إعلانات المنتدي
المواضيع الأخيرة
بحـث
كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الثالث والعشرون
صفحة 1 من اصل 1
كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الثالث والعشرون
العقيد وانا
حياتي مع القذافي
رواية: دعد شرعب ترجمة الدكتور علي جماعة علي
الفصل الثالث والعشرون
فقدان الأمل (1)
بإحساس الخائف من المجهول مشيت إلى الباب الخشبي المقفل وقلت "من هناك ؟"
متعطشة للأخبار طيلة الثلاث أيام الماضية، لم تكن لدي فكرة عن من يسيطر على المدينة، كل ما اعرفه الآن أن أقدام قليلة قد تفصلني عن منفذ حكم إعدامي.
" افتحي الباب" قال صوت رجولي، لكن لم يكن معي مفتاح حتى لو رغبت أن أطيع.
" ابتعدي"، أمرني ففعلت ما طُلب مني.
حصل التحطيم فتطايرت شظايا الخشب والحاجز الواهن بركلات قليلة عنيفة، كان في مواجهتي رجل في عمر الستينيات يرتدي جلباب ابيض.
صاح قائلا "من أنت و لماذا أنت هنا، لا تبدو لهجتكِ ليبية ".
شرحت له بأقصى سرعة ممكنة أن ثلاثتنا سجناء النظام، دعوت ألا أكون وقّعت شهادات موتنا ولكن لحسن الحظ بدأ أن ردي أرضاه.
" تعالي سأخرجك من هنا " قالها وأومئ لي أن اتبعه.
ترددت، رافضة أن أضع ثقتي في هذا الغريب بالرغم من عدم وجود خيارات أخرى.
" من أنت" سألته؟؟
أجاب " ليس هذا وقت طرح الأسئلة، تعالي، اتبعيني، بسرعة ".
توسلت إليه أن يأخذ معنا السعوديين والممرضتين الليبيتين، باب آخر حُطم بسرعة فأنفتح، الممرضتان حرتان الآن، خرجنا جميعا نجري إلى بوابة السجن، لم يكن هناك أثر لأي حراس، في الخارج استطيع أن أرى مبان مدمرة و شوارع مغطاة بالركام.
سأل منقذنا المرأتين الليبيتين" هل تعرفان المدينة؟ أذن اذهبا إلى بيتكما "، وأشار إلي السعوديين وانا بأن نتبعه.
حاولت أن اعرف أين مكاني الآن وأن استوعب المنطقة المحيطة بي وبالرغم من أنني في منطقة حرب، مازالت المقاهي تعمل، في خارجها كان رجال كبار في السن يجلسون على الأرصفة يدخنون الشيشة، كانت الشوارع مكتظة بالسيارات تختار طريقها عبر كل الحطام المتناثر، لقد كان مشهد سريالي عجيب، فقد كان بإمكاني سماع إطلاق نار ليس ببعيد ولكن على الأقل تستمر الحياة المعتادة.
مشينا ما يقارب الميل حتى وصلنا إلى منزل صغير في حي فقير في المدينة، فتح الرجل الباب ورحب بنا في الداخل.
قال " هذا بيتي".
عرف بنفسه للتو في وجود زوجته وأخته، أخبرني أن اسمه علي عبد الهادي، كان بعض الأطفال يلعبون في حجرة أخرى غير منتبهين لوصول ثلاثة أجانب إلى بيتهم.
فقدان الأمل (2)
في رحاب الأمان النسبي في البيت ارتاح (علي) بشكل واضح و بدأ يفتح قلبه.
" لا أعرف ما الذي أخذني إلى سجن أبوسليم" وأضاف " استيقظت هذا الصباح وبدأت المشي، عادة لا أحد يستطيع أن يدخل السجن بل كنا نخشى حتى المرور بقربه، اليوم كانت البوابة مفتوحة وكان الفضول يغمرني، أنقذت بعض السجناء الآخرين ممن كانوا محتجزين في شاحنة، وهم من أخبرني أن ثمة أشخاصا عالقين في الفيلات، في ذلك الوقت عثرت عليك".
قدم لنا علي وهو سائق سيارة أجرة الطعام وبينما كنت أكل تأملت كيف أن القدر تدخل مرة أخرى، وإلا كيف يأتي هذا الملاك الحارس لينقذني.
قدم لي (علي) هاتفه المحمول فحاولت الاتصال بالهاتف الأرضي لوالدي، سمعت أبي يجيب لكن سرعان ما انقطع الاتصال، لهذا اتصلت بشقيقتي لندا حيث كان رقمها الوحيد الذي مازال في ذاكرتي، حالما سمعت لندا صوتي أجهشت بالبكاء وكانت ابنتي معها، استطعت الحديث معها لكنها بدأت وكأنها منهارة ومحطمة غير أننا استطعنا الكلام لمدة دقيقة أو اثنتان قبل أن أرجع الهاتف بتردد لأنه كان منخفض الرصيد المالي، كنت ممتنة أنهم على الأقل عرفوا أنني على قيد الحياة وبخير بالرغم من إدراكي أنني مازلت بعيدة جدا عن الأمان في وضع تتفجر فيه ليبيا من حولنا.
ناقشنا ماذا سنفعل بعد ذلك، قال لي " إن المكان ليس آمنا، لقد سمعت أن سيف أبن القذافي يختبئ هنا، وأن القتال يقترب أكثر، يتطلب الأمر نقلك من هنا ".
اقترح أخذ ثلاثتنا بسيارة الأجرة إلى منطقة عين زارة الريفية حيث يمتلك شقيقه محمد مزرعة هناك، بينما كنا هناك كان لدينا متسع من الوقت لرسم خطة خروجنا من ليبيا أو ببساطة كيف نختبئ، الخروج بعيدا عن المدينة يظهر وكأنه الخيار الأكثر منطقية حيث يبدو أن القتال كان محصورا في المركز والضواحي القريبة منه، كانت رحلة هادئة بلغ طولها ثلاثين ميلا إلى الجنوب وأخيرا صافحنا رجلا يحمل طفلا رضيعا بين ذراعيه، ومرة أخرى صدمت بالحنان الذي أظهره هؤلاء الغرباء تجاهي، هنا لا يتوانى رجل عائلة عن الترحيب بثلاثة غرباء في منزله ويتقاسم معهم طعامه زد على ذلك المخاطرة التي يتحملها من أجل أن يوفر لنا ملاذا آمنا، بل ولم يسأل مطلقا عن المدة التي سنقضيها في بيته، لن أنسى أبدا الكرم الفريد لهؤلاء الناس.
أخذت حمامي الأول بعد حرمان لأيام ومباشرة شعرت بالانتشاء ثم أكلنا بيتزا طُهيت على الجمر، تبين أن قصة علي عن أن بيته غير آمن كانت تعبر عن نصف الحقيقة، كان قلق بشأن نقص الطعام في بيته وأننا قد نجوع هناك، وهو يعرف أن إمدادات من الخضروات الطازجة متوفرة بكثرة في مزرعة شقيقه.
شّغل مولد كهربائي فشُحنت أجهزة الهاتف واستطعت مرة أخرى الحديث مع شقيقتي عن طريق هاتف شقيق علي، تحصلت على رقم هاتف وزارة الخارجية الأردنية فاتصلت بهم.
" أريد الخروج من ليبيا" قلت لهم " هناك دماء في كل مكان، هناك ناس تُقتل".
أخد أحد المسؤولين في الوزارة رقم هاتف الشقيق ووعد أنهم سيتصلون بي في اليوم التالي.
كما هو متوقع، رن الهاتف فكان على الخط السفير الأردني في ليبيا متصلا من مكتبه في بنغازي.
قال " لو بإمكانك الوصول إلى هنا، استطيع أن أوصلك إلى القاهرة ثم إلى الأردن".
فقدان الأمل (3)
للحظة انعقد لساني عن الكلام من الصدمة، تقع بنغازي في شرق ليبيا حوالي 600 ميل من طرابلس، هل كان جادا في توقعاته أن أصل إلى هناك بدون مستندات أو مال، حتى في أوقات السلام ما كان هكذا رحلة أرضية أن تكون سهلة، أما الآن فمتأكدة أنها ستكون مثقلة بالأخطار وفي وقت ما سينفذ حظي الجيد.
كان يفترض أن امسك لساني لكنني لم أكن في مزاج دبلوماسي فانفجرت غاضبة: "هل أنت سفير إلى الصين أم ليبيا، هل تعرف كم بعد المسافة، هل تعرف أن هناك حرب، لو كان بإمكاني أن أصل إلى بنغازي بنفسي فلن أكون في حاجة إلى مساعدتك أصلا" وقفلت في وجهه الهاتف غاضبة.
مرة أخرى اجتاحني اليأس، في وقت احتياجي تتخلى عني بلدي، ماذا يعني مواطن ميت للأردن؟.
اتصلت بوزارة الخارجية الأردنية وأنهلت عليهم بكل كلمة قذرة يمكن تخيلها، هذا جعلني أتنفس الصعداء ولكن لم يحّسن حالتي البائسة.
أربع ليال قضيتها مع هذه العائلة المضيافة، اشرب من بئرهم وأكل من خضرواتهم الطازجة، لو كانت في ظرف آخر لكانت هذه الأجواء ساحرة، لكنني شعرت بتأنيب الضمير لأنني أثقل عليهم بأكل طعامهم واستخدام هاتفهم، كان السعوديان في نفس حالتي بعد اكتشافهم أن سفارتهم غير راغبة في التدخل، كل ما نقدر عليه الآن هو الانتظار.
في وقت ما اتصلت ابنتي، لقد اتصلت بوالدها في المملكة العربية السعودية بالنيابة عني، لو كان باستطاعتي الوصول بطريقة ما إلى جربة في تونس فإنهم سيرتبون لإنقاذي، لدهشتي عرض الأمير الوليد بن طلال الذي رتبت شراء طائرته الخاصة للقذافي أن يوفر طائرة لنقلي إلى الوطن بالرغم من الخلاف بيننا غير المبثوث فيه بعد، شكرت له هذه أللفته الكريمة ولكن بالرغم من أن الحدود أقرب بكثير من بنغازي وهي اقل من 100 ميل تقريبا فأن الوصول إلى هناك هو بدون شك متقارب في الخطورة، من دون مساعدة لن تكون هناك فرصة للمحاولة.
في اليوم الرابع في المزرعة رن جرس الهاتف، عرف المتصل بنفسه اسمه هاني وقال انه ليبي يعمل بمكتبي في طرابلس.
" بحثنا عنكِ في كل سجن في طرابلس، ثم اتصلت بعائلتك وهم من أعطوني هذا الرقم سوف أساعدك في الخروج من ليبيا".
أصابتني الدهشة فسألته " ما الذي يدفعك لهذا، لماذا تتحمل هذه المخاطرة الكبيرة من اجلي".
عصرت دماغي ولكن في مكتبي اشتغل العديد من الموظفين على مر السنوات فلم أستطع تذكره.
" جئت إليك من أربع سنوات مضت عندما كانت أمي مريضة، احتاجت إلى عملية كلية وأنت منحتي لي النقود، انا الآن أرد لكٍ الدين، انا الآن جزء من الثورة".
لم أكن اعرف في وقتها انه وعد أبي وشقيقي عندما زاراني وانا محتجزة بأنه سيعمل ما بوسعه لمساعدتي.
تقديم هدايا مالية لليبيين في جداول مرتبات مكتبي لم يكن أمرا غير مألوف، لقد كوفئت بسخاء من العقيد فكنت أحاول أن أقاسم القليل من ثروتي، لم يكن هذا بالكامل من دون غرض، لقد تعلمت مبكرا في عملي التجاري انه بإمكانك شراء الولاء، والآن انا في طريقي لجني الأرباح.
فقدان الأمل (4)
زودت هاني بوصف للمكان وكنت محتارة ما الذي يدور في رأسه؟، جاءت الإجابة بعد حوالي ساعة عندما ظهرت سيارة نقل على طراز عسكري يهدر محركها ومكتظة برجال يتباهون بأسلحتهم.
في البدء فزع مضيفنا وارتاح فقط عندما مشيت إلى الخارج وصافحت هاني، كان بلحية طويلة لكن تذكرته أخيرا، عانقني وقّبل أعلى راسي.
" قولي لهم مع السلامة، ستبقين الليلة معي وسنأخذك غدا إلى تونس"
تعرفت على صاحب المزرعة وزوجته لعدة أيام ولكن تفارقنا كأصدقاء عمر، تحاضنا وقبلنا بعض وبكينا، وبينما نطقتُ كلماتي الأخيرة للوداع، أحسست بعملة ورقية تضغط في يدي.
" هذه دينارات تونسية قليلة هي كل ما املك، لعلها تساعدك ".
قفزت إلى مقصورة العربة تاركة خلفي السعوديان ينتظران إنقاذ ترتب له بلادهما، بعدها بوقت طويل عرفت بسرور أنهما غادرا ليبيا بسلام.
ذلك المساء قضيته مع والدي هاني في فيلا صغيرة في وسط طرابلس، باح لي أن خطته ستكون بأخذي إلى بلدة ذهيبة الحدودية مع تونس وهي تبعد 200 ميل، هذه ضعف المسافة مع اقرب معبر حدودي لكنه كان واثقا أن الطريق يسيطر عليه الثوار، كان يفترض أن تكون الرحلة سهلة، اتصلت بأسرتي لكي يسعوا في ترتيبات تسمح لي بعبور الحدود بدون جواز سفر، على الأقل ينبغي على وزارة الخارجية الأردنية التي احتقرها الآن أن تكون قادرة على تدبير هذا من أجلي.
انطلقنا في الفجر برتل من حوالي أربعين عربة تسير عبر أجزاء مدمرة من ليبيا، كنت في الكرسي الخلفي لشاحنة نقل صغيرة يقودها هاني وكان الراكب الثالث ثائر مسلح.
تمزق قلبي وانا أرى البلد على هذه الحالة، أعمدة دخان ومبان مثقوبة بالقذائف، كان الناس يبكون في الشارع ويرتدون السواد حدادا، بدأ الأمر وكأنه مشهد في فيلم حرب بالرغم من عدم سماع إطلاق نار وانفجارات، يبدو أن طرابلس سقطت في يد الثوار، الآن نحن بصدد تغيير الاتجاه لأخذ الطريق الأكثر مباشرة إلى تونس، سنتجه إلى رأس أجدير البلدة الحدودية الساحلية التي تبعد ساعة من هنا، لكن هذا يعني المخاطرة بملاقاة الجنود الموالين للقذافي، كان التبرير لهذه الإستراتيجية الأكثر مخاطرة هو أن الثوار أرادوا تنظيف الدرب الأقصر إلى تونس وأدركوا أنهم يملكون القوة النارية الكافية في رتلنا لانجاز هذا الهدف.
سُلمت خوذة عسكرية وحزام واقي من الرصاص وطلب مني هاني أن استلقي على أرضية مقصورة الشاحنة، " سيكون هناك قتال " قالها بهدوء.
مرة أخرى اُسلم نفسي للقدر ولكن كنت أعتقد أنها فرصتي الوحيدة للهرب من ليبيا، حاولت أن أجد السلوان لنفسي من الثقة بالنفس التي يتمتع بها الثوار الشباب، لكن الجزء المتشائم في داخلي ظل ينق في أذني إن التبجح بالشجاعة لا يوقف الرصاص عندما يبدأ في التطاير.
مع مرور الدقائق وانا في موضع القدمين الضيّق بالسيارة تجرأت على الأمل أن نصل إلى الحدود بدون عوائق، كان الثوار يتوقون إلى الإثارة وكان كل ما يشغلني العبور إلى تونس بأسرع وقت ممكن ومن ثم الوصول إلى الأردن.
لم يمض وقت طويل حتى سمعت الصوت الذي لا تخطيه الأذن للأسلحة الآلية، وفي ثوان كنا في وسط معركة.
لا استطيع وصف الضجة التي تمزق الأذن ورعبي بالرغم من أنني لم أرى شيئا ذلك لأنني تكورت على الأرضية حتى صرت اصغر حجما.
فقدان الأمل (5)
في الكرسي الأمامي كان الرجلان يصرخان، بينما أحدهما يقود السيارة كالريح، كان الآخر يرد على النار من نافذة الراكب، أتذكر عندما كنت في السجن كانت قنابل الناتو تسقط على طرابلس من طائرة غير مرئية ولكنك نوعا ما تشعر أنها بعيدة، أما هذه فحرب حقيقية، لم تكن هناك طريقة لمعرفة كم يبعد عنا المهاجمين ولكن لم يكن هناك شك أنه لمرة أخرى كانت حياتي على الميزان، و مرة أخرى توجب أن اعتمد على آخرين في نجاتي، استمر هذا لخمسة عشر دقيقة ولكن بدأت وكأنها خمسة عشر ساعة، ضُرب الرصاص الزجاج الأمامي لسيارتنا بينما كنا نندفع في الطريق الصحراوي من دون غطاء.
في مرحلة ما قرر هاني تقسيم رتلنا، بينما بقى ثلثي العربات يقاتل قوات القذافي، انفصلت مجموعتنا الأصغر التي تضم حوالي عشرين رجلا واستمرت في الإسراع نحو الحدود، قبل هذا كنت أتساءل كيف سيتعامل هؤلاء الثوار في مواجهة ظروف قاسية كهذه، الآن عرفت الإجابة، أنهم أشجع رجال التقي بهم في حياتي، عرفت لاحقا إن بعض من بقى خلفنا للقتال في ذلك اليوم قد قُتلوا.
بينما كنا نقترب من الحدود كان يلوح أمامنا عائقا آخر، لم يكن معي جواز سفر أو بطاقة هوية لذا اتصلت بالسفارة الأردنية في تونس، كان ينبغي أن أعرف قبل أن أتوقع المساعدة انه ليس من أحد يبدو راغبا في مساعدتي حتى بالقليل، و إلى الآن بعد مضي هذه السنوات، مازلت أشعر بالمرارة عن الطريقة التي تخلت فيها بلدي عني في وقت الحاجة الماسة، وفي الجانب الآخر، تعلمت كذلك انك أحيانا تجد العطف العظيم والإيثار من حيث لا تتوقع.
بعد أن أوصلني بسلام إلى الحدود كان هاني يحمل لي آخر مفاجأة، بينما كنت محتارة كيف سأعبر من ليبيا إلى تونس عبر بلدة رأس أجدير الترابية، صار من الواضح أن هذه ليست المرة الأولى له هنا، قام رجال الشرطة التونسيين وحرس الحدود بمصافحة هاني وتحيته، انا متأكدة انه في هذا الجو المحموم للربيع العربي، ساعدتنا أيضا حقيقة كونه وزملائه مُسلحين بالثقيل، تساهلت نوعا ما طريقي من ليبيا إلى تونس، لقد عبرت تلك الحدود عدة مرات فيما فات ولكن لم أتنفس الصعداء على هذا النحو الكبير من قبل.
في وقت متأخر، وصل موظف من السفارة الأردنية للتعامل مع هذه المرأة المزعجة وتم اخذي إلى الفندق، في هذه المناسبة، كان الأمير الوليد بن طلال بجودة تعهده، فبعد أربعة ساعات هبطت طائرة خاصة في مطار جربة الذي يبعد عشرين دقيقة، كنت ذاهبة إلى الوطن بأبهة وأناقة حيث كنت المسافرة الوحيدة على طائرة بستة مقاعد.
نمت اغلب الرحلة التي تبلغ 2000 ميل ذلك أني كنت مرهقة بالتمام، كانت هذه المرة الأولى التي أنام فيها بعمق منذ تسعة شهور.
على تمام الساعة السابعة صباحا، حطت بي الطائرة في مطار عسكري في الأردن، واحد وعشرين شهرا امتدت من يناير 2010م إلى سبتمبر 2011م لم تطأ فيها قدمي ارض بلادي.
رأيت شقيقاتي والأعمام والأخوال وأبناءهم والأصدقاء يصطفون في فناء المطار لمصافحتي، فصلوا عني بالحراسات الأمنية ولكن بمجرد أن نزلت درجات السلم سُمح لابنتي بالجري إلى الطائرة، شعرت بقلبي ينفطر، تعانقنا وسرنا بعدها عبر المدرج إلى حيث تتجمع أسرتي، بالكاد تمكنت من تقبيل والدي حتى سالت دموعه على خديه قبل أن أكون في وسط حشد من الناس، أخوات، أعمام وأخوال وأبناءهم، اختلط مع بهجتي شعور بالبرود، كانت تلك اللحظة التي حلمت بها، لكن عندما حدثت فعلا لم استطع استيعاب كل شئ، ذكرياتي عن وصولي مازالت ضبابية قليلا، شعرت بأني لم أكن حقيقية، وبالرجوع إلى الخلف الآن، مازلت مصدومة من الاشتباك القتالي في الصحراء، لقد اكتسحتني ربكة ما حصل حتى أنها أقفلت دماغي.
اعرف أن أول تصرف لي كان أن قبلت الأرضية، أخبرت لاحقا أن طاقم الطائرة بكى عندما شاهدوا إعادة لم شملي مع ابنتي نور.
من المطار انطلقنا مباشرة إلى منزل الوالد، رتب بابا خيمة كبيرة لتوضع في الحديقة ولمدة ثلاثة أيام اُحتفل بعودتي للبيت على الطريقة التقليدية، أُطلق الرصاص في الهواء، ذُبحت الخراف وشويت على النار في الهواء الطلق، إنها طريقة العرب في شكر الله، وأيضا كانت الموسيقى والرقص وفي الحقيقة كل ما كنت ارغب به كان استحمام طويل ونوم أكثر.
لو صورت هوليود قصة حياتي فان هذا هو المكان الذي ستمر فيه على الشاشة قائمة المشاركين في الفيلم، أما في العالم الحقيقي فما زال أمامي بعض الأعمال غير المُنجزة.
انتهى
حياتي مع القذافي
رواية: دعد شرعب ترجمة الدكتور علي جماعة علي
الفصل الثالث والعشرون
فقدان الأمل (1)
بإحساس الخائف من المجهول مشيت إلى الباب الخشبي المقفل وقلت "من هناك ؟"
متعطشة للأخبار طيلة الثلاث أيام الماضية، لم تكن لدي فكرة عن من يسيطر على المدينة، كل ما اعرفه الآن أن أقدام قليلة قد تفصلني عن منفذ حكم إعدامي.
" افتحي الباب" قال صوت رجولي، لكن لم يكن معي مفتاح حتى لو رغبت أن أطيع.
" ابتعدي"، أمرني ففعلت ما طُلب مني.
حصل التحطيم فتطايرت شظايا الخشب والحاجز الواهن بركلات قليلة عنيفة، كان في مواجهتي رجل في عمر الستينيات يرتدي جلباب ابيض.
صاح قائلا "من أنت و لماذا أنت هنا، لا تبدو لهجتكِ ليبية ".
شرحت له بأقصى سرعة ممكنة أن ثلاثتنا سجناء النظام، دعوت ألا أكون وقّعت شهادات موتنا ولكن لحسن الحظ بدأ أن ردي أرضاه.
" تعالي سأخرجك من هنا " قالها وأومئ لي أن اتبعه.
ترددت، رافضة أن أضع ثقتي في هذا الغريب بالرغم من عدم وجود خيارات أخرى.
" من أنت" سألته؟؟
أجاب " ليس هذا وقت طرح الأسئلة، تعالي، اتبعيني، بسرعة ".
توسلت إليه أن يأخذ معنا السعوديين والممرضتين الليبيتين، باب آخر حُطم بسرعة فأنفتح، الممرضتان حرتان الآن، خرجنا جميعا نجري إلى بوابة السجن، لم يكن هناك أثر لأي حراس، في الخارج استطيع أن أرى مبان مدمرة و شوارع مغطاة بالركام.
سأل منقذنا المرأتين الليبيتين" هل تعرفان المدينة؟ أذن اذهبا إلى بيتكما "، وأشار إلي السعوديين وانا بأن نتبعه.
حاولت أن اعرف أين مكاني الآن وأن استوعب المنطقة المحيطة بي وبالرغم من أنني في منطقة حرب، مازالت المقاهي تعمل، في خارجها كان رجال كبار في السن يجلسون على الأرصفة يدخنون الشيشة، كانت الشوارع مكتظة بالسيارات تختار طريقها عبر كل الحطام المتناثر، لقد كان مشهد سريالي عجيب، فقد كان بإمكاني سماع إطلاق نار ليس ببعيد ولكن على الأقل تستمر الحياة المعتادة.
مشينا ما يقارب الميل حتى وصلنا إلى منزل صغير في حي فقير في المدينة، فتح الرجل الباب ورحب بنا في الداخل.
قال " هذا بيتي".
عرف بنفسه للتو في وجود زوجته وأخته، أخبرني أن اسمه علي عبد الهادي، كان بعض الأطفال يلعبون في حجرة أخرى غير منتبهين لوصول ثلاثة أجانب إلى بيتهم.
فقدان الأمل (2)
في رحاب الأمان النسبي في البيت ارتاح (علي) بشكل واضح و بدأ يفتح قلبه.
" لا أعرف ما الذي أخذني إلى سجن أبوسليم" وأضاف " استيقظت هذا الصباح وبدأت المشي، عادة لا أحد يستطيع أن يدخل السجن بل كنا نخشى حتى المرور بقربه، اليوم كانت البوابة مفتوحة وكان الفضول يغمرني، أنقذت بعض السجناء الآخرين ممن كانوا محتجزين في شاحنة، وهم من أخبرني أن ثمة أشخاصا عالقين في الفيلات، في ذلك الوقت عثرت عليك".
قدم لنا علي وهو سائق سيارة أجرة الطعام وبينما كنت أكل تأملت كيف أن القدر تدخل مرة أخرى، وإلا كيف يأتي هذا الملاك الحارس لينقذني.
قدم لي (علي) هاتفه المحمول فحاولت الاتصال بالهاتف الأرضي لوالدي، سمعت أبي يجيب لكن سرعان ما انقطع الاتصال، لهذا اتصلت بشقيقتي لندا حيث كان رقمها الوحيد الذي مازال في ذاكرتي، حالما سمعت لندا صوتي أجهشت بالبكاء وكانت ابنتي معها، استطعت الحديث معها لكنها بدأت وكأنها منهارة ومحطمة غير أننا استطعنا الكلام لمدة دقيقة أو اثنتان قبل أن أرجع الهاتف بتردد لأنه كان منخفض الرصيد المالي، كنت ممتنة أنهم على الأقل عرفوا أنني على قيد الحياة وبخير بالرغم من إدراكي أنني مازلت بعيدة جدا عن الأمان في وضع تتفجر فيه ليبيا من حولنا.
ناقشنا ماذا سنفعل بعد ذلك، قال لي " إن المكان ليس آمنا، لقد سمعت أن سيف أبن القذافي يختبئ هنا، وأن القتال يقترب أكثر، يتطلب الأمر نقلك من هنا ".
اقترح أخذ ثلاثتنا بسيارة الأجرة إلى منطقة عين زارة الريفية حيث يمتلك شقيقه محمد مزرعة هناك، بينما كنا هناك كان لدينا متسع من الوقت لرسم خطة خروجنا من ليبيا أو ببساطة كيف نختبئ، الخروج بعيدا عن المدينة يظهر وكأنه الخيار الأكثر منطقية حيث يبدو أن القتال كان محصورا في المركز والضواحي القريبة منه، كانت رحلة هادئة بلغ طولها ثلاثين ميلا إلى الجنوب وأخيرا صافحنا رجلا يحمل طفلا رضيعا بين ذراعيه، ومرة أخرى صدمت بالحنان الذي أظهره هؤلاء الغرباء تجاهي، هنا لا يتوانى رجل عائلة عن الترحيب بثلاثة غرباء في منزله ويتقاسم معهم طعامه زد على ذلك المخاطرة التي يتحملها من أجل أن يوفر لنا ملاذا آمنا، بل ولم يسأل مطلقا عن المدة التي سنقضيها في بيته، لن أنسى أبدا الكرم الفريد لهؤلاء الناس.
أخذت حمامي الأول بعد حرمان لأيام ومباشرة شعرت بالانتشاء ثم أكلنا بيتزا طُهيت على الجمر، تبين أن قصة علي عن أن بيته غير آمن كانت تعبر عن نصف الحقيقة، كان قلق بشأن نقص الطعام في بيته وأننا قد نجوع هناك، وهو يعرف أن إمدادات من الخضروات الطازجة متوفرة بكثرة في مزرعة شقيقه.
شّغل مولد كهربائي فشُحنت أجهزة الهاتف واستطعت مرة أخرى الحديث مع شقيقتي عن طريق هاتف شقيق علي، تحصلت على رقم هاتف وزارة الخارجية الأردنية فاتصلت بهم.
" أريد الخروج من ليبيا" قلت لهم " هناك دماء في كل مكان، هناك ناس تُقتل".
أخد أحد المسؤولين في الوزارة رقم هاتف الشقيق ووعد أنهم سيتصلون بي في اليوم التالي.
كما هو متوقع، رن الهاتف فكان على الخط السفير الأردني في ليبيا متصلا من مكتبه في بنغازي.
قال " لو بإمكانك الوصول إلى هنا، استطيع أن أوصلك إلى القاهرة ثم إلى الأردن".
فقدان الأمل (3)
للحظة انعقد لساني عن الكلام من الصدمة، تقع بنغازي في شرق ليبيا حوالي 600 ميل من طرابلس، هل كان جادا في توقعاته أن أصل إلى هناك بدون مستندات أو مال، حتى في أوقات السلام ما كان هكذا رحلة أرضية أن تكون سهلة، أما الآن فمتأكدة أنها ستكون مثقلة بالأخطار وفي وقت ما سينفذ حظي الجيد.
كان يفترض أن امسك لساني لكنني لم أكن في مزاج دبلوماسي فانفجرت غاضبة: "هل أنت سفير إلى الصين أم ليبيا، هل تعرف كم بعد المسافة، هل تعرف أن هناك حرب، لو كان بإمكاني أن أصل إلى بنغازي بنفسي فلن أكون في حاجة إلى مساعدتك أصلا" وقفلت في وجهه الهاتف غاضبة.
مرة أخرى اجتاحني اليأس، في وقت احتياجي تتخلى عني بلدي، ماذا يعني مواطن ميت للأردن؟.
اتصلت بوزارة الخارجية الأردنية وأنهلت عليهم بكل كلمة قذرة يمكن تخيلها، هذا جعلني أتنفس الصعداء ولكن لم يحّسن حالتي البائسة.
أربع ليال قضيتها مع هذه العائلة المضيافة، اشرب من بئرهم وأكل من خضرواتهم الطازجة، لو كانت في ظرف آخر لكانت هذه الأجواء ساحرة، لكنني شعرت بتأنيب الضمير لأنني أثقل عليهم بأكل طعامهم واستخدام هاتفهم، كان السعوديان في نفس حالتي بعد اكتشافهم أن سفارتهم غير راغبة في التدخل، كل ما نقدر عليه الآن هو الانتظار.
في وقت ما اتصلت ابنتي، لقد اتصلت بوالدها في المملكة العربية السعودية بالنيابة عني، لو كان باستطاعتي الوصول بطريقة ما إلى جربة في تونس فإنهم سيرتبون لإنقاذي، لدهشتي عرض الأمير الوليد بن طلال الذي رتبت شراء طائرته الخاصة للقذافي أن يوفر طائرة لنقلي إلى الوطن بالرغم من الخلاف بيننا غير المبثوث فيه بعد، شكرت له هذه أللفته الكريمة ولكن بالرغم من أن الحدود أقرب بكثير من بنغازي وهي اقل من 100 ميل تقريبا فأن الوصول إلى هناك هو بدون شك متقارب في الخطورة، من دون مساعدة لن تكون هناك فرصة للمحاولة.
في اليوم الرابع في المزرعة رن جرس الهاتف، عرف المتصل بنفسه اسمه هاني وقال انه ليبي يعمل بمكتبي في طرابلس.
" بحثنا عنكِ في كل سجن في طرابلس، ثم اتصلت بعائلتك وهم من أعطوني هذا الرقم سوف أساعدك في الخروج من ليبيا".
أصابتني الدهشة فسألته " ما الذي يدفعك لهذا، لماذا تتحمل هذه المخاطرة الكبيرة من اجلي".
عصرت دماغي ولكن في مكتبي اشتغل العديد من الموظفين على مر السنوات فلم أستطع تذكره.
" جئت إليك من أربع سنوات مضت عندما كانت أمي مريضة، احتاجت إلى عملية كلية وأنت منحتي لي النقود، انا الآن أرد لكٍ الدين، انا الآن جزء من الثورة".
لم أكن اعرف في وقتها انه وعد أبي وشقيقي عندما زاراني وانا محتجزة بأنه سيعمل ما بوسعه لمساعدتي.
تقديم هدايا مالية لليبيين في جداول مرتبات مكتبي لم يكن أمرا غير مألوف، لقد كوفئت بسخاء من العقيد فكنت أحاول أن أقاسم القليل من ثروتي، لم يكن هذا بالكامل من دون غرض، لقد تعلمت مبكرا في عملي التجاري انه بإمكانك شراء الولاء، والآن انا في طريقي لجني الأرباح.
فقدان الأمل (4)
زودت هاني بوصف للمكان وكنت محتارة ما الذي يدور في رأسه؟، جاءت الإجابة بعد حوالي ساعة عندما ظهرت سيارة نقل على طراز عسكري يهدر محركها ومكتظة برجال يتباهون بأسلحتهم.
في البدء فزع مضيفنا وارتاح فقط عندما مشيت إلى الخارج وصافحت هاني، كان بلحية طويلة لكن تذكرته أخيرا، عانقني وقّبل أعلى راسي.
" قولي لهم مع السلامة، ستبقين الليلة معي وسنأخذك غدا إلى تونس"
تعرفت على صاحب المزرعة وزوجته لعدة أيام ولكن تفارقنا كأصدقاء عمر، تحاضنا وقبلنا بعض وبكينا، وبينما نطقتُ كلماتي الأخيرة للوداع، أحسست بعملة ورقية تضغط في يدي.
" هذه دينارات تونسية قليلة هي كل ما املك، لعلها تساعدك ".
قفزت إلى مقصورة العربة تاركة خلفي السعوديان ينتظران إنقاذ ترتب له بلادهما، بعدها بوقت طويل عرفت بسرور أنهما غادرا ليبيا بسلام.
ذلك المساء قضيته مع والدي هاني في فيلا صغيرة في وسط طرابلس، باح لي أن خطته ستكون بأخذي إلى بلدة ذهيبة الحدودية مع تونس وهي تبعد 200 ميل، هذه ضعف المسافة مع اقرب معبر حدودي لكنه كان واثقا أن الطريق يسيطر عليه الثوار، كان يفترض أن تكون الرحلة سهلة، اتصلت بأسرتي لكي يسعوا في ترتيبات تسمح لي بعبور الحدود بدون جواز سفر، على الأقل ينبغي على وزارة الخارجية الأردنية التي احتقرها الآن أن تكون قادرة على تدبير هذا من أجلي.
انطلقنا في الفجر برتل من حوالي أربعين عربة تسير عبر أجزاء مدمرة من ليبيا، كنت في الكرسي الخلفي لشاحنة نقل صغيرة يقودها هاني وكان الراكب الثالث ثائر مسلح.
تمزق قلبي وانا أرى البلد على هذه الحالة، أعمدة دخان ومبان مثقوبة بالقذائف، كان الناس يبكون في الشارع ويرتدون السواد حدادا، بدأ الأمر وكأنه مشهد في فيلم حرب بالرغم من عدم سماع إطلاق نار وانفجارات، يبدو أن طرابلس سقطت في يد الثوار، الآن نحن بصدد تغيير الاتجاه لأخذ الطريق الأكثر مباشرة إلى تونس، سنتجه إلى رأس أجدير البلدة الحدودية الساحلية التي تبعد ساعة من هنا، لكن هذا يعني المخاطرة بملاقاة الجنود الموالين للقذافي، كان التبرير لهذه الإستراتيجية الأكثر مخاطرة هو أن الثوار أرادوا تنظيف الدرب الأقصر إلى تونس وأدركوا أنهم يملكون القوة النارية الكافية في رتلنا لانجاز هذا الهدف.
سُلمت خوذة عسكرية وحزام واقي من الرصاص وطلب مني هاني أن استلقي على أرضية مقصورة الشاحنة، " سيكون هناك قتال " قالها بهدوء.
مرة أخرى اُسلم نفسي للقدر ولكن كنت أعتقد أنها فرصتي الوحيدة للهرب من ليبيا، حاولت أن أجد السلوان لنفسي من الثقة بالنفس التي يتمتع بها الثوار الشباب، لكن الجزء المتشائم في داخلي ظل ينق في أذني إن التبجح بالشجاعة لا يوقف الرصاص عندما يبدأ في التطاير.
مع مرور الدقائق وانا في موضع القدمين الضيّق بالسيارة تجرأت على الأمل أن نصل إلى الحدود بدون عوائق، كان الثوار يتوقون إلى الإثارة وكان كل ما يشغلني العبور إلى تونس بأسرع وقت ممكن ومن ثم الوصول إلى الأردن.
لم يمض وقت طويل حتى سمعت الصوت الذي لا تخطيه الأذن للأسلحة الآلية، وفي ثوان كنا في وسط معركة.
لا استطيع وصف الضجة التي تمزق الأذن ورعبي بالرغم من أنني لم أرى شيئا ذلك لأنني تكورت على الأرضية حتى صرت اصغر حجما.
فقدان الأمل (5)
في الكرسي الأمامي كان الرجلان يصرخان، بينما أحدهما يقود السيارة كالريح، كان الآخر يرد على النار من نافذة الراكب، أتذكر عندما كنت في السجن كانت قنابل الناتو تسقط على طرابلس من طائرة غير مرئية ولكنك نوعا ما تشعر أنها بعيدة، أما هذه فحرب حقيقية، لم تكن هناك طريقة لمعرفة كم يبعد عنا المهاجمين ولكن لم يكن هناك شك أنه لمرة أخرى كانت حياتي على الميزان، و مرة أخرى توجب أن اعتمد على آخرين في نجاتي، استمر هذا لخمسة عشر دقيقة ولكن بدأت وكأنها خمسة عشر ساعة، ضُرب الرصاص الزجاج الأمامي لسيارتنا بينما كنا نندفع في الطريق الصحراوي من دون غطاء.
في مرحلة ما قرر هاني تقسيم رتلنا، بينما بقى ثلثي العربات يقاتل قوات القذافي، انفصلت مجموعتنا الأصغر التي تضم حوالي عشرين رجلا واستمرت في الإسراع نحو الحدود، قبل هذا كنت أتساءل كيف سيتعامل هؤلاء الثوار في مواجهة ظروف قاسية كهذه، الآن عرفت الإجابة، أنهم أشجع رجال التقي بهم في حياتي، عرفت لاحقا إن بعض من بقى خلفنا للقتال في ذلك اليوم قد قُتلوا.
بينما كنا نقترب من الحدود كان يلوح أمامنا عائقا آخر، لم يكن معي جواز سفر أو بطاقة هوية لذا اتصلت بالسفارة الأردنية في تونس، كان ينبغي أن أعرف قبل أن أتوقع المساعدة انه ليس من أحد يبدو راغبا في مساعدتي حتى بالقليل، و إلى الآن بعد مضي هذه السنوات، مازلت أشعر بالمرارة عن الطريقة التي تخلت فيها بلدي عني في وقت الحاجة الماسة، وفي الجانب الآخر، تعلمت كذلك انك أحيانا تجد العطف العظيم والإيثار من حيث لا تتوقع.
بعد أن أوصلني بسلام إلى الحدود كان هاني يحمل لي آخر مفاجأة، بينما كنت محتارة كيف سأعبر من ليبيا إلى تونس عبر بلدة رأس أجدير الترابية، صار من الواضح أن هذه ليست المرة الأولى له هنا، قام رجال الشرطة التونسيين وحرس الحدود بمصافحة هاني وتحيته، انا متأكدة انه في هذا الجو المحموم للربيع العربي، ساعدتنا أيضا حقيقة كونه وزملائه مُسلحين بالثقيل، تساهلت نوعا ما طريقي من ليبيا إلى تونس، لقد عبرت تلك الحدود عدة مرات فيما فات ولكن لم أتنفس الصعداء على هذا النحو الكبير من قبل.
في وقت متأخر، وصل موظف من السفارة الأردنية للتعامل مع هذه المرأة المزعجة وتم اخذي إلى الفندق، في هذه المناسبة، كان الأمير الوليد بن طلال بجودة تعهده، فبعد أربعة ساعات هبطت طائرة خاصة في مطار جربة الذي يبعد عشرين دقيقة، كنت ذاهبة إلى الوطن بأبهة وأناقة حيث كنت المسافرة الوحيدة على طائرة بستة مقاعد.
نمت اغلب الرحلة التي تبلغ 2000 ميل ذلك أني كنت مرهقة بالتمام، كانت هذه المرة الأولى التي أنام فيها بعمق منذ تسعة شهور.
على تمام الساعة السابعة صباحا، حطت بي الطائرة في مطار عسكري في الأردن، واحد وعشرين شهرا امتدت من يناير 2010م إلى سبتمبر 2011م لم تطأ فيها قدمي ارض بلادي.
رأيت شقيقاتي والأعمام والأخوال وأبناءهم والأصدقاء يصطفون في فناء المطار لمصافحتي، فصلوا عني بالحراسات الأمنية ولكن بمجرد أن نزلت درجات السلم سُمح لابنتي بالجري إلى الطائرة، شعرت بقلبي ينفطر، تعانقنا وسرنا بعدها عبر المدرج إلى حيث تتجمع أسرتي، بالكاد تمكنت من تقبيل والدي حتى سالت دموعه على خديه قبل أن أكون في وسط حشد من الناس، أخوات، أعمام وأخوال وأبناءهم، اختلط مع بهجتي شعور بالبرود، كانت تلك اللحظة التي حلمت بها، لكن عندما حدثت فعلا لم استطع استيعاب كل شئ، ذكرياتي عن وصولي مازالت ضبابية قليلا، شعرت بأني لم أكن حقيقية، وبالرجوع إلى الخلف الآن، مازلت مصدومة من الاشتباك القتالي في الصحراء، لقد اكتسحتني ربكة ما حصل حتى أنها أقفلت دماغي.
اعرف أن أول تصرف لي كان أن قبلت الأرضية، أخبرت لاحقا أن طاقم الطائرة بكى عندما شاهدوا إعادة لم شملي مع ابنتي نور.
من المطار انطلقنا مباشرة إلى منزل الوالد، رتب بابا خيمة كبيرة لتوضع في الحديقة ولمدة ثلاثة أيام اُحتفل بعودتي للبيت على الطريقة التقليدية، أُطلق الرصاص في الهواء، ذُبحت الخراف وشويت على النار في الهواء الطلق، إنها طريقة العرب في شكر الله، وأيضا كانت الموسيقى والرقص وفي الحقيقة كل ما كنت ارغب به كان استحمام طويل ونوم أكثر.
لو صورت هوليود قصة حياتي فان هذا هو المكان الذي ستمر فيه على الشاشة قائمة المشاركين في الفيلم، أما في العالم الحقيقي فما زال أمامي بعض الأعمال غير المُنجزة.
انتهى
-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~-~
dude333- مشرف المنتدى السياسي
-
عدد المشاركات : 5593
العمر : 55
رقم العضوية : 9508
قوة التقييم : 36
تاريخ التسجيل : 11/01/2012
مواضيع مماثلة
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الواحد والعشرون
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الثاني والعشرون
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الرابع والعشرون
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الخامس والعشرون الاخير
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الثالث عشر
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الثاني والعشرون
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الرابع والعشرون
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الخامس والعشرون الاخير
» كتاب دعد شربل العقيد و انا الفصل الثالث عشر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2024-11-21, 8:36 am من طرف STAR
» ارخص غسالات ملابس
2024-11-18, 10:29 am من طرف محمدوعبدو
» "لسنا عيادة طبية".. رئيسة بالميراس البرازيلي تعلق بشأن التعاقد مع نيمار
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» لا تستخدم مياه "الحنفية" لتبريد محرك سيارتك.. إليك السبب
2024-11-18, 7:49 am من طرف STAR
» هل يطرد النوم "السموم من الدماغ"؟.. دراسة تكشف السر
2024-11-18, 7:48 am من طرف STAR
» لمستخدمي "ميتا" في أوروبا.. إليكم هذه الميزة الجديدة!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» احرصوا على تهوية المنزل حتى في الطقس البارد!
2024-11-18, 7:47 am من طرف STAR
» العناية بالبشرة في فصل الخريف.. نصائح مهمة لذلك
2024-11-18, 7:46 am من طرف STAR
» الأرز الإسباني
2024-11-18, 7:45 am من طرف STAR
» عن مشاركة نيمار في مونديال الاندية.. هذا موقف الهلال
2024-11-16, 8:14 am من طرف STAR
» لضمان نوم هادئ ومريح.. تجنب 5 عادات
2024-11-16, 8:13 am من طرف STAR
» ترتيب المنتخبات العربية في تصفيات آسيا لكأس العالم 2026
2024-11-16, 8:12 am من طرف STAR
» الخضار الأعلى كثافة بالمغذيات
2024-11-16, 8:11 am من طرف STAR
» رونالدو يثير التفاعل بتصرف رائع خلال مباراة البرتغال
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR
» غرامة بمليار دولار تُهدد "ميتا" بالتفكك وسط ضغوط تنظيمية دولية
2024-11-16, 8:09 am من طرف STAR