إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
مرضى حكموا العالم (فرنسوا ده فاليه FRANCOIS DUVALIER)
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
مرضى حكموا العالم (فرنسوا ده فاليه FRANCOIS DUVALIER)
من المعروف والمسلم به أن الحكم يستهلك رجاله، ويضعف الحكام، وفي هذه العجالة، نحاول شرح هذه الظاهرة.
إن من يمارس الحكم، لمدة طويلة ينشأ عنده ويتفاعل أكثر فأكثر، نوع من الهذيان والضياع، كما شرحت مادلين كرواينتز المجازة في الحقوق العامة الذائعة الصيت.
إن أكثر الحكام يبدون في هذا المجال نفس الأعراض، أهمها عدم الاهتمام بنصائح مستشاريهم، فهم لا يأخذون سوى ما يناسبهم من هذه النصائح والآراء كما أن هؤلاء الحكام في حالات متقدمة يعزلون أنفسهم، فيعيشون في شبه بوتقة مغلقة، أو برج عاجي، إذ يقل صبرهم، ولا يتحملون النقد أو أي نوع من المعارضة، ويصبحون في بعض الحالات حقودين، محبين للانتقام، وينتهي تقريباً بجميعهم المطاف، فيصبحون منبوذين ومكروهين من شعوبهم.
إن الحكم يجتذب عادة، المتصبين بآرائهم، والخطرين في معاملاتهم وتعاطيهم مع الناس، وخصوصاً مع منافسيهم؛ فعندما يصلون إلى الحكم، تتفاقم لديهم هذه الظواهر، خصوصاً أنهم في مركز القوة يحصدون في أرض خصبة، وينهلون من نبع غزير وقد شرح الباحثون وعلماء النفس أسباب هذه الظواهر والحالات، فبشكل عام عرف هؤلاء الرجال طفولة خيالية من الحب والحنان، وفي حالات كثيرة دون أهل.
ثم تعرضوا لتأثير مدرسين ومربين متشككين متدربين، فتعلموا الكذب إخفاء لحقيقة مشاعرهم وعواطفهم.
كذلك تعلموا الشراسة، للدفاع عن آرائهم الخاطئة، والأنانية للحفاظ على مصالحهم ونزواتهم الخاصة، فكانوا لا ينظرون إلى الأشخاص إلا من أعلى، ولا يعالجون المواقف إلا بطريقة ارتجالية، دون دراسة أو تمحيص.
وكثيرا ما يجنحون نحو التبدل، فكانوا يبحثون عن المسرات تعويضاً عن شعورم بالضيق والقلق العميق، كما أن كلاً منهم يتظاهر بالبطولة والشجاعة إلا أنه يخفي وراء هذه المظاهر الخلابة، جبناً، فيولي الأدبار لدى أقل مواجهة.
وتتمحور جميع تصرفاتهم وتعاطيهم شؤون الحكم حول قاعدة واحدة، لا تقبل الجدل: لكي تحكم اقد على كل من تسول له نفسه رفع صوته، أو إبداء رأيه.
ومن هنا، كان أساتذة التاريخ، لا يجدون صعوبة، في إعطاء صورة نموذجية، عن أمثال هؤلاء الرجال، لتلاميذهم، فخير مثل في هذا المجال هو: "لوسيوس دوميتوس أهنوبروس" الذي أصبح فيما بعد الامبراطور "نيرون" المشهور بحرقه لروما.
منذ الثالث عشر من تاريخ تشرين الأول سنة 54 بعد المسيح وهوتاريخ جلوس هذا الحاكم الفريد، على عرش الامبراطورية الرومانية "نيرون" وحتى يومنا هذا كان لكل قرن، نيرون أو أكثر..
في القرن العشرين والكل يعرف، قاصي العالم، الظلم والاستبداد على أيدي بعض هؤلاء الأمراء الأشرار، فذاقوا الأمرين خلال حكمهم، ومن معاصرين اثنان من "خيرتهم" "فرنسوا ليفاليه" "وفر ديناد ماركوس" الذي كان لكل منهما آثاره السلبية على حياة ومستقبل شعبه، فقد استغل هذه الشعوب في أول الأمر، ثم أزلاها وقهراها ثم سحقاها كلاهما شرير دموي، خلف وراءه مآسي لا يمحوها الزمن من ذاكرة من تعرض لنتائجها.
ففي البحر الكاريبي إلى حيث يتسابق، في هذه الأيام، أثرياء الغرب، لقضاء عطلاتهم والترويح عن أنفسهم، فإن الخمسة ملايين نسمة الذين يشكلون سكان هايتي، لم ولن ينسوا الظلم والاستبداد الذين مارسوهما عليهم، "ديفاليه" وبين 1957 و1971 اربعة عشرة سنة من الرعب.
أما في جنوب –شرق آسيا، فالسبعة وثلاثون مليون فلبيني الذين تحرروا منذ شباط 1986، بعد عشرين سنة من القمع والاستبداد، الذي فرضه عليهم رئيسهم "الشفوق" ماركوس كانوا يرتجفون رعباً لمجرد التفكير، بأنه ربما نجح بالفرار من منفاه الذهبي، في هاواي، جنة عدن الأمريكية في قلب الباسفيك، والعودة إلى مانيلا للموت في بلاده، كما يدعي ويتساءلون ألا يقوم من قبره، ومعه يعود الضيق والمعاناة؟!
فهو مصاص دماء، وغول نهم، ما أكثر ضحاياه.
فهو وزميله "ده فالييه" كل منهما "نيرون" يتشابهان في الشهية إلى القوة والاستبداد والقسوة مع الشعب، ثم جعلهما، في مصف المرضى الذين يصلون إلى الحكم بعض الأحيان.
ده فاليه الأعرق بالإرهاب:
أولاً، "ده فاليه" إذ أنه الأكبر من حيث العمر والأوسع شهرة من حيث الظلم والإرهاب، من الغريب أن هذه الشخصية الممقوتة، لن تعمر طويلاً.
فقد رحل وهو في الرابعة والستين من عمره ولم يلفت إليه الأنظار، عملياً في النصف الأول من حياته الشقية، هذا على الأقل في "بورت- أو- برنس"، ولم يؤت على ذكره في الندوات، حيث تبحث وتصنع سمعة الرجال، لا سيما السياسيين منهم، كذلك لم يكن للغرب رأي في سلوكه.
من هو فرانسوا ده فاليه:
رجل صغير أسود، يضع على أنفه نظارات "ميوبيا" سميكة العدسات، متدهلاً، يتحرك ببطء ومسكنة، كما أنه يتكلم بصوت خافت مبحوح، ومن هنا يلقبه أصدقائه "النادرون" بالزاحف، أو الزحاف، إذ كان يحرك رجليه زحفاً وليس نقلاً، وكان يقيم في منزل العائلة الذي يقع في طرف "زقاق روي" الكائن في ضواحي العاصمة الفقيرة.
أما والده فهو طبيب ريفي متواضع، ترك مزاولة عمله المشرف، ليصبح قاضي صلح حيث لم يحقق أي نجاح أو رفاعية.
وكان يبدو أن والده فرانسوا، وهو نسخة طبق الأصل عن والده اقتدى به في كل شيء، وعلى سنة والده وطريقه، نال شهادة الطب إلا أنه لم يمارسه، فلم يتخذ له عيادة، كما أنه لم يلتحق بإحدى المستشفيات أو المستوصفات، بل كان يجوب الأرياف بخطوات بطيئة حاملاً حقيبته.
في الرابعة والثلاثين من عمره سنة 1941- لكنه من المعروفة الذي لا تبدو عليه حقيقة عمره وفي جميع الأحوال لم يكن له ماض معروف في تلك الحقبة من الزمن، حلت بجيرزة هايتي كارثتان أصابتا عشرات الآلاف من الأهالي: الملاريا "والبيان PIAN" وهذا الأخير مرض جلدي شديد العدوى والانتشار، يعود إلى نوع من الطفيليات التي تنغرس في مسام الجلد، وهذا الوباء معروف في جميع البلاد الحارة تقريباً.
وهكذا وجد فرنسوا ما يشغله مع بعض جروح يعالجها، أما الملاريا فكان يحاربها بالكينا والبيان PIAN بأملاح البسميت إذ أن المضادات الحيوية لم تكن قد وجدت وكان يؤثر بشكل خاص على الريفيين البسطاء بالتلويح بمساحيقه ومراهمه ومن هنا قلب "ببابا دوك" كما أشيع بأنه يتعاطى السحر فاستغل تلك الشائعات لمصلحته.
أصبح معروفاً من سكان البراري والأدغال، فالبعض كان يقدره، أما البعض الآخر فكان يخافه ويخشى سحره، إذ كانوا يؤمنون بالسحر والشعوذة والأرواح الشريرة، إلى ما هنالك من الخرافات والمعتقدات، التي لا أصل لها ولا صحة، لكنه كان يحصد ثمار هذه المعتقدات فيرضي طبيعة الاستئثار والتملك التي تجيش في صدره.
في العاصمة "بورت- أو –برنس" كانوا لا يهتمون بالخرافات والخزعبلات التي يمارسها هذا الطبيب الأسود الصغير، وكان عليه إخفاء حقده وكراهيته للمولونين، الذين يتحكمون بخيرات البلاد، والذين يعاملونه بطريقة فوقية، مع أمثاله من الزنوج.
كان من الممكن أن تحركه السياسة، لكنه كان يعرف أنه غير مهيأ بعد ولم تأت ساعته، مع أن الظروف مؤاتية فالجزيرة في غليان ضد الحكومة التي يرأسها "إيلي ليكوست" حليف أمريكا، وكان ليكوست قد نزع ملكية الفلاحين في بانيو والكاب وكونيف وسانت مرك وشبه جزيرة الجنوب، وأجبر على استبدال مزروعاتهم التي ينتجون منها جميع موادهم الغذائية بمحاصيل استراتيجية تحتاجها الولايات المتحدة التي اشتركت في الحرب العالمية الثانية؛ وكان من جراء ذلك، أن دخلت هايتي في أزمة اقتصادية خانقة مما أشعل نار الفتنة في البلاد إذ تحركت جميع الأحزاب والتنظيمات من مختلف الفئات والاتجاهات.
وفي هذه الأثناء لجأ صاحبنا "دفه فاليه" إلى الأدغال خوفاً من أن يصاب بما لا تحمد عقباه، عملاً بالقول الماثور عند تغيير الحكام احم رأسك.
الشعب الهايتي يطيح بليكوست:
انتفض الشعب بأكثريته في جزيرة هايتي سنة 1946، فكسر وخلع، سرق ونهب، وفي أوج هياجه هاجم الدوائر الحكومية فعبث بمحتوياتها واستولى على ما يمكن أن ينفعه وأحرق ما لا ينفع له من ملفات ووثائق، حتى وصل إلى القصر الرئاسي، إلا أنه كان خالياً من سكانه إذ كان الرئيس وربعه، قد ولوا هاربين، من وجه الأمواج المتدافعة سخطاً وغضبا.
كل هذا دون أي تدخل من قبل رجال السلطة، مما يوحي بتواطؤ محتمل، بين الجيش والثائرين، وهكذا تسلم زمام الأمور بصورة مؤقتة، الكولونيل "بول ماكلوار" على رأس لجنة حاكمة، لكنه بعد برهة من الزمن، سلم مقاليد السلطة "لاستيمه دومرسيه" وكان الطبيب الصغير الاسود، متربصاً يدرس ويتتبع الأمور عن كثب، وعندما تأكد من نجاح المعارضة، اندس بين صفوفها، وفي غفلة من القدر أصبح وزيراً للصحة في الحكومة الجديدة، فعلق سماعته مستغنياً عن خدامتها نهائياً إذ تأكد بأن هذه الحقبة، مناسبة جداً للمغامرة والمغامرين.
كان هدفه البعيد غزو المنصب الأعلى في الحكم، فكان يرسم ويخطط، لكن الوصول، وتحقيق أحلامه، أخذ منه إحدى عشرة سنة، اعتباراً من سنة 1946 قام بكل ما أتيح له من الأحابيل والمؤامرات ودائماً في السر والظلام يحوك وينسج.
من هذا المنطلق، وفي هذه الغاية، عقد صداقة مبنية على تبادل المنافع مع الجيش والشرطة، كما استحدث لنفسه موطئ قدم عند بول ماكلوار الذي عاد إلى الحكم في هايتي، ووضع قدمه ثانية، عند كليمان جومال زعيم المعارضة، أما ما تبقى من ولائه فقد منحه تحسباً لكل طارئ للسفارة الأمريكية، وكانت حيطته وحذره موضع تنذر وتهكم، لكن، يضحك جيداً من يكون آخر الضاحكين.
في كانون الأول 1956 أطيح ببول ماكلوار، الذي كان قد سمى نفسه جنرالاً على أيدي فريق من الجيش، فلجأ إلى الولايات المتحدة، هرباً من نقمة رفاقه القدامى، وبهذا خلال العرش فاحتلهخ عسكري آخر: الكولونيل "كريبو" فكرت سبحة الانقلابات والانقلابات المضادة خلال الثلاثة أشهر الأولى من سنة 1957 وكانت الأمور تدور والرياح تجري بما تشتهي سفينة ده فاليه.
ففي 22 كانون الأول انتخب البابادوك بصورة دستورية، وبأصوات الريفيين رئيساً للبلاد، ومنذ هذا، أصبح رقم 22 رقم سعد "ده فاليه" ومنذ انتخابه أعطى طبيب زقاق روي القديم، البرهان تلو البرهان على الطريقة التي سيحكم بها البلاد، فلجأ في أول عهده إلى الديماغوجية، فأسكر أهل الريف بالوعود، مشجعاً الشعب على الأعياد، والكرنفال.
لكنه صرح بأن العنف ضروري، لإعادة الأمور إلى نصابها وتثبيت الحكم، أو بالأحرى حكمه، حتى جعل منه ديناً، وبالرغم من أنه وصل إلى العرش بمساعدة الجيش، بادر فوراً إلى تصفية مجلس القيادة، أما عملية كبيارو في هذه القيادة، الذي كان على سبيل المكافأة والشكر قد سماه جنرالاً سرعان ما زجه في السجن، ثم نفاه خارج البلاد.
في الثاني من أيار، أعلن حالة الطوارئ والأحكام العرفية؛ وفي التاسع من منح الولايات الأمريكية المتحدة قاعدة للصواريخ في بلاده، في العاشر من الشهر، حاول تجار العاصمة الإضراب احتجاجاً، فسحق محاولتهم بقوة البوليس، كما أباح لرعاعه اقتلاع أبواب المتاجر المضربة ونهب محتوياتها، تحت سمع وبصر رجال الأمن، الذين لم يحركوا ساكناً، بناء للأوامر العليا.
وربما شارك بعضهم في السلب والنهب، ففي اليوم التالي وبحجة أن هذه المظاهرات وما رافقها من العنف والتخريب كان قد أعد لها ونظمها رفيقان سابقان له، لم يفوزا بالانتخابات "كليمان جومال ولويس دجوا" فأودعهما السجن، حيث اغتيل الأول، أما الثاني فنجا بأعجوبة فنفاه إلى المسكيك، وفي شهر تموز ومستعيناً "بكليمان باربو" اخترع "بابادوك" ميليشيا من المتطوعين للأمن القومي، التي تألفت من اللصوص وخرجي السجون فألبسهم الثياب الزرقاء، وزين صدورهم بميدالية ترمز إلى صفتهم، وزودها بالمسدسات والسواطير، ولم ينس النظارات السوداء لمزيد من الوقار كما أنشأ فريقاً أنثوياً مماثلاً، دعين "فتيات لابو" أي فتيات القانون وعقد لواء رئاستهن إلى روزالي بوكه، زوجة ماكس أدولف وزير الصحة، التي دعيت فيما بعد "أدولفين" فلبست أغلى الثياب المشتراة من محلات كبار مصممي الأزياء الباريسيين هذا عدا عن لباس المظليين الذي كانت تلبسه لتتبختر به وتهز ردفيها كأوزة ممتلئة، وقد بسطت سلطتها على العديد من المؤسسات حتى طاولت سجن "فورت ديمانش" الرئيسي وجهنم التي يعذب فيها المعارضون.
وبفضل هذه التنظيمات والمؤسسات الإرهابية اقام فرنسوا ده فاليه، خلال سنتين في جزيرة دكتاتورية غير متطورة، كانت نوعاً من أنواع "نيوفاشيستيه" البلاد القارية، كما أطلق عليها الشاعر الهاييتي "رينه دبستر" الذي أرغم من الكثيرين، على الهروب واللجوء إلى فرنسا ومن ثم إلى كوبا.
وهكذا عرفت هايتي، برعاية وفضل هذا الرئيس عشرين سنة من عدم الاستقرار، ولكنها في النهاية أعطت العالم نموذجاً صارخاً عن الغرغرينا التي تميز بها حكم هذا الديكتاتور الصغير.
دفه فاليه يصفي المعارضة:
ابتداء من سنة 1960 قضى ده فاليه على جميع التكتلات والمؤسسات، التي لم تكن حتى الآن قد رفعت يديها مستسلمة فقد حل نقابات أصحاب المهن الحرة، من أي نوع كانت كنقابة التجار والصناعيين، والمهندسين والأطباء والمحامين وغيرها.
وكم أفواه الصحافة المعارضة وخنق أصواتها، ليس هذا فقط، بل ألغى ترخيص بعض هذه الصحف وأغلق أبوابها، وبهذا لم يبق في البلاد من وسائل الإعلام، سوى من يسبح بحمده، ويمجد صفاته وإنجازاته، ومن رأى العبرة بأخيه فليعتبر، لم يكتف "ده فاليه" بهذا الحد من القمع والتخويف، فقد طاولت مخالفبة المؤسسات التربوية والتعليمية، كما نهش المقاومات الدينية، فطرد من بلاده الإرساليات اليسوعية بكافة أنواعها، من مدارس وملاجئ أيتام ومستوصفات وخلافه، وهي عديدة جداً، ولها خدمات متنوعة لا تعوض ومآثر جليلة لا تنسى، ويكفي أنها قد علمت وثقفت أجيالاً من الهايتيين منهم ما لا يقل عن تسعين بالمائة من الأطباء والمهندسين، ورجال القانون دون أن ننسى، بأن ده فاليه شخصياً كان واحد منهم.
وهنا تحضرنا الأقوال المأثورة: اتق شر من أحسنت إليه، وأبت النفس الخبيثة أن تخرج من هذه الدنيا، قبل أن تسيء إلى من أحسن إليها.
وقد خص الدين ورجاله بضربة قاسية، فطرد بطريرك البلاد والمونسنيور بواريه، وعشرات المئات من الكهنة ورجال الدين، وأغلق الكلية الإكليركيية الكبرى، وبهذا انقطعت شعرة معاوية، بين هايتي وحاضرة الفاتيكان ووضع يده على أملاك الكنيسة وصادر أموالها.
بعد أن استعاد الرئيس التاريخي ده فاليه أنفاسه ونشاطه، وجه اهتمامه للاصلاحات الداخلية، فأتت على صورة ما سماه تطهيراً في صفوف الجيش والموظفين، فكانت دركونية بكل معنى الكلمة، إذ طرد العناصر المستقيمة الصالحة التي ربما في يوم من الأيام رفعت صوتها أو اصبعها في وجهه.. الوسيم.
لم يكتف بكل ذلك، بل في عملية تفتيش ومطاردة مسعورة، اعتقل، المونسنيور "أوغيستان" وهو أحد رجال الدين الأتقياء، وبكل بساطة، أقتيد إلى المطار واجبر على مغادرة البلاد في العاشر من كانون الثاني 1961.
وأخيراً شرع مذهب الفاندو فأعاد جزيرة هايتي إلى عبادة الأوثان، وبلغ به الأمر، إلى تقريب بعض سحرة هذا المذهب فجعلهم مستشاريه الرسميين يستفتيهم في كل صغيرة وكبيرة، وقد صب جام غضبه وخص بالجزء الأكبر من لعنته جماعة "المولدين" الخلاسيين، إلا أنه أبقى على قسم كبير منهم في مناصبهم الإدارية الهامة، إذ أنهم يشكلون الطبقة الوحيدة المتعلمة والمثقفة في البلاد.
سنة 1963 إثر محاولة فاشلة، لقتل ولدي الرئيس ده فاليه أثناء انتقالهما في السيارة الرئاسية ضمن العاصمة "بورث أو برنس" أسند بابا دوك تخطيط الجريمة، إلى أحد رجال المعارضة، وهو ضابط كبير في الجيش، فطارده رجال الميليشيا حتى أبواب سفارة الجمهورية الدومينيكية، حيث التجأ وزوجته، وكادوا يقتحمونها مستخفين بالأعراف والقوانين الدولية.
لكن أثناء ذلك لم يتفهم إعمال سواطيرها تقطيعاً وتهشيماً في أوصال ورؤوس جميع أفراد عائلة الفار، ومن بينهم طفل رضيع كما قضوا على جميع خدمه، إثر مهاجمة سفارة الجمهورية الدومينيكية، انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الجارتين، هايتي والدومنيك كما أن الولايات الأمريكية المتحدة فرضت على الجزيرة القطيعة والحصار الاقتصادي وهكذا خلال ست سنوات من حكم فرانسوا ده فاليه الديكتاتوري المتعسف تخلى جميع الحلفاء والأصدفاء عن هذه الجزيرة التعيسة، التي أصبحت معزولة ومحاصرة مع شيطانها.
ماذا عن صحة ده فاليه؟
ماذا نعرف عن صحة ده فاليه، في هذه الحقبة من حياته؟
من المعروف أنه كان مصاباً بداء السكري منذ زمن طويل، لكنه كان مستهتراً أو مشغولاً عن مداواة هذا الداء العضال؛ كما أنه بالإضافة إلى ذلك، ومنذ سنة 1946 تاريخ تعاطيه السياسة فعلياً، وتحوله كلياً عن المهنة التي تعلمها ومارسها خلال مدة ليست بقصيرة، وأصبح متهماً بممارسة اللواس، وهي إحدى طقوس الغابات الوثنية، طرأ تغيير جذري على تصرفاته وانفعالاته.
ففي بعض الحالات، كان يغرق في صمت رهيب وتعتريه رجفة شديدة تنهك أوصاله لساعات عديدة، يعود بعدها، إلى رشده والسيطرة على نفسه، كما أنه لم يعد بحاجة حتى لأتفه الأسباب، كي ينفجر غاضباً في ثورات رهيبة تدخل الرعب إلى قلوب من حوله، فيولون الأدبار، مبتعدين عن مرمى حممه، ولمدة طويلة لا يتجرأ أحدهم على الدخول إلى مكتبه حيث يحتفظ، في متناول يده بمسدسه "الكولت" من عيار 45 المحشو بالرصاص بشكل دائم، وكان لأسباب مجهولة، وفي عادة فريدة لا يتخذ قراراً هاماً، إلا أثناء استحمامه، معتمراً قبعته، وبالعودة إلى أقوال المقربين منه، كان يلعب مسرحية "هاملت" فيتساءل عن المستقبل، محملقاً في رأس أحد أعداء الوطن المقطوع.
منذ سنة 1946 أخذ يبتعد عن الناس شيئاً فشيئاً فينطوي على نفسه داخل قصره، ومن وقت لآخر، يدخل في حالة مدهشة من الثرثرة والهذيان التي لا معنى لها، ومن أقواله: أنا كائن روحي، أنا عظيم الهايتيين، لا يمكن استبدالي أو مشاركتي، وعندما نودي به رئيساً لمدى الحياة، تكرم في خطبته الجوابية في الكونغرس، وقال: إنني أسمح لكم، بإعادة تكريسي من وقت لآخر.
وكان لزاماً على كل من يقدم إليه التماساً أو استرحاماً أن يبدأ كتابه هكذا، إلى حامي الشعب زعيم الثورة الأعلى، نبي الوحدة الوطنية، زعيم العالم الثالث، منسق التجارة والصناعة في البلاد، المحسن إلى الفقراء، ملهم النفوس، مسدد خطى وأغلاط الهايتيين، وبهذا فقط ربما استجيب طلبه، كما كان على الصحف، أن تكرس من وقت لآخر، صفحاتها الأولى لصورته بالألوان، بكامل أبهته، وخصوصاً أوسمته المجهولة المصادر، ولتدبيج مقال عامر بما تجود به القريحة، من أكاذيب وأساطير؛ وإذا حدث، أن تلكأت إحداها عن هذا الواجب، الذي هو بمثابة "فعل إيمان" تكون كمن سعى إلى حتفه بظلفه، فيصدر قرار إغلاقها وتشريد أصحابها ومحرريها.
ففي أول آب 1964 نزل في مرفأ "دام –ماري" فريق من المعارضة المنفيين بقيادة "فيللدورين" مؤلف من ثلاثة عشر عنصراً، اعتقلوا جميـعاً وأعدم إحدى عشر منهم فوراً، لكن بابا دوك لم يكتف بهذا الانتقام، فذهب شخصياً على رأس شلة من قتلـته إلى سجن "سان ديمانش" حيث يستضيف كبار خصومه السياسيين حيث قتل ثلاثين منهم وعـمد إلى إلقاء جثة أهمهم "هنري لاراك" الذي تزعم أحداث 1946، في ساحة العاصمة، لمدة عشرة أيام، حيـث فسدت وأكلتها الحشرات.
كما أن فصائله المظفرة، تفننت بناءً لأمره في تعذيب سبعة وعشرين معارض من مجرمي المرفأ الذي أتى منه فريق "فيللدورين" وبناء لرغبته أيضاً قذفوا بوالدة "فيللدورين" البالغة من العمر الخامسة والثمانين، عبر النافذة، وبعد ثلاثة أشهر، أمر بتجميع جميع طلاب وتلامذة العاصمة والملحقات، من الجنسين، في ساحة العاصمة، حيث قتل "دورين ونوما" الباقيان من الكوندوس أمام عيونهم، وذلك على سبيل العبرة ومن رأى العبرة فليعتبر.
ما من شيء يستطيع توقيف هذا الطاغية عن أعماله الإرهابية، ويؤكد البعض بأنه يتلذذ برؤية الدماء التي تسيل من أجسام ضحاياه، وبرهانا على ذلك، ترأس شخصياً فرقة الإعدام في السابع عشر من أيار 1967 بساحة "بورث أو برنس" فأعطى أمره بصوت عال لإطلاق الرصاص، على تسعة عشر ضابطاً، اتهموا بتدبير مؤامرة للإطاحة به، كان من بينهم صهره "الليوتنان كولونيل ماكس دومينيك" إلا أنه أعفى عنه في اللحظة الأخيرة ونفي خارج البلاد.
لقد سجلت سنة 1767 منحى مهماً في تاريخ حكم "بابا دوك" الدموي، فالمقربون والمحيطون به وقد تأكدوا من مزاجيته ومحبته للإرهاب خافوا من أن ينقلب عليهم، فجوزيف شارل كليمان رجل أعمال النظام، حاول الهرب إلى الولايات المتحدة، وجان تاسي رئيس الجهاز السري، ورأس سياسة ده فاليه لجأ مع أفراد عائلته إلى السفارة الأمريكية، ومن ذلك التاريخ تطوعت المعارضة في مقاومة سرية ونظمت صفوفها بشكل أفضل، وأصبح مقاتلوها لا يترددون عن مقارعة جلاوزة النظام والتصدي لتعسفهم، ولا يتورعون عن استفرادهم وقتلهم أو حتى مهاجمتهم في عقر دورهم وتصفيتهم تحت جنح الظلام.
مما زاد من هلع الطاغية الصغير فتحصن في قصره وسلاحه في متناول يده لا يفارقه، كما توصل إلى إخفاء رشـاشين تحـت وسادته، وأجبر زوجته على مغادرة البلاد، وأعاد النظر في صفوف المقربين منه، وأطلق عنان منظماته ومـيليشياته الإرهابية.
وفي أيار 1968 حوّل "كاب هايتيان" وهو مرفأ مهم على الشاطئ الشمالي للجزيرة، إلى مقبرة لسكانها الذين يبلغ عددهم ثلاثة وثلاثين ألف نسمة، أما الجيش المنقسم على نفسه فلم يتمكن من الثورة على الطاغية.
في حزيران 1968 أمطرت طائرة مجهولة، القصر الجمهورية بوابل من القنابل، لكن دائماً عمر الشقي بقي، فلم يصب ده فاليه بسوء ونجا بأعجوبة.
وفي نيسان 1970، قصفت إحدى بوارج البحرية الهايتية القصر بالمدافع ثم ولت الأدباء إلى الولايات الأمريكية المتحدة، فلم يكن منه إلا أن أمر زبانيته بالمزيد من القمع والسحق، فكانت مجزرة رهيبة وفي هذه المرة أوقفه المرض عن متابعة نشاطاته، إذ أصيب سنة 1970 بذبحة قلبية، هي الأولى في تاريخه الصحي.
ده فاليه بذبحة قلبية:
أصيب ده فاليه في تشرين الأول 1970 بذبحة قلبية هي الأولى بالنسبة إليه وكانت إنذاراً جدياً وكافياً لاستدعاء أطباء أمريكيين، قرروا أن جسم ده فاليه منهك بشكل عام، من جراء إهماله في معالجة داء السكري المصاب به منذ زمن طويل، وهذا ما تشهد عليه الحالة المخيفة التي وصلت إليها صمامات القلب.
وفي هذا المجال لم يخف الأخصائيون الأمريكيون تخوفهم الشديد بعد الفحوصات الدقيقة التي أجريت ووضع التقرير النهائي، تأكد ده فاليه من خطورة وضعه ففقد أمله، وتعبيراً عن فقدان الأمل، لم يغير شيئاً في طريقة حياته، ولم يحاول متابعة العلاج، وكان بذلك كمن يحاول التعجيل في نهايته ولسان حاله يقول: أنا غريق فما خوفي من البلل.
بعد ثلاثة أشهر، أصيب بذبحة قلبية ثانية، ليس هذا فقط بل كانت مصحوبة بإضافة طفيفة في الدماغ، وفي هذه المرة أيضاً، تجاوزها ولكن بصعوبة، وأصبح بحالة يرثى لها، من الضعف والتعب، فيبدو عجوزاً هرماً، كأنه قد تجاوز التسعين من العمر، مع أنه لم يتجاوز الرابعة والستين من عمره، كما أنه أضحى مسمراً في مقعده، نصف مشلول، لا يغادر غرفته إطلاقاً، محاطاً بحراسة مشددة، لكن لم يفته إصدار بعض الأوامر.
ده فاليه يحول النظام إلى الملكية:
في الخامس عشر من كانون الثاني 1971، طلب ده فاليه من ممثلي الشعب، تحويل البلاد من النظام الجمهورية إلى نظام العائلة الحاكمة، وهي واقعياً ملكية وراثية، مما سمح للرئيس ده فاليه بتسمية خليفته، فوقع اختياره على ابنه جان كلود، وشرع هذا الاختيار، باستفتاء شعبي منظم، جداً في 31 كانون الثاني.
بعد أقل من ثلاثة أشهر قضى ده فاليه نحبه إثر ذبحة قلبية ثالثة وقد أعلن عن موته في 22 نيسان 1971 في عاصمته "بورث أو برنس" ومن المؤكد أن الموت قد حصل قبل هذا التاريخ ببضعة أيام، ربما هذا التأخير في إعلان الوفاة، سببه الخوف من هياج شعبي، أو ربما لإضفاء بعض المصداقية على تنبؤاته وادعاءاته بأن رقم 22 هو رقم التحولات المصيرية في حياته، بالفعل، بالرجوع على تاريخه نرى، أنه انتخب رئيساً في 22 ايلول 1957، واستلم الرئاسة في 22 تشرين الأول من السنة نفسها، ثم رئيساً مدى الحياة في 22 أيار 1964.
ترأس مراسم دفن الطاغية، المونسنيور "لوك كرانده" بطريرك "بورث او برنس" وقد حرص القيمون على الأمر، بأن يرافقه الرقم 22 المفضل لديه حتى مثواه الأخير، إذ كان حرس الشرف، أثناء الدفن يتألف من 22 عسكرياً و 22 امرأة من الميليشيا النسائية فنقل النعش إلى المقبرة الوطنية الكبرى، حيث دفن في ما يشبه قصراً، كان قد بناه مهندسون فرنسيين بتكليف من وريثه، الذي ورث عن والده ثروة طائلة كان قد وضعها في المصارف السويسرية، أما للشعب الهايتي، فقد ترك لهم الشقاء والعذاب وبلاداً تعيسة ومكب نفايات.
إن من يمارس الحكم، لمدة طويلة ينشأ عنده ويتفاعل أكثر فأكثر، نوع من الهذيان والضياع، كما شرحت مادلين كرواينتز المجازة في الحقوق العامة الذائعة الصيت.
إن أكثر الحكام يبدون في هذا المجال نفس الأعراض، أهمها عدم الاهتمام بنصائح مستشاريهم، فهم لا يأخذون سوى ما يناسبهم من هذه النصائح والآراء كما أن هؤلاء الحكام في حالات متقدمة يعزلون أنفسهم، فيعيشون في شبه بوتقة مغلقة، أو برج عاجي، إذ يقل صبرهم، ولا يتحملون النقد أو أي نوع من المعارضة، ويصبحون في بعض الحالات حقودين، محبين للانتقام، وينتهي تقريباً بجميعهم المطاف، فيصبحون منبوذين ومكروهين من شعوبهم.
إن الحكم يجتذب عادة، المتصبين بآرائهم، والخطرين في معاملاتهم وتعاطيهم مع الناس، وخصوصاً مع منافسيهم؛ فعندما يصلون إلى الحكم، تتفاقم لديهم هذه الظواهر، خصوصاً أنهم في مركز القوة يحصدون في أرض خصبة، وينهلون من نبع غزير وقد شرح الباحثون وعلماء النفس أسباب هذه الظواهر والحالات، فبشكل عام عرف هؤلاء الرجال طفولة خيالية من الحب والحنان، وفي حالات كثيرة دون أهل.
ثم تعرضوا لتأثير مدرسين ومربين متشككين متدربين، فتعلموا الكذب إخفاء لحقيقة مشاعرهم وعواطفهم.
كذلك تعلموا الشراسة، للدفاع عن آرائهم الخاطئة، والأنانية للحفاظ على مصالحهم ونزواتهم الخاصة، فكانوا لا ينظرون إلى الأشخاص إلا من أعلى، ولا يعالجون المواقف إلا بطريقة ارتجالية، دون دراسة أو تمحيص.
وكثيرا ما يجنحون نحو التبدل، فكانوا يبحثون عن المسرات تعويضاً عن شعورم بالضيق والقلق العميق، كما أن كلاً منهم يتظاهر بالبطولة والشجاعة إلا أنه يخفي وراء هذه المظاهر الخلابة، جبناً، فيولي الأدبار لدى أقل مواجهة.
وتتمحور جميع تصرفاتهم وتعاطيهم شؤون الحكم حول قاعدة واحدة، لا تقبل الجدل: لكي تحكم اقد على كل من تسول له نفسه رفع صوته، أو إبداء رأيه.
ومن هنا، كان أساتذة التاريخ، لا يجدون صعوبة، في إعطاء صورة نموذجية، عن أمثال هؤلاء الرجال، لتلاميذهم، فخير مثل في هذا المجال هو: "لوسيوس دوميتوس أهنوبروس" الذي أصبح فيما بعد الامبراطور "نيرون" المشهور بحرقه لروما.
منذ الثالث عشر من تاريخ تشرين الأول سنة 54 بعد المسيح وهوتاريخ جلوس هذا الحاكم الفريد، على عرش الامبراطورية الرومانية "نيرون" وحتى يومنا هذا كان لكل قرن، نيرون أو أكثر..
في القرن العشرين والكل يعرف، قاصي العالم، الظلم والاستبداد على أيدي بعض هؤلاء الأمراء الأشرار، فذاقوا الأمرين خلال حكمهم، ومن معاصرين اثنان من "خيرتهم" "فرنسوا ليفاليه" "وفر ديناد ماركوس" الذي كان لكل منهما آثاره السلبية على حياة ومستقبل شعبه، فقد استغل هذه الشعوب في أول الأمر، ثم أزلاها وقهراها ثم سحقاها كلاهما شرير دموي، خلف وراءه مآسي لا يمحوها الزمن من ذاكرة من تعرض لنتائجها.
ففي البحر الكاريبي إلى حيث يتسابق، في هذه الأيام، أثرياء الغرب، لقضاء عطلاتهم والترويح عن أنفسهم، فإن الخمسة ملايين نسمة الذين يشكلون سكان هايتي، لم ولن ينسوا الظلم والاستبداد الذين مارسوهما عليهم، "ديفاليه" وبين 1957 و1971 اربعة عشرة سنة من الرعب.
أما في جنوب –شرق آسيا، فالسبعة وثلاثون مليون فلبيني الذين تحرروا منذ شباط 1986، بعد عشرين سنة من القمع والاستبداد، الذي فرضه عليهم رئيسهم "الشفوق" ماركوس كانوا يرتجفون رعباً لمجرد التفكير، بأنه ربما نجح بالفرار من منفاه الذهبي، في هاواي، جنة عدن الأمريكية في قلب الباسفيك، والعودة إلى مانيلا للموت في بلاده، كما يدعي ويتساءلون ألا يقوم من قبره، ومعه يعود الضيق والمعاناة؟!
فهو مصاص دماء، وغول نهم، ما أكثر ضحاياه.
فهو وزميله "ده فالييه" كل منهما "نيرون" يتشابهان في الشهية إلى القوة والاستبداد والقسوة مع الشعب، ثم جعلهما، في مصف المرضى الذين يصلون إلى الحكم بعض الأحيان.
ده فاليه الأعرق بالإرهاب:
أولاً، "ده فاليه" إذ أنه الأكبر من حيث العمر والأوسع شهرة من حيث الظلم والإرهاب، من الغريب أن هذه الشخصية الممقوتة، لن تعمر طويلاً.
فقد رحل وهو في الرابعة والستين من عمره ولم يلفت إليه الأنظار، عملياً في النصف الأول من حياته الشقية، هذا على الأقل في "بورت- أو- برنس"، ولم يؤت على ذكره في الندوات، حيث تبحث وتصنع سمعة الرجال، لا سيما السياسيين منهم، كذلك لم يكن للغرب رأي في سلوكه.
من هو فرانسوا ده فاليه:
رجل صغير أسود، يضع على أنفه نظارات "ميوبيا" سميكة العدسات، متدهلاً، يتحرك ببطء ومسكنة، كما أنه يتكلم بصوت خافت مبحوح، ومن هنا يلقبه أصدقائه "النادرون" بالزاحف، أو الزحاف، إذ كان يحرك رجليه زحفاً وليس نقلاً، وكان يقيم في منزل العائلة الذي يقع في طرف "زقاق روي" الكائن في ضواحي العاصمة الفقيرة.
أما والده فهو طبيب ريفي متواضع، ترك مزاولة عمله المشرف، ليصبح قاضي صلح حيث لم يحقق أي نجاح أو رفاعية.
وكان يبدو أن والده فرانسوا، وهو نسخة طبق الأصل عن والده اقتدى به في كل شيء، وعلى سنة والده وطريقه، نال شهادة الطب إلا أنه لم يمارسه، فلم يتخذ له عيادة، كما أنه لم يلتحق بإحدى المستشفيات أو المستوصفات، بل كان يجوب الأرياف بخطوات بطيئة حاملاً حقيبته.
في الرابعة والثلاثين من عمره سنة 1941- لكنه من المعروفة الذي لا تبدو عليه حقيقة عمره وفي جميع الأحوال لم يكن له ماض معروف في تلك الحقبة من الزمن، حلت بجيرزة هايتي كارثتان أصابتا عشرات الآلاف من الأهالي: الملاريا "والبيان PIAN" وهذا الأخير مرض جلدي شديد العدوى والانتشار، يعود إلى نوع من الطفيليات التي تنغرس في مسام الجلد، وهذا الوباء معروف في جميع البلاد الحارة تقريباً.
وهكذا وجد فرنسوا ما يشغله مع بعض جروح يعالجها، أما الملاريا فكان يحاربها بالكينا والبيان PIAN بأملاح البسميت إذ أن المضادات الحيوية لم تكن قد وجدت وكان يؤثر بشكل خاص على الريفيين البسطاء بالتلويح بمساحيقه ومراهمه ومن هنا قلب "ببابا دوك" كما أشيع بأنه يتعاطى السحر فاستغل تلك الشائعات لمصلحته.
أصبح معروفاً من سكان البراري والأدغال، فالبعض كان يقدره، أما البعض الآخر فكان يخافه ويخشى سحره، إذ كانوا يؤمنون بالسحر والشعوذة والأرواح الشريرة، إلى ما هنالك من الخرافات والمعتقدات، التي لا أصل لها ولا صحة، لكنه كان يحصد ثمار هذه المعتقدات فيرضي طبيعة الاستئثار والتملك التي تجيش في صدره.
في العاصمة "بورت- أو –برنس" كانوا لا يهتمون بالخرافات والخزعبلات التي يمارسها هذا الطبيب الأسود الصغير، وكان عليه إخفاء حقده وكراهيته للمولونين، الذين يتحكمون بخيرات البلاد، والذين يعاملونه بطريقة فوقية، مع أمثاله من الزنوج.
كان من الممكن أن تحركه السياسة، لكنه كان يعرف أنه غير مهيأ بعد ولم تأت ساعته، مع أن الظروف مؤاتية فالجزيرة في غليان ضد الحكومة التي يرأسها "إيلي ليكوست" حليف أمريكا، وكان ليكوست قد نزع ملكية الفلاحين في بانيو والكاب وكونيف وسانت مرك وشبه جزيرة الجنوب، وأجبر على استبدال مزروعاتهم التي ينتجون منها جميع موادهم الغذائية بمحاصيل استراتيجية تحتاجها الولايات المتحدة التي اشتركت في الحرب العالمية الثانية؛ وكان من جراء ذلك، أن دخلت هايتي في أزمة اقتصادية خانقة مما أشعل نار الفتنة في البلاد إذ تحركت جميع الأحزاب والتنظيمات من مختلف الفئات والاتجاهات.
وفي هذه الأثناء لجأ صاحبنا "دفه فاليه" إلى الأدغال خوفاً من أن يصاب بما لا تحمد عقباه، عملاً بالقول الماثور عند تغيير الحكام احم رأسك.
الشعب الهايتي يطيح بليكوست:
انتفض الشعب بأكثريته في جزيرة هايتي سنة 1946، فكسر وخلع، سرق ونهب، وفي أوج هياجه هاجم الدوائر الحكومية فعبث بمحتوياتها واستولى على ما يمكن أن ينفعه وأحرق ما لا ينفع له من ملفات ووثائق، حتى وصل إلى القصر الرئاسي، إلا أنه كان خالياً من سكانه إذ كان الرئيس وربعه، قد ولوا هاربين، من وجه الأمواج المتدافعة سخطاً وغضبا.
كل هذا دون أي تدخل من قبل رجال السلطة، مما يوحي بتواطؤ محتمل، بين الجيش والثائرين، وهكذا تسلم زمام الأمور بصورة مؤقتة، الكولونيل "بول ماكلوار" على رأس لجنة حاكمة، لكنه بعد برهة من الزمن، سلم مقاليد السلطة "لاستيمه دومرسيه" وكان الطبيب الصغير الاسود، متربصاً يدرس ويتتبع الأمور عن كثب، وعندما تأكد من نجاح المعارضة، اندس بين صفوفها، وفي غفلة من القدر أصبح وزيراً للصحة في الحكومة الجديدة، فعلق سماعته مستغنياً عن خدامتها نهائياً إذ تأكد بأن هذه الحقبة، مناسبة جداً للمغامرة والمغامرين.
كان هدفه البعيد غزو المنصب الأعلى في الحكم، فكان يرسم ويخطط، لكن الوصول، وتحقيق أحلامه، أخذ منه إحدى عشرة سنة، اعتباراً من سنة 1946 قام بكل ما أتيح له من الأحابيل والمؤامرات ودائماً في السر والظلام يحوك وينسج.
من هذا المنطلق، وفي هذه الغاية، عقد صداقة مبنية على تبادل المنافع مع الجيش والشرطة، كما استحدث لنفسه موطئ قدم عند بول ماكلوار الذي عاد إلى الحكم في هايتي، ووضع قدمه ثانية، عند كليمان جومال زعيم المعارضة، أما ما تبقى من ولائه فقد منحه تحسباً لكل طارئ للسفارة الأمريكية، وكانت حيطته وحذره موضع تنذر وتهكم، لكن، يضحك جيداً من يكون آخر الضاحكين.
في كانون الأول 1956 أطيح ببول ماكلوار، الذي كان قد سمى نفسه جنرالاً على أيدي فريق من الجيش، فلجأ إلى الولايات المتحدة، هرباً من نقمة رفاقه القدامى، وبهذا خلال العرش فاحتلهخ عسكري آخر: الكولونيل "كريبو" فكرت سبحة الانقلابات والانقلابات المضادة خلال الثلاثة أشهر الأولى من سنة 1957 وكانت الأمور تدور والرياح تجري بما تشتهي سفينة ده فاليه.
ففي 22 كانون الأول انتخب البابادوك بصورة دستورية، وبأصوات الريفيين رئيساً للبلاد، ومنذ هذا، أصبح رقم 22 رقم سعد "ده فاليه" ومنذ انتخابه أعطى طبيب زقاق روي القديم، البرهان تلو البرهان على الطريقة التي سيحكم بها البلاد، فلجأ في أول عهده إلى الديماغوجية، فأسكر أهل الريف بالوعود، مشجعاً الشعب على الأعياد، والكرنفال.
لكنه صرح بأن العنف ضروري، لإعادة الأمور إلى نصابها وتثبيت الحكم، أو بالأحرى حكمه، حتى جعل منه ديناً، وبالرغم من أنه وصل إلى العرش بمساعدة الجيش، بادر فوراً إلى تصفية مجلس القيادة، أما عملية كبيارو في هذه القيادة، الذي كان على سبيل المكافأة والشكر قد سماه جنرالاً سرعان ما زجه في السجن، ثم نفاه خارج البلاد.
في الثاني من أيار، أعلن حالة الطوارئ والأحكام العرفية؛ وفي التاسع من منح الولايات الأمريكية المتحدة قاعدة للصواريخ في بلاده، في العاشر من الشهر، حاول تجار العاصمة الإضراب احتجاجاً، فسحق محاولتهم بقوة البوليس، كما أباح لرعاعه اقتلاع أبواب المتاجر المضربة ونهب محتوياتها، تحت سمع وبصر رجال الأمن، الذين لم يحركوا ساكناً، بناء للأوامر العليا.
وربما شارك بعضهم في السلب والنهب، ففي اليوم التالي وبحجة أن هذه المظاهرات وما رافقها من العنف والتخريب كان قد أعد لها ونظمها رفيقان سابقان له، لم يفوزا بالانتخابات "كليمان جومال ولويس دجوا" فأودعهما السجن، حيث اغتيل الأول، أما الثاني فنجا بأعجوبة فنفاه إلى المسكيك، وفي شهر تموز ومستعيناً "بكليمان باربو" اخترع "بابادوك" ميليشيا من المتطوعين للأمن القومي، التي تألفت من اللصوص وخرجي السجون فألبسهم الثياب الزرقاء، وزين صدورهم بميدالية ترمز إلى صفتهم، وزودها بالمسدسات والسواطير، ولم ينس النظارات السوداء لمزيد من الوقار كما أنشأ فريقاً أنثوياً مماثلاً، دعين "فتيات لابو" أي فتيات القانون وعقد لواء رئاستهن إلى روزالي بوكه، زوجة ماكس أدولف وزير الصحة، التي دعيت فيما بعد "أدولفين" فلبست أغلى الثياب المشتراة من محلات كبار مصممي الأزياء الباريسيين هذا عدا عن لباس المظليين الذي كانت تلبسه لتتبختر به وتهز ردفيها كأوزة ممتلئة، وقد بسطت سلطتها على العديد من المؤسسات حتى طاولت سجن "فورت ديمانش" الرئيسي وجهنم التي يعذب فيها المعارضون.
وبفضل هذه التنظيمات والمؤسسات الإرهابية اقام فرنسوا ده فاليه، خلال سنتين في جزيرة دكتاتورية غير متطورة، كانت نوعاً من أنواع "نيوفاشيستيه" البلاد القارية، كما أطلق عليها الشاعر الهاييتي "رينه دبستر" الذي أرغم من الكثيرين، على الهروب واللجوء إلى فرنسا ومن ثم إلى كوبا.
وهكذا عرفت هايتي، برعاية وفضل هذا الرئيس عشرين سنة من عدم الاستقرار، ولكنها في النهاية أعطت العالم نموذجاً صارخاً عن الغرغرينا التي تميز بها حكم هذا الديكتاتور الصغير.
دفه فاليه يصفي المعارضة:
ابتداء من سنة 1960 قضى ده فاليه على جميع التكتلات والمؤسسات، التي لم تكن حتى الآن قد رفعت يديها مستسلمة فقد حل نقابات أصحاب المهن الحرة، من أي نوع كانت كنقابة التجار والصناعيين، والمهندسين والأطباء والمحامين وغيرها.
وكم أفواه الصحافة المعارضة وخنق أصواتها، ليس هذا فقط، بل ألغى ترخيص بعض هذه الصحف وأغلق أبوابها، وبهذا لم يبق في البلاد من وسائل الإعلام، سوى من يسبح بحمده، ويمجد صفاته وإنجازاته، ومن رأى العبرة بأخيه فليعتبر، لم يكتف "ده فاليه" بهذا الحد من القمع والتخويف، فقد طاولت مخالفبة المؤسسات التربوية والتعليمية، كما نهش المقاومات الدينية، فطرد من بلاده الإرساليات اليسوعية بكافة أنواعها، من مدارس وملاجئ أيتام ومستوصفات وخلافه، وهي عديدة جداً، ولها خدمات متنوعة لا تعوض ومآثر جليلة لا تنسى، ويكفي أنها قد علمت وثقفت أجيالاً من الهايتيين منهم ما لا يقل عن تسعين بالمائة من الأطباء والمهندسين، ورجال القانون دون أن ننسى، بأن ده فاليه شخصياً كان واحد منهم.
وهنا تحضرنا الأقوال المأثورة: اتق شر من أحسنت إليه، وأبت النفس الخبيثة أن تخرج من هذه الدنيا، قبل أن تسيء إلى من أحسن إليها.
وقد خص الدين ورجاله بضربة قاسية، فطرد بطريرك البلاد والمونسنيور بواريه، وعشرات المئات من الكهنة ورجال الدين، وأغلق الكلية الإكليركيية الكبرى، وبهذا انقطعت شعرة معاوية، بين هايتي وحاضرة الفاتيكان ووضع يده على أملاك الكنيسة وصادر أموالها.
بعد أن استعاد الرئيس التاريخي ده فاليه أنفاسه ونشاطه، وجه اهتمامه للاصلاحات الداخلية، فأتت على صورة ما سماه تطهيراً في صفوف الجيش والموظفين، فكانت دركونية بكل معنى الكلمة، إذ طرد العناصر المستقيمة الصالحة التي ربما في يوم من الأيام رفعت صوتها أو اصبعها في وجهه.. الوسيم.
لم يكتف بكل ذلك، بل في عملية تفتيش ومطاردة مسعورة، اعتقل، المونسنيور "أوغيستان" وهو أحد رجال الدين الأتقياء، وبكل بساطة، أقتيد إلى المطار واجبر على مغادرة البلاد في العاشر من كانون الثاني 1961.
وأخيراً شرع مذهب الفاندو فأعاد جزيرة هايتي إلى عبادة الأوثان، وبلغ به الأمر، إلى تقريب بعض سحرة هذا المذهب فجعلهم مستشاريه الرسميين يستفتيهم في كل صغيرة وكبيرة، وقد صب جام غضبه وخص بالجزء الأكبر من لعنته جماعة "المولدين" الخلاسيين، إلا أنه أبقى على قسم كبير منهم في مناصبهم الإدارية الهامة، إذ أنهم يشكلون الطبقة الوحيدة المتعلمة والمثقفة في البلاد.
سنة 1963 إثر محاولة فاشلة، لقتل ولدي الرئيس ده فاليه أثناء انتقالهما في السيارة الرئاسية ضمن العاصمة "بورث أو برنس" أسند بابا دوك تخطيط الجريمة، إلى أحد رجال المعارضة، وهو ضابط كبير في الجيش، فطارده رجال الميليشيا حتى أبواب سفارة الجمهورية الدومينيكية، حيث التجأ وزوجته، وكادوا يقتحمونها مستخفين بالأعراف والقوانين الدولية.
لكن أثناء ذلك لم يتفهم إعمال سواطيرها تقطيعاً وتهشيماً في أوصال ورؤوس جميع أفراد عائلة الفار، ومن بينهم طفل رضيع كما قضوا على جميع خدمه، إثر مهاجمة سفارة الجمهورية الدومينيكية، انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الجارتين، هايتي والدومنيك كما أن الولايات الأمريكية المتحدة فرضت على الجزيرة القطيعة والحصار الاقتصادي وهكذا خلال ست سنوات من حكم فرانسوا ده فاليه الديكتاتوري المتعسف تخلى جميع الحلفاء والأصدفاء عن هذه الجزيرة التعيسة، التي أصبحت معزولة ومحاصرة مع شيطانها.
ماذا عن صحة ده فاليه؟
ماذا نعرف عن صحة ده فاليه، في هذه الحقبة من حياته؟
من المعروف أنه كان مصاباً بداء السكري منذ زمن طويل، لكنه كان مستهتراً أو مشغولاً عن مداواة هذا الداء العضال؛ كما أنه بالإضافة إلى ذلك، ومنذ سنة 1946 تاريخ تعاطيه السياسة فعلياً، وتحوله كلياً عن المهنة التي تعلمها ومارسها خلال مدة ليست بقصيرة، وأصبح متهماً بممارسة اللواس، وهي إحدى طقوس الغابات الوثنية، طرأ تغيير جذري على تصرفاته وانفعالاته.
ففي بعض الحالات، كان يغرق في صمت رهيب وتعتريه رجفة شديدة تنهك أوصاله لساعات عديدة، يعود بعدها، إلى رشده والسيطرة على نفسه، كما أنه لم يعد بحاجة حتى لأتفه الأسباب، كي ينفجر غاضباً في ثورات رهيبة تدخل الرعب إلى قلوب من حوله، فيولون الأدبار، مبتعدين عن مرمى حممه، ولمدة طويلة لا يتجرأ أحدهم على الدخول إلى مكتبه حيث يحتفظ، في متناول يده بمسدسه "الكولت" من عيار 45 المحشو بالرصاص بشكل دائم، وكان لأسباب مجهولة، وفي عادة فريدة لا يتخذ قراراً هاماً، إلا أثناء استحمامه، معتمراً قبعته، وبالعودة إلى أقوال المقربين منه، كان يلعب مسرحية "هاملت" فيتساءل عن المستقبل، محملقاً في رأس أحد أعداء الوطن المقطوع.
منذ سنة 1946 أخذ يبتعد عن الناس شيئاً فشيئاً فينطوي على نفسه داخل قصره، ومن وقت لآخر، يدخل في حالة مدهشة من الثرثرة والهذيان التي لا معنى لها، ومن أقواله: أنا كائن روحي، أنا عظيم الهايتيين، لا يمكن استبدالي أو مشاركتي، وعندما نودي به رئيساً لمدى الحياة، تكرم في خطبته الجوابية في الكونغرس، وقال: إنني أسمح لكم، بإعادة تكريسي من وقت لآخر.
وكان لزاماً على كل من يقدم إليه التماساً أو استرحاماً أن يبدأ كتابه هكذا، إلى حامي الشعب زعيم الثورة الأعلى، نبي الوحدة الوطنية، زعيم العالم الثالث، منسق التجارة والصناعة في البلاد، المحسن إلى الفقراء، ملهم النفوس، مسدد خطى وأغلاط الهايتيين، وبهذا فقط ربما استجيب طلبه، كما كان على الصحف، أن تكرس من وقت لآخر، صفحاتها الأولى لصورته بالألوان، بكامل أبهته، وخصوصاً أوسمته المجهولة المصادر، ولتدبيج مقال عامر بما تجود به القريحة، من أكاذيب وأساطير؛ وإذا حدث، أن تلكأت إحداها عن هذا الواجب، الذي هو بمثابة "فعل إيمان" تكون كمن سعى إلى حتفه بظلفه، فيصدر قرار إغلاقها وتشريد أصحابها ومحرريها.
ففي أول آب 1964 نزل في مرفأ "دام –ماري" فريق من المعارضة المنفيين بقيادة "فيللدورين" مؤلف من ثلاثة عشر عنصراً، اعتقلوا جميـعاً وأعدم إحدى عشر منهم فوراً، لكن بابا دوك لم يكتف بهذا الانتقام، فذهب شخصياً على رأس شلة من قتلـته إلى سجن "سان ديمانش" حيث يستضيف كبار خصومه السياسيين حيث قتل ثلاثين منهم وعـمد إلى إلقاء جثة أهمهم "هنري لاراك" الذي تزعم أحداث 1946، في ساحة العاصمة، لمدة عشرة أيام، حيـث فسدت وأكلتها الحشرات.
كما أن فصائله المظفرة، تفننت بناءً لأمره في تعذيب سبعة وعشرين معارض من مجرمي المرفأ الذي أتى منه فريق "فيللدورين" وبناء لرغبته أيضاً قذفوا بوالدة "فيللدورين" البالغة من العمر الخامسة والثمانين، عبر النافذة، وبعد ثلاثة أشهر، أمر بتجميع جميع طلاب وتلامذة العاصمة والملحقات، من الجنسين، في ساحة العاصمة، حيث قتل "دورين ونوما" الباقيان من الكوندوس أمام عيونهم، وذلك على سبيل العبرة ومن رأى العبرة فليعتبر.
ما من شيء يستطيع توقيف هذا الطاغية عن أعماله الإرهابية، ويؤكد البعض بأنه يتلذذ برؤية الدماء التي تسيل من أجسام ضحاياه، وبرهانا على ذلك، ترأس شخصياً فرقة الإعدام في السابع عشر من أيار 1967 بساحة "بورث أو برنس" فأعطى أمره بصوت عال لإطلاق الرصاص، على تسعة عشر ضابطاً، اتهموا بتدبير مؤامرة للإطاحة به، كان من بينهم صهره "الليوتنان كولونيل ماكس دومينيك" إلا أنه أعفى عنه في اللحظة الأخيرة ونفي خارج البلاد.
لقد سجلت سنة 1767 منحى مهماً في تاريخ حكم "بابا دوك" الدموي، فالمقربون والمحيطون به وقد تأكدوا من مزاجيته ومحبته للإرهاب خافوا من أن ينقلب عليهم، فجوزيف شارل كليمان رجل أعمال النظام، حاول الهرب إلى الولايات المتحدة، وجان تاسي رئيس الجهاز السري، ورأس سياسة ده فاليه لجأ مع أفراد عائلته إلى السفارة الأمريكية، ومن ذلك التاريخ تطوعت المعارضة في مقاومة سرية ونظمت صفوفها بشكل أفضل، وأصبح مقاتلوها لا يترددون عن مقارعة جلاوزة النظام والتصدي لتعسفهم، ولا يتورعون عن استفرادهم وقتلهم أو حتى مهاجمتهم في عقر دورهم وتصفيتهم تحت جنح الظلام.
مما زاد من هلع الطاغية الصغير فتحصن في قصره وسلاحه في متناول يده لا يفارقه، كما توصل إلى إخفاء رشـاشين تحـت وسادته، وأجبر زوجته على مغادرة البلاد، وأعاد النظر في صفوف المقربين منه، وأطلق عنان منظماته ومـيليشياته الإرهابية.
وفي أيار 1968 حوّل "كاب هايتيان" وهو مرفأ مهم على الشاطئ الشمالي للجزيرة، إلى مقبرة لسكانها الذين يبلغ عددهم ثلاثة وثلاثين ألف نسمة، أما الجيش المنقسم على نفسه فلم يتمكن من الثورة على الطاغية.
في حزيران 1968 أمطرت طائرة مجهولة، القصر الجمهورية بوابل من القنابل، لكن دائماً عمر الشقي بقي، فلم يصب ده فاليه بسوء ونجا بأعجوبة.
وفي نيسان 1970، قصفت إحدى بوارج البحرية الهايتية القصر بالمدافع ثم ولت الأدباء إلى الولايات الأمريكية المتحدة، فلم يكن منه إلا أن أمر زبانيته بالمزيد من القمع والسحق، فكانت مجزرة رهيبة وفي هذه المرة أوقفه المرض عن متابعة نشاطاته، إذ أصيب سنة 1970 بذبحة قلبية، هي الأولى في تاريخه الصحي.
ده فاليه بذبحة قلبية:
أصيب ده فاليه في تشرين الأول 1970 بذبحة قلبية هي الأولى بالنسبة إليه وكانت إنذاراً جدياً وكافياً لاستدعاء أطباء أمريكيين، قرروا أن جسم ده فاليه منهك بشكل عام، من جراء إهماله في معالجة داء السكري المصاب به منذ زمن طويل، وهذا ما تشهد عليه الحالة المخيفة التي وصلت إليها صمامات القلب.
وفي هذا المجال لم يخف الأخصائيون الأمريكيون تخوفهم الشديد بعد الفحوصات الدقيقة التي أجريت ووضع التقرير النهائي، تأكد ده فاليه من خطورة وضعه ففقد أمله، وتعبيراً عن فقدان الأمل، لم يغير شيئاً في طريقة حياته، ولم يحاول متابعة العلاج، وكان بذلك كمن يحاول التعجيل في نهايته ولسان حاله يقول: أنا غريق فما خوفي من البلل.
بعد ثلاثة أشهر، أصيب بذبحة قلبية ثانية، ليس هذا فقط بل كانت مصحوبة بإضافة طفيفة في الدماغ، وفي هذه المرة أيضاً، تجاوزها ولكن بصعوبة، وأصبح بحالة يرثى لها، من الضعف والتعب، فيبدو عجوزاً هرماً، كأنه قد تجاوز التسعين من العمر، مع أنه لم يتجاوز الرابعة والستين من عمره، كما أنه أضحى مسمراً في مقعده، نصف مشلول، لا يغادر غرفته إطلاقاً، محاطاً بحراسة مشددة، لكن لم يفته إصدار بعض الأوامر.
ده فاليه يحول النظام إلى الملكية:
في الخامس عشر من كانون الثاني 1971، طلب ده فاليه من ممثلي الشعب، تحويل البلاد من النظام الجمهورية إلى نظام العائلة الحاكمة، وهي واقعياً ملكية وراثية، مما سمح للرئيس ده فاليه بتسمية خليفته، فوقع اختياره على ابنه جان كلود، وشرع هذا الاختيار، باستفتاء شعبي منظم، جداً في 31 كانون الثاني.
بعد أقل من ثلاثة أشهر قضى ده فاليه نحبه إثر ذبحة قلبية ثالثة وقد أعلن عن موته في 22 نيسان 1971 في عاصمته "بورث أو برنس" ومن المؤكد أن الموت قد حصل قبل هذا التاريخ ببضعة أيام، ربما هذا التأخير في إعلان الوفاة، سببه الخوف من هياج شعبي، أو ربما لإضفاء بعض المصداقية على تنبؤاته وادعاءاته بأن رقم 22 هو رقم التحولات المصيرية في حياته، بالفعل، بالرجوع على تاريخه نرى، أنه انتخب رئيساً في 22 ايلول 1957، واستلم الرئاسة في 22 تشرين الأول من السنة نفسها، ثم رئيساً مدى الحياة في 22 أيار 1964.
ترأس مراسم دفن الطاغية، المونسنيور "لوك كرانده" بطريرك "بورث او برنس" وقد حرص القيمون على الأمر، بأن يرافقه الرقم 22 المفضل لديه حتى مثواه الأخير، إذ كان حرس الشرف، أثناء الدفن يتألف من 22 عسكرياً و 22 امرأة من الميليشيا النسائية فنقل النعش إلى المقبرة الوطنية الكبرى، حيث دفن في ما يشبه قصراً، كان قد بناه مهندسون فرنسيين بتكليف من وريثه، الذي ورث عن والده ثروة طائلة كان قد وضعها في المصارف السويسرية، أما للشعب الهايتي، فقد ترك لهم الشقاء والعذاب وبلاداً تعيسة ومكب نفايات.
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
المرتجع حنتوش- مشرف قسم المنتدي العام
-
عدد المشاركات : 21264
العمر : 32
رقم العضوية : 121
قوة التقييم : 41
تاريخ التسجيل : 10/04/2009
رد: مرضى حكموا العالم (فرنسوا ده فاليه FRANCOIS DUVALIER)
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
مواضيع مماثلة
» مرضى حكموا العالم
» مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
» مرضى حكموا العالم (يوري أندربوف YURI ANDROPOV) جزء 6
» مرضى حكموا العالم (فرديناند مركوس FERDINAND MARCOS)
» مرضى حكموا العالم (نيكولاي شاوشيكسو NICOLAE CEAUSESCU)
» مرضى حكموا العالم (جورج بومبيدو GEORGES POMPIDOU) جزء 5
» مرضى حكموا العالم (يوري أندربوف YURI ANDROPOV) جزء 6
» مرضى حكموا العالم (فرديناند مركوس FERDINAND MARCOS)
» مرضى حكموا العالم (نيكولاي شاوشيكسو NICOLAE CEAUSESCU)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» الإكوادور وجهة مثالية لقضاء العطلات وسط المناظر الطبيعية
اليوم في 8:06 am من طرف STAR
» سر ارتفاع دواسة الفرامل عن دواسة البنزين في السيارة
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» ما ميزات شبكات "Wi-Fi 8" المنتظرة؟
اليوم في 8:05 am من طرف STAR
» رد فعل صلاح بعد اختياره أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي
اليوم في 8:04 am من طرف STAR
» هل تعاني من الأرق؟ طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الكبة المشوية على الطريقة الأصلية
اليوم في 8:03 am من طرف STAR
» الصلاة علي رسول الله+الاستغفار+ذكر الشهادة+كفارة المجلس
اليوم في 8:00 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR