إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
حكم السافي ولا حكم القذافي
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
حكم السافي ولا حكم القذافي
هذا سرد وجيز للمحات من حياة عائلة وطنية ماجدة كرست حاضرها لخدمة قومها ووطنها وأمتها ونذرت مستقبلها لكل ما هو في خير الإنسانية جمعاء . قد يختلف كتاب سير الأعلام فيما يدونونه من تفاصيل ودقائق تمس أفراد هذه العائلة ، وقد يتساءلون عن ماهية الأسباب التي دعت القذافي إلى الزج بالجيش الليبي في الحرب التشادية ، وقبل ذلك في أدغال أوغندا وتنزانيا. وكيف خلص د . سيف الإسلام القذافي إلى أن تفشي مرض الأيدز بمستشفى الفاتح لجراحة الأطفال ببنغازي راجع لسوء الإجراءات الصحية به ؟ ولماذا طارت عائشة وزوجها أحميد في الهواء في ليلة زفافهما فوق رؤوس المئات من المدعوات ؟ وكيف استطاع اللواء الساعدي القذافي تمويل نشاطاته الرياضية بواسطة النوق التي ورثها عن جده أبومنيار ؟ وما هي طبيعة العلاقة التي ربطت اللواء المعتصم بعارضة الأزياء الهولندية تاليثا فان زون ؟ وكيف وجد هانيبال الجرأة الكافية لتصوير زوجته اللبنانية ألين سكاف في وضعية تشي بأنها لم تكن قد وضعت على جسدها قدر كافٍ من الثياب ؟ وما الداعي لقيام اشتيوي حرير وشقيقه ناجي بإجلاس حسناوات بيلاروسيا في حجريهما ؟
إن هذه وغيرها من المحطات خلال حكم القذافي وعائلته لليبيا هي ساحة يختلط فيها سوء الظن بحسنه ، والأحكام المسبقة بالنزاهة والموضوعية ، والحسد بالغبطة ، ولكن لا ريب في أن ليبيا منذ أن كان أركيسلاوس الثاني في كيريني يشرف شخصياً على كيلة السلفيوم لم تشهد حاكماً لها مثل معمر القذافي وعائلة حاكمة كعائلة معمر القذافي .
كان العقيد معمر القذافي في سفرة على ظهر السفينة ( أنوار أفريقيا ) في طريقه إلى اليونان للعلاج من علة ألمت بفصه الجبهي . ومن المعروف أن الفص الجبهي كما يعرفه علم وظائف الأعضاء هو الجزء الواقع في مقدمة الدماغ المسئول عن توجيه أفكار الإنسان.
ارتقى المسئول الأمني الدرج المؤدي إلى سطح السفينة حيث استلقى القذافي على أحد الكراسي المتناثرة هناك ، وفي يده منشة خضراء كبيرة يبعد بها الذباب الصفيق عن وجهه. لم يدر ضابط الأمن كيف ينقل الخبر العجيب إلى القائد ، وخاصةً عندما رآه مستمتعاً بجلسة هادئة وقد رانت عليه السكينة والطمأنينة . لقد خرج البدو في البيضاء والزنتان وهم يطالبون بإسقاط النظام ، وقال المسؤول الأمني محدثاً نفسه ، كيف لرعاة الماعز والبقر في البيضاء أن يطالبوا بإسقاط النظام وهم أبعد ما يكونوا عن النظام ؟ كيف لمن وصفهم د . رجب بودبوس ذات مرة بـ " سفرة كسر " أن يطالبوا بأمور حضارية كالحرية والدستور وإنشاء أحزاب كما طالبوا ذات مرة بان يوسع مدى بث البرنامج الثاني التلفزيوني ليستمتعوا برؤية برنامج ( ألعاب بلا حدود ) المسلي ؟ وكيف لسكان الكهوف في الزنتان الذين يذكرونك بإنسان نياندرتال أن يضرموا النار في مقر مثابتهم الثورية في رابعة النهار، وينهمكوا في نقاش حول كيفية خروج البيضة من الدجاجة ، وهل تخرج البيضة من الدجاجة بواسطة الفلفل أو بدون فلفل ؟ ولو أنهم كلفوا أنفسهم قليلاً وراجعوا الفصل الثامن من كتاب صموئيل بتلر ( الحياة والعادة ) لوجدوا فيه ما يشفي غليلهم ، حيث يقول السيد بتلر : لقد تم التعليق مراراً ، حسب ما أعتقد على أن الدجاجة هي مجرد وسيلة البيضة لصنع بيضة أخرى .
لم يكن هناك ثمة إجابة شافية لهذه الأسئلة التي تدور بذهنه سوى أن ما قام به أهل مدينة بنغازي من تظاهر واعتصام أمام مديرية الأمن وفي ميدان الشجرة ، ومشاكسة ذلك المحامي المدعو ( فتحي تربل ) لسلطات بلاده الأمنية ، هو ما حفز أولئك البدو على الخروج على النظام ، خشية أن يكون قد فاتهم القطار ، كما تقول الحكمة اليمانية.
أنتبه القائد لمقدم مسؤول أمنه الشخصي ، وكأنه أدرك أنه يريد أن ينهي إليه أمراً ما فقال له : ما وراءك ؟ تلعثم المسؤول الأمني قليلاً ، ولكنه ما لبث أن تمالك نفسه وقال : لقد خرجت الدهماء إلى الشوارع ، وهم في حالة تمرد على السلطات ، ويهتفون بإسقاط النظام ، ويحرقون الأخضر واليابس.
في الآونة الأخيرة ، أناخت أعباء حماية الثورة ورعايتها بكلكلها على عاتق القائد ، ولم تعد صحته تسمح بقيامه بالأعمال العظيمة التي أعتاد القيام بها لشعبه ووطنه العظيمين ، ولذا فعند سماعه أخبار تمرد الدهماء ذاك ، قال في نفسه : "جت منك يا جامع " ، وهو الذي عزم منذ فترة على ترك العمل السياسي ، والتفرغ لكتابة مذكراته .
اتخذ القائد هذا الموقف السلمي وهو يستحضر مقولة الرئيس الأمريكي جون كيندي :
" أولئك الذين يجعلون قيام الثورة السلمية أمراً مستحيلاً ، سيجعلون الثورة العنيفة أمراً يتعذر اجتنابه " .
لقد أصدر أوامره بالتعامل برفق مع المتمردين قائلاً : " بنغازي حبيبتي " ، وليس ذلك بغريب على القائد إذ أنه استعمل ذات المصطلح في وصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بقوله " حبيبتي السمراء " وهذه نقطة جديرة بأن يقف المرء عندها للتأمل والتفكر في ماهية الحب الذي كان القائد يكنه لبنغازي ، وهل هو من نفس نوع الحب الذي كان يكنه للسيدة رايس ؟ لأن ذلك من شأنه أن يلقي الضوء على المؤن الغير غذائية التي مون بها جنود كتائب القذافي بقيادة جبران حسين جبران أثناء حملتهم على بنغازي .
فإذا كان الحب واحداً فلا شك إن مصير المحبوبين سيكون واحداً ، وفي هذه الحالة الويل للمحبوب.
بالرغم من تعامل الرائد خميس معمر قائد اللواء 32 المعزز تعاملاً إنسانيا مع الدهماء المتمردين ، استجابةً لتوجيهات القائد فقد اتسعت رقعة الاحتجاجات حتى وصلت إلى الزاوية ، ومن ثم إلى مصراتة . عندئذ أدرك القائد أن العقد قد أنفرط ، ولم يعد يجدي مع الخرق أي ترقيع ، قال مقولته الشهيرة التي سيسجلها له التاريخ ما بقى هناك ثورة وثوار :
" أيها الشعب الليبي العظيم ، إذا كنتم مصرين على التخلي عن السلطة فأتمنى أن يحكمكم من يخاف الشعب والقانون ، والصحافة ، والدستور ، والنقابات ، والمظاهرات ، والإضرابات ، والمداولات البرلمانية ، واتحادات العمال ، وحجب الثقة عن الحكومات ، والحريات العامة ، والتداول السلمي على السلطة ، والشفافية ، لأنه عندئذ سيستجاب لكم حتى ولو لم يدعُ خياركم ، ولن يكن لشراركم مكان سوى في الجديدة أو أبوسليم ..... "
وجاءت ثالثة الأثافي عند ورود خبر انتفاضة أهل الزاوية وأن الدهماء في تلك المدينة وفي مقدمتهم المبروك زقروبة قد خرجوا إلى الشوارع وهم يرددون هتافاً تقول كلماته :
" حكم السافي ولا حكم القذافي "
لا يملك أي شخص مهما أوتي من جوامع الكلم والحكمة والبلاغة الخطابية أن يجبر الشعب الليبي على العيش تحت وطأة رياح السافي حتى ولو كان ذلك الشخص هو زقروبة نفسه . ولم يكتف السيد زقروبة بهذا بل أنه أرغى وأزبد وهدد وتوعد بأن الشعب الليبي سيقتلع أهداب جفني القائد ، ويمزق شدقيه ، ويسكب ما في كأسه وكأن القائد من معاقري الراح ، بل أنه توعد القائد وكأنه ينظر من خلال حجب الغيب بإخراجه من إحدى الحفر ورميه كما يرمى سقط المتاع ( وأستخدم في وصفه الدارج كلمة الشلتوتة ) .
ولما سمع القائد ما ردده المتظاهرون في الزاوية دعا عليهم دعاءً ينضح بالمرارة وخيبة الأمل ، لقد كان دعاءً يحمل في ثناياه نذيراً مشؤوماً فقال:
" الله يسلط عليكم من سيسفى عليكم شنته، ويقعد عليها بعد ذلك " .
لم يمض زمناً طويلاً حتى بدأ الليبيون يستشعرون حدوث إرهاصات تنبئ بتفتح أبواب السماء على مصراعيها لقبول دعوة مظلوم ، وكما يقول التعبير الإنجليزي Lo and behold فقد لاحظ العارفون وأولي البصيرة منهم ظهور طاقية على رأس أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي مما حدا بأولي النزعات النفسية الرقيقة الرحيمة من بعض الليبيين أن يشتطوا في تأويلهم لهذه الظاهرة لحد أنهم رجحوا تدخل أحد أجداد القذافي المرابطين وتسليطه على الليبيين ليس مجرد السافي وحده ، بل معه شنة إخفاء Cap of Invisibility سيخفي بها كل من تنكر لحفيده وقلب له ظهر المجن!
لقد ودع الزعيم الليبي الذي قاد ليبيا طيلة 42 عام شعبه بهذه الكلمات الحكيمة ، وأثر سلامة الوطن والشعب على الدخول في ترهات ، وخزعبلات ، ومهاترات ، ومماحكات لن تجدي فتيلا ، لا له ولا لغيره.
علق الشباب الليبي آمالاً كبيرة على مشروع ( ليبيا الغد ) الذي طرحه الدكتور سيف الإسلام معمر ، والذي كان يرمي بواسطته إلى أن يخطو بليبيا خطوة صغيرة كخطوة الأمريكي نيل أرمسترونغ ولكنها قفزة عظيمة لليبيين إلى آفاق غدٍ زاهر متطور. وبالرغم من أن الشباب لم يكونوا متنكرين لحاضرهم المعاش على هدي توجيهات القائد المعلم الحكيمة ، إلا أنهم كانوا يتطلعون بشوق عارم إلى الإمكانيات التي يحملها مشروع (ليبيا الغد ) في ثناياه . ويكاد المراقب أن يجزم بأن لهؤلاء رؤية زيدية لكونهم يتطلعون لغدٍ أفضل وفي نفس الوقت لا يتنكرون لحاضر مفضول .
في تلك الأثناء كان د . سيف الإسلام القذافي الذي أطلق عليه الشباب لقب (الغدي) في منزل لأحد المقربين إليه يدعى (وسام الزوماط ) في العاصمة الليبية طرابلس قرب سوق القبب . وعندما تناهى إلى سمعه أخبار خروج أهالي فشلوم وسوق الجمعة ، وتاجوراء ، وزاوية الدهماني في تظاهرات وهم يهتفون " بالروح بالدم نفديك يا بنغازي" ، " وا تريس سوق الجمعة بنغازي تبكي بالدمعة " ، أمر بأن تنظف الساحة الخضراء وتغسل بالمياه لاستقبال المتظاهرين وإفساح المجال لتلك الدماء الجديدة لتعبر عن آرائها ما شاء لها التعبير. وأصدر أوامره للزوماط الآخر ، فوزي بأن يوفر للمتظاهرين السجائر وكروت الهاتف وبعض المرطبات . لقد تبدى (الغدي) عن رحمة ورفق وحكمة قلما وجدت في نفوس نظرائه من شباب الجيل الحالي . وعندما جاءت الأخبار من مدينة البيضاء التي تقول أن " طرف الخبزة بدينار ونص" ، أدرك حينها أن الحرب الأهلية بدت تطل بقرنيها ، وأن هناك من يحاول تقسيم البلاد قطعة قطعة ، قال مقولته التاريخية : "بأنه يؤثر أن يقطع جسده بمضع جراح على أن تقسم ليبيا قطعة قطعة " . وعند سماعه كلام المشككين في وعوده عن مشروع( ليبيا الغد) من أمثال الشيخ طاهر المهدي أجديع الذي وقف في مدينته الزنتان وسط جمع من الغوغاء والسوقة مستغلاً ضحالة تفكيرهم وضيق أفقهم ، وقلة معارفهم ، وهو يتهم الدكتور سيف الإسلام بأنه ( أبخل من دجاجة بوفلفل ) ، ويدعو عليه بأن تصيبه ( غدة تغده) ، رد عليهم بهدوء بأن الوقت أضحى متأخر جداً Too Late للإصغاء لمثل هذه المماحكات ، وأن الأمر ببساطة شديدة قد حسم وأن ليبيا ، وبنغازي على وجه الخصوص ستقفز إلى آفاق الغد في خلال ( 48 ساعة فقط ). لقد أثبت (الغدي ) أن من شابه أباه فما ظلم ، وأن هذا الشبل من ذاك الأسد ، وأن العصا من العصية .
وفي يوم الجمعة ، 18 فبراير 2011 دخل اللواء الساعدي القذافي إلى إذاعة بنغازي المحلية وسط حشد ضخم من أعضاء اللجان الثورية وفريق العمل الثوري ليوجه كلمة إلى أهل بنغازي الذين خرجوا عن طورهم واستبدوا برأيهم وركبوا رؤوسهم كما يقول التعبير الدارج ، بل أن بعض المتسرعين منهم فضلوا في يوم الإربعاء 16 فبراير القفز من كوبري جليانة إلى البحيرة الواقعة أسفله على أن يجادلوا عبدالله السنوسي ونجله محمد اللذان جاءا لمجادلتهم بالحسنى ، وقال حضرة اللواء الساعدي أن والده خوله تنفيذ خطة لتطوير بنغازي بشكل غير مسبوق وخصص لذلك مبلغ 22 مليار . وعند خروجه من مقر الإذاعة ، أطلق بعض السفهاء والموتورين الذين لم يستوعبوا رؤيته لما ستئول إليه بنغازي سباب وشتائم بحق اللواء الساعدي . فما كان منه إلا أن ضرب صفحاً عن كل هذا تأسيا بالهدي القرآني الذي يأمر بالإعراض عن الجاهلين ومخاطبتهم بالسلام . وعند رجوعه لمقر كتيبة (الفضيل بو عمر ) الأمنية أصدر الأوامر بالتعامل مع المتظاهرين الغاضبين المثقفين تعاملاً يرقى على دخان البارود ونيران البنادق ومدافع الشيلكا ، والميم طاء ( 14.5 ) وصواريخ الآر بي جي لأن ذلك كفيل بأن يحولهم إلى أنصاف مثقفين . ولكن الناس كما يقال لم يخلقوا متساويين ، فهم كأصابع اليد ، فقد خالف بعض جنود كتيبة الفضيل أوامره وأطلقوا النار على المتظاهرين . فما كان من اللواء الساعدي إلاّ أن أمر باعتقالهم ، وحقق معهم في قبو بمقر الكتيبة ، وقال لهم أنتم أحفاد الشهيد عمر المختار الذي لم يخن بلاده قط ، ولم يفكر يوماً في خيانة بلاده . ثم أردف قائلاً بأن من يفكر أن يقارن أي شخص آخر بعمر المختار هو لا شك مخبول ، مصاب بلوثة عقلية ، وأحضر زجاجات مليئة بماء مُرقى ، ورش ما بها على وجوههم لعل ذلك يطرد ما بنفوسهم من جنة .
أما الدكتورة عائشة معمر ، تلك الفتاة الفاضلة ، المحتشمة فقد وقفت في يوم الخميس 14 أبريل 2011 ، وقفةً تاريخية ، أثناء مشاركتها في إحياء الذكرى الخامسة والعشرين لتصدي الشعب الليبي الشجاع للعدوان الأمريكي الأطلسي على الجماهيرية العظمى عام 1986 ، أمام بيت الصمود بباب العزيزية عند تلك اليد العملاقة الممسكة بطائرة ، ولا أخفي على القارئ الكريم إني كلما رأيت صورةً لتلك اليد العملاقة الصفراء الممسكة بطائرة في قبضتها ممزقة إياها شر ممزق ، كلما وقر في نفسي أن يد الشعب حتى وإن كانت أسفل طائرات أميركا ففي النهاية يكون لها الظفر والغلبة .
وخاطبت الدكتورة عائشة الجماهير الواعية ، المحتشدة ، المتحدية لطائرات الناتو وصواريخها التي يبلغ ثمن الواحد منها مليوني دولار ، قائلة : لا يجب أن نربط استحقاق امرئ ما للحياة بضرورة أن تكون إرادته متناغمة مع حكم امرئ آخر له ، حتى ولو كان هذا الأخير هو القائد معمر القذافي نفسه . وبالتالي فإن عدم محبة شخص ما أو مجموعة من الناس للقائد ، لا يعطينا البتة الحق بالقول أنهم لا يستحقون الحياة. وهكذا أثبتت هذه الفتاة الفاضلة أن لها صدر أرحب من أن يضيق بما يقوله المغرضون بحق والدها ، وبحق الثورة التي انتشلتهم من وهدة الرجعية وأدران الوساطة والمحسوبية .
في تلك الآونة شهدت الصحراء الليبية عاصفة رملية هوجاء تجسدت في جدارٍ هائلٍ من الغبار انتصب على الأرض وتقدم في طريقه كثقب أسودٍ مبتلعاً ما وجده في طريقه من السيارات والبشر . كانت ظاهرة طبيعية بالغة الغرابة ، ومن المحتمل أنها لم تكن تحمل في طياتها سوءً ولكن المرء لا يستطيع أن يحمل نفسه على الاقتناع بأنها بشارة بخير مقبل ، ويكاد المشاهد لهذه الظاهرة أن يجزم بأن ما يراه لا ينتمي بأي حال من الأحوال لأي حدث دنيوي ألفته الأراضي الليبية في أي وقت من الأوقات ، بل هو أشبه ما يكون بالأحداث العجيبة التي تسبق يوم القيامة والتي تصنف بالعلامات الصغرى والعلامات الكبرى .
قال بعضهم : لعل هذا هو السافي الذي ورد في دعاء القذافي على قومه عندما جزوه جزاء سنمار بتنكرهم له وجحودهم لفضله عليهم وتضحياته من أجلهم .
ورد عليه آخر : أحسب أن دعاء القذافي به من المجاز الشيء الكثير وأولها السافي . إن للمجاز في كثير من الأحيان قدرة عظيمة على تصوير الوقائع ، فلا يجب أن نتصور السافي هنا على أنه رياح صحراوية حارة محملة بذرات الرمل شديدة الهبوب تسفع الوجوه سفعاً ، فقد يكون السافي حسب تأويلي المتواضع خونة تشربوا الخيانة حتى أصبحت ديدنهم فيشوا بأحرار أرادوا الإطاحة بنظام سيدهم ثم يقوموا بعد قيام ثورة 17 فبراير بكيل المديح لعائلة القذافي بدون أدنى رادع أخلاقي في الوقت الذي يكون فيه الثوار يئنون من رصاص وصواريخ هذه العائلة وأزلامهم ، وقد يكون جيشاً غير خاضع للسلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية ، فيبرز كسلطة منفصلة لا تلبث أن تتغول لتُخضع كافة السلطات الأخرى ثم تُلغيها بالمرة ، وينتج لكم ضباطاً لا هم لهم سوى تدبير الانقلابات ، وأكل مال الأمة بالباطل ، وقد يكون السافي قضاءً مخصياً يتسابق قضاته على سيارات (المكسيما ) اليابانية ، وقد يكون السافي امرأة تدعو إلى زواج الرهط وتتساءل عن السبب الذي يحول دون أن تتزوج المرأة بأربعة رجال إذا كان يحق للرجال الزواج بأربعة نساء ، وقد يكون السافي مسؤولين على مصالح الشعب هم أقرب إلى اللصوص والخونة منهم بالأمناء ، وقد يكون السافي إعلاميين يطبلون ويزمرون لكل من ترأس وحكم ، وقد يكون كُتاب وأدباء يمارسون الدعارة والعهر الثقافي جهاراً نهاراً بدون أدنى شعور بالحياء ، وقد يكون السافي ثواراً لا يملكون من روح الثورة ونفسها إلا الاسم فاطمأنوا إلى ملمس السلاح في أيديهم ورائحة البارود في أنوفهم وتحولوا إلى قطاع طرق ورجال عصابات وقتلة ، وقد يكون نفر عملوا في نظام القذافي ولم يخطر ببالهم حينذاك أن القذافي بالغ السوء وبمجرد تيقنهم من نجاح ثورة 17 فبراير ينقلبوا عليه ويديروا له ظهورهم ويصبحون قادة للثورة ، وقد يكون أناس أباحوا لأنفسهم الحق بدون أن يكون لهم أدنى رصيد ثوري بالتحدث عن المتسلقين وراكبي الأمواج وهم أنفسهم أكبر من ركب الأمواج , وقد يكون شخص من الذين قفزوا من سفينة القذافي الغارقة ، ووثب على سفينة 17 فبراير وأمسكوا بسكانها ولا يرضى أن يشاركه أحد في توجيهها ، ويعتقد في نفسه أنه مالك لزمام المعرفة وأن أرحام الليبيات لم تنجب من يدانيه في العلم والحكمة والتخطيط الإستراتيجي ، ويسيل لعابه لذكر الملايين والمليارات من الأموال الليبية المجمدة المرطرطة ، وقد يكون أناس يتغنون دائماً بالحرية ، وعندما يتولون سلطة ما يسفرون عن وجوه جديدة وألسن مختلفة تتلفظ بوجوب مراقبة الإعلام والحد من حريته ، وقد يكون السافي أشخاص يبدون غيرتهم على ليبيا من أوهام تدور في مخيلتهم حول تدخل إحدى الدول في الشؤون الليبية وعندما تأتي دولة أخرى وتقوم بتدمير الصواريخ الليبية لا يسمع لهم صرخة واحدة تنبئ عن وطنيتهم وحرصهم على سلامة بلادهم من أي تدخل أجنبي .
قد يكون السافي هذه أو تلك ، وقد يكون كل هذه الأشياء برمتها ، وقد يكون شيئاً آخرا لم تدركه تصوراتنا أو تتوقعه أفكارنا ، أو قد يكون كياناً متعدد الأقانيم يظهر أقانيمه وفقاً لما يجده أمامه على الأرض ، أي كما تكونوا يولى عليكم . فنسأل الله العافية والسلامة .
إن هذه وغيرها من المحطات خلال حكم القذافي وعائلته لليبيا هي ساحة يختلط فيها سوء الظن بحسنه ، والأحكام المسبقة بالنزاهة والموضوعية ، والحسد بالغبطة ، ولكن لا ريب في أن ليبيا منذ أن كان أركيسلاوس الثاني في كيريني يشرف شخصياً على كيلة السلفيوم لم تشهد حاكماً لها مثل معمر القذافي وعائلة حاكمة كعائلة معمر القذافي .
كان العقيد معمر القذافي في سفرة على ظهر السفينة ( أنوار أفريقيا ) في طريقه إلى اليونان للعلاج من علة ألمت بفصه الجبهي . ومن المعروف أن الفص الجبهي كما يعرفه علم وظائف الأعضاء هو الجزء الواقع في مقدمة الدماغ المسئول عن توجيه أفكار الإنسان.
ارتقى المسئول الأمني الدرج المؤدي إلى سطح السفينة حيث استلقى القذافي على أحد الكراسي المتناثرة هناك ، وفي يده منشة خضراء كبيرة يبعد بها الذباب الصفيق عن وجهه. لم يدر ضابط الأمن كيف ينقل الخبر العجيب إلى القائد ، وخاصةً عندما رآه مستمتعاً بجلسة هادئة وقد رانت عليه السكينة والطمأنينة . لقد خرج البدو في البيضاء والزنتان وهم يطالبون بإسقاط النظام ، وقال المسؤول الأمني محدثاً نفسه ، كيف لرعاة الماعز والبقر في البيضاء أن يطالبوا بإسقاط النظام وهم أبعد ما يكونوا عن النظام ؟ كيف لمن وصفهم د . رجب بودبوس ذات مرة بـ " سفرة كسر " أن يطالبوا بأمور حضارية كالحرية والدستور وإنشاء أحزاب كما طالبوا ذات مرة بان يوسع مدى بث البرنامج الثاني التلفزيوني ليستمتعوا برؤية برنامج ( ألعاب بلا حدود ) المسلي ؟ وكيف لسكان الكهوف في الزنتان الذين يذكرونك بإنسان نياندرتال أن يضرموا النار في مقر مثابتهم الثورية في رابعة النهار، وينهمكوا في نقاش حول كيفية خروج البيضة من الدجاجة ، وهل تخرج البيضة من الدجاجة بواسطة الفلفل أو بدون فلفل ؟ ولو أنهم كلفوا أنفسهم قليلاً وراجعوا الفصل الثامن من كتاب صموئيل بتلر ( الحياة والعادة ) لوجدوا فيه ما يشفي غليلهم ، حيث يقول السيد بتلر : لقد تم التعليق مراراً ، حسب ما أعتقد على أن الدجاجة هي مجرد وسيلة البيضة لصنع بيضة أخرى .
لم يكن هناك ثمة إجابة شافية لهذه الأسئلة التي تدور بذهنه سوى أن ما قام به أهل مدينة بنغازي من تظاهر واعتصام أمام مديرية الأمن وفي ميدان الشجرة ، ومشاكسة ذلك المحامي المدعو ( فتحي تربل ) لسلطات بلاده الأمنية ، هو ما حفز أولئك البدو على الخروج على النظام ، خشية أن يكون قد فاتهم القطار ، كما تقول الحكمة اليمانية.
أنتبه القائد لمقدم مسؤول أمنه الشخصي ، وكأنه أدرك أنه يريد أن ينهي إليه أمراً ما فقال له : ما وراءك ؟ تلعثم المسؤول الأمني قليلاً ، ولكنه ما لبث أن تمالك نفسه وقال : لقد خرجت الدهماء إلى الشوارع ، وهم في حالة تمرد على السلطات ، ويهتفون بإسقاط النظام ، ويحرقون الأخضر واليابس.
في الآونة الأخيرة ، أناخت أعباء حماية الثورة ورعايتها بكلكلها على عاتق القائد ، ولم تعد صحته تسمح بقيامه بالأعمال العظيمة التي أعتاد القيام بها لشعبه ووطنه العظيمين ، ولذا فعند سماعه أخبار تمرد الدهماء ذاك ، قال في نفسه : "جت منك يا جامع " ، وهو الذي عزم منذ فترة على ترك العمل السياسي ، والتفرغ لكتابة مذكراته .
اتخذ القائد هذا الموقف السلمي وهو يستحضر مقولة الرئيس الأمريكي جون كيندي :
" أولئك الذين يجعلون قيام الثورة السلمية أمراً مستحيلاً ، سيجعلون الثورة العنيفة أمراً يتعذر اجتنابه " .
لقد أصدر أوامره بالتعامل برفق مع المتمردين قائلاً : " بنغازي حبيبتي " ، وليس ذلك بغريب على القائد إذ أنه استعمل ذات المصطلح في وصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بقوله " حبيبتي السمراء " وهذه نقطة جديرة بأن يقف المرء عندها للتأمل والتفكر في ماهية الحب الذي كان القائد يكنه لبنغازي ، وهل هو من نفس نوع الحب الذي كان يكنه للسيدة رايس ؟ لأن ذلك من شأنه أن يلقي الضوء على المؤن الغير غذائية التي مون بها جنود كتائب القذافي بقيادة جبران حسين جبران أثناء حملتهم على بنغازي .
فإذا كان الحب واحداً فلا شك إن مصير المحبوبين سيكون واحداً ، وفي هذه الحالة الويل للمحبوب.
بالرغم من تعامل الرائد خميس معمر قائد اللواء 32 المعزز تعاملاً إنسانيا مع الدهماء المتمردين ، استجابةً لتوجيهات القائد فقد اتسعت رقعة الاحتجاجات حتى وصلت إلى الزاوية ، ومن ثم إلى مصراتة . عندئذ أدرك القائد أن العقد قد أنفرط ، ولم يعد يجدي مع الخرق أي ترقيع ، قال مقولته الشهيرة التي سيسجلها له التاريخ ما بقى هناك ثورة وثوار :
" أيها الشعب الليبي العظيم ، إذا كنتم مصرين على التخلي عن السلطة فأتمنى أن يحكمكم من يخاف الشعب والقانون ، والصحافة ، والدستور ، والنقابات ، والمظاهرات ، والإضرابات ، والمداولات البرلمانية ، واتحادات العمال ، وحجب الثقة عن الحكومات ، والحريات العامة ، والتداول السلمي على السلطة ، والشفافية ، لأنه عندئذ سيستجاب لكم حتى ولو لم يدعُ خياركم ، ولن يكن لشراركم مكان سوى في الجديدة أو أبوسليم ..... "
وجاءت ثالثة الأثافي عند ورود خبر انتفاضة أهل الزاوية وأن الدهماء في تلك المدينة وفي مقدمتهم المبروك زقروبة قد خرجوا إلى الشوارع وهم يرددون هتافاً تقول كلماته :
" حكم السافي ولا حكم القذافي "
لا يملك أي شخص مهما أوتي من جوامع الكلم والحكمة والبلاغة الخطابية أن يجبر الشعب الليبي على العيش تحت وطأة رياح السافي حتى ولو كان ذلك الشخص هو زقروبة نفسه . ولم يكتف السيد زقروبة بهذا بل أنه أرغى وأزبد وهدد وتوعد بأن الشعب الليبي سيقتلع أهداب جفني القائد ، ويمزق شدقيه ، ويسكب ما في كأسه وكأن القائد من معاقري الراح ، بل أنه توعد القائد وكأنه ينظر من خلال حجب الغيب بإخراجه من إحدى الحفر ورميه كما يرمى سقط المتاع ( وأستخدم في وصفه الدارج كلمة الشلتوتة ) .
ولما سمع القائد ما ردده المتظاهرون في الزاوية دعا عليهم دعاءً ينضح بالمرارة وخيبة الأمل ، لقد كان دعاءً يحمل في ثناياه نذيراً مشؤوماً فقال:
" الله يسلط عليكم من سيسفى عليكم شنته، ويقعد عليها بعد ذلك " .
لم يمض زمناً طويلاً حتى بدأ الليبيون يستشعرون حدوث إرهاصات تنبئ بتفتح أبواب السماء على مصراعيها لقبول دعوة مظلوم ، وكما يقول التعبير الإنجليزي Lo and behold فقد لاحظ العارفون وأولي البصيرة منهم ظهور طاقية على رأس أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي مما حدا بأولي النزعات النفسية الرقيقة الرحيمة من بعض الليبيين أن يشتطوا في تأويلهم لهذه الظاهرة لحد أنهم رجحوا تدخل أحد أجداد القذافي المرابطين وتسليطه على الليبيين ليس مجرد السافي وحده ، بل معه شنة إخفاء Cap of Invisibility سيخفي بها كل من تنكر لحفيده وقلب له ظهر المجن!
لقد ودع الزعيم الليبي الذي قاد ليبيا طيلة 42 عام شعبه بهذه الكلمات الحكيمة ، وأثر سلامة الوطن والشعب على الدخول في ترهات ، وخزعبلات ، ومهاترات ، ومماحكات لن تجدي فتيلا ، لا له ولا لغيره.
علق الشباب الليبي آمالاً كبيرة على مشروع ( ليبيا الغد ) الذي طرحه الدكتور سيف الإسلام معمر ، والذي كان يرمي بواسطته إلى أن يخطو بليبيا خطوة صغيرة كخطوة الأمريكي نيل أرمسترونغ ولكنها قفزة عظيمة لليبيين إلى آفاق غدٍ زاهر متطور. وبالرغم من أن الشباب لم يكونوا متنكرين لحاضرهم المعاش على هدي توجيهات القائد المعلم الحكيمة ، إلا أنهم كانوا يتطلعون بشوق عارم إلى الإمكانيات التي يحملها مشروع (ليبيا الغد ) في ثناياه . ويكاد المراقب أن يجزم بأن لهؤلاء رؤية زيدية لكونهم يتطلعون لغدٍ أفضل وفي نفس الوقت لا يتنكرون لحاضر مفضول .
في تلك الأثناء كان د . سيف الإسلام القذافي الذي أطلق عليه الشباب لقب (الغدي) في منزل لأحد المقربين إليه يدعى (وسام الزوماط ) في العاصمة الليبية طرابلس قرب سوق القبب . وعندما تناهى إلى سمعه أخبار خروج أهالي فشلوم وسوق الجمعة ، وتاجوراء ، وزاوية الدهماني في تظاهرات وهم يهتفون " بالروح بالدم نفديك يا بنغازي" ، " وا تريس سوق الجمعة بنغازي تبكي بالدمعة " ، أمر بأن تنظف الساحة الخضراء وتغسل بالمياه لاستقبال المتظاهرين وإفساح المجال لتلك الدماء الجديدة لتعبر عن آرائها ما شاء لها التعبير. وأصدر أوامره للزوماط الآخر ، فوزي بأن يوفر للمتظاهرين السجائر وكروت الهاتف وبعض المرطبات . لقد تبدى (الغدي) عن رحمة ورفق وحكمة قلما وجدت في نفوس نظرائه من شباب الجيل الحالي . وعندما جاءت الأخبار من مدينة البيضاء التي تقول أن " طرف الخبزة بدينار ونص" ، أدرك حينها أن الحرب الأهلية بدت تطل بقرنيها ، وأن هناك من يحاول تقسيم البلاد قطعة قطعة ، قال مقولته التاريخية : "بأنه يؤثر أن يقطع جسده بمضع جراح على أن تقسم ليبيا قطعة قطعة " . وعند سماعه كلام المشككين في وعوده عن مشروع( ليبيا الغد) من أمثال الشيخ طاهر المهدي أجديع الذي وقف في مدينته الزنتان وسط جمع من الغوغاء والسوقة مستغلاً ضحالة تفكيرهم وضيق أفقهم ، وقلة معارفهم ، وهو يتهم الدكتور سيف الإسلام بأنه ( أبخل من دجاجة بوفلفل ) ، ويدعو عليه بأن تصيبه ( غدة تغده) ، رد عليهم بهدوء بأن الوقت أضحى متأخر جداً Too Late للإصغاء لمثل هذه المماحكات ، وأن الأمر ببساطة شديدة قد حسم وأن ليبيا ، وبنغازي على وجه الخصوص ستقفز إلى آفاق الغد في خلال ( 48 ساعة فقط ). لقد أثبت (الغدي ) أن من شابه أباه فما ظلم ، وأن هذا الشبل من ذاك الأسد ، وأن العصا من العصية .
وفي يوم الجمعة ، 18 فبراير 2011 دخل اللواء الساعدي القذافي إلى إذاعة بنغازي المحلية وسط حشد ضخم من أعضاء اللجان الثورية وفريق العمل الثوري ليوجه كلمة إلى أهل بنغازي الذين خرجوا عن طورهم واستبدوا برأيهم وركبوا رؤوسهم كما يقول التعبير الدارج ، بل أن بعض المتسرعين منهم فضلوا في يوم الإربعاء 16 فبراير القفز من كوبري جليانة إلى البحيرة الواقعة أسفله على أن يجادلوا عبدالله السنوسي ونجله محمد اللذان جاءا لمجادلتهم بالحسنى ، وقال حضرة اللواء الساعدي أن والده خوله تنفيذ خطة لتطوير بنغازي بشكل غير مسبوق وخصص لذلك مبلغ 22 مليار . وعند خروجه من مقر الإذاعة ، أطلق بعض السفهاء والموتورين الذين لم يستوعبوا رؤيته لما ستئول إليه بنغازي سباب وشتائم بحق اللواء الساعدي . فما كان منه إلا أن ضرب صفحاً عن كل هذا تأسيا بالهدي القرآني الذي يأمر بالإعراض عن الجاهلين ومخاطبتهم بالسلام . وعند رجوعه لمقر كتيبة (الفضيل بو عمر ) الأمنية أصدر الأوامر بالتعامل مع المتظاهرين الغاضبين المثقفين تعاملاً يرقى على دخان البارود ونيران البنادق ومدافع الشيلكا ، والميم طاء ( 14.5 ) وصواريخ الآر بي جي لأن ذلك كفيل بأن يحولهم إلى أنصاف مثقفين . ولكن الناس كما يقال لم يخلقوا متساويين ، فهم كأصابع اليد ، فقد خالف بعض جنود كتيبة الفضيل أوامره وأطلقوا النار على المتظاهرين . فما كان من اللواء الساعدي إلاّ أن أمر باعتقالهم ، وحقق معهم في قبو بمقر الكتيبة ، وقال لهم أنتم أحفاد الشهيد عمر المختار الذي لم يخن بلاده قط ، ولم يفكر يوماً في خيانة بلاده . ثم أردف قائلاً بأن من يفكر أن يقارن أي شخص آخر بعمر المختار هو لا شك مخبول ، مصاب بلوثة عقلية ، وأحضر زجاجات مليئة بماء مُرقى ، ورش ما بها على وجوههم لعل ذلك يطرد ما بنفوسهم من جنة .
أما الدكتورة عائشة معمر ، تلك الفتاة الفاضلة ، المحتشمة فقد وقفت في يوم الخميس 14 أبريل 2011 ، وقفةً تاريخية ، أثناء مشاركتها في إحياء الذكرى الخامسة والعشرين لتصدي الشعب الليبي الشجاع للعدوان الأمريكي الأطلسي على الجماهيرية العظمى عام 1986 ، أمام بيت الصمود بباب العزيزية عند تلك اليد العملاقة الممسكة بطائرة ، ولا أخفي على القارئ الكريم إني كلما رأيت صورةً لتلك اليد العملاقة الصفراء الممسكة بطائرة في قبضتها ممزقة إياها شر ممزق ، كلما وقر في نفسي أن يد الشعب حتى وإن كانت أسفل طائرات أميركا ففي النهاية يكون لها الظفر والغلبة .
وخاطبت الدكتورة عائشة الجماهير الواعية ، المحتشدة ، المتحدية لطائرات الناتو وصواريخها التي يبلغ ثمن الواحد منها مليوني دولار ، قائلة : لا يجب أن نربط استحقاق امرئ ما للحياة بضرورة أن تكون إرادته متناغمة مع حكم امرئ آخر له ، حتى ولو كان هذا الأخير هو القائد معمر القذافي نفسه . وبالتالي فإن عدم محبة شخص ما أو مجموعة من الناس للقائد ، لا يعطينا البتة الحق بالقول أنهم لا يستحقون الحياة. وهكذا أثبتت هذه الفتاة الفاضلة أن لها صدر أرحب من أن يضيق بما يقوله المغرضون بحق والدها ، وبحق الثورة التي انتشلتهم من وهدة الرجعية وأدران الوساطة والمحسوبية .
في تلك الآونة شهدت الصحراء الليبية عاصفة رملية هوجاء تجسدت في جدارٍ هائلٍ من الغبار انتصب على الأرض وتقدم في طريقه كثقب أسودٍ مبتلعاً ما وجده في طريقه من السيارات والبشر . كانت ظاهرة طبيعية بالغة الغرابة ، ومن المحتمل أنها لم تكن تحمل في طياتها سوءً ولكن المرء لا يستطيع أن يحمل نفسه على الاقتناع بأنها بشارة بخير مقبل ، ويكاد المشاهد لهذه الظاهرة أن يجزم بأن ما يراه لا ينتمي بأي حال من الأحوال لأي حدث دنيوي ألفته الأراضي الليبية في أي وقت من الأوقات ، بل هو أشبه ما يكون بالأحداث العجيبة التي تسبق يوم القيامة والتي تصنف بالعلامات الصغرى والعلامات الكبرى .
قال بعضهم : لعل هذا هو السافي الذي ورد في دعاء القذافي على قومه عندما جزوه جزاء سنمار بتنكرهم له وجحودهم لفضله عليهم وتضحياته من أجلهم .
ورد عليه آخر : أحسب أن دعاء القذافي به من المجاز الشيء الكثير وأولها السافي . إن للمجاز في كثير من الأحيان قدرة عظيمة على تصوير الوقائع ، فلا يجب أن نتصور السافي هنا على أنه رياح صحراوية حارة محملة بذرات الرمل شديدة الهبوب تسفع الوجوه سفعاً ، فقد يكون السافي حسب تأويلي المتواضع خونة تشربوا الخيانة حتى أصبحت ديدنهم فيشوا بأحرار أرادوا الإطاحة بنظام سيدهم ثم يقوموا بعد قيام ثورة 17 فبراير بكيل المديح لعائلة القذافي بدون أدنى رادع أخلاقي في الوقت الذي يكون فيه الثوار يئنون من رصاص وصواريخ هذه العائلة وأزلامهم ، وقد يكون جيشاً غير خاضع للسلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية ، فيبرز كسلطة منفصلة لا تلبث أن تتغول لتُخضع كافة السلطات الأخرى ثم تُلغيها بالمرة ، وينتج لكم ضباطاً لا هم لهم سوى تدبير الانقلابات ، وأكل مال الأمة بالباطل ، وقد يكون السافي قضاءً مخصياً يتسابق قضاته على سيارات (المكسيما ) اليابانية ، وقد يكون السافي امرأة تدعو إلى زواج الرهط وتتساءل عن السبب الذي يحول دون أن تتزوج المرأة بأربعة رجال إذا كان يحق للرجال الزواج بأربعة نساء ، وقد يكون السافي مسؤولين على مصالح الشعب هم أقرب إلى اللصوص والخونة منهم بالأمناء ، وقد يكون السافي إعلاميين يطبلون ويزمرون لكل من ترأس وحكم ، وقد يكون كُتاب وأدباء يمارسون الدعارة والعهر الثقافي جهاراً نهاراً بدون أدنى شعور بالحياء ، وقد يكون السافي ثواراً لا يملكون من روح الثورة ونفسها إلا الاسم فاطمأنوا إلى ملمس السلاح في أيديهم ورائحة البارود في أنوفهم وتحولوا إلى قطاع طرق ورجال عصابات وقتلة ، وقد يكون نفر عملوا في نظام القذافي ولم يخطر ببالهم حينذاك أن القذافي بالغ السوء وبمجرد تيقنهم من نجاح ثورة 17 فبراير ينقلبوا عليه ويديروا له ظهورهم ويصبحون قادة للثورة ، وقد يكون أناس أباحوا لأنفسهم الحق بدون أن يكون لهم أدنى رصيد ثوري بالتحدث عن المتسلقين وراكبي الأمواج وهم أنفسهم أكبر من ركب الأمواج , وقد يكون شخص من الذين قفزوا من سفينة القذافي الغارقة ، ووثب على سفينة 17 فبراير وأمسكوا بسكانها ولا يرضى أن يشاركه أحد في توجيهها ، ويعتقد في نفسه أنه مالك لزمام المعرفة وأن أرحام الليبيات لم تنجب من يدانيه في العلم والحكمة والتخطيط الإستراتيجي ، ويسيل لعابه لذكر الملايين والمليارات من الأموال الليبية المجمدة المرطرطة ، وقد يكون أناس يتغنون دائماً بالحرية ، وعندما يتولون سلطة ما يسفرون عن وجوه جديدة وألسن مختلفة تتلفظ بوجوب مراقبة الإعلام والحد من حريته ، وقد يكون السافي أشخاص يبدون غيرتهم على ليبيا من أوهام تدور في مخيلتهم حول تدخل إحدى الدول في الشؤون الليبية وعندما تأتي دولة أخرى وتقوم بتدمير الصواريخ الليبية لا يسمع لهم صرخة واحدة تنبئ عن وطنيتهم وحرصهم على سلامة بلادهم من أي تدخل أجنبي .
قد يكون السافي هذه أو تلك ، وقد يكون كل هذه الأشياء برمتها ، وقد يكون شيئاً آخرا لم تدركه تصوراتنا أو تتوقعه أفكارنا ، أو قد يكون كياناً متعدد الأقانيم يظهر أقانيمه وفقاً لما يجده أمامه على الأرض ، أي كما تكونوا يولى عليكم . فنسأل الله العافية والسلامة .
طرابلسيةحرة- ملازم ثان
-
عدد المشاركات : 164
العمر : 30
رقم العضوية : 6558
قوة التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 15/09/2011
amol- مستشار
-
عدد المشاركات : 36762
العمر : 43
رقم العضوية : 2742
قوة التقييم : 9
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
مواضيع مماثلة
» الحارسة الشخصية لـ «معمر القذافي»: القذافي لم يُقتل ..!!
» أسرة القذافي في الجزائر وأنباء عن مقتل السنوسي وخميس القذافي
» نفى سيف الإسلام القذافي نجل القذافي، اعتزامه تسليم نفسه إلى
» وزير خارجية القذافي عبدالعاطي العبيدي "القذافي انتهى"
» سحر القذافي في درنة وجدت خريطة هدا السحر في قصر القذافي في ا
» أسرة القذافي في الجزائر وأنباء عن مقتل السنوسي وخميس القذافي
» نفى سيف الإسلام القذافي نجل القذافي، اعتزامه تسليم نفسه إلى
» وزير خارجية القذافي عبدالعاطي العبيدي "القذافي انتهى"
» سحر القذافي في درنة وجدت خريطة هدا السحر في قصر القذافي في ا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 8:36 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR
» الأرز الإسباني
2024-11-18, 7:45 am من طرف STAR
» عن مشاركة نيمار في مونديال الاندية.. هذا موقف الهلال
2024-11-16, 8:14 am من طرف STAR
» لضمان نوم هادئ ومريح.. تجنب 5 عادات
2024-11-16, 8:13 am من طرف STAR
» ترتيب المنتخبات العربية في تصفيات آسيا لكأس العالم 2026
2024-11-16, 8:12 am من طرف STAR
» الخضار الأعلى كثافة بالمغذيات
2024-11-16, 8:11 am من طرف STAR
» رونالدو يثير التفاعل بتصرف رائع خلال مباراة البرتغال
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR
» غرامة بمليار دولار تُهدد "ميتا" بالتفكك وسط ضغوط تنظيمية دولية
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR