رغم ذلك، لا يسعني سوى تهنئة نفسي فلو قدر لي أن أختار بنفسي تاريخ إصابتي، لما كان بمقدوري أن أجد أنسب من ذلك الوقت، بالنسبة لحالة البلاد على جميع، الصعد فالاقتصاد في أحسن حالاته والكونغرس بحالة طمأنينة، واسترخاء، كما أنه يمكنني وبثقة تامة الاعتماد كليا على وزير خارجيتي القدير، فوستر دالاس، فيما يتعلق بالشؤون الخارجية خصوصاُ أنه ما من مشكلة، تحتاج لتدخلنا، في جميع أقطار العالم.
كما أنني ثابرت يومياُ على تلقي تقارير اللجنة الاستشارية العليا، فأصدر التعليمات المناسبة، أما الأهم من كل ذلك، فهو أنني لم أجد نفسي في مواجهة أمر ما، يقتضي تدخل القوات الأمريكية المسلحة، وهنا لابد لي من القول بأنه لو وجدت نفسي أمام مثل هذا الموقف الحرج، بعد مرور ثمان وأربعين ساعة فقط من إصابتي، فمن المؤكد تماماً أنني كنت أتصرف بمفردي دون حيرة، أو تلكؤ فأصدر الأوامر اللازمة لمعالجة الأمور بدقة وحسن تقدير.
وتأكيداً على ذلك، فبعد أسبوع واحد من إصابتي تمكنت من دراسة ومناقشة الأحداث التي اندلعت في لبنان سنة 1958، متع حكومتي ومستشاري الأمن القومي، فأصدرت أوامري بعملية إنزال على شاطئ ذلك البلد، غير مكترث بالاتحاد السوفياتي وتهديداته التي ألمحت، بإمكانية نشوب حرب نووية عالمية، ومن المؤكد بعد دراسة وافية وتقديرات دقيقة لكل ما قد يترتب على ذلك من سلبيات وإيجابيات، وقد أثبتت مجريات الأمور، فيما بعد صحة نظرتي وتقديري للأمور على المدى الطويل.
وتابع إيزنهاور في مذكراته قائلا: في مطلق الأحوال لا يجوز ولا يحق لرئيس دولة أن يقرر أي أمر، على شيء من الأهمية ما لم يكن متمتعاً بكامل قواه الجسدية والعقلية، إذ خلافاً لذلك ربما ورط نفسه وبلده فيما يندم عليه لاحقاً.
وعلى سبيل المثال، عندما سمح كنيدي بعملية إنزال في خليج الخنازير الشهيرة حيث كان ينتظرهم فيدل كاسترو بجحافله، كذلك جونسون الذي ورط بلاده في حرب الفيتنام، التي لم تتخلص أمريكا من ذيولها حتى يومنا هذا، كما أقحم نيكسون البيت الأبيض بفضيحة الوتر- كايت وغيرهم من الرؤساء من جنسيات مختلفة الذين أساؤوا إلى بلادهم، بسبب المرض، وبالتالي سوء التقدير لمشاكل وصعاب هم بغنى عنها.
بيغن المريض المؤمن:
تابع البروفسور "مرفن غوستمان: وشلته من الأطباء الاجتماع عند قدمي رئيس وزراء الكيان الصهيوني، والإكثار من النشرات الطبية الدورية، طمأنينة الشعب الصهيوني، وذر الرماد في العيون، ففي هذه النشرات كان يخيل للناس بأن بيغن قد شفي تماماًَ من كل ما ألم به، وقد عاد إلى شبابه؛ وفي هذا المجال لابد من الاعتراف بأن بيغن قد أحيط بأفضل عناية وأقصى ما توصل إليه الطب والعلاج، إلا أنهم نسوا أو تناسوا بأن الجرح ولو اندمل سيحمل صاحبه أثره مدى الحياة.
إن قوانين الطبيعة ثابتة، تقوى على الطب والأطباء، طولا يصلح العطار، ما أفسده الدهر، وإن هذه النشرات، لم تقنع الكثير من خصوم بيغن السياسيين وفي مقدمتهم حزب العمال والعديد من رجال العلم والصحفيين، الذين يتربصون به، كما أن الكنيست تحرك تلقائياً لدراسة حالة بيغن الصحية، وما قد ينتج عنها من نتائج سلبية على صعيد الدولة الإسرائيلية.
فخلال كانون الثاني 1981 اجتمع فريق من السياسيين العماليين، وفريق من الليكود المؤيدين لبيغن، لمناقشة الأمر، وقد اعتبر العمال بأن بيغن لم يعد ممسكاً بزمام الأمور كما يجب، ولم يعد مسيطراً على حكومته كسابق عهده.
وقد شبهه أحدهم بمؤلف موسيقي لم يعد باستطاعته إكمال سمفونيته، كما صرح جامعي شهير قائلا: لقد قيّض لي أن أراقب، ثلاثة أو أربعة من رؤساء وزارات وهم في خريف العمر، لقد كان مناحيم برلمانياً من الدرجة الأولى وخطيباً مفوهاً، أما الآن فلم يعد كذلك، بل أصبحت حالته حزينة مثيرة للشفقة.
كذلك إحدى الصحفيات، التي كانت تتعقبه منذ انتخابه المظفر في أيار 1977، فتسقط أخباره، وتبالغ في إنجازاته، وهي من أشد مؤيديه تعصباً كتبت مؤخراً في هذا المجال تقول أن خطبه، أصبحت مونوتونية ميكانيكية، مملة لا تثير مشاعر وعواطف المستمعين، ولم تتورع عن القول، بأن بيغن الذي نعرفه، قد انتهى وعفا عليه الزمن ووجوده على رأس الدولة يشكل خطراً حقيقياً على إسرائيل.
أما الأسوأ، فقد بدأت فصوله السنة 1982 إذ في آذار وانسجاماً مع المعاهدة التي وقعها مع الرئيس السادات باشرت إسرائيل بإخلاء المستوطنات اليهودية في سيناء وإعادتها إلى مصر، لكن بيغن تشبث بالضفة وقطاع غزة رافضاً سحب قواته والتخلي عنها، مما غطى اتفاقيات كمب ديفيد بطبقة من الجليد، فما كان من الرئيس حسني مبارك خليفة أنور السادات سوى رفض الدعوة، التي وجهت إليه لزيارة القدس فأصبحت العلاقة بين البلدين باردة، وشبه عدائية.
كما أن مجلس الأمن، أصدر قراراً يدين حملات القمع والإرهاب التي تمارسها الدولة الصهيونية في الأراضي المحتلة، وفي 28 نيسان وفي 11 أيار انعقدت جلستان صاخبتان بالكنيست، اختلط خلالهما الحابل بالنابل، بين مؤيد ومعارض كما أن قسماً كبيراً من الجيش وقد دبت فيه النخوة الصهيونية واستفاقت لديه الديمقراطية، طالب ببعض الإصلاحات، ولكن كل هذا الصراخ والضجيج، دون أي يأتي أحدهم على ذكر مناحيم بيغن بالاسم.
بعد أن سيطر أريل شارون على الجيش، ن اعتداء آثماً على لبنان في السادس من حزيران، أعطاه تمويها اسم "أمن الجليل" بقصد تدمير البنية التحتية الفلسطينية، فأطلق العنان لمجرميه ومسعوريه، المتعطش للدماء فأعملوا أنيابهم ومخالبهم، في أجساد النساء والأطفال والأبرياء من اللبنانيين، بحقد وضغينة، لا تتواجد إلا في قلوب الصهاينة وأمثالهم.
كما أعطى أوامره الواضحة والمشددة لطيرانه ومدفعيته لتدمير البنى التحتية، من ماء وكهرباء ومصانع على كامل الأراضي اللبنانية، وذلك تنفيذا لخطة مدروسة.
وقد هالهم ما يرتع فيه هذا الشعب الصغير من الرخاء والبحبوحة، معتقدين أن لا قائمة للبنان بعد الآن، ألا فليعلم الصهاينة ومن وراءهم بأن لبنان قد مرّ بظروف أصعب، وعرف غزاة أطغى، ولكنه كان في كل مرة، بنشاط أبنائه وذكائهم وثقافتهم، قد جعلوا من وطنهم الحبيب، طائر فينيق، يخرج من تحت النار والركام، فينفض عن جناحيه الغبار والرماد، ويحلق في السماء على عادته، وفي مجالات أعلى.
وأن بيروت التي كانت حصرمة في عيونهم، قد أصبحت عناقيد من العنب الشهي ولسان حالنا يقول: راجع راجع.. يتعمر.. راجع لبنان.. راجع يتعمر أحلى وأخضر أكثر ما كان.. أما أنت، فالويل ثم الويل لك يا إسرائيل، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليك.
ونتيجة لهذه الحرب العدوانية أكد جميع المقربين من بيغن أنه لم يعد بمقدوره بسبب مرضه السيطرة على الحكم ومجريات الأمور إذ كان لها آثار مدمرة على الاقتصاد كما سود صورتها وأصبح اسمها مرادفاً للإجرام والإرهاب عبر العالم، ونالت من سمعة بيغن؛ فبعد أن كان متسلطاً، حاكماً بأمره، أصبح حرفاً ميتاً يتخطاه الجميع بسهولة ويضعونه أمام الأمر الواقع، وقد أصبح شارون، عملياً صاحب الأمر والنهي مستفيداً، من عدم فاعلية بيغن، فأسقط من حسابه، متقوقعاً، منطوياً على نفسه، غارقاً في مرضه وأحزانه مسلوب الإرادة، لا حول له ولا قوة.
في تشرين الثاني 1982 بسبب القضية اللبنانية استدعي بيغن "المطيع" إلى الولايات الأمريكية، فذهب منحني الظهر، مطأطأ الرأس وخصوصاً، أن زوجته ليزا طريحة الفراش، وقد أبلغ نبأ موتها هنالك في واشنطن تلغرافيا.. وقد أفاد شهود العيان بأنه تحطم فوراً، وكأنه أصيب على رأسه بضربة قوية، ودخل في حالة بشعة من الانهيار العصبي، فعاد إلى القدس على جناح السرعة، بعد أن نال قسطه من التأنيب والتجريح من قبل السلطات الأمريكية.. و.. (الترحيب المنطقع النظير، بالبيض الفاسد، والبندورة المهترئة، من قبل الجالية اللبنانية والعربية، والعديد من أحرار العالم) فلدى وصوله بعيد انتهائه من مراسم الدفن، استدعي للمثول أمام لجنة "كاهان" للتحقيق بشأن المجازر التي حصلت في صبرا وشاتيلا، فأخذ يجيب مترددا متلعثماً مما أزعج القضاة والمحققين.
فأكد بأنه يجهل كل شيء عن المذابح التي دامت ثمانية وأربعين ساعة ولم يعرف بما حدث إلا يوم السبت، ومن إذاعة "بي. بي. سي) البريطانية، كما أكد بأنه لم يتلق أي اتصال هاتفي، من ضباطه المتواجدين على الساحة اللبنانية، ثم بعد تردد صرح بأنه على كل لا يتذكر كما لو كان، في ذاكرته فجوة، لتناسي ما لا يريد الاعتراف به، لكن القضاة كانوا يخفون شاهداً لاستعماله عند اللزوم، هو الجنرال رافائيل إيتان، قائد الأركان، الذي أعلن أنه اتصل به صباح السبت لإعلامه بما يجري فأجاب بيغن بحدة: مستحيل! لقد كنت ففي الكنيس للصلاة حتى الساعة الثلاثة عشر، وقد تصلب بذلك تحت القسم القانوني ثم عاد، بعد تفكير طويل، وفي جولة من التلاعب بالألفاظ، فأفاد: لم يكن الجنرال إيتان من اتصل بي، إنما أنا من اتصل بيه قبل ذهابي للصلاة، ولكن لخيبة أمله، كان شاهد جديد بانتظاره، في جعبة اللجان، هو الكولونيل "زيق زاهارن" رئيس مكتب قائد الأركان المفصول إلى بيروت، وبعد أن أقسم اليمين دحض العديد من ادعاءات رئيس مجلس الوزراء الشهم، ومما ظهر لاحقاً، فاللجنة لم تأخذ أكاذيب بيغن بعين الاعتبار ولم تستسلم أمام ابتزازه.
خلال شباط 1983، اعتبرت اللجنة أن مناحيم بيغن لم يشترك بالقرار في السماح بدخول جحافل القتلة والسفاحين إلى صبرا وشاتيلا، ولكن بالمقابل أعطي البرهان على عدم الاهتمام، مما يدينه، إذ اعتبرت بأنه أصبح على علم فعلياً بالأمر، صباح الجمعة، إنه لم يبد أي اهتمام بما جرى من أعمال إجرامية، مما يشكل تضامناً، وموافقة ضمنية، وأن تصرفه هذا، تصرفاً مستهجناً وغير مسؤول وكان بيغن خلال قراءة الحكم المحرج يقبع في مقعده، متمنياً لو تنشق الأرض من تحته وتبتلعه.
الأشهر الأخيرة من حكم بيغن، كانت نوعاً من الغرق، أو من الهروب إلى الأمام، كان خلالها رئيس الوزراء، حزيناً ساهياً، لا يكاد يمسك قلماً، أو يفتح ملفاً، بالرغم من أن لجنة تحديد المسؤوليات لم تقترب منه وأغفلته تماماً، إلا أنه يلاحق نفسه ويحاسبها على التكاليف الباهظة للاعتداء على لبنان، فقد تكلفت إسرائيل ملياراً ونصف المليار من الدولارات، حتى إخلاء بيروت.
ومليون دولار عن كل يوم من الوجود العسكري في لبنان، كما أن العلاقات الإسرائيلية، كانت تعلق على أبوابها، صور من فقدتهم من أولادها، ولائحة بعدد القتلى والأسرى اليهود، منذ حزيران 1982.
ومن حزيران 1983، أصبح غير قادر على المشي، إلا بصعوبة كبيرة، مما جعله يعتذر عن الذهاب لمقابلة الرئيس ريغن بسبب حالته الصحية، فكلف اثنين من وزرائه بالنيابة عنه، مما أجج القيل والقال بحقه، وأعطى سبباً لترويج الإشاعات، وطبعاً مع شيء من المبالغة من قبل من لهم مصلحة بتنحيه عن الحكم، وخصوصاً حزب العمال، ومن هنا طالبوا بانعقاد جلسة خاصة للكنيست في العشرين من تموز، انعقدت الجلسة، وفي جدول أعمالها بنداً واحداً، دراسة حالة بيغن الصحية وصلاحيته للبقاء في مركزه والقيام بالمهام الملقاة على عاقته بشكل صحيح، وهكذا تعين عليه إما الإخلاء أو الرحيل، وقد جلساتها مفتوحة حتى التوصل إلى قرار نهائي.
في الثامن والعشرين من آب، وقد تعذر على النواب العماليين الحصول على الأكثرية المطلوبة لإقالة بيغن، قرر آخر "عشاق صهيون" وبناء الكيان الصهيوني الإرهابي، الاعتزال والابتعاد عن الحياة العامة فوقف وصرح قائلاً، وقد بدأ اليأس على وجهه: في بعض الأوقات، يجب على الرجال، الاعتقاد بأنه عليهم، التوقف والإخلاد إلى الراحة، بالنسبة إليّ، لقد دقت الساعة وقد انتهى الأمر، كلا! لم يعد بإمكاني الاستمرار، ثم خرج من الكنيست لا يلوي على شيء.
والجدير بالذكر، أن أصدقاءه أعضاء الليكود، ومؤيديه الأحزاب الدينية، أحدثوا هرجاً ومرجاً فتركوا الكنيست صاخبين، ولحقوا به بقافلة من عشرات السيارات إلى منزله، حيث ناشدوه بإلحاح متوسلين، للعدول عن قراره والبقاء في مركزه، كما أن رفاقه القدامى، من القتلة الإرهابيين توافدوا على جناح السرعة، وقد تنادوا من كل حدب وصوب، وخيموا طوال الليل تحت نوافذ "فيلته الرسمية" الكائنة في شارع "بلفور" بالقدس، يطالبونه بالبقاء هازجين.
أما بيغن فبقي مصراً، لا يتزحزح، لكنه إكراماً للمطالبين ببقائه، قال: سأبقى نزولاً عند رغبتكم "الكريمة" لمدة ثمانية وأربعين ساعة فقط، وهكذا كان وانتهى كل شيء بالنسبة إليه.
بالرجوع قليلاً إلى الوراء، والعودة بالذاكرة نجد مناحيم بيغن هو مستقيل عملياً، منذ الخامس عشر 1983، إذ كان قد أصبح مريضاً أكثر من أي وقت مضى، في جسمه كما أنه أكثر مرضاً في رأسه، وعذاباً في نفسه من جراء حرب لبنان، مما جعله حزيناً كئيباً، غير قابل للشفاء لدرجة أنه لم يشترك بالمراسم الدينية، في الرابع من تشرين الثاني 1983، التي جرت في ذكرى وفاة زوجته "أليزا".
في أوائل 1984 خلال الليل، غادر فيلا شارع بلفور، إلى مسكن متواضع، من ثلاث غرف في ناحية "بيت –حاكريم" الشعبية، حيث أغلق بابه، وأسدل ستائره، رافضاً استقبال الزائرين.
والجدير بالذكر أنه رفض فتح بابه لوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الذي مر بالقدس في حينه، ولم يعد يستقبل، من الطبيعي أن لا يتكلم أيضاً إلا مع نفسه إذا شاء، في نوبات الهلوسة، يقال: بأنه كان يكتب مذكراته، من يدري؟
وفي الختام، لابد لنا، من القول بكثير من الصدق والواقعية "مبتعدين عن عواطفنا الشخصية اللدودة" أن الكيان العبري قد تغير كثيراً، حتى بنظر أهله، فهو في ورطة لا نهاية لها، وهو دخيل على المنطقة، محاط بالأعداء، من جميع الجهات، وعلى رأسهم سورية الأسد، التي تزداد قوة يوماً بعد يوم.
وقد أصبح جيشها الفتي، من حيث العدة والتقنية أقوى جيوش الشرق الاوسط يتحلى بالإيمان الوطني والعقيدة القومية.
وبذهاب بيغن وهو آخر من كانوا ينادون بإسرائيل الكبرى، سقط الحلم وتبدد الوهم، فأرض ميعادهم لم تعد كذلك.
من هنا بدأت هجرة معاكسة، إذ غادرها العلماء والفنيون، وأجيال الشباب، فالأرض التي وعدوا بأنها ستعطيهم اللبن والعسل، أنبتت لهم السهام والحراب، ففي كل زاوية، متربص، ووراء كل منعطف ملثم يتمنى الانقضاض عليهم بما تيسر له من السلاح، حتى لو كان أعزلاً لا يملك من العدة سوى قبضتيه الفتيتين، ودماء تغلي في عروقه.
ولا بد لليل أن ينجلي.
--------------------------------------
اضغط هنا للمشاهدة المقدمة والجزء الاول
اضغط هنا للمشاهدة الجزء الثانى
اضغط هنا للمشاهدة الجزء الثالث
المرتجع حنتوش- مشرف قسم المنتدي العام
-
عدد المشاركات : 21264
العمر : 32
رقم العضوية : 121
قوة التقييم : 41
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: مرضى حكموا العالم (مناحيم بيغن MENAHEM BEGIN) الجزء 4
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
مواضيع مماثلة
» مرضى حكموا العالم (غولدا مائير GOLDA MEIR) الجزء 2
» مرضى حكموا العالم
» مرضى حكموا العالم (نيكولاي شاوشيكسو NICOLAE CEAUSESCU)
» مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
» مرضى حكموا العالم (فرنسوا ده فاليه FRANCOIS DUVALIER)
» مرضى حكموا العالم
» مرضى حكموا العالم (نيكولاي شاوشيكسو NICOLAE CEAUSESCU)
» مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
» مرضى حكموا العالم (فرنسوا ده فاليه FRANCOIS DUVALIER)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR